الإسلام بين الأحادية والتعددية

الإسلام بين الأحادية والتعددية

الطيب تزيني*

(1)

تتسع الدراسات الإسلامية راهناً وتكتسب أبعاداً وأمداء متعددة في سياق تعاظم الهجوم ضد الإسلام والسجال بينه وبين أطراف معظمها يتحدد من الآخر، وفي هذا وذاك، تفصح عن نفسها مشكلات ومعضلات نظرية جديدة، إضافة إلى أخرى قديمة؛ وهذا من طبائع الأمور فالواقع بمثابته حالة مفتوحة، يضع أمام البشر من المهمات والأسئلة والتساؤلات ما يجب الإجابة عنه، وفي حال عدم الاستجابة لذلك يحدث خلل واضطراب يتحولان إلى أزمة في ظروف معينة قد تطرح أسئلة خطيرة، بالاعتبار التاريخي والمعرفي التأسيسي (الأبيستيمولوجي) ولعل أخطر هذه الأسئلة يتحدد في مثل الصيغة التالية: من أين نبدأ في تصويب الموقف، من الواقع أم من النص؟ ويمكن النظر إلى المرحلة المعاصرة على أنها أكثر المراحل قلقاً وإثارة وإشكالية في التاريخ الإسلامي عموماً، والإسلامي العربي على نحو الخصوص.

فلقد رفعت العولمة معركتها مع الإسلام على سقفها، وذلك في سياق المهمة الكبرى التي وضعتها على عاتقها: تفكيك الهويات التي دللت على أنها مثمرة تاريخياً وبناءة (مثل العقلانية والتاريخية والقيم الدينية المستنيرة والمحفزة على التقدم البشري) من طرف، وإحياء الهويات التي دللت على أنها معيقة للتقدم البشري (مثل الطائفية والمذهبية الدينية الضيقة والعشائرية وغيرها) من طرف آخر. وثمة ملاحظتان اثنتان تعمقان النظر إلى ما نحن الآن بصدده. تقوم الملاحظة الأولى على أن موقف العداء العولمي على المصالح، وضرورات النظر في ذلك، والتصدي له، وفي هذا السياق يبرز اسم العز بن عبد السلام كواحد من أبرز من أسس لقاعدة ونظر لها.

أما الملاحظة الثانية فتتحدد في أن العولمة، بلسان بعض ممثليها من أمثال هنتيغتون وكلاوس، إذ تضع الإسلام أمامها كهدف استراتيجي ينبغي ترويضه، فإنها تنتقي منه ما يستجيب لمصالحها وظيفياً، وفي هذا الحال تقوم بعملية تلفيقية وانتقائية تنتج بمقتضاها ما يروق لها تحت اسم "الإسلام" فهي تبحث هنا وهناك وهنالك عن شذرات "إسلامية" يطلقها بعض الإسلاميين في كتاباتهم، لتعلن أنها وضعت يدها أخيراً على ما يسوغ مقولتها الشاملة الجامعة والتي جرى تسويقها في معظم بقاع العالم، وهي مقولة "الإرهاب" فبمقتضى هذا الأخير يجري تقسيم البلاد والعباد إلى فريق يمارسه "أي الإرهاب" بعد أن ينتجه، معرضاً بذلك العالم إلى الاضطراب والفوضى والتحارب من طرف، وفريق آخر يدفع ضريبته في أمنه وثروته ومستقبله من طرف ثان، والطريف الواقعي في ذلك أنه تلك "الشذرات المختارة" قد تقدم ما يرغب فيه المنافحون عن العولمة ومقولتها في الإرهاب، من رؤية متخلفة رجعية عن العصر بقضاياه المختلفة من الاقتصاد إلى السياسة فالثقافـة فالمرأة الخ...، وحينذاك يجري تقديم تلك الشذرات بوصفها "الإسلام" من حيث هو و"في جوهره".

