دور الجماعـة والسلطـة السياسيـة في تَكَوُّن فكرٍ سياسيّ إسلامي

دور الجماعـة والسلطـة السياسيـة في تَكَوُّن فكرٍ سياسيّ إسلامي

عبد الإله بلقزيز*

(1)

جدليات الدينيّ والسياسيّ

عَرَفَ المسلمون السياسةَ محايِثَةً للدين في أوّل عهدهم بها مع الدعوة. والسياسةُ هذه التي تعرَّفوا عليها في سياق التجربة النبوية، ليست من جنس التدبير اليومي لشؤون جماعاتهم القبَليَّة الذي نَهَضَ به رؤساءُ القبائل وشيوخُها و"كبارُ القوم" وأهلُ "الملإ"، مِمَّا أَلِفَتْهُ العرب طويلاً قبل عهدها بالإسلام؛ لأن السياسةَ –التي ستتلازم مع الرسالة المحمدية– آذَنَتْ بميلاد نظامِ حُكمٍ تتراتب قواه في تسلسلٍ هرميّ جديد يبدأ من القمة بشخص قائد الجماعة والأمة محمد بن عبد الله (ص) وينتهي بعامّة المؤمنين الداخلين في سلك الدعوة وتحتها، مروراً بجسمٍ سياسي Corps politique تَمَأْسَسَ بالعُرف والعادة –لا بالتشريع الدينيّ أو القانونيّ– يشغله الصحابة، ونواب الرسول على المدينة، والحُجَّاب، والمبعوثون إلى الأمصار، وكُتّاب الوحي، والأمراء على الفتوح والبلدان، ومن ولاَّهم النبي أَمْرَ القضاء في البلاد المفتوحة، وقواد الجيش، وأهل السابقة في الإسلام... إلخ؛ وهو نظام جديد عليهم تماماً حتى مع التسليم – الفَرضيّ – بالروايات التاريخية الذاهبة إلى القول بأن مَمَالِكَ قامت في تاريخ العرب قبل الإسلام، مثل مملكة سَبَإ ومملكة معين ومملكة حَمْيَر وممالك الغساسنة والمناذرة وكندة، وشهدت العربُ في ظلها شكلاً ما من أشكال التنظيم السياسي. ذلك أن ما سيعيشونه مع البعثة أمرٌ مختلف تماماً لأنه يتصل بقيام أول مظهر من مظاهر الدولة التي ما عرفوا لها "نظيراً" إلا عند الساسانيين والبيزنطيين.

ولقد أفْضَى التلازم بين السياسة والدعوة – مُمَثَّلاً في جمع النبيّ النبوةَ إلى القيادة السياسية – إلى التباساتٍ لا حَصْرَ لها في وعي المسلمين، منذ الإسلام المبكِّر وحتى اليوم، عنوانُها أن السياسيَّ ممتنع عن الكينونة والاستواء والشرعية بغير الديني الذي به تكون ماهيةُ الأول. ومع أن الشيعةَ وحدها انفردت بالقول إن الإمامة أصلٌ من أصول الدين لا يقوم إسلامُ مُسْلِمٍ إلا بالتسليم به، فيما ظل "أهل السنة والجماعة" يَعُدُّونه من الفروع والفقهيات لا من أصول الدين؛ ومع أن فريقاً من المسلمين ذَهَبَ خلاف ذلك إلى إنكار السياسة والدين معاً باسم التلازم بينهما، وذلك حال من ارْتَدَّ بعد وفاة النبيّ، فإن من آلت إليهم مقاليدُ سَوْسِ المسلمين وإدارةُ أمرهم (= حُكْمهم)، في عهد الخلافة الراشدة، لم يترددوا في الْتِمَاسِ شكْلٍ ما من أشكال التلازم بين السياسة والدين – مع علمهم بأن النبوة اختتمت وليس تَقْبَل الاستئناف أو الاستخلاف – ولم يترددوا، في سياق ذلك، في بناء شرعية السياسة على الدين مدفوعين إلى ذلك بقوة الاعتقاد بأن الإسلام قرآنٌ وسلطان، دين ودولة. وحتى حينما انصرم زمن الخلافة (=الراشدة)، وانْقلب أمرُ الدولة والسياسة إلى نظامِ حكمٍ جديدٍ ثان (= نظام المُلْك الوراثي)، لم تنقطع عادةُ "الخلفاء" على التماس الشرعية الدينية لسلطانهم السياسي.

كان التلازمُ واضحاً في بدءِ أمْرِه بحيث لا يحتاج إلى برهان. كان ثمة نبيٌّ مبعوث إلى جماعةٍ يعلّمها الكتاب والحكمة ويهديها إلى سواء السبيل. وكان يقودها – فضلاً عن ذلك – في حروب الفتح ونشر الرسالة، فيجيّش جيوشَها ويُرْسِلُها إلى الآفاق، ويوزّع الغنائم بينها، ويقضي بين أفرادها في المنازعات، يضع لاجتماعها السياسي مواثيقَ وضوابطَ ترسم أطر العلاقة بين أعضائها، وبينهم وبين مشاركيهم في المَوْطن، المخالفين إياهم في المِلّة والاعتقاد ("صحيفة" المدينة)(1). أما وقد رَحَلَ نبيّ الإسلام وقائد دولة المسلمين في المدينة والأمصار المفتوحة، فقد فُتِحَتْ على المسلمين أبواب التساؤل عن نصاب الدولة والسياسة في اجتماعهم الديني بعد أن رَحَلَ رسولُهم عن عالمهم، وتَرَكَ أسئلتهم معلقة بغير جوابٍ قاطعٍ من نصٍّ قرآنيٍّ أو حديث. ومع أن النخبة السياسية – الدينية للدولة المحمدية اهتدت إلى جوابٍ سريعٍ، بل وفوريّ، عن سؤال الاستمرارية في اجتماع "سقيفة بني ساعدة" الشهير (وحتى قبل إهالة التراب على جثمان رسول الدعوة وقائد الدولة)(2)، فإن الجواب ذاك لم يُقْفِلِ المسألة – على ما أراده عُمَر في بيعته لأبي بكر بالصورة التي وردت تفاصيلُها في رواياتٍ مختلفةٍ في كتب التاريخ والطبقات والسِّيَر – بل هو فَتَحَهَا أمام جَدَلٍ لم تُغْلِقْه حتى اليوم أطروحات الشورى والبيعة والاستخلاف (= السُّنية) في مواجهة أطروحات "الوصية" و"النص" و"التعيين" (= الشيعية) مثلاً.

كان لا بدَّ للسياسة والسلطان السياسي من شرعية جديدة بعد أن انصرمت حقبة النبوة التي استمدَّا منها شرعيتهما. وكان لا بد لهذه الشرعية الجديدة من أن تستند إلى الدين حتى يُنْظَر إليها بوصفها تنتسب إلى استمرارية تاريخية طبيعية بدأتها الدعوة والنبوة، وحتى تَحْتَازَ السياسةُ – والسلطةُ السياسيةُ – استحقاقاً من قبل المؤمنين لأن تُؤْتَمَنَ على الميراث النبوي: الرسالة. وهو ائتمان ليست وظيفَتُه في إحاطة السلطان السياسيّ ما بعد – النبويّ بما يضمن له إسلاميتَه أو مضمونَه الإسلامي فحسب، بل أيضاً – وأساساً – في استئناف ما كانت قد دشَّنَتْه النبوة والدعوة: نشر رسالة الإسلام في العالَمِين واستكمال مشروع الفتوح الذي أطلقه فتح مكّة، والخروج به – من ثمة – من المجال الحجازي، حيث مهد الرسالة والجماعة، ومن المجال الجزيري: حيث محيطُها الجغرافي والاجتماعي والثقافي، الأقرب إلى خارج حدود بلاد العرب توكيداً لعالَميتها ووفاءً للأمر القرآني الصريح نصّاً بِحَمْل تعاليم الدين الجديد إلى الآفاق. ومع أنه ما كان في حوزة الصحابَة – وهم من شكّلوا في حينه ما يمكن تسميتُه بالطبقة السياسية لـِ "دولة المدينة" والسلطان السياسيّ النبويّ – ما يستدلون به من النصوص الدينية على وجوب قيام سلطانٍ سياسيّ في المسملين منفصلٍ عن سلطان النبوة أو وارثٍ له، إلاّ أنه كان في مُكْنِهم أن يُدْرِكوا أمريْن متضافريْن في الدلالة: أن استكمال مهمة نشر الرسالة يحتاج إلى دولةٍ وسلطان يتعهد الفتوح بالرعاية والتنظيم والتدبير بعد أن يتعَهَّد أمرَ المؤمنين بما يضمن استمرار جماعتهم متماسكة(3)، ثم إن الدين الذي به آمنوا واعتزموا نشره في الآفاق وَعَدَهُمْ بأن يرثوا الأرض استخلافاً(4)، والاستخلاف لا يكون بغير سلطان ماديّ مكين.