إن تلك الرؤية الانتقائية والملفقة للإسلام التي تقدمها إيديولوجيا العولمة والتي تجد بعض أسسها الكبرى لدى مجموعات من المستشرقين في الغرب منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تفصح عن نفسها عبرة عمليتين اثنتين كلتاهما تقود إلى الأخرى، أما العملية الأولى فتقوم على انتزاع الفكر الإسلامي المتكون في أعقاب "فترة النزول" وفي التجادل والتثاقف معه، وفصله من سياقه التاريخي لصالح الرؤية الانتقائية والملفقة المذكورة والمناهضة للفحص التاريخي، بحيث يبدو هذا الفكر وكأنه لقيط يتحرك دون ضوابط ونواظم تتعلق بحقله التاريخي ومرجعيته الفكرية لكن العملية الثانية تسير باتجاه آخر، وإن ظلت ذا علاقة بمسار العملية الأولى، أما هذا الاتجاه فهو ذو نسيجي قيمي، أي يتمثل بكونه حكم قيمة، ها هنا سيقال ما قاله مستشرقون أمثال ارنست رنيان ودي بور، وما صاغه الشاعر كيبلنغ في المقولة التالية: الشرق شرق، والغرب غرب؛ ولا يلتقيان. أما ألا يلتقيا، فلأن كلاً منهما يمثل "بنية" بذاتها "البنية الغربية" بعقلانيتها وأنساقها وانصياعها للقانون والضوابط المجتمعة المثمرة للتقدم؛ "والبنية الشرقية" بعاطفيتها وانفلاشها وخروجها على مثل تلك الضوابط.

والمهم في ذلك أن يقال كذلك، إن البنية الغربية تتأسس على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والإقرار بالتعددية والحرية، أي بما لا تقر به البنية الشرقية، بما فيها الإسلام وليدُ الشرق وصانعه، بمعنى ما في هذا المعقد من المسألة، نكون وجهاً لوجه أمام واحد من أكبر الموضوعات التي تحولت إلى نقطة سجال بين المفكرين الإسلاميين، وبين كثير من المستشرقين والمفكرين والمثقفين العرب، الموضوع المعني يتمثل في "التعددية" وفي موقف الإسلام منها والمقصد بالإسلام هنا النص الأصلي المعبر عنه بالقرآن الكريم والسنة النبوية وقد جنح فريق من أولئك إلى القول بأنه الإسلام "دين التوحيد" وهذا أقصى ما يُعرف به ويعرَّف؛ مما يفضي إلى القول بأن مفهوم "الحقيقة عنده إن هو إلا تجسيد لـ"توحيديته" وعلى هذا، يصبح محالاً أن ينظر إلى تلك الحقيقة المتعالية وفق التاريخ الإنساني وشروطه ومقتضياته، لتظل متأبية على هذا التاريخ، ومن ثم ليظهر ما يبدو حقيقاً واقعياً من حيث هو وهـم زائف.

في ضوء ذلك الموقف الإطلاقي والتجريدي واللاتاريخي، يكتب فهمي جدعان مُعلناً ما يلي: تنتمي "الحقيقة" أصلاً إلى عالم الأزل والأبدية الذي يفارق تماماً وقائع التاريخ ويعلو عليه، ولا يخضع لقانون الصيرورة الصارم، وهي حين تتجسد في الإنسان فإنما تعانق الزمان وتحل فيه.. والذي يقع ضحية هذا التجسد هو الحقيقة نفسها لأنها ستفقد براءتها الأولى التي جاءتها من أفق المطلق. إن ما حدث في تاريخ الإسلام لا يشذ عن هذه القاعدة وإلا فكيف نفسر تلك الانحرافات المتفاوتة في الخطورة والعمق التي تمت في عهوده وأزمنته المتباعدة فضلاً عن المتقاربة؟ ويتابع الكاتب مقرراً: "لقد قال معظم مفكري الإسلام المحدثين أن (المسلمين ليسو مسلمين) والكلمة صائبة تماماً لكن الأصوب أن يقال إنهم لم يكونوا ولن يكونوا مسلمين أبداً، بمعنى أنهم سيظلون دوماً بعيدين عن تجسيد الإسلام – الحقيقة، أو الإسلام – الوحي في التاريخ – الزمان، لأن ما يدخل في الزمان لا يلبث أن تعتريه صروفه وأقداره ولأن الحقيقة – الوحي تفارق عالم الإنسان وتعلو عليه"(1)، إن ذلك النص الذي ينطلق صاحبه من موقع أفلاطوني وآخر كانطي (نسبة إلى كانط الفيلسوف الألماني)، يطيح بـ"الحقيقة" وبـ"الإسلام" كليهما في آن واحد، وفي أحسن الأحوال، يرى الباحث فهمي جدعان أن الحقيقة الإسلامية موجودة، ولكنها غير قابلة للتجلي والتمظهر في المستوى الإنساني، ومن ثم يغدو "التوحيد" في الإسلام توحيداً "في ذاته" أي غير قابل لأن يكون توحيداً "لنا" للبشر لذا يغدو الحدث على "التعددية" والحال كذلك، مستحيلاً ومن ضروري القول أن الانطلاق من مثل ذلك "التوحيد" يفضي إلى مفهوم"العدم" بالاعتبار الفلسفي ذلك لأن الوجود إن نظر إليه مطلقاً، فهو مغلق؛ والمطلق المغلق هو بمثابة عدم لا يمكن تحديده وضبطه إلا بمعنى السلب.

وإذا كان هنالك من يختزل الإسلام إلى حقيقة مطلقة بذاتها ولذاتها، ومن يرى أنها تفقد "براءتها الأولى" حين تتجسد في الإنسان محولاً الإسلام على هذا الطريق إلى حالة متعالية على الوجود والإنسان، فإن اتجاهاً آخر انطلق من القرآن والسنة ليؤكد على أن "التوحيد" والإقرار به وحدهما يؤسسان للخلاص في حياة المسلم. فقد جاء في الآية الكريمة (رقم 48 من سورة النساء): ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ في هذا المستوى من المسألة، يمكن التحدث عن "توحيد" إسلامي يجمع تحت رايته كل من يعلن انتماءه للإسلام، بغض النظر عما قد يتكون من اختلافات في الرأي حول نقطة أو أخرى، فهو مستوى قابل للتحقق في حياة البشر (المسلمين) نظراً إلى أن "حقيقة هذا التوحيد هي في متناول هؤلاء؛ بعكس "الحقيقة" السابقة، المطلقة، التي لا مجال للتشخيص والتخصيص، ومن ثم للأنسنة في حقلها.

وإذا بلغنا هذه الحلقة المركزية في التأسيس للتوحيد الإسلامي، الذي يطال الحقلين اللاهوتي والإنساني، فإننا – في الوقت ذاته – نكون قد ولجنا مستوى التعددية في "النص المقدس" ولعلنا نرى أن هذا النص إن استنكف عن الولوج في حياة البشر، فقد تحول إلى نص لاهوتي تقوم العلاقة بينه وبين أولئك على سبيل السلب، وهذا ما لا نواجهه في النص القرآن الكريم عموماً وخصوصاً: أنه أتى "هدى للناس" و "دعوة للحق" و "إلى الصراط المستقيم" ولما كان البشر مختلفي المصالح والأفهام، ويعيشون في مجتمعات مختلفة في التكوين الاقتصادي والسياسي والتعليمي وكـذلك – بقدر أو بآخر – في الأهداف القريبة والبعيدة (الاستراتيجية) الخ..، فقد غدا من الضرورة بمكان أن يأتي ذلك النص الكتاب فيُقرأ بتلك التعددية في الأنساق المذكورة وغيرها، لكي يحقق الدعوة التي أتى بها من كونه "أتى رحمة للناس".