حُسِمَ الأمر مبكّراً، كما ألمحنا إلى ذلك، في "مؤتمر" "سقيفة بني ساعدة"، فأُطلق على أبي بكر اسم خليفة رسول الله. ثم سَرَتْ أحكام التسمية على ابن الخطاب عمر (قبل – أو أثناء أو بعد! – أن يضيف لقب أمير المؤمنين(5). وكان واضحاً أن خلافتَه النبي (ص) خلافةٌ سياسية(6) في المقام الأول وليست خلافة دينية – لأن النبوة اختُتِمت وليست برسم الميراث – على الرغم من أن أمْرَها عَنَى لدى بعضٍ، أو آل إلى معنًى فُهِمَ منه أنها خلافةٌ للّه أو نيابة عنه في الأرض(7). ومع أن الخلافة (الراشدة) لم تَحْظَ بإجماع المسلمين كلهم، وكانت عرضةً لاعتراضٍ سياسيّ واسع النطاق ("حروب الردة" في عهد أبي بكر، والثورة على عثمان بن عفان، وتمرُّد والي الشام معاوية بن أبي سفيان على سلطان علي بن أبي طالب وانطلاق الحرب الأهلية في أعقاب ذلك)، ولم يَسْلَم رموزُها من التصفية (مقتل ثلاثة من أربعة من الخلفاء هم: عمر وعثمان وعلي، بأيدي مسلمين معارضين لحكمهم)؛ ومع أن انقسام المسلمين على الخلافة كان حادّاً وشَقَّ وحدة "الطبقة السياسية" الأولى في الإسلام (= الصحابة)(8)...، إلا أن مسألة الاستخلاف السياسي وجدت لنفسها حلاًّ تاريخيّاً ضَمِنَ للاجتماع الإسلامي أسبابَ استمراره في لحظةٍ حرجة من تاريخه هي لحظة التأسيس لما بعد النبوة))(9) حيث صاحبُ الدعوة في ذمة الله، والوحيُ انقطع، ولا شيء في حوزةِ المسلمين ممَّا يُحْسَب رأس مالٍ سوى عقولهم واجتهادهم وشوراهم واتفاقهم على مُشْتَرَكٍ يمنعهم من خلاف.

(2)

دينامياتُ السياسة واستدعاءاتُها

إن فرضيتنا القائلة إن السياسة بحثت لنفسها عن شرعية جديدة، بعد غياب الشرعية النبوية وامتناع النص القرآني عن التصريح بقواعدَ تشرِّعُ للاجتماع السياسي، لها ما يبررها من التاريخ: تاريخ المسلمين في حقبة الخلافة الراشدة وما تلاها من أحقاب. ولم يكن ذلك الذي برَّرَهَا سياسيّاً دائماً، أي منفصلاً عن الدين أو بعيداً عنه، بل كثيراً ما حَايَثَتْهُ اعتبارات الدين وكانت في جملةِ ما أسَّس له وسوَّغه. لنأخذ مثالاً لذلك فكرتَيْن رئيستَيْن حَكَمَتَا نظرةَ المسلمين إلى أنفسهم وإلى دورهم في التاريخ، هما: فكرة الجماعة وفكرة الفتح الإسلامي "لدار الكُفر".

لقد أَطْلَقَتِ الفكرتانِ تَانك السياسةَ من كل عقال، وأدخلتِ المسلمين في معتركها موضوعيّاً وإراديّاً – باعتبارها المَرْكَبَ الذي عليهم أن يركبوه حتى يعيدوا إنتاج لحمة جماعتهم وينهضوا بأمر نشر رسالة دينهم في العالمين. نعم، لم تكن لهم في قرآنهم نصوصٌ تشرّع لأمورٍ تتصل بنوع نظام الحكم السياسي الذي عليهم إقامتُه، أو تتصل بكيفيات إقامته))(10)، أو بقواعد إدارته، أو بمن يَحِقُّ لهم أمرُ الإمامة في المسلمين(11)، لكنهم كانوا شديدي حرصٍ على حماية أَجَلِّ أثرٍ تركتْهُ الرسالة فيهم – بعد الإيمان والتوحيد – هي الجماعة: جماعة المسلمين، التي أوكلت إليها الرسالة المحمّدية أمر نشر الدعوة الجديدة بوصفها دعوة عالمية لا يُخَاطَبُ بها العرب حصراً دون غيرهم.

نداء الجماعة

ينقل الدارمي في سُننه قولةً منسوبة إلى عمر بن الخطاب جاء فيها مخاطباً العرب: "يا معشر العُريب، الأرض الأرض. إنه لا إسلام إلاّ بجماعة، ولا جماعة إلاّ بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة..."))(12). ربّما صَحَّت نسبة القولة إلى عمر، وربّما كانت من وضْع واضع. في الحالين، لا شك في أنها وَعَتْ مسألة التلازم بين أبعاد ثلاثة في تكوين التجربة التاريخية الإسلامية: الدين والأمة والدولة. في "القول العُمَريّ" ما يفيد أن الإسلام، وإن كان عقيدةً بلغَتْ تعاليمُها المسلمين المؤمنين بها، ليس محضَ نصوصٍ تَأْمُرُ وتَنْهَى وترشِدُ إلى العِلمْ بالحق، بل هو مَنْ آمَنَ به: أي المسلمون. يقاربُ القولُ ذاك القولَ المعاصرَ أن لا إسلام بدون مسلمين – وهو قاعدةٌ من قواعد التفكير في علم الاجتماع السياسيّ والديني – دون أن يَكُونَه على وجه التحديد والدقة. الجماعةُ هنا – جماعة المسلمين – هي مستودع الدين، وهي التجلّيُّ الماديُّ لكينونته، وهي – فوق ذلك – حاملُه التاريخي الذي به يستمر كرسالة عليا في التاريخ.

الدينُ تعاليمٌ محفوظة في كتاب. ذلك ما ليس يشك فيه مسلم، وذلك ما تأكَّد بالنص القرآني))(13) وتفاخَرَ المسلمون بأنه في جملة ما ميَّزهم عن "أهل الكتاب" الآخرين الذين تعرَّضت صُحُفُهُم للنحل والوضع والتحريف. لكن قيمة الدين ليست في حُرْمةِ نصوصه وصفاء تعاليمه، وإنما في صيرورته قوةً مادية))(14) من خلال تشبُّع المؤمنين به بتعاليمه تلك وتنزُّل هذه بمنزلة المعايير التي توجّه السلوك وترسُم قواعد القيم. فالمسلمون هم المُؤتَمَنُون على هذه الأمانة: حفظ الدين، وهم – بهذا المعنى – مستودَعَه التاريخي الذي لا يُبْحَث عن الدين إلاّ فيه. لقد وضع الإسلام المكّيّ – مثلاً – أسس العقيدةِ كلِّها تقريباً(15)، لكن ضَعْفَ الإقبال عليه طيلة أزيدَ من ثلاثة عشر عاماً على بدء الدعوة(16)، هو ما حَمَلَ على الهجرة إلى يثرب: لا هرباً من بطش قريش فحسب، بل سعْياً في كسب مؤمنين جدد أيضاً، أي سعْياً في إخراج الإسلام من حيِّز الدعوة – وهي تبليغ نظري – إلى حيّز الجماعة الدينية المؤمنة. لقد كان في وسع الدعوة أن تبقى في مهدها المكّي على الرغم من مضايقات الملإ القرشيّ دون أن تتعرض للتصفية المادية الكاملة. لكنها انتقلت إلى يثرب لأنها ليست مجرَّد نص، بل مشروع ديني – سياسيّ يَطْلُب مؤمنينَ وأتباعاً وأنصاراً وجُنْداً يقومُ أمْرُهُ بهم. وحين غادر صاحبُ الدعوة الدنيا، ولم يَعُد ثمة من يقوم بأمْرِها الذي نَظَّمَهُ وحيٌ انقطع، آل ذلك الأمر إلى جماعة المؤمنين بها. وهكذا، بات الحفاظ على الإسلام رسالةً دينية ومشروعاً تاريخيّاً رهناً بوجود جماعةٍ تنهض بأمر ذلك، فتحافظ عليه من خلال المحافظة عليها – هي نفسها – كجماعة. ذلك – في ما نُقَدِّر – معنى "القول العُمَريّ" أنْ "لا إسلام إلاّ بجماعة".