على ذلك، يستطيع الباحث التأكيد على أن الكتاب – القرآن الكريم قدّم نفسه عبر عملية تجادل بين المطلق والزمني، والغيبي والإنساني، ومن ثم بين الوحي والتاريخ، مؤكداً – في هذا – على كونه "منتمياً إلى السماء" بقدر ما هو ملتصق بالأرض التصاقاً كثيفاً وعميقا، وهذا ما اقترب من ملاحظته بعض الباحثين، ربما كان جاك بيرك من ضمنهم(2) ، ويظهر ذلك جلياً في الآية القرآنية الكريمة التالية: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة"، وبالتوافق الوظيفي الدلالي فقد أدرك بعض الصحابة أهمية تلك الرؤية من الناحيتين النظرية والعملية فنبهوا إلى أخذه بعين الاعتبار ضمن مفهوم "التعددية" فالخليفة الرابع يشير إلى ذلك ضمناً حين يعلن: القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين، لا ينطق إنما يتكلم به الرجال" ومن ثم، فهو "حمّال أوجه"(3) وكان الرسول الكريم قد وضع يده بعمق على فكرة التعددية، منطلقاً في ذلك من فكرة "الاختلاف" ودورها في التأسيس لمفهوم "الأحادية" على ضوء معمق، فالفكرتان كلتاهما "التعددية" و "الأحادية" تمثـلان حالتين ضـروريتين لتأسيـس نسق فكري أو آخر يراد له أن يكون منفتحاً غير مغلق، ومـرناً غير متشدد، وهما – إلى ذلك – تقومان على علاقة جدلية متضايفة تشترك الواحدة منهما الثانية، بمقتضاها وفي ضوئها ومهم أن يُقال – في هذا السياق – إن هذه الخصوصية للعلاقة المذكورة تستمد مسوغها من "الحكمة الإلهية" التي تقصد أن تكون التعددية تشخيصاً للأحادية، وأن تكون هذه الأخيرة ناظماً لتلك.

في هذا الحال، يصح القول بأن مرجعية "الأحادية" تكمن في مبدأ التوحيد الإسلامي (وهو المبدأ الأقصى والكوجيتو المنهجي والنظري)، في حين تكمن مرجعية "التعددية" في المجتمع الإنساني، في الجماعة الإسلامية، بما ينشأ فيها ومنها من مشكلات اقتصادية وسياسية وثقافية وتعليمية وغيرها؛ مع الإشارة إلى وجود حالة نسبية من انغماس المقدس في البشري العادي وبشخص النبوة المشرفة، وها هنا يظهر المأثور النبوي في صيغة مكثفة لافتة، حيث يؤكد النبي الكريم على ضرورة معرفة واقع الحال المحدد والمفصل الذي يعيشه أعضاء الجماعة المذكورة، كي لا يبقى المرء في حالة عامة من النصوص العمومية والإجمالية، وهذا يقود إلى "الآليات" التي بواسطتها يمكن بلوغ ذلك "المحدد والمفصل" ونعني بذلك "الاجتهاد" و"التأويل" وربما كذلك "التفسير". فالحديث النبوي الشهير بـ"حديث الرويبضة" يوضح من هو ذلك المسلم الذي يكتفي بالمبادئ والجمل والشعارات العامة، مهملاً ما يمس الخصوصات التي تهم الناس، وتصنع جانباً هاماً من تاريخهم(4).

(1)

نصل الآن إلى نقطة دقيقة في مسألة التعددية" في الأصل الإسلامي (القرآن والسنة) وتظهر في مستويين اثنين، أما المستوى الأَوَّل فيفصح عن نفسه بصيغة العلاقة بين المذاهب المختلفة في الإسلام نفسه كمنظومة من المبادئ والاعتقادات وسواه من المنظومات الدينية وغير الدينية، ها هنا نواجه وضوحاً مقطوعاً به حين يعلن القرآن الكريم أن الله ذاته لم يشأ أن يجعل ﴿الناس أمة واحدة﴾ بمبادئ عامة واحدة، وبأفهام متماثلة وبمصالح متطابقة ويقدم فخر الدين الرازي تعليلاً دقيقاً وطريفاً لهذه "المشيئة الربانية" فيقول: "لو كان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى هذا المذهب وذلك ما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله والنظر فيه"(5). ونحن نرى تلك الاختلافات ضمن الإسلام ذاته ماثلة في مصدرين اثنين واحد معرفي يتجسد في درجة التقدم المعرفي العلمي لدى الشخص المسلم صاحب العلاقة؛ وآخر يتجلى في المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها في حياة هذا الأخير.