لكن القول إياه يفيد معنًى آخرَ، استطراديّاً في حقيقته، هو أن مستقبل الإسلام نفسه وقْفُ على جماعةٍ تنهض بأمرِ تحقيقه. ليس المطلوب فحسب أن تحافظ جماعةُ المسلمين على دينها بالمحافظة على نفسها كجماعة، أو قل ليس يكفي أن تعيد إنتاج الدين من خلال إعادة إنتاج الجماعة فقط، وإنما المطلوب أن تَفِيضَ بإسلامها عن حدود نفسها كجماعة، وأن تفيض عن نطاق جماعتها بالإسلام إلى مدًى اجتماعيٍّ أرحب. فالفتح ما توقَّف على النبوّة ومعها حصراً، بل أُمِرَ به جهاداً في سبيل نشر الدين في العالمين. إِذِ المسلمون مدعوون – بمقتضى تعاليم دينهم – إلى استكمال رسالةٍ بدأت مع النبي، ولا يمكن أن تتوقف بغيابه عن "عالم الشهادة"؛ وتلك رسالتُهم في الأرض: جدالاً وقتالاً(17). وإذا أضفنا إلى ذلك أن الفتوح ما كانت بالنسبة إلى المسلمين واجباً دينيّاً فحسب بل حاجةً اقتصادية أيضاً(18) حَمَلَت عليها ظروف الصحراء القاسية(19)، تَبَيَّنَ إلى أي حدٍّ ساهمت في تكوين الجماعة الإسلامية كجماعةٍ سياسية.

لكن الإسلام الذي لا يكون "إلا بجماعة" – في "القول العُمَريّ" – يفترض أن يكون لتلك الجماعة نفسِها ما تَقُومُ به كجماعة، أي كقوة وشوكة أو كحامل سياسي للإسلام؛ وليس ذلك الذي به تقوم إلا الإمارة (والقول لعمر في رواية الدَّارمي). والمفهوم من ذلك أن جماعة المسلمين ليست تقوى على النهوض بما أُمِرَت به شرعاً بوصفها جماعة اعتقادية فحسب، أي جماعة متضامنة وملتحمة روحيّاً بكتاب، فذلك ليس يكفيها خصوصاً وأن تكليفها القرآني بنشر الرسالة – أي بالفتح – ممّا ليس في مُكْنِها الخوض فيه إلا بسلطانٍ يضمُّ أشتات أفرادها ويضع فِعْلَهَا تحت إمرته، وبه تتزوَّدُ طاقةً وتترشَّدُ مَسْلَكاً. ليست الفتوح دعوةً إلى الله بالحسنى وجَدَلاً بالتي هي أحسن – حيث مقامُ هذين مختلف وقد يقوم به دعاةٌ أفراد – وإنما الفتوحُ حروب تحتاج إلى توفير بنية تحتية كاملة: من تجنيد الجيوش، إلى تأمير قادةٍ عليها، إلى توزيع الغنائم، إلى تنظيم علائق الصلة بين الأمصار المفتوحة وبين المركز (= المدينة)، إلى تزويد هذه الأمصار بـ"بيروقراطية" (= طبقة إدارية) إسلامية تديرها... إلخ. وهذه وغيرها ممّا يستدعي السياسةَ ويقتضي الدولة حُكْماً.

هل معنى ذلك أن الدولة والسلطة جَاءَتَا حادثاً "عابراً" في الإسلام أَجَابَ عن حاجةٍ "طارئة" فيه هي حاجة الإسلام – في مرحلةٍ منه – إلى دولةٍ وسياسةٍ تنشُر سلطانَه الديني خارج مَهْدِه الحجازي، وتحمي وحدةَ جماعتِه الاعتقادية التأسيسية من الانفراط؟

قد يَصِحّ أن يقال ذلك عن علاقة الإسلام بالسياسة والدولة في حقبة ما بعد الصدر الأول، وخاصة منذ المراحل المتأخرة من العصر الوسيط، حيث لم يعد الإسلام في حاجة إلى دولةٍ حتى يستمر في الأرض مسلمون، بل لم يعد في حاجة إليها حتى ينتشر(20) في الأصقاع: فدينامية الإنشاء والدفع أطلقت حركتَها وفعلت فعْلَها؛ لكن ذلك ليس يَصِحّ في مراحل الابتداء حيث الدعوةُ في بواكيرها، وأتباعُها جمهورٌ من المعتنقين محدودٌ، والجماعةُ الاعتقادية طريَّةُ العود وقريبةُ عهدٍ بما قبل الإسلام وأنساقِ القيم فيه (= الجاهلية). حينها كانت السياسة حاجة حيوية لإعادة تصنيع الجماعة الاعتقادية، ولإنتاج جماعة سياسية، ولإعادة إنتاج الدين بالسياسة.

ثم أتى على الجماعة المسلمة إياها، في عهدها الأول، حينٌ من الدهر زاد فيه معدَّلُ طلبها على الدولة والسلطان السياسي أكثر من ذي قبل. وكان ذلك بمناسبة فتنةٍ مزَّقتْ ما انتسج من وشائجَ وأواصرَ بينها منذ فجر الدعوة.

﴿حتى لا تكون فتنة...﴾

من نافلة القول أن سياق حديثنا في الفقرة السابقة كان منصرفاً إلى بيان سؤال السياسة في لحظته الابتدائية التي أعقبت وفاة النبي (ص): أي في فترة قيام الخلافة الراشدة واستوائها مع أبي بكر وعمر. أما ما أعقب ذلك – وهو إطارُ ما نحن فيه في هذه الفقرة – فَشَهِدَ تكييفاً جديداً لسؤال السياسة ذاك: لم تعد المسألة قائمة في هل تستطيع الجماعة أن تعيد إنتاجَ نفسها، وأن تستطيع – من خلال ذلك – أن تعيد نشر الإسلام خارج حَوْمَتِها، وإنما باتت تطرح نفسَها على النحو التالي: هل تستطيع الجماعة إياها أن تحافظ على وجودها كجماعة ملتحمة بالدين بعد أن بدأ عقدها في الانفراط؟! إنه السؤال الذي حملتْ على طرحه – بحدَّةٍ بالغة – تجربة الفتنة والحرب الأهلية.

أسهَبتْ كتبُ التاريخ(21) في وصف تفاصيل ما حدث في حقبة الخلافة الثالثة، مع ولاية عثمان بن عفان، وما ترتَّب عنه من صراعاتٍ مزَّقت وحدة الجماعة. وليس يهمنا أن نستعيد سياقات تلك الصراعات ووقائعها، بمقدار ما يعنينا الوقوف على السؤال المفصليّ في الموضوع الذي نحاول مقاربته وهو: كيف أمكن للسياسة أن تتحول إلى مطلب إسلامي للجواب عن مشكلةٍ كبيرة أنتجتها السياسة؟

يَبْلُغ السؤال هنا حدّ المفارقة فعلاً! ذلك أن المعارضة الواسعة التي التأمت ضدّ خلافة عثمان بن عفان(22)، وكانت منطلقاً لصراعٍ دموي قاد إلى مقتل الخليفة وإلى انشقاقٍ سياسيٍّ إسلاميٍّ كبير، إنما برَّرت نفسها سياسيّاً(23) على الرغم مما لَبسَتْه من لبوس ديني(24)؛ والحال إن التوسّل بالسياسة وبمطالب السياسة لإسقاط الخليفة أو تصفيته جسديّاً لن يكون من نتائجه سوى إحداث فراغ سياسيّ وفَتْح الباب أمام الانشقاق والحرب الأهلية. هكذا قادت السياسة إلى نقيضها: إلى انهيار الدولة والعودة إلى صراعات أهلية لم تكن تخلو من مضامين قبليَّة سابقة للدعوة والسياسة والدولة. وهكذا - دَمّرتِ السياسةُ – في عهد الفتنة – تراثَها الذي أقامته منذ الدعوة، وتحديداً منذ قيام "دولة المدينة" في العهد النبوي.