أما المستوى الثاني فيعلن عن نفسه في العلاقة بين الإسلام وغيره من الأديان والمذاهب، فإذا كان المستوى الأَوَّل يتعلق بالنسق الواحد ذاته بحيث يظهر حواراً مع الذات، فإن المستوى الثاني هو بمثابة حوار بين الذات والآخر، وهنا يلح القرآن على أن ما يحتكم الناس إليه وهو العقل هو نفسه المعيار المنهجي لمصداقية "الآخر" وبذلك تبرز الدعوة لحوار عقلي مع الجميع للوصول إلى "كلمة سواء" تلتقي عليها الأطراف المتقاطبة. فمعرفة الاختلاف والإقرار به يمثلان مدخلاً إلى الحوار، على أساس من النّدية والاحترام، وحيث يظهر الرشد من الغي، يغدو لزاماً على الجميع أن يقروا بالنتائج الصائبة ويدفعوا بها إلى الأمام في سبيل تقدم البشرية ونمائها، ولما كان التقدم في العلم والمعرفة مفتوحاً، فقد تعيّن على من قارب الصواب والحقيقة في مرحلة أو لحظة ما من التاريخ، أن يدقق ثانية في مواقفه عمقاً وسطحاً؛ إذ لعلها أو لعلل بعضها قد جرى تجاوزه وغدا غير قادر على الاستجابة لمقتضيات ذلك التقدم، دونما عنت أو تشدد أو ممانعة "ذلك لأن الحكمة ضآلة المؤمن" في ضوء مبدأ تغيرُّ الأحكام بتغير الأزمان.

وإذا ميزنا بين "الإسلام" و "الفكر الإسلامي" فقد تعين على منتجي هذا الأخير من مفكرين وفقهاء ومجتهدين أن يكونوا أكثر تواضعاً في إنتاجهم الفكري، إذ "كان أسلافهم رجالاً، فهم كذلك رجال" لا يصح وضعهم فوق الشك المعرفي والنقد والمراجعة، بل هنالك من يرى ضرورة النظر العقلي النقدي لكل ما يصدر عن "الدين" و "الفكري الديني" بهدف التعميق أولاً، وتقريبه من الآخر بكيفية عقلية مرنة ثانياً.

لكن واقع الحال التاريخي، أدى إلى نشوء أوضاع اجتماعية وسوسيو ثقافية وأخلاقية ومعرفية أسهمت في تراجع الإبداع العقلي في النظر إلى العلاقة بين الأحادية والتعددية، وكان ذلك بمثابة التأكيد المضخم على الأحادية على حساب التعددية؛ مما أوقف عملية ضخ الدماء النقية والاستفزازات المحفزة على التجدد وإعادة النظر والبناء: لقد رُفض الاختلاف في الرأي ضمن الإسلام ذاته، وترهل الحوار بين الإسلام والآخرين من دعاة التيارات السوسيولوجية والفلسفية والأخلاقية، بل لعله تحول أحياناً إلى صراع مفتوح قطفت ثماره العجفاء نخب فقهية دينية وأخرى علمانية، حيث حولته إلى فزاعة في وجه القوى المستنيرة الحيّة في الوطن.

وثمة أخيراً مسألة ذات مساس مباشر وعميق بمحور العلاقة بين الأحادية والتعددية في الإسلام، وهي مسألة القراءات المتعددة أو التعددية القرائية فمن موقع كون النص القرآني قائماً على بنية تستدعي التأويل في أحوال غير ضئيلة بل تطالب كذلك بالتوجه إليها تأويلياً كي تفهم مقاصدها الدقيقة(6) ، فإن احتمال نشوء عدة قراءات لمسألة واحدة أصبح وارداً وقد أشرنا فيما سبق إلى أنه تلقف النص القرآني لدى قارئه يتم عادة عبر قانتين اثنتين، على الأقل، هما قناة المستوى الفقهي المعرفي، وقناة المصالح التي تسوغها الإيديولوجيا، إضافة إلى القناة التي يظهر فيها المستوى النفسي والأخلاقي والإثني. في هذه الحال، يصح القول بأن كُلّ القراءات، التي تنطلق من الإسلام ويعلن أصحابها انتماءهم له، تمتلك حدّاً معيناً من الشرعية النصية؛ بمعنى أنها تجد في الإسلام عموماً وفي النص القرآني بنحو خاص مرجعيتها وهنا لا يصح المفاضلة بينها.