ولم يكن تفصيلاً عادياً أن الحروب الطاحنة التي دارت رحاها بين المسلمين، بعد مقتل عثمان، إنما تواجَهَ فيها صحابةٌ ضدّ بعضهم بعضاً؛ وهو ما يعني أنها كانت أيضاً حروباً داخل "الطبقة السياسية" نفسها التي كان بها قوام الدولة ولم تكن فقط بين الدولة والمجتمع أو، بالأحرى، قسم من المجتمع. بل الأنكى من ذلك أن تكون صراعات السلطة بين الصحابة هي المدخل إلى حربٍ أهليةٍ، فيها "أصبح المسلمون حرباً على المسلمين" بتعبير طه حسين(25). فقد تعوّد المسلمون على قتال أعدائهم ممَّن عَدُّوهُم كفاراً ومشركين ينبغي قتالهم، ثم اضطروا إلى قتال كثير ممن أسلموا ثم ارتدوا عن إسلامهم؛ لكنها المرة الأولى التي يقاتلون فيها بعضهم بعضاً: المرة الأولى التي تعصف الخلافات بجماعتهم الموحَّدة – بالرسالة والفتوحات – فيقع في صفّهم انشقاق سياسي عميق شَدَّ أبعاضَهم المتفرقة إلى مراكز ثلاثة ومرجعيات سياسية ثلاثة، بعد إذْ كان المركز واحداً والمرجعية وحيدة: إلى الحجاز حيث مركز خلافة الإمام علي في المدينة، وإلى بلاد الشام حيث سلطان معاوية المتمرد على الخليفة، وإلى العراق حيث يطمح طلحة والزبير – متحالفيْن مع عائشة – إلى استغلال نفوذهما في البصرة والكوفة لحيازة العراق. ثم إنها المرة الأولى التي يتقاتل فيها صحابة من العشرة "المبشَّرين بالجنة" ويكون في جملتهم زوج النبي (عائشة: أم المؤمنين) في مواجهة صهر النبي وابن عمِّه. وأخيراً، إنها المرة الأولى التي يعود فيها الصراع بين الأمويين والهاشميين، منذ أُجْبِر سادةُ الأولين على الدخول في الإسلام إبان فتح مكة، إلى الواجهة ليتخذ ذلك الشكل من العنف الدموي الذي أزهق أرواح الآلاف من جماعة المسلمين.

وبمقدار ما كانت وقائع حربيْ "الجمل" و"صفّين" تبعث في نفوس المسلمين، الذين شهدوهما وشاركوا فيهما، مشاعر الحزن على ما آلت إليه جماعتُهم والحسرةِ على ما كانَتْهُ قَبْلاً؛ وبمقدار ما كان انكسارهم النَّفْسي يَضَّاعَفُ من مُعَايَنَتِهِم كيفَ يقاتل صحابةٌ صحابةً، وهُمْ مَنْ هُمْ في مخيالهم الجماعي(26)، كانوا في الوقت نفسه – وهنا المفارقة – يندفعون في وَطِيسِ المَقْتَلَة الجماعية كأنهم ينفذون أمراً إلهيّاً! لقد كان ذلك التمزق النفسي الحادّ طريقاً إلى هذه العدمية العمياء التي سَكَنَتْهُم جميعاً في ساحات الوغى. كأن حبل الارتباط انقطع بغير رجعة وبات حَبْل النجاة بالنفس وبمدافعتها أَوْلَى بالطلب!

في هذه الحرب الأهلية، خسر المسلمون كثيراً مما تَعَهَّدَ ماضيهُمُ القريبُ إياهُ بالرعاية: خسروا جماعةً سياسية كانوها قبل الفتنة فَآلَ أمرُهم إلى تفُّرقٍ وانقسامٍ وتَمَذْهبٍ في مذاهبَ نَفَى بعضُها بعضاً وأحزابٍ قاتَلَ بعضُها بعضاً. وخسروا إمامةً واحدةً ينعقد عليها إجماعُهُم لينتهوا إلى تجزئةٍ للدولة ينتحل فيها كل واحدٍ إمامتَه ويَجْمَع لها الأنصار والجُنْدَ والمحازبين ليُلقيَ بهم في حرْبها متوسِّلاً بالعصبيات والقَرَابات والأرحام. والأَنْكَى والأمَرُّ أنهم خسروا أنفسهم كجماعة اعتقادية موحَّدّةً كانوا حِرَاصاً على النَّأْيِ بها عن أي خلافٍ قد يدبّ فيها ويأتي على تضامنها. وفي هذا المناخ من الخسارات المتناسِلَةِ من بعضها، كان نداءُ السياسة في الجماعة يتجدد، ويُجّيِّش وجْدانَها الجمعيّ من أجل الْتماس وحدتها من جديد.

لقد دمَّرتها السياسة. لكن، ها هي تعود إلى السياسة كي ترمِّمَ ما تَصَدَّع من كيانها. وها هي – في سبيل ذلك – تتواضع في المطالب وتفيءُ إلى الواقعية أكثر فأكثر. فالذين ثاروا على عثمان وقتلوه سيصبحون – في المعظم الأعمّ منهم – القوة الاجتماعية التي ستستند إليها سلطة الإمام علي. لم يكن كثيرهُم مؤمناً به، ولا كان هو بالضرورة يشاطرهم موقفهم الثوري الراديكالي من الخليفة الثالث، لكن نداء الحاجة إلى الإمامة كان قويّاً بحيث نَزَلَ أمامه الفريقان: علي وجمهورُه، فكانت الخلافة الرابعة ثمرته. والذين لم يتحمسوا لقتال حلف طلحة والزبير وعائشة، من جمهور علي، سرعان ما أَلْفُوا أنفسَهم مدفوعين إلى القتال مع علي دفاعاً عن الإمامة الواحدة التي يتهدَّدها الانقسام مع علمهم بالثمن الدموي الباهظ الذي ستدفعه الجماعة الإسلامية لقاء تحقيق ذلك. والذين رفضوا التحكيم بين علي ومعاوية، فعلوا ذلك إيماناً منهم بأن شرعيةَ الإمامة ليست معروضة على الشك والرأي، وإيماناً منهم بوحدانية الإمامة والمرجعية ومركز السلطة. والذين ثاروا على عليّ ورفعوا في وجهه شعار أن "لا حكم إلاّ لله" وخلعوا بيْعَتَه عن أعناقهم وكفَّروا التحكيم ومَنْ لَجَأَ إليه، سرعان ما سيؤيِّد قسمٌ منهم الإمام الحسن بنَ عليّ(27) ويبايعه على القتال من أجل حفظ منصب الإمامة (= السلطة) من طمع "أهل الشام" قبل أن يتنازل عن الحكم لمعاوية. حتى الذين "ارتضوا" بيعة معاوية، لم يفعلوا ذلك – جميعاً – عن قناعة بأحقيته في الحكم، بل صوناً لبقايا وحدةٍ تهالكت(28)... إلخ.

في سائر هذه الأمثلة – وغيرها كثير – كان الهدفُ وقفَ مفاعيل الفتنة في جسم الجماعة والأمة بعد أن تَعَذَّر درءُها، وصونَ بقايَا الدولة والسلطان السياسي بوصفهما أداة حفظ الجماعة وإعادة إنتاجها. وليس قليلاً أن يتنازل كثير من المسلمين عن اشتراطات الدين في حالات عديدة، أو أن يعلّقوها في أقلِّ تقدير، سعْياً في تحقيق ذلك الهدف.

لم تكن إعضالات السياسة الناجمة عن صعوبات بناء الشرعية في حقبة ما بعد الوحي والنبوة، لتمنعها من التماس طريقٍ إلى تلك الشرعية من تجربةٍ تاريخية غنية وقلقة في يوميات الجماعة الإسلامية، هي تجربة الخلافة الراشدة، ولا من الخوض فيها دونما توقُّفٍ طويل أمام التساؤل عن مدى وفاء السياسة والدولة لمنطلقات الدين (إلاّ متى عَنَى ذلك الوفاء تحقيقاً لمصلحةٍ يقتضيها الدين)، إذ كانت للسياسة دينامياتُها الموضوعية الدافعة التي أسَّسَتْ لها شرعيتَها دونما حاجة إلى تبرير (على الأقل في المرحلة الأولى). وآيُ ذلك أن وقائع التطور التاريخي التي عاشتها الجماعة الاعتقادية الإسلامية قادت – تلقائياً – إلى رفع درجة الحاجة الجماعية إلى الدولة والسلطان السياسي: إمَّا لتحقيق الرسالة عبر الفتوح في الحدّ الأعلى من تلك الحاجة، أو لترجمة الجماعة الاعتقادية إلى جماعة سياسية تعيد إنتاج الأولى، في الحدّ الأوسط من تلك الحاجة، أو لحفظ البقية الباقية من الجماعتين – الاعتقادية والسياسية – من مخاطر التفرُّق والتمزق الناجمة عن الفتنة: في الحد الأدنى منها.

على أن ديناميات السياسة تلك ليست عمياء بحيث تجري أحكامُها مَجْرَى القاعدة الضمنية والخَفِيَّة غيرِ المُدْرَكَة، وإنما هي ممَّا أَمْكَنَ وعْيُه ووعْيُ الحاجة إليه من طرف الجماعة السياسية الإسلامية ونخبها من الصحابة وقوى المعارضة. ولذلك نُظِرَ إلى كثير من إكراهات السياسة بوصفها خيارات – ولو اضطرارية – لتأسيس مجالٍ سياسيّ إسلاميّ، ولتجديد مصادر شرعية الدولة والسلطة.

(3)

الدولة والاجتهاد

حين سيقرّر الإمام أبو حنيفة النعمان الرأيَ قاعدةً للتشريع مُطْلَقة بعد الوحي، وحين سيأخذ بِهِ الإمام مالكُ بنُ أنس قاعدةً نسبيّة (إلى جانب النص)، ثم حين سيكرّسه الإمام الشافعي أصلاً رابعاً من أصول الفقه في رسالته(29) تحت عنوان القياس، لم يكن ذلك ممّا جَرَى اجْتراحُهُ من عدم، وإنما كان في جُمْلَة ما اشْتُقَّ من الخبرة التاريخية – السياسية والعقلية – للمسلمين في حقبة الخلافة الراشدة وما تلاها، في مضمار تَنَاوُلِ ما فَرَضَتْ عليهم نفسها من مستجدات (أو "نوازل" في لغة الفقه) لم تكن لها في ماضيهم سابقاتٌ ونظائر. لكن الأهم من ذلك – في ما نحن فيه – أن إقرار مبدإ الاجتهاد فَتَحَ الباب أمام تأسيس معرفة عربية – إسلامية بالمسألة السياسية، وبمسألة الدولة والسلطة والشرعية على نحوٍ خاص، بدأت في صيغتها الأولى اتّصَالاً بالخلاف الذي نشب بين المسلمين حول الخلافة، في حرب "صِفّين"؛ ثم تطورت لتتداخل مع مسائل الجدل اللاهوتية في علم الكلام، إلى أن تبلورت موضوعاتُها في "نظرية الخلافة" و"نظرية الإمامة".

حين نشأ الخلاف بين المسلمين حول خلافة النبي (ص)، وجرى ما جرى في اجتماع السقيفة، تبلورت "أطروحات سياسية" ثلاث حول الخلافة: تقول الأولى إن الخلافة ينبغي أن تكون في قريش؛ وتلك كانت أطروحة المهاجرين في السقيفة. وتقول الثانية إنها تجب في غير قريش، التي خَذَلَتْ نبيَّها وقاتَلَتْهُ ولم يستجب منها لدعوته إلا عدد قليل جدّاً خلال قيام الدعوة في مكة ولمدة ثلاثة عشر عاماً؛ وتلك كانت أطروحة الأنصار، وبعض أهل التحكيم فيما بعد، وإن من منطلقات أخرى. وتقول الثالثة إنها يجب أن تقوم في الهاشميين بالتحديد من دون سائر قريش، وفي بيت الرسول على نحوٍ أخصّ؛ وذلك كان موقف العباس عمّ الرسول، وعلي بن أبي طالب، وبعض الهاشميين، والزبير بن العوام(30). ومع أن بيعة أبي بكر حسمت أمْرَ الخلافة وشرعيتِها وحقَّقت انتقالاً هادئاً – إلى حدٍّ ما – للسلطة، إلا أن ذلك الحسم كان بلغةٍ معاصرة، تكتيكيّاً ولم يكن استراتيجيّاً. إذ سرعان ما تجدَّد الخلاف، وتحت نفس العناوين تقريباً، بمناسبة الصراع على السلطة بين عليٍّ ومعاوية وحرْبهما الضارية في صفّين. وكانت حادثة التحكيم هي بالذات، التي أطلقت جدلاً جديداً في الإسلام حول معنى الخلافة والإمامة ونِصَاب الشرعية السياسية دينيّاً وما في معنى ذلك.

أطلّت "الأطروحات" الثلاث من جديد بانتسابات مختلفة، ولكن بصياغات فكرية أرقى من ذي قبل. عاد من يقول إن القرشية ليست شرطاً للإمامة ولا تتوقف عليها شرعية السلطة. وعاد من يقول إن القرشية شرط عام لينصرف بعد ذلك إلى تعيين الفرع المخصوص منها بالحق في الولاية العامة على جماعة المسلمين. ليس يهمنا – في موضوعنا هذا – أن نستعيد سياق الصراعات التي أفضت إلى ذلك الجدل وأسَّست له، وإنما يهمُّنا الوقوف على آراء المختلفين التي أرهصت بميلاد فكر سياسيّ إسلاميّ، أو قُل بميلاد موضوعاتٍ فكريةٍ جديدةً تماماً على وعي المسلمين للمسألة السياسية: الذي ظل محصوراً – لفترة طويلة – في نطاق النصّ (الديني) أو في نطاق إجراءات سياسية قام بها خلفاء (راشدون) دونما تأصيلٍ فكريّ، وكانت إلى الأفعال والسُّنن أقرب منها إلى الآراء المبنيَّة على مقدمات نظرية مُعْلَنَة ومدرَكة. لنستعرض – سريعاً – تلك الآراء الثلاثة، في صيغتها الجديدة، حول الخلافة.

يعود الرأي الأول في الخلافة حول الخلافة إلى فريقٍ من المسلمين كان في جملة جيش الإمام عليّ قبل أن ينفصل عنه، وهو المحكّمة(31): أي الذين رفضوا قبول عليٍّ التحكيمَ في الخلاف بينه وبين معاوية، رافعين في وجهه شعار أن "لا حُكْمَ إلاّ لِلّه". ذهب هذا الفريق من المسلمين إلى صوغ موقفٍ من الخلافة مقتضاه أنها جَرَتْ مجرًى صحيحاً في عهديْ أبي بكر وعمر، وفي صدر عهد عثمان قبل أن ينقلب هذا على سُنَن السابقيْن، وفي عهد عليّ قبل أن يرتضي التحكيم. لكن الأهم من هذا الموقف الاسترجاعي لديهم ما ذهبوا إليه من القول بأن الخلافة اختيار للمسلمين كافة، وأنها ليست تنحصر في قريش وإنما تَحِقُّ لأيّ مسلم يَحْكُم بما أَمَرَ الله وإلاَّ أصبح خَلْعُهُ واجباً على الجماعة. وعليه، فالخلافة في نظر المحكمة قائمة على أركان ثلاثة: حرية الاختيار، الحق الجماعي في الولاية أو الإمامة، قيام الخلافة على الدين أو المرجعية الدينية للخلافة(32).