لكن تلك القراءات إذا ما وضعت في مستوى النظر الإبستيمولوجي (المعرفي التأسيسي)، فإنها تجد نفسها أمام السؤال التالي: أي منها لديه القدرة على تحقيق الاستجابة لحياة الناس المادية الاقتصادية والسياسي والاجتماعية وغيرها؟ ها هنا نجد أنفسنا أمام سؤال المصداقية المعرفية والاجتماعية التاريخية، وهنا تبرز الأفضلية بين تلك القراءات، وإذا قلنا إنه قلّة من هذه الأخيرة استجابة لتلك المصداقية هي التي ترفض التعددية لصالح أحادية قطعية وحيدة الجانب ومفعمة بالتكفير والتشدد ورفض التسامح، في حين أن أكثرها استجابة للمصداقية المذكورة هي التي تنظر إلى الأحادية والتعددية من حيث هما وجهان اثنان لموقف واحد مؤسس على العلم واحترام الآخر من كُلّ الأطراف، وعلى التسامح والدعوة المفتوحة لحوار عقلاني ديمقراطي مستنير(7).

****************

هوامش

*- مفكر سوري وأستاذ الفلسفة بجامعة دمشق، له دراسات في التراث العربي وفي نقد الحداثة العربية.

1- فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، بيروت 1979، ص46 -50

2- انظر: جاك بيرك: حينما كنت أعيد قراءة القرآن، ترجمة وائل غالي. ضمن مجلة (القاهرة، سبتمبر / أيلول 1995، ص34.

3- تاريخ الطبري: جزء 5، دار المعارف بمصر 1963، ص66.

4- جاء في الاعتصام للشاطبي، تعريف محمد رشيد رضا. بجزئيين، الجزء الثاني، مصر، ص173 – 174، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قبل الساعة سنون خداعاً، يصدق فيهن الكاذب، ويكذب فيهن الصادق، ويخون فيهن الأمين، ويؤتمن الخائن، وينطق فيها الرويبضة – قالوا: ما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: «هو الرجل التافه الحقير في أمور العامة».

5- فخر الدين الرازي: تفسير، الجزء الثاني، ص107، وفي هذا السياق، يرى طه حسين أنه لا غرابة في أن تختلف مذاهب القوم في القرآن باختلاف الموضوعات وباختلاف المقامات أيضاً، إنما الغرابة في مذهب واحد" (طه حسين: مرآة الإسلام، ط4، القاهرة، ص105). ولعلنا نورد في هذا الحقل أن علياً بن أبي طالب كان يأخذ على الصحابي ابن عباس أنه يحاجج خصومه (أي خصوم علي من الخوارج) بالقرآن، ويدعوه إلى غير ذلك: "فخاصمهم ولا تحاججهم بالقرآن فإنه ذو وجوه ولكن خاصمهم بالسنة"(ضمن: السيوطي – الاتقان في علوم القرآن، بيروت 1973، جـ1، ص51).

6- يتضح ذلك خصوصاً من "آية التأويل" التي يبرز التأويل فيها ذا طابع إشكالي بسبب الاختلاف في إعراب حرف "الواو" فيها: لا يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا! انظر حول ذلك: طيب تيزيني: النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة – دمشق، دار الينابيع 1997، ص235 – 261.

7- انظر حول كيفية تصيير الشريعة معرفة مؤرقة حافزة على التقدم عموماً:

De Boer – Geschichteder Philosonhie im Islam , Stuttgart 1951 p.40.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=65

الأكثر مشاركة في الفيس بوك