ويعود الرأي الثاني في الخلافة إلى شيعة الإمام علي، الذين ذهبوا إلى القول بحق آل البيت – دون سواهم – في الإمامة؛ وهم "عزَّزوا" قولهم ذاك بالتأكيد على أن عليّاً أوصى له النبي بالخلافة، وعلى أن "الوصية" تنسحب على أبنائه وأحفاده من بعده. كما ذهبوا إلى وجوب طاعته طاعةً كاملة لأنه – ومن سيأتي بعده – إمام معصوم. ولقد كانت هذه المبادئ الثلاثة: الخلافة في آل البيت، و"الوصية"، و"العصمة"، الأركان الرئيسَة التي ستقوم عليها "نظرية الإمامة" في ما بعد.

أما الرأي الثالث، فيعود إلى الأمويين الذين انتزعوا الخلافة بالسيف والدم. إنهم يعتبرونها حقّاً لقريش، لكنها ليست لفرعٍ منها بذاته، وإنما لمن استحقها منها. وحين كان عليهم أن يجيبوا عن السؤال الرئيس: لماذا انتزعوها من بَنِي هاشم (عليّ)؟ فقد كان جوابُهُم أنهم استحقوها بعد أن فَشِل بنو هاشم في حفظها وفي صون وحدة المسلمين وراءَها. ولم يكن زعيمُهم معاوية ليتحَرَّجَ في التعبير عن سياسة الأمر الواقع هذه حين خاطب أهل المدينة عام توليته قائلاً من ضمن ما قاله: "... فإن لم تجدوني خيرَكم فإنّي خيرٌ لكم ولايةً"(33).

لم تكن هذه الآراء الثلاثة في الخلافة وحدها التي جرى التعبير عنها حينئذ؛ كان ثمة رأي المرجئة الذين هادنوا الأمويين وأسبغوا – ضمناً – بعضَ الشرعية عليهم حين رفضوا موقف المحكّمة والشيعة منهم: الذي كفَّرهم وأسْقَط شرعيةَ خلافتهم. وكان ثمة موقف القَدّرية الذي شَدَّدَ – مع معبد الجُهَني وغَيْلان الدمشقي(34) – على حرية الإرادة الإنسانية في مواجهة الجبرية الأموية(35). ثم كان هناك موقف المعتزلة الذي ذهب بفكرة حرية الإرادة تلك إلى الحدود الأبعد في مضمار الحديث عن العدل الإلهي كأصلٍ ثانٍ من أصول المعتزلة الخمسة. غير أن هذه المواقف، على أهميتها فكريّاً لم تكن تستند إلى حركات سياسة شأن الأولى (الشيعة والمحكّمة والأمويين)، وكانت غالباً ما أتت في سياقٍ من الجدل الكلامي العقائدي.

وبالجملة، بدأ الفكر السياسي الإسلامي – المنشغل بقضية الخلافة – يشهد موضوعاته التأسيسية الأولى مع أفكار المحكّمة والشيعة والأمويين قبل أن ينتقل انتقالَتَهُ الاعطافية والحاسمة نحو نظرية الدولة والخلافة في الحقبة العباسية الثانية.

(4)

في لحظةٍ من تطور الفكر العربي – الإسلامي في العصر الوسيط، كان لا بدَّ من أن يقع تحوُّلٌ فكريٌّ حاسم في المعرفة بالسياسة والدولة والمجال السياسي يناظر، في أهميته ونتائجه النظرية، تلك التحولات التي شهدتها مجالات أخرى من المعرفة العربية – الإسلامية مثل: اللغة، وأصول الفقه، وعلم الكلام، والتاريخ، والحديث، والبلاغة، والعروض، والفلسفة، والتصوف... إلخ، وهي جميعُها كانت أسبق من "علم السياسة" في التكوُّن والقيام والانتظام. بعبارة أخرى، كان لا بدَّ من قيام نظريةٍ في الدولة وفي السلطان السياسي، و – بالتالي –إخراج القول في موضوعها من علم الكلام، الذي دار في إطاره الجدل حول مسائل الخلافة والإمامة والشرعية، إلى الفقه السياسي أو فقه الدولة. فمع أن "أول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين – بعد نبيهم (ص) اختلافهم في الإمامة"، على قول أبي الحسن الأشعري(36)، إلا أن النظرية السياسية (في الدولة والخلافة) كانت آخر ما أَفْرَجَتْ عنه المعرفةُ العربية – الإسلامية لأسباب يَرِدُ بيانُها ضمناً في ما سيلي من حديث(37).

ولقد أمكن لمثل تلك النظرية أن يخرج إلى الوجود بعد أن توافرت لميلاده الأسباب: من الفكر وحركة تطوره وتراكمه، ومن الواقع وأحكامه الموضوعية على السواء. ونقف – هنا – بإيجاز شديد على ثلاثة من أهم تلك الشروط والأسباب التي هيأت لنظرية الدولة (= نظرية الخلافة) ظروف الميلاد:

أول تلك الأسباب توفُّر قواعد(38) يُبْنَى عليها التفكير في الدولة والسلطة والسياسة. وهي قواعد دّشَّن وضعها الإمام الشافعي في مجال أصول الفقه، وعَمِلَ بها اللغويون والنحاة، وسَرَتْ بعض تأثيراتها في علم الكلام، وفي علم الحديث قبله، إلى أن بدأ مفعولُها يسري في الفقه السياسي. والقارئ في نصوص الفكر السياسي الإسلامي التأسيسية في القرن الخامس الهجري (الماوردي، أبو يعلى، الجويني) يَلْحَظُ أنها تستعير القواعد ذاتها التي أقام عليها الشافعي علم أصول الفقه، من كتابٍ وسنّةٍ وإجماعٍ وقياس، وتُؤَسّس بها المعرفة داخل هذا المجال، مما يقطع بأن الفكر السياسي تأخَّر – في جانب منه – لأسباب ابستيمولوجية: البحث عن أساسيات معرفية يقوم عليها صَرْحُه.

وثاني تلك الأسباب استقرارُ الدولة والخلافة – موضوعَ النظرية السياسية – على سماتٍ وضوابطَ تقبل النظرَ إليها بوصفها ثوابتَ لا مغيرات، أو قُلْ بوصفها ملامح قارة ملازمة للدولة ومن طبائعها التي لا تَعْرِضُ لها على سبيل الطارئ. لقد نضجت صورة "الدولة الإسلامية" في القرن الخامس الهجري حين جرى التنظير لها، فانفصلت حقيقتُها الجديدة كدولة سلطانية، كمُلكٍ قهري، عن مثالها المرجعي (=الخلافة). ومع أن فقهاء السياسة ما توقفوا عن النظر إليها كخلافة(39) – لأن في ذلك موطن شرعيتها الدينية – إلا أنه كان واضحاً تماماً أن ذلك لم يكن أكثر من مكابرة ولم يغيّر من أمرها شيئاً كدولةٍ سلطانية.

أما ثالث تلك الأسباب، فهو التحدي الفكري والسياسي الذي طرحته نظرية الإمامة (الشيعية) على فقهاء "دولة الخلافة" حين تَبَلْوُرِهَا في وقت مبكر وإقامتها نظام الحكم (الإمامة) على قواعد لم يكن ليأخذ بها القسم الأكبر من المسلمين. وهو ما حَمَلَ على إنتاج نظرية الخلافة وتأسيس منظومة مفاهيم السياسة الشرعية ردّاً على فقه الإمامية السياسي.

لقد باتت النظريةٌ في السياسة والدولة ممكنةً منذ العهد العباسي الثَّاني للأسباب التي ألمحنا إليها. وجاء قيامُها يتوّج عمليةً مديدة من البناء النظري لمجالات المعرفة، بدأت منذ نهاية النصف الأول من القرن الهجري الثاني(40)، بمقدار ما فتح الباب أمام نوعين آخرين من المعرفة بالسياسة غير الفقه السياسي، هما: الآداب السلطانية والفلسفة السياسية... ممّا لا يدخل في موضوعنا هذا.

**********************

الهوامش

(*) أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامية، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء.

(1) نصّ "الصحيفة" في ابن هشام: السيرة النبوية. تحقيق محمد السقا [وآخرون]. القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1955. ج 1، ص501 وما تلاها.

(2) قال الإمام علي موضحاً موقفه من عدم منافسته أبا بكر على الخلافة: "... أَدَعُ رسول الله (ص) في بيته لم أدفنه وأخرج أنا أنازع الناس سلطانه". أوردها ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، وهو المعروف بـ تاريخ الخلفاء. القاهرة: مكتبة مصطفى الحلبي وأولاده. 1963، ج 1، ص12. وثمة روايات أخرى عديدة عن تأخير دفن جثمان النبي (ص) بسبب الانشغال بأمر خلافته!

(3) للإمام علي بن أبي طالب قولٌ في هَذا الباب – إن صَحَّت نسبتُه إليه – قاطعٌ في الدلالة على وجوب الحاجة إلى سلطان سياسيّ، جاء فيه في معرض ردّه على معارضيه: "الحكم للّه وفي الأرض حكّام. لا بد للناس من أمير بَرٍّ أو فاجر، يضم الشّعت، ويجمع الأمر، ويقسّم الفيء، ويجاهد العدو، ويأخذ للقويّ من الضعيف، حتى يريح برّ ويُسْتَرَاح من فاجر". ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة. الجزء 2، ص307. التشديد من عندي.

(4) "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم. وليُمَكِّننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم. وليُبَدِّلنَّهم من بعد خوفهم أمناً، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً...". سورة النور، الآية 55. أنظر في معنى الاستخلاف: رضوان السيد: الجماعة والمجتمع والدولة. دار الكتاب العربي، بيروت، 1997، ص24 – 26.

(5) استمر لقب أمير المؤمنين لقباً رسمياً لـِ "الخلفاء" في العهدين الملكيَّيْن: الأموي والعباسي، بل وفي ما أعقبهما من عهود. ولكن كان واضحاً أن تحويراً طرأ على المعنى الأصل للّقب ذاك. كان عمر أميراً للمؤمنين، كما تشهد بذلك سيرتُه السياسية والدينية، أما من ورثوا التسمية بعد انصرام حقبة الخلافة الراشدة، وعلى الرغم من عظمة إنجازاتهم التاريخية (الفتوح والبناء الحضاري)، فلم تكن إماراتهم من جنس إمارة عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب؛ كان الخليفة منهم أميراً في المؤمنين أكثر ممّا كان أميراً لهم. وهو تمييز ينصرف إلى ملاحظة منحى الانفصال المتزايد رَتْقاً بين الدينيّ والزمنيّ في تجربة السلطة منذ الخلافة إلى المُلْكِ: قياماً واستواءً وامتداداً.

(6) تحاول الروايات التاريخية العربية لملابسات "اختيار" أبي بكرٍ خليفةً ومبايعتِهِ أن تضفي سمْتاً دينيا على معايير ذلك "الاختيار". وإذْ هي تَصْمُت على معيار "السابقة في الإسلام"، لأن تحكيم هذا المعيار مما تترجَّح به الرواية الشيعية بأحقية الإمام علي في الخلافة بحسبانه الأقدم – في صحابة النبي وفي رجال العرب – في إشهار إسلامه والشهادتين، تُرَكِّزُ على سابقة تكليف النبي إياه أمْرَ إمامةِ المسلمين في صلاة الجماعة أثناء مرضه؛ والإمامة في الصلاة إمامة صغرى تفتح الباب أمام إمامةٍ عظمى هي الخلافة (سيضع محمد رشيد رضا، في مطلع عشرينيات القرن العشرين الماضي كتاباً حَمَلَ نفس العنوان: الخلافة أو الإمامة العظمى). لكن خطاب التولية الذي ألقاه أبو بكر واعترف فيه بأنه ليس أخْيَرَ المسلمين وأَبْعَدَهُم في الأهلية لتولّي أمرهم (= حُكْمهم)، يقطع بأن المعيار المعتمَد – الضمنيّ وغيرِ المُعْلَن – معيارٌ سياسيّ، وهو أيضاً ما يدعمه اقتراح الأنصار الموجّه للمهاجرين في السقيفة – مَخْرَجاً لمأزق "الاختيار" – بـ"تقاسُم السلطة" بين الفريقين على مقتضى العبارة المنسوبة إليهم::"منّا أمير ومنكم أمير". إذِ السلطةُ السياسية مما يقبل الازدواج والاقتسام، وهو ما ليس ينطبق أمرُه على السلطة الدينية.

(7) راجع في هذا: ابن تيمية: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. بيروت، دار الكتب العلمية، 1988. وقارن: رضوان السيد: الجماعة والمجتمع والدولة. م م س، ص25 – 26، والماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، بيروت، دار الكتب العلمية، [د ت]، و: Louis Gardet: La cité musulmane. Vie sociale et politique (paris: Vrin, 1961), p 181.

(8) ليس تفصيلاً أن تلتئم معارضة ضد عثمان من داخل "نخبة" الصحابة: من تيار المستضعفين الذي كان في جملة أبرز رموزه الصحابيان الكبيران عمّار بن ياسر – خاصة – وأبو ذرّ الغفاري. كما لم يكن تفصيلاً أن ينتسج حلفٌ صحابي ضدّ الإمام علي من عائشة (= أم المؤمنين) والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله (في "حرب الجمل")، ومن معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص (في حرب صفّين). أنظر تحليلاً رصيناً لسياقات تلك المعارضات في: Hichem Djait: La Grande discorde: Religion et politique dans L’islam des origins. Paris, Gallimard, 1989.

(9) والحلّ هذا - هو كناية عن تولية أبي بكر خليفةً – سيُنْظَر إليه لاحقاً بوصفه واجباً شرعياً بمقتضى الإجماع – إجماع الصحابة والمسلمين – لضرورةٍ اقتضتِ الخلافةَ والولاية هي تنظيم الاجتماع الإسلامي بردّ الفوضى عنه. ذلك – مثلاً – ما ذهب إليه ابن خلدون حين قال: "إن نصب الإمام واجبٌ قد عُرف وجوبُه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسول الله (ص) عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمور المسلمين. وكذا في عصر من بعد ذلك، ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعاً دالاًّ على وجوب نصب الإمام". المقدمة: دار الكتاب العربي، بيروت، 1996، ص186.

(10) ما خلا إشارات عامة لمبدإ الاختيار وردت في آيتيْ الشورى (الآية 38 من "سورة الشورى"، والآية 159 من "سورة آل عمران").

(11) مع غياب نص قرآني في شأن المخصوصين بأمر الولاية، استندت مصادر تاريخية وفقهية حديثة إلى حديث نبوي مفاده "الأئمة من قريش". وهو الحديث الذي اتخذه معاوية في جملة ما برَّرَ به حُكْمَه كصاحب حقٍّ في الإمامة لا يقل عن حقّ الهاشميين فيها. لكن وقائع اجتماع السقيفة – كما روتْها المصادر التاريخية – تقطع بأن هذا "الحديث" وُضِعَ في الحقبة الأموية ولا تصحّ نسبته إلى النبي (ص)، لأنه لم يَرِدْ له ذكْرٌ في الجدل الذي قام بين المهاجرين (أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح) وبين الأنصار في سقيفة بني ساعدة حول معيار اختيار خليفة. ولو كان الحديث صحيحاً، لاسْتَدَلَّ به عمر ولحسَمَ الجدل لصالح المهاجرين لأن الأنصار (= الأوس والخزرج) ليسوا من قريش.

(12) الدارمي: سنن الدارمي. دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ج 1، ص69. أورده رضوان السيد في الجماعة والمجتمع والدولة. ص 251. التشديد من عندي.

(13) ﴿إنَّا نحن نَزَّلنا الذِّكر وإنَّا له لحافظون﴾ سورة الحجر، الآية 9.

(14) بالمعنى نفسه الذي تفيده عبارة كارل ماركس الشهيرة أن الفكر يتحول إلى قوة مادية حين تمتلكه الجماهير.

(15) من المهم التذكير بأن الآيات المكية تشكل ثلثي القرآن الكريم عدداً وحجماً.

(16) لم يتجاوز فيها المسلمون بضع عشرات من الأفراد.

(17) ولذلك "كان الجهاد مهمة الأمة الأولى أيام الراشدين" على حدّ قول عبد العزيز الدوري: التكوين التاريخي للأمة العربية. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1984، ص47.

(18) كانت الغنيمة، وقد اعتادت عليها العرب قبل الإسلام مورداً اقتصادياً حيويّاً، ممّا حرّك المخيال العربي – الإسلامي وهيّأه للجواب عن نداء الفتح الديني، فكيف إذا كان الإسلام قد أحلَّها للفاتحين. في هذا راجع محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الفصلان الثالث والخامس. راجع أيضاً شاكر النابلسي: المال والهلال – الموانع والدوافع الاقتصادية لظهور الإسلام. بيروت: دار الساقي، 2002، الفصل الخامس.

(19) إذ "في كل مرة كان رجال الصحراء يتحولون إلى فاتحين في محاولتهم للحفاظ على البقاء" سمير أمين: الأمة العربية. القاهرة: مكتبة مدبولي، 1988، ص31.

(20) وآيُ ذلك أن الدور الذي نهضت به زوايا وطرق صوفية في نشر الإسلام خارج جغرافيا سلطانه السياسيّ الدولتي – كالذي قامت به الزاوية التيجانية المغربية في إفريقيا والطريقة النقشبندية في بلاد القوقاز مثلاً – لم تَقْوَ على القيام به الدولة العباسية في المشرق أو الدولة الموحدية أو المرينية أو السعدية في المغرب. والأمر نفسُه ينطبق على المسيحية أيضاً: فهذه لم تعد تحتاج إلى الدولة الرومانية أو إلى دولة الكنيسة في العصر الوسيط الأوروبي حتى تنتشر، ففي عزّ العلمانية الغربية الحديثة، حيث الدولةُ منفصلةً عن الدين، اعتنق ملايين البشر العقيدةَ اليسوعية. وقُل ذلك عن الديانات القومية أيضاً: الكونفوشيوسية في الصين، والبوذية في اليابان، والهندوسية في الهند... إلخ، التي تتزايد وتيرةُ تعاظمها في كنف دولٍ شيوعية وليبرالية وقومية هندوكية غير حاملة لهمّ نشر الديانات تلك...

(21) انظر هنا: ابن قتيبة: الإمامة والسياسية... م م س؛ وابن جرير الطبري: تاريخ الأمم والملوك. بيروت: دار الكتب العلمية، 1987 (خاصة الجزأين الثاني والثالث)؛ وشمس الدين بن عثمان الذهبي: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام. بيروت: دار الكتاب العربي، 1987: "عهد الخلفاء الراشدين".

(22) لا ينبغي استصغار شأن تلك المعارضة بالقول – كما ذهب إلى ذلك كثيرٌ من المصادر التاريخية – إنها كانت معارضة قوى متمردة من المجموعات القبلية غير القرشية. ذلك أن أهمّ صحابة النبي (ص) وقَفَ ضد الخليفة عثمان: في آخر عهده خاصة، وعلى رأسهم الصحابة الذين اختاروه في "مجلس الشورى" السداسي الذي عيَّنه عمر بن الخطاب للتداول في أمر اختيار خليفة بعده. والصحابة المعارضون هؤلاء هم: عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعلي بن أبي طالب: وقد كان الأخير – الذي اتُّهِم زوراً بمسؤولية عن دم عثمان: من قبل عائشة زوج الرسول والزبير وطلحة ثم معاوية – الأقلَّ معارضةً لعثمان، فيما كانت مسؤولية الصحابيَّيْن طلحة والزبير مباشرة في مقتله لأنهما حَرَّضا على قتله؛ أما معاوية، فكانت مسؤوليته غير مباشرة من خلال استنكافه عن نجدة عثمان الذي استنجد به! انظر عرضاً وتحليلاً لذلك – أكثر حياداً من كتب التاريخ المرجعية – في: طه حسين: الفتنة الكبرى. دار المعارف، القاهرة [د ت]. الجزء الأول: عثمان. ص ص 138 – 158.

(23) راجع في هذا، ابن قتيبة: الإمامة والسياسة م م س؛ وعباس محمود العقاد: عبقرية عثمان. بيروت: دار الآداب.

(24) نظيرَ ذلك الذي يُرْوَى عن رسالة أرسلها محرضان كبيران على الثورة ضدّ عثمان – هما الصحابيان طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام – إلى كافة الأمصار تدعو المسلمين إلى أخذ حقّ المهاجرين المهدور (من عثمان) جاء فيها: "... من المهاجرين الأولين وبقية الشورى إلى من بمصر من الصحابة والتابعين وبعد، فإن كتاب الله قد بُدِّل وسنة رسوله قد غُيِّرت وأحكام الخليفة قد بدّلت، فننشُد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله والتابعين بإحسان إلاَّ أَقْبَل علينا وأخذ الحقَّ لنا وأعطاناه...". الإمامة والسياسة م م س.

(25) طه حسين: الفتنة الكبرى. الجزء الثاني: علي وبنوه، ص32.

(26) اقرأ عرضاً دراميّاً رفيعاً لذلك الانكسار النفسي في كتاب هشام جعيط la grande discorde م م س، خاصة في فصله الثالث.

(27) راجع الفصل الأخير من: la grande discorde

(28) ولو أن هذه البيعة الاضطرارية استُغِلَّت من طرف معاوية والأمويين ليقال عنها إنها أَمَارَةٌ على "إجماع" المسلمين – خاصة من سوف يُطْلَق عليهم "اسم أهل السنة والجماعة" في ما بعد – على خلافة معاوية. وكان ذلك في أساس تسمية سنة تولية معاوية بـ"سنة الجماعة" أو "عام الجماعة". أنظر في هذا، أبو زرعة: تاريخ أبي زرعة الدمشقي. تحقيق شكر الله بن نعمة الله القوجاني. دمشق: مطبوعات مجمع اللغة العربية. 1980. الجزء 2، ص188. وقارن بالطبري: تاريخ الأمم والملوك م م س، ورضوان السيد: الأمة والجماعة والسلطة. بيروت، دار اقرأ، [1985م]، ص132 – 133، و: الجماعة والمجتمع والدولة. م م س، ص39.

(29) محمد بن إدريس الشافعي: الرسالة. تحقيق أحمد شاكر. القاهرة: البابي الحلبي.

(30) قارن هذا بأحمد أمين: فجر الإسلام. لجنة التأليف والترجمة والنشر، مكتبة النهضة، 1961، الطبعة الثامنة، ص252 – 253.

(31) وسُمّيَ رجالُه أيضاً بـ"الحرورية" نسبةً إلى قرية "حروراء" – القريبة من الكوفة – التي لجأوا إليها بعد الخلاف مع عليّ. وتسميهم المصادر السنية والشيعية على السواء بالخوارج. وهي تسمية ليست تَخْفَى لهجة الاتهام فيها بخروجهم عن سلطة علي بن أبي طالب، وإن كانت هناك مصادر تعزو التسمية –وتَرُدُّها – إلى معنًى آخر هو الخروج في سبيل الله. وقد سُمُّوا أيضاً "الشُّرَاة" لأنه يصدُق عليهم القول القرآني: "ومن الناس من يشتري نفسَه ابتغاءَ مَرْضاةِ الله". راجع في هذا أحمد أمين: فجر الإسلام. المرجع السابق، ص257.

(32) قارن بالشهرستاني: الملل والنحل. تحقيق محمد سيد كيلاني، بيروت: دار المعرفة، 1980؛ وبأبي الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1969.

(33) ابن عبد ربه: العقد الفريد. القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى. ج 4، ص147. التشديد من عندي.

(34) راجع الملل والنحل للشهرستاني.

(35) راجع نقد محمد عابد الجابري لإيديولوجيا الجَبْر الأموية في: العقل السياسي العربي. م م س، الفصل التاسع.

(36) أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المُصلّين. تحقيق محمود محيي الدين عبد الحميد، ط 2، بيروت: دار الحداثة، 1985، ص39.

(37) راجع في هذا محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص107.

(38) راجع الجابري، المصدر السابق، الفصل الخامس.

(39) فعلوا ذلك مع علمهم بأن "الخليفة" (=السلطاني) فَقَد سلطانه أمام ما أسموه بـ"إمارة الاستيلاء" وما نظَّروا لشرعيته!

(40) انظر جلال الدين السيوطي: تاريخ الخلفاء. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. القاهرة: دار النهضة، 1976، ص416...

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=61

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك