الآخر في الثقافة العربية-الإسلامية

الآخر في الثقافة العربية-الإسلامية

شمس الدين كيلاني*

لم يذهب الرحالة العرب إلى العالم الغريب، بما فيه أوربا، إلا وفي ذهنهم وتخيّلهم، صورة عامة عن الآخر، وعن العالم، مرتبطة بطريقة حميمة بمرجعيتهم الثقافية: العربية الإسلامية، التي حددت لهم معاييرهم القيمية، يستندون عليها لإصدار أحكامهم على هذا الآخر، والإطار المعرفي الصادر عن خلاصة وحدود معرفتهم للعالم، بأقاليمه، وأماكنه المختلفة، يضعون هذا الآخر في سياقها، كما أنها حددت «أغراضهم»، ومقاصدهم، المشروطة بالظروف التاريخية السياسية، وعلاقات التدافع والغلبة، حيث وجَّهت «إدراكهم» إلى هذا الجانب، أو ذاك من حياة ذلك الآخر، لا بقصد التعرف عليه فحسب، بل لمعرفة الكيفية الناجعة للتعامل معه.. فأثر ذلك على اختيارهم للمشاهد، والموضوعات التي اعتبروها أجدر بالعناية لهم، ولقرائهم، فركزوا مرة على الجانب السياسي، والعسكري، وبالتالي على مصادر القوة والغلبة، ومرة أخرى على الوصف الإثنوغرافي لحياة هذه الجماعة أو تلك، فعرضوا لنا عادات هذه الشعوب، ومناحي تفكيرها، وأساليب العيش عندها، أو على سلوكها الاجتماعي والفردي، أو على حياتهم الدينية، والثقافية، دون أن ينسوا إطلاق أحكام القيمة على كل هذه الحياة، وركزوا أحياناً على الغريب، والمدهش والعجيب، في هذه البلدان، والمجال المحبب والمكروه، وما أثار عندهم الإعجاب، والدهشة أو التأفف والصد. فأخضعوا، أحياناً، ثقافة الغير لمقولتي (التزيين أو التقبيح)، وحكموا على سلوكيات أصحاب هذه الثقافة بما فيها من معتقدات، وتقاليد وعادات، على ضوء ما اختزنوه في وجدانهم وعقولهم من أحكام وتصويبات مستقاة من ثقافتهم نفسها. فكان الرحالة العربي، آنذاك، ممثلاً لحضارة مزدهرة غاية الازدهار، وكان عنده «آخر» الخارجي، وآخر داخلي، وشكّلت «المفاضلة» جزئية هامة في تفكيره، وانعكس ذلك على كتابته، وضمناً على نظرته إلى ثقافة الغير(1).

فما يهمنا هنا، هو التوقف عند الصورة المُتخيّلة التي بلورتها الثقافة العربية الإسلامية في العصر الوسيط، عن الآخر بشكل عام، وعن الأوربي بشكل خاص، حيث ركّبت خزاناً من الصور والمعارف والتحديدات، رسمت للآخر صفات وملامح، وأصدرت في حقه أحكاماً، ووجهت الانتباه إلى بعض الجوانب من حياته. وأغفلت جوانب أخرى، أو قللت من أهميتها، فاختزنها الرحالة في تنقّلهم في أرجاء أوربا وأصقاعها، فأمدتهم بالمعايير، والمقاصد المعرفية.

وبما أن صورة الآخر في ثقافة ما، هي نتاج لمعايير معرفية وقيمية لهذه الثقافة، وحصيلة للفارق الدال بين واقعتين ثقافيتين، تخضع علاقتهما لشروط تاريخية ملموسة، من الصدام، والتنافس، والاقتباس، فهي تُجسّد عبر تمثلاتها المعقدة الواقع، والموقف من ثقافة الغير، تُمكِّن بالنهاية الفرد والجماعة من كشف وترجمة الفضاء الثقافي، وهي تحمل مزيجاً من الأفكار والمشاعر، والمواقف والدلالات الرمزية، وأحكام القيمة، تتبلور على صعيد الممارسة في شكل تدخلات، واحتكاكات، وتنافس، واقتباس، في حالة التدافع والسلم. لذا فالمتخيل العربي، الإسلامي عن الآخر، لا يمكن اختزاله بالعلاقة المعرفية، أو إلى علاقة الانعكاس المعرفية، فهو مليء بالمعاني التي تتغذى بالطبع من حدود المعرفة المتوفرة عن الآخر، وعن العالم، لكنها تفيض عنها، إذ لا يقتصر هذا المتخيل على محاولة تصوير واقع الجماعات الأخرى، قد يتكفل الزمن وتقدم المعرفة في تصحيح انحرافاته ليصبح (مطابقاً)، بل إن هذه المعرفة نفسها لا تستقل عن أحكام القيمة ومعاييرها، ولا عن الرموز والدلالات والمعاني الثقافية، التي تختزل المقاصد الروحية الأعمق للجماعات.

ونحن سنهتم بالصورة التي اختزنها المتخيل العربي الإسلامي نحو الآخر الأوربي، كما هي مجسدة بالمفاهيم الفكرية، وبمواقف وجدانية وشعورية، وبخزان من الرموز والدلالات المستندة إلى مرجعيات دينية وسياسية، ومعرفية، يحفزها الاحتكاك العنيف تارة، والسلمي تارة أخرى، والتي ربطت العرب-المسلمين بأوربا على امتداد العصر الوسيط. باعتبار أوربا الآخر دينياً، والمنافس حضارياً والخصم عسكرياً، والشريك في التجارة. والصورة المتخيلة عن الآخر تملك، في أحيان كثيرة، المقدرة على إحلال نفسها محل الواقع، طالما أن هناك فارقاً بين الصورة المنبعثة عن الإدراك، والتخيل، وبين الحال الفعلي للجماعات الأخرى، فتظل هناك مسافة فاصلة بين صورة الآخر، والآخر نفسه، لأن هذه الصورة ناتجة أساساً عن تخيل الجماعة التي أنتجتها ثقافياً، تعكس فيها الجماعة رأيها عن نفسها، في الوقت الذي تنتج تخيلها عن الآخر، ويمتزج فيها موقفها الإيديولوجي، بحدود معرفتها، وباتجاه مصالحها، ومدى انفتاح ثقافتها على تقبل الآخر، الداخلي والخارجي، وبمدى إدراك الجماعة للفارق الذي يفصل ثقافتها عن الثقافة الأخرى وتتأثر بحالة الصراع أو السلام التي تطبع علاقتهما في سياقها التاريخي.

وعندما تتبلور صورة الآخر في مخيال الجماعة تغدو بمثابة حارس للذاكرة الجماعية، لدرجة تصبح فيه الأفكار والتخيلات المسبقة تلك قوة موجهة للإدراك تتحكم في طريقة تصنيفه، واشتغاله، فتكتسب أحكامها بذلك تأثيراً راجحاً على الذاكرة والمخيلة الاجتماعية، فتتوهم الجماعة صاحبة هذه الصورة النمطية عن الآخر نوعاً من المطابقة بينها وبين المجتمع الآخر، بين رؤيتها للآخر وبين واقعه الفعلي(2).

ولقد لعب الإسلام دوراً حاسماً في تغذية الذاكرة والمخيلة العربية الإسلامية بصورة معيّنة للآخر، وبطريقة معينة للتعامل معه -دون إغفال المؤثرات الأخرى الدنيوية والزمنية، والفضول المعرفي- فكان القرآن بمثابة النص المفصلي الذي قامت عليه الجماعة الإسلامية، وتآلفت في كنفه، وحدَّد للمسلم مواقفه من الآخر، المختلف عنه دينياَ، وثقافياً، وعيّن له سلوكه تجاه المختلفين معه. فهو الفصل، وهو الحُكْمُ، وهو الغذاء اليومي للذين اعتنقوا الإسلام(3).

إلا أن هناك ما يميز الإسلام عن الأديان التوحيدية الأخرى المسيحية واليهودية، وهو ما يتجلى في نزعته التوحيدية، المرفوعة إلى ذروتها، وفي اعترافه المصرَّح به نصاً بالأديان الأخرى (النصارى، واليهود) باعتبارهم أهل كتاب، فضلاً عن المجال الحضاري الخاص الذي أنشأه، وتبادل معه التأثيرات. وتكونت في ظلاله ثقافة عربية إسلامية، عبر تمازج ثقافات الشعوب المختلفة التي انضوت تحت راية الإسلام، واتخذت اللغة العربية لساناً، فكونت ضمن ما كونت «صورة للآخر». وعلى الرغم من أن الموقف الديني، قد لوّن كل جوانب الثقافة العربية الإسلامية، على تفاوت استقلاليتها عنه، فإننا لا نستطيع أن نَقصر الموقف من الآخر على العامل الديني وحده، فهناك جوانب لها تأثيرها أيضاً، اختزنتها الثقافة العربية الإسلامية الغنية، والكثيرة التنوع، والتي كانت حصيلة تراكم تاريخي طويل الأمد، وكما أشار بروديل إلى أن: «الإسلام هو قبل كل شيء وريث الشرق الأدنى بثقافاته واقتصادياته وعلومه القديمة، وفضاء الإسلام هو ذلك الفضاء المحصور بين مكة والقاهرة ودمشق وبغداد. يقال عن الإسلام إنه الصحراء. العبارة جميلة وتتردد بكثرة ولكن يجب أن يقال أيضاً: الإسلام هو الشرق الأدنى، وهذا يضيف إليه كمية هائلة من الموروث الحضاري. وبالتالي قروناً طويلة من التاريخ»(4). وهو ما جعل الثقافة العربية الإسلامية قادرة على الحفاظ على الوحدة، والتنوع بآن واحد، فامتزجت كل ثقافات الشعوب، والأمم الداخلة في الإسلام، في المجال الإسلامي الشاسع، مع الحفاظ على الغنى التعددي، بعد أن استطاعت الاقتباس، والتأثر بثقافة جيرانها الهند، واليونان، وبيزنطة، وقبل هذا ثقافة فارس.

ولقد عرفت الحضارة العربية الإسلامية، كغيرها من الحضارات، علاقات من التدافع والتناحر، مع جيرانها من الحضارات الأخرى، بما فيها الحضارة الأوربية، وتبادلت معها السلع، والأفكار، والتخيلات. فكونت لنفسها صورة عن (الآخر) في الحضارات الأخرى، حكمت إلى حد كبير طريقة فهمها وتعاملها معها، تغذت بمرجعيتها الثقافة، وبتقدم معرفتها للعالم، وبخبرتها بحال الشعوب الأخرى.

وإذا أردنا تبسيط المسألة، يمكننا أن نقول: إن الثقافة العربية-الإسلامية قدمت عدة معايير، وقياسات حكمت من خلالها على ثقافة الآخر، ولونت بها صورته، فهناك أولاً المعيار الديني: الإيمان الإسلامي، ثم المعيار الحضاري، وهو ما يقاس بمدى العمران عند الآخر، ومعيار بيئي جغرافي، يتعلق بموقع هذه الحضارات في أقاليم الكرة الأرضية، ومدى اقترابها من خط الاستواء الحار، ومن القطب الشمالي البارد، وتأثرها بمدارات النجوم والأفلاك، فضلاً عن العامل المعرفي، أي بمدى تقدم معرفتهم بالعالم وحال الشعوب في ذلك الحين، كل هذه العوامل مجتمعة لونت نظرة الثقافة العربية-الإسلامية إلى الآخر، إذا لم يأخذ المثقف العربي الإسلامي عاملاً وحيدا ليحكم به على هذا الآخر، وإن كان بعض المفكرين العرب-المسلمين ركزوا، وضغطوا على أحد العوامل والمعايير أكثر من الأخرى، إلا أنهم على الأغلب أخذوا هذه العوامل مجتمعه في أحكامهم، وتقريراتهم. كما تأثرت نظرتهم تلك بطبقية العلاقات الفعلية القائمة بين «دار الإسلام» وبين الآخر، أي بحالة الحرب والسلم السائدة بينهم، في سياق ظرفها التاريخي. وبمدى ثقتهم بمرجعيتهم الثقافة، وموقعهم في العالم.

المعيار الديني: الاعتراف بالآخر (الاختلاف والوحدة)

أدخل الإسلام الإنسان العربي، ومن اعتنقه في التاريخ، كما شكلت فكرة الجماعة ووحدتها، على تنوعها، قاعدة مركزية في هذه التجربة، وذلك باعتبارها تأسيساً لمبدأ تضامن روحي ومحوراً للاجتماع الإنساني(5). وحمل الإسلام نظرة دينية للعالم والإنسان، غدا الكون تبعاً لهذه النظرة مسرحاً لمغامرة الإنسان، حيث سخَّر له الله ما في السموات والأرض لينتفع بها، اعتماداً على ما تمتع به من قدرة على التمييز والتدبير. وحدد له نمطاً ينطلق من اعترافه بالآخر باعتباره يختلف عنه باختلاف انتمائه، واعتقاده(6). إذ تضمن التصور القرآني على إدراك لافت لهذا الاختلاف بين الكائنات والناس واللغات والأديان. إذ خلق الله البشر، وفق الرؤية الإسلامية مختلفين جنسياً من ذكر وأنثى ﴿وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى﴾ (النجم: 45) ولغوياً ﴿ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم..﴾ (الروم: 22) ودينياً ﴿هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن..﴾(التغابن: 2)، وأنشأ الاجتماع البشري في وحدات مختلفة (شعوباً وقبائل) على قاعدة علاقات التعارف والتدافع ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير﴾ (الحجرات: 13) ﴿.. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين﴾ (البقرة: 251) وأيضاً ﴿.. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً..﴾ (الحج: 40). إن معنى «الدفع» هنا، حسب المصطلح القرآني، يشير إلى التفاعل والتواؤم مع واقعة التنوع والاختلاف، اللذين هما في المنطق القرآني قانون الخلق الإلهي ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون﴾ (النحل: 93) وأيضـاً ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾(المائدة: 48).

لكن هذا التأكيد على الاختلاف والتنوع، يوازيه التشديد على الوحدة الأصلية والنهائية الجامعة للبشر على اختلافهم، فقد كان الناس، وفق النظرة القرآنية، أمة واحدة، صدرت عن نفس واحدة «آدم» ﴿.. وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة﴾ (الأنعام: 98)، ثم تفرقت شعوب وقبائل بعث لها الرسل ﴿مُبشرين ومنذرين﴾ ليهدونهم إلى طريق الحق، وليعيدونهم إلى سيرتهم الأولى كجماعة واحدة، فحرص كل رسول على هداية قومه هو فحسب ﴿ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً..﴾(النحل: 36)، ﴿.. وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾(فاطر: 24)، ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه..﴾(إبراهيم: 4)، فينتهي الأمر إلى محمد، الذي أرسله إلى العالمين جميعاً، يجسد في رسالته استمراراً لوصية نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وخاتماً لنبواتهم. وفيه محاولة استعادة الأخوة الروحية للبشرية من جديد القائمة على التقوى، فضربت المفاهيم القرآنية جذور التفاخر بالأنساب والأعراق والألوان، بعد أن جعلت ميزان التفاخر الوحيد لدى البشر هو السمو الأخلاقي، وما يقدمه المرء من صالح الأعمال(7)، فنقرأ ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم..﴾(الحجرات: 13)، ويقول الرسول الكريم مُـحَمَّد -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع: «يا أيها الناس إن ربكم واحد. وإن أباكم واحد. كلكم لآدم، وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى»(8). يتموضع القرآن داخل خط الديانة التوحيدية، يرتبط معها في حزمة روحية واحدة داخل تاريخ النجاة. إذ نظر المسلمون إلى دينهم باعتباره أحد التجليات الكبرى لوحي نبوي واحد يقع الإسلام في نهاية حلقاته، وخاتمها، وهو ما جعل المسلمين ينظرون باحترام وتبجيل شديدين إلى حلقات النبوة السابقة وما أتت به من رسالات دينية. فـ««المسلم» كتسمية تشمل المؤمنين من كافة أديان التوحيد، هذا الاعتراف بـ«الآخر»، والاشتراك معه في وحي واحد سيؤسس للتسامح الديني ﴿قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون﴾(البقرة: 136).

وذكر القرآن أهل الديانات في أكثر من موطن ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾(البقرة: 62)، كما ذكر ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد﴾(الحج: 17). فقد نوّه القرآن، هنا، إلى ستة فئات من أهل العقائد، أجاز اشتمالهم في الاجتماع الإسلامي، مع تفويض أمرهم إلى الله يوم القيامة. فكان الاجتماع السياسي الإسلامي نوع من اجتماع حضاري، قائم على طواعية الأفراد والجماعات في الانتظام في هذا الاجتماع، بصرف النظر عن أصوله الإثنية والدينية والفكرية، الذي يتضمن حدوداً يجب احترامها في ظل العيش المشترك.

فالرؤية القرآنية للآخر تتحدّد في التصور الديني الإسلامي العام على أساس وحدة الانتماء الإنساني والعقائدي من جهة، وعلى قاعدة التمايز والاختلاف الديني والعرقي والألسني والاجتماعي من جهة ثانية. وهو إذ يؤكد على هذا المبدأ، فإنه يدعو إلى التواصل والتعارف، بكل ما يفترضه ذلك من نبذ التعصب، وإرادة إلغاء الغير(9). وشددت الكثير من الآيات على نبذ الإكراه في الدين، بما يتضمنه من حرية الاعتقاد ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..﴾(البقرة: 256)، وطالب القرآن اعتماد لغة الحوار مع أهل الكتاب، ونبذ الإكراه ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم..﴾(العنكبوت: 46). وترك لهم حق اتخاذ القرار ﴿وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..﴾(الكهف: 29). وخاطب القرآن النبي بالقول: «وما على الرسول إلا البلاغ المبين»، «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» و«ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن».

وقد خص القرآن المسيحية بتعاطف خاص ﴿.. ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون﴾ (المائدة: 82)، ومنح المسيح ميزة غاية في الأهمية، إذ جعله مؤيداً بالروح القدس ﴿.. وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس..﴾(البقرة: 254)، وأيضاً ﴿.. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه..﴾(النساء: 171)، وما المسيح ﴿..إلا رسول قد خلت من قبله الرسل..﴾(المائدة: 75).

وبعد الفتح، وقيام الدولة الإسلامية، عامل المسلمون أصحاب أهل الكتاب المقيمين في دار الإسلام، باعتبارهم أهل ذمة، وحدِّدت أحكام أهل الذمة كما صاغها الفقهاء المسلمون حقوق الدولة على أهل الكتاب باعتبارهم جماعة منها، وحقوقهم على الدولة باعتبارها دولتهم. غدا المسيحيون بمقتضى هذا العقد في ذمة المسلمين، أي في عهدهم وأمانهم. ويسري هذا العقد على الأبناء والأحفاد ما لم يفسخوه، ولا يحق للمسلمين فسخه. وإذا فسخه ذمي فلا تقع مسؤولية على طائفته بل عليه شخصياً(10). وبمقتضى هذا العقد يصبح الذمي مواطناً في دار الإسلام، وينطبق عليه منطوق الحديث النبوي: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، حيث يُعتبر المقيم على أرض الإسلام، من السكان الأصليين، جزءاً من الأمة، لأنه جزء من دار الإسلام، أما إذا كان طارئاً فإن عقد الذمة يعتبر جنسية له تحوّله إلى عضو في الجماعة السياسية الإسلامية الموجودة(11). ويمكن للذمي تبعاً لذلك، إذا توفرت فيه الأهلية، أن يتحمل مسؤوليات عامة كالمسلم باستثناء ما يتعلق بشؤون الخلافة والإمامة وقيادة الجهاد. ويدفع الذمي بموجب عقد الذمة جزية، وهو مبلغ يتفق عليه في العقد، يدفعه الأفراد، باستثناء النساء والأطفال، والرقيق، والرهبان، والعميان، وغير القادرين(12).

فلم يؤدِ الاجتماع السياسي الإسلامي إلى صهر الاختلافات والتنوعات داخله، بل أفسح لهذا التنوع مساحة للتعبير عن نفسه، لهذا نرى أن قيود الاجتماع السياسي هذه على أهل الذمة، لم تمنع النصرانية في العصر العباسي من أن يكون لها من القوة والنشاط ما يمكّنها من فتح مراكز تبشير لها في الهند والصين، انطلاقاً من دار الإسلام(13). ويصف ميتز حال التعايش الديني في دار الإسلام بقوله: «إن ما يميز مملكة الإسلام عن النصرانية في القرون الوسطى، أن الأولى يسكنها عدد كبير من معتنقي الأديان الأخرى غير الإسلامية. وليست كذلك الثانية، وأن الكنائس والبيع ظلت في المملكة الإسلامية كأنها خارجة عن سلطان الحكومة، وكأنها لا تكون جزءاً من المملكة الإسلامية. معتمدة على العهود، وما كسبته من حقوق، وقضت الضرورة أن يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين، فأعان ذلك على خلق جو من التسامح لم تعرفه أوربا في القرون الوسطى»(14). وهو ما جعلنا نرى ولا سيما في العصر العباسي حركة اليهود والنصارى قد اتسعت بسبب كثرة الاتصال التجاري والعلمي والحربي. والمسلمون، في كثير من مواقفهم، يعدلون بينهم، ويقربونهم إليهم، حتى لقد عفوا عن المال الذي يتركه النصراني من غير وارث، ويردوه إلى أهل ملته، فقد أصدر الخليفة المعتضد أمراً بهذا المضمون، استناداً على فتوى قاضي مدينة السلام، وفي أوائل القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، كان في بغداد وحدها نحو خمسين ألفاً من النصارى، ويذكر المقدسي أنه كان في الشام، أكثر الصباغين والصيارفة، والدباغين بهذا الإقليم من اليهود، وأكثر الأطباء والكتبة النصارى، حتى أن بعض الفقهاء أفتوا بجواز توزير أهل الذمة(15).

هذا التسامح، والاعتراف بالآخر، انعكس على لغة الثقافة العالمية، فالجاحظ، الممثل الأبرز للثقافة العربية الإسلامية، يعترف بمهارات النصارى، التي أسعفتهم من التقرب من أصحاب السلطة، مثل الطب والكتابة والمالية، في حين يشهد على أن اليهود برزوا في مجالات الحرف «إذ لا نجد اليهودي إلا صباغاً، أو دباغاً، أو حجاماً، أو قصاباً، أو سقاياً»(16). كما يلاحظ ارتفاع مكانة النصارى في الاجتماع الإسلامي، فاتخذوا «البرازين الشهيرة، والخيل العتاق، واتخذوا الجونات، وضربوا بالصوالجة، وتحدقوا بالمدبنى، ولبسوا الملحم (الحرير)، والمطبقة، واتخذوا الشاكرية، وتسموا بالحسن والحسين والعباس وعلي»(17).

وتعرض الجاحظ في كتاب الحيوان بتسامح واضح للثقافات المختلفة: عربية، ويونانية، وفارسية، وهندية، وللأديان من يهودية ونصرانية، وإسلامية، ومانوية، وزرادشتية، ودهرية(18). أما عن الطريقة التي نظم فيها المسلمون علاقتهم، فقد تأثرت بالمفاهيم القرآنية، والفقهية، وبالوضع التاريخي الذي خضعت له علاقة الدولة الإسلامية مع دول الجوار، مع عدة عوامل تداخلت فيها لغة المصالح والمنافع بقانون الغلبة بتوازن القوى، فضلاً عن المفهوم الديني، والدعوة الدينية، دون أن ننسى تأثير قاعدة التعايش مع الاختلاف الديني، والحضاري، في الداخل، على طريقة نظر المسلمين للاختلاف الديني، والثقافي الذي يعترضهم في الخارج.

فقد اعتبر الدين الإسلامي محمداً -صلى الله عليه وسلم- آخر الأنبياء، ورسالته آخر الرسالات وأمته المؤمنة آخر الأمم. إنه مبعوث للناس كافة، كما في القرآن والحديث، والعالم كله مجال لدعوته، وبالتالي فإن المسلمين الأوائل الذين حملوا دعوة النبي، فهم أمة الإجابة، «شهداء على الناس» بينما الناس كافة هم أمة الدعوة، وأن أمة الإجابة تُسأل عن مدى إخلاصها في نشر الدعوة، باعتبار أفرادها «شهداء» على الناس. ويعود هذا التأكيد على عالمية رسالة النبي، إلى تميز النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- عن الأنبياء السابقين، الذين كانوا يبعثون إلى أقوامهم خاصة، بينما بُعث هو إلى الناس كافة(19).

ولهذا كان الرحالة، والمثقف العربي الإسلامي في العصر الوسيط، في جولاته في أوربا، ينظر إلى وجود المسيحية في هذه المنطقة أو تلك بوصفها أحد العلامات الإيجابية، ميزوها عن المناطق الأوربية الأخرى، كالصقالبة، والنورمان، التي لا تزال على ديانتها الوثنية «المجوسية»، وفضلوها عليها.

ولقد مر المسلمون في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- في تجربتين مع المسيحية، خارج محيطهم الداخلي، وكان لهم موقف ذو دلالة من المسيحية، فضلوها على الأديان الوثنية.

التجربة الأولى تجسَّدت في موقف المسلمين في زمن النبي، من الحرب التي قامت بين فارس وبيزنطة، وذلك في عام 629م، فأظهر المسلمون تعاطفهم مع «الروم» أصحاب الكتاب، على الفرس «المجوس»، بينما وقفت قريش بعواطفها مع الفرس، ونزلت الآية القرآنية ﴿ألم. غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين..﴾(الروم: 1-4). التي أنبأت بانتصار الروم على فارس بالنهاية، وهو ما أثار فرح المسلمين، فيروى عن سيار بن مكرمة قوله: «لما نزل أول سورة الروم، اتخذ المؤمنون ذلك اليوم شبه عيد، وكان المشركون يحبون أن لا تغلب الروم فارساً، لأنهم أهل كتاب، وتصديق بالبعث»(21). ويروى عن أبي سعيد الخدري قوله: «التقينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومشركي العرب، والتقت الروم وفارس، فنصرنا الله على المشركين العرب، ونصر الله أهل الكتاب على المجوس، ففرحنا بنصر أهل الكتاب على المجوس»(22).

أما التجربة الأخرى، فهي تتعلق بالتجاء المسلمين إلى النجاشي المسيحي، صاحب الحبشة، هرباً من اضطهاد قريش. فقال النبي لأصحابه: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم»(23).

هذه التجربة تظهر تفضيل النبي، النجاشي المسيحي، على كفار قريش، من جهة، وتفضيله للنجاشي، مرة أخرى، صاحب الاعتقاد المسيحي الصحيح الذي يطابق إيمانه الإيمان الإسلامي، على إيمان البطارقة.

ولقد لاحظ الجاحظ في سياق رده على النصارى، الذين كانوا عنصراً من الاجتماع الإسلامي، ودينهم جزءاً من ثقافة المجتمع، أنهم أحب إلى (عامة) المسلمين من المجوس واليهود، وأقربهم مودة وأقل غائلة. معللاً ذلك بتركيزه على الجانب السياسي، وذلك لبعد ديار النصارى «من مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ومهاجره، لا يتكلفون صنعاً ولا يثيرون كثيراً، ولا يجمعون على حرب. فكان هذا أول أسباب ما غلّظ القلوب على اليهود ولينها على النصارى» كما «أن من ملوك العرب من كان نصرانياً... ونصرانية النعمان وملوك غسان مشهورة في العرب... وأن العرب كانت النصرانية فيها فاشية عليها غالبة إلا مضر» (24).

معيار الحضارة والعمران
لم يكن المعيار الديني، هو العامل الوحيد في حكم الثقافة العربية-الإسلامية على الآخر، وهو في انفتاحه على الاعتراف بالآخر، سمح بتغذية الثقافة العربية الإسلامية بمقاييس أخرى إلى جانب المقياس الديني للحكم على الأمم بمدى مساهمتها في مجالات أخرى، كمجال العمران، والحضارة.

فالنص الديني، وبعض الاتجاهات الفكرية الإسلامية، وواقع الاجتماع السياسي الإسلامي المتعدد الهويات في إطار الوحدة الجامعة، أنتجت ثقافة عقلانية واقعية، تجادل الآخر، وتحاوره، بدلاً من أن تلغيه. مما جعل الرؤية للآخر تتخذ معايير أخرى لا تقتصر على المعيار الديني وحده. فعلى الرغم من الشعور بالتفوق الديني والحضاري، مع الإقرار بمساواة الكائنات البشرية، فإن واقع الاحتكاك بالآخر الداخلي، والتعددية الثقافة والدينية في داخل دار الإسلام، جعل المثقف المسلم يضفي بعض النسبية على أحكامه تجاه الآخر(25). بدأ هذا مع المختلفين معه في الداخل، وانتهى به إلى المختلفين معه في الخارج. إذ إن التوصيف لبعض المسافات الآخرية (الداخلية) ساعد على فهم النسبية التي اتصفت بها تمثلات العرب والمسلمين للآخر الخارجي، التي تعني تفتحاً يتجاوز إطلاقية المعايير، كانت محصلة ثقافية لتعددية المجتمع العربي الإسلامي، في عصره الذهبي، والمبدأ الأساسي الذي قامت عليه نسبية النظرة إلى الآخر، داخلية كانت أو خارجية، هو أن الخصال والمساوئ موزعة على الأمم، لا تخلو منها أمة، بما فيها أمة العرب المسلمين(26).

إذ ضمت مملكة الإسلام في جنباتها أمما وشعوباً مختلفة، كان لكل منها مزايا وصفات عُرفت بها، ولم يلتفت الكتاب العرب لدراسة مميزات الأمم الأخرى خارج دائرة الإسلام فقط، بل أدركوا وانتبهوا إلى الفروق الداخلية، داخل مملكة الإسلام وأعطوا لكل أمة، وأحياناً لكل بلد سمة خاصة تتسم به، وتميزه عن غيره من أمم الإسلام التي تشترك معها بالدين والثقافة العامة. وفي مقابل ذلك أدركوا، وأعطوا لكل الأمم المعروفة لديهم، خارج مملكة الإسلام، مزايا خاصة تميزها عن غيرها، ولم يقتصر هذا على مستوى السمات النفسية العامة، بل على دور كل منها في إتقان جانب من جوانب التقدم الحضاري، والعمراني، والتقصي عما تشتهر بها من زراعات، وحيوانات، وبحار وعجائب، وغرائب.

فإذا كانت الفتوحات الإسلامية قد أدخلت المدن المفتوحة في التاريخ العام الإسلامي، فإنها دفعت في وقت مبكر إلى ظهور اهتمام بمعرفة تلك البلدان، بطريقة إثنوغرافية جنينية. فيذكر المسعودي، أن عمر بن الخطاب (الخليفة الثاني)، الذي قامت في عهده أكثر الفتوحات، قد كتب إلى حكيم من حكماء ذلك العصر« يطلب منه وصف تلك المدن المفتوحة، وأهويتها ومساكها، وما تؤثره الترب والأهوية في سكانها»، فأجابه ذلك الحكيم إجابة مسهبة «أورد فيها، في جملة ما أورد، تقريراً شبه إثنوغرافي يُظهر فيه تأثير البيئة على أجساد سكان البلدان المختلفة، وطبائعهم النفسية. فيقول: «أما الشام فسُحُب وآكام، وريح وغمام، وغَدَق ورُكام، ترطب الأجسام وتبلّد الأحلام، وتصفي الألوان، ولا سيما أرض حمص فإنها تحسّن الجسم، وتصفي اللون، وتبلد الفهم، وتنزح غوره، وتجفي الطبع، وتُذهب بماء القريحة، وتنصب العقول... أما أرض مصر فأرض قَوراء غوراء.. تُحمد بفضل نيلها، وذمُّها أكثر من حمدها، هواؤها راكد، وحرها زائد.. غير أنها تسمن الأبدان، وتسوّد الأبشار وتنمو منها الأعمار(27).

وأطلقوا على كل إقليم من أقاليم الخلافة، صفة خاصة، فاشتهر عندهم اليمانيون بالعشق، والحجازيون بالدَّل، والعراقيون بالظرف، وأهل السند بالصيرفة، وأهل مرو بالبخل(28).

ولم ينسوا في تقصيهم عن (فضائل) الأقاليم، البحث عن (المثالب)، إذ كان في أخلاق الناس، أو البيئة، والأنواع الحيوانية والنباتية (30). كما أن بحثهم عن خصائص الأقاليم في داخل دار الإسلام ركّزوا على الظواهر الخارقة للعادة، أو غير الاعتيادية، أو ما سموه بالعجائب، فنحن نطالع عند المقدسي، صاحب كتاب «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، شأنه في ذلك شأن غيره من الجغرافيين وأصحاب الرحلات، عن الكثير من «عجائب الأقاليم والبلدان»، «فمن عجائب نيسابور جبل ترابه أسود مثل الأنقاس به يكتبون الرسائل، وجبال بهيطل، ونيسابور يقطعون منها الملح، كما يقطع الحجر، وبه شجر لها ثمر إذا شق خرج منه حيوان له أجنحة طير»(35)، ويتحدث عن وجود ما يسميه «أبو قلمون في إقليم المغرب، وهي دابة تحتك بحجارة على شط البحر، فيقع منها وبر بلون الذهب ينسج منه الثياب»(31)، ومصر فيه عجائب الهرمان (الأهرام)(32)، ولا ينسون منارة الإسكندرية، وبعض الفاكهة النادرة العجيبة، كتفاح لبنان. ففي ذكر تلك العجائب تذكير بخصائص ذلك الإقليم، وبقدرة الخالق على الخلق، فالمقدسي بعد ذكره لمظاهر العجيب يقول: «وجب أن ننهي ذلك إلى كافة المسلمين ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿قل سيروا في الأرض﴾، ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا﴾، وفيما نذكر عبرة لمن اعتبر وفوائد لمن سافر»(33).

وفي جانب تلك المزايا والعجائب، لم ينسوا أن يذكروا المساوئ إلى جانب الفضائل، فيقول ابن الفقيه بأن الناس يقولون «حمى خيبر، وطواعين الشام، ودماميل الجزيرة، وحبوب الزنج، وطحال البحرين»(34).

وإلى جانب كتب الجغرافية العامة التي اهتمت بدراسة الأقاليم كافة، ظهرت كتب تهتم بكل إقليم على حدة، وتركز على خصائص هذا الإقليم ضمن الوحدة العامة لدار الإسلام، مثل كتاب ابن زواق «مصر وفضائلها» الذي يبدأه بذكر الآيات والأحاديث التي تتعلق بمصر، وكتاب عبد الله بن عبد الحكيم المصري (ت 214هـ) «تاريخ مصر»، وكتاب المقريزي «خطط المقريزي»، وكتاب الربعي (ت 444هـ)، عن «فضائل الشام». كما ظهرت بعض المؤلفات التي أفردت اهتمامها بفضائل مدينة معينة، لإبراز (فضائلها) وتميزها عن البلدان والمدن الأخر، وذلك لإظهار مدى مساهمتها، ومدى ما تستحوذ عليه من رموز ومعانٍ ترتبط بالرأسمال الرمزي العام للأمة(35).

ويمكننا أن نميز في التاريخ البلداني، نمطين أساسيين، هما نمط التاريخ الذي يغلب عليه الاهتمام بالتاريخ الفضائلي، ويمكن أن نجد مثالاً على النمط الأول في «بغية الطلب في تاريخ حلب» لابن العديم (588-660هـ) وكتاب «تاريخ بغداد» لأحمد بن أبي طاهر طيفور (280هـ) وكتاب «تاريخ الموصل» للأزدي (ت 334هـ). أما مدونات النمط الثاني فتمثل التاريخ الفضائلي للمدينة عموماً وللمدن الإسلامية (مكة، المدينة، القدس) خصوصاً. وترتبط طبيعتها بوظيفتها التي تتمثل في تمكين القارئ من الاطلاع على الفضائل القدسية للمدينة، وما يرتبط به من تاريخ(36). وتمتلئ هذه المصنفات بالخارق، حيث تمتزج فيه حوادث الزمان بالأبدي، بالخارق المقدس. حيث يتحول المؤلف الفضائلي إلى أنثربولوجي ديني مبكر في الثقافة العربية الإسلامية (37).

فقد اعتمد منهج المثقفين العرب-المسلمين في النظر على خصائص الشعوب، والأقاليم، والمدن في دار الإسلام، على قاعدة أساسية، فهناك إيمان عميق بوحدة الجماعة الإسلامية، الذي لا يغمط أو يحجب، بل يقوم على تنوع الخصائص، والفروقات بين مدنها، وشعوبها، وأقاليمها، فهناك وحدة تقوم على التنوع، والتكامل بين هذه التنوعات التي تغني الوحدة.

وهو نفس المنهج الذي طبقوه على رؤيتهم لوحدة الجنس البشري القائمة على الفروق، والتنوع، والتكامل. وقد صور لنا هذا النهج بصورة رائعة ابن رسته بقوله: «وكما اختلفت هذه المواضيع التي ذكرناها، وصار لكل موضع منها خاصية ليست لغيره، فكذلك كل مدينة من المدن، وكل موضوع من المواضيع التي نذكرها. ولها ولأهلها خاصية وطبيعة في اختلاف صور الناس. وما يكون بينها من الحيوانات والنبات والمعادن، والحر والبرد والمياه والعيون والسنن والدين والأخلاق، وسائر الأشياء التي ليس لغيرها من المدن. وذلك ظاهر موجود في المواضع والأبصار، حتى أنه ليوجد الاختلاف في المواضع القريبة بعضها من بعض»(38).

وقد نظر العرب-المسلمون إلى الآخر في الحضارات، والأمم الأخرى، في ضوء القاعدة المنهجية نفسها، مع توسيع في مجالات الاختلاف، الممزوج بحس التفوق، دون نسيان التكامل ومساهمة الأمم الأخرى في مجالات الحضارة والعمران، والإيمان بالأصل المشترك للجنس البشري «كلكم لآدم، وآدم من تراب» دون أن نغفل حدود معرفته بالعالم.

لقد نبغ الباحثون العرب في تأليف المصنفات عن خصائص الأقاليم، وفضائل المدن، والبلدان، الداخلة في دار الإسلام، وهو ما يسر عليهم تطبيق نفس منهج التصنيف، بتساهل أكثر، على تصنيف موقع الحضارات الأخرى، فنقلوا منهجهم الذي طبقوه على الداخل، على ما درسوه من حضارات في الخارج، وكما قبلوا الاختلاف بين ظهرانيهم برحابة صدر، دون عداوة، كذلك قبلوا الاختلاف مع الخارج، ولم ينظروا إليه كقاعدة للعداوة بل على التكامل الحضاري. فالتصنيف لبعض جوانب الآخرية في الداخل، ساعدهم على ترسيخ مفهوم النسبية الحضارية، والثقافية. فسحبوا منطق النسبية ذاتها التي طبقوها على الآخر الداخلي، أكان طائفة دينية، أو عرقية، أو عمرانية. والمبدأ الأساسي الذي قامت عليه نسبية النظرة إلى الآخر، داخلية كانت أم خارجية، هو أن الفضائل والمثالب موزعة على الأمم كافة(44)، فضلاً عن ذلك أعطوا لكل حضارة دوراً مميزاً في مجال العمران.

بعض المؤلفين يركزون على التفاوت بين الأمم، حسب مساهمتهم في العمران، ومنهم من يقصره على أربعة أمم فحسب، يقول ضياء الدين بن الأثير: «وإنما الأمم المذكورة من جميع الناس أربع: العرب، والفرس، والهند، والروم، والباقون همج» دون أن ينسى ذكر أهل الصين بأنهم أهل حرفة(39).

أما صاعد الأندلسي (ت 1070) قاضي طليطلة، فإنه يوسع الدائرة مع احتفاظه بمفهوم طبقات الأمم «ووجدنا هذه الأمم على كثرة فرقهم وتخالف مذاهبهم طبقتين: فطبقة عنيت بالعلم عناية تستحق بها اسمه. أما الطبقة التي عنيت بالعلوم فثمانية: أمم الهند، والفرس، والكلدانيون، والعبرانيون واليونانيون والروم وأهل مصر، والعرب. أما الطبقة التي عنيت بالعلوم فهي صفوة الله من خلقه، ونخبته من عباده، لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة الصانعة لنوع الإنسان المقومة لطبعه، فأما سائر هذه الطبقة التي لم تعن بالعلوم، وأنسبهم هم الصين والترك، فهم أشبه بالبهائم منهم بالناس، لأنهم أجمعين مشتركون فيما ذكرنا من أنهم لم يستعملوا أفكارهم في الحكمة، ولا راضوا أنفسهم بتعلم الفلسفة»(40).

نلاحظ في هذه الأحكام أنها لا تعير الانتباه إلى الاختلاف الديني، ولا تعطيه أي دور، وتقتصر أحكامها على مدى مساهمة تلك الحضارات في مجال العمران، ولا سيما في مظاهرها الكبرى: العلم والفلسفة. ولم يتفق صاعد الأندلس مع أغلب ممثلي الثقافة العربية-الإسلامية في غمطه لدور الصين الحضاري.

يلخص الجاحظ، والتوحيدي، في أحكامهما النسبية عن الحضارة، وجهة نظر الثقافة العربية-الإسلامية الوسيطة، فقد خصَّا كل أمة بدور مميز في مجال العمران، بحيث وزعا خصائص الحضارة والإبداع والكفاءة الحضاريتين على الأمم المختلفة البارزة في التاريخ الوسيط، وقد كثف الجاحظ هذه الرؤية في نص طويل من رسائله يقول فيه: «ثم اعلم، بعد هذا كله أن كل أمة وقرن، وكل جيل وبني أب وجدتهم قد برعوا في الصناعات، وفضلوا الناس في البيان أو فاقوهم في الآداب، وفي تأسيس الملك، وفي البصر بالحرب، فإنك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية، إلا أن يكون الله قد سخَّرهم لذلك المعنى بالأسباب، وقصرهم عليه بالعلل التي تقابل تلك الأمور، وتصلح تلك المعاني»(41). فكل أمة تتقن فرعاً من فروع الحضارة، فإذا أرادت أن تحيط بكل تلك الفروع ضاعت جهودها سدى «لأن من كان مقسَّم الهوى، مشترَك الرأي، ومتشعب النفس، غير موفّر على ذلك الشيء ولا مهيأ له، لم يحذق من تلك الأشياء شيئاً بأسره، ولم يبلغ فيه غايته»(42).

ثم يشير إلى الحضارات التي برعت في جانب واحد من العمران «كالصين في الصناعات واليونان في الحكم والآداب، والعرب فيما نحن ذاكرون في موضعه، وآل ساسان في الملك، والأتراك في الحرب»(43)، لأن الأمة لا تستطيع الإبداع في كل المجالات، فلا بد لها كي تجد دورها، من أن تكرس جهودها على جانب واحد، كي تستطيع أن تصل به إلى مجال الإتقان. فيقول «ألا ترى أن اليونانيين الذين نظروا في العلل، لم يكونوا تجاراً، ولا صناعاً بأكفهم، ولا أصحاب زرع ولا فلاحة وبناء غرس، ولا أصحاب جمع ومنع.. فنظروا حين نظروا بالنفس مجتمعة، وقوة وافرة، وأذهانا فارغة (غير مبلبلة)، حتى استخرجوا الآلات والأدوات، والملاهي التي تكون جماعاً للنفس، وراحة بعد الكد.. فصنعوا من المرافق، وصاغوا المنافع كالقرصطونات (علم الأثقال والأوزان)، والقبّانات، والإسطرلابات (مقياس النجوم)، وآلة الساعات، وكالكونيا (علم النجارين بالزوايا)، وكالشيزان، والبركار، وكأصناف المزامير والمعازف، وكالطب والحساب، والهندسة، والكون، وآلات الحرب كالمجانيق... وكانوا أصحاب حكمة، ولم يكونوا فعله، يصورون الآلات، ويخرطون الأداة، ويصوغون المُثُل ولا يُحسنون العمل بها...».

«فأما سكان الصين فهم أصحاب السَّبك والصباغة، والإفراغ والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب المخرط، والنحت، والتصاوير، والنسخ والخط، ورفق الكف في كل شيء يقولونه ويعانونه...».

«وكذلك العرب، لم يكونوا تُّجاراً ولا صناعاً، ولا أطباء ولا حساباً ولا أصحاب فلاحة فيكونون مهنة، ولا أصحاب زرع لخوفهم من صَفار (الذل) الجزية، ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم، وطلب ما عند غيرهم. ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين، ورؤوس المكاييل.. أذهان حداد، ونفوس منكرة، فحين حملوا حدّهم ووجهوا قواهم لقول الشعر وبلاغة المنطق, وتشقيق اللغة, وتصاريف الكلام, وبُعد قيافة الأثر، وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرُّف الأنواء، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيامهم أحفظ وأذكر»(44).

أما عن الأتراك «فلم يكن همهم غير الغزو والغارة والصيد وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب المغانم، وتدويخ البلدان، وكانت هممهم إلى ذلك مصروفة، وكانت لهذه المعاني والأسباب مستمرة ومقصودة... أحكموا ذلك الأمر بأسره،وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم ولذتهم وفخرهم، وحديثهم وسمرهم» (45).

وهذا لا يعني، عند الجاحظ، أن كل يوناني حكيماً، ولا كل صيني غاية في الحذق، ولا كل أعرابي شاعراً فائقاً، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعمُّ وأكمل، وأتمُّ، وهي فيهم أظهر(46).

أما التوحيدي (ت320هـ-932م) فيذهب بمنطق الجاحظ إلى أقصاه، إذ يشير «فلكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضلة على جميع الخلق، مفضوضة بين كلهم»(47).

ويذكر التوحيدي ما تتميز به من فضائل، ومهارات بقوله: «فللفرس السياسة والآداب، والحدود والرسوم، وللروم العلوم والحكمة، وللهند الفكر والروية والخفة (الشعوذة)، والسحر، وللترك الشجاعة والإقدام، وللزنج الصبر والكد والفرح، وللعرب النجدة والقرى والوفاء، والبلاء، والجود والذمام والخطابة والبيان»(48).

ويتفق مع الجاحظ على أن هذه المميزات لا تتصف بها الأمة إلا على العموم، وليست لكل واحد من أفرادها. فلا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة، ولا تخلو العرب من جبان، وكذلك الهند والروم والصين وغيرهم. إلا أن التوحيدي يذهب باتجاه أبعد وذلك بالتأكيد على أن الأمم تتساوى بنقائصها وفضائلها، فـ«إذا قوبل أهل الفضل والكمال من الروم بأهل الفضل والكمال من الفرس، تلاقوا على صراط مستقيم، ولم يكن بينهم تفاوت إلا في مقادير الفضل وحدود الكمال، وتلك لا تخص بل تُلمّ. وكذلك إذا قوبل أهل النقص والرذيلة من أمة بأهل النقص والخساسة من أمة أخرى، تلاقوا على نهج واحد، ولم يقع بينهم تفاوت إلا في الأقدار والحدود، وتلك لا يلتفت إليها.. فقد بات بهذا الكشف أن الأمم كلها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة، واختيار الفكرة. ولم يكن بعد ذلك إلا ما يتنازعه الناس بينهم بالنسبة الترابية، والعادة، والنزاع الهائج من القوة الشهوانية»(49).

تبلغ النسبية الحضارية هنا ذروتها، مع إدراك نوع من التكاملية بين جهود الحضارات المختلفة، وتظل الأحكام هنا تستند على مجالات العمران، دون أن تؤثر فيها النظرة الدينية وأحكامها المستندة على تفاوتات التقوى والإيمان، وإن بقيت للأحكام الدينية مجالاتها الخاصة، إلى جانب معايير العمران.

وهذه النسبية الحضارية، تلتقي وتفضي إلى النظرة التكاملية لفاعليات الأمم، وحضاراتها المختلفة، وهو ما عبر عنه إخوان الصفا عندما أرادوا تعريف الإنسان الكامل، فقالوا عنه: إنه «الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السيرة، الملكي الأخلاق، الرباني الرأي»(50).

لا شك أن التصور الإسلامي المنفتح على الآخر، وعلى الاختلاف، كان له دوره الأكيد في التمهيد لبلورة النسبية الحضارية التكاملية، في الثقافة العربية-الإسلامية، كما كان له تأثيره في التأكيد على وحدة الجنس البشري، وإرجاع الأمم المختلفة إلى أصل واحد، وهو ما عبرت عنه الثقافة بوضوح.

لعل هذه المعايير مجتمعة هي التي قامت عليها، وارتكزت نظرة العرب-المسلمين إلى الآخر، بما فيها أوربا، فهم لم يقتصروا على المعيار الديني على حدة في أحكامهم على الأوربيين وغيرهم، ولا على معيار العمران والحضارة على حدة، أو على التحديات الجغرافية البيئية، أو على التأثيرات الكوكبية، بل أخذوا هذه المقاييس مجتمعة عند تفحصهم لما للغير من مميزات وخصائص، ومثالب وفضائل، دون أن يخفوا شعورهم بالتفوق، وثقتهم بقيمهم، ومعايير سلوكهم، ومعانيهم الحضارية في العالم، ودون أن ننسى نحن تأثير طبيعة علاقتهم السياسية بهذا الآخر، أو ذاك، في صياغة بعض أحكامهم، وفي إثارة انتباههم على مسائل وموضوعات دون أخرى.

وبكل الأحوال، فإن إمساكهم بهذه المعايير للحكم على الآخر، لم تجعلهم يرسمون حدوداً ثقافية، وحضارية صارمة تفصلهم عنه، كالتي رسمها الإغريق والرومان فيما بينهم وبين الأغيار، الذين أطلقوا عليهم اسم: البرابرة، ولم يستثنوا من حكمهم هذا لا الفرس الآسيويين، ولا حتى الجرمان الأوربيين. في حين لم يتخذ العرب-المسلمين من (دار الإسلام) بمفهومها الديني أو الحضاري، حداً فاصلاً بين الحضارة والبربرية وحتى عندما وضعوا بعض الشعوب في أقصى الشمال، وهو نهاية العمران، فقد حدد صورتهم لهذه الشعوب مقدار معرفتهم وعلمهم بها من جهة، وتخيلهم لمدى تأثير البيئة: الحرارة والبرودة على طبائعهم. وحتى عندما أطلقوا عليهم صفة «الوحشية»، فهذه الصفة اتخذوها كمفهوم يقابل «العمران» و«الحضارة»، ولم يقابلوها بكيانات ثقافية لا يمكن تجاوزها، إذ أن «التوحش» نفسه كما يشير ابن خلدون بوضوح، موجود في القفر والبادية العربية(51)، ولم يروجوا لأي نزعة عرقية أو مركزية عرقية؛ وأعطوا البيئة-الإقليم دوراً على حساب النزعة العرقية، ولقد استشهد ابن حوقل بقول الكندي: «إن البيضان إذا تناسلوا في بلد السودان سبعة أبطن عادوا في سحنتهم وبسوادهم، وإذا توالد السودان في بلد البيضان سبعة أبطن عادوا في صورتهم وخلقهم من البياض والنقاء..»(52)، فضلاً عن ذلك فإن الرحالة العرب أنفسهم عندما وصلوا إلى هناك، كالغزال والطرطوشي في أقصى الشمال، أو ابن بطوطة في أقصى الجنوب، لم يعدموا الوسيلة في اختراق هذه الصورة النمطية، حين صوروا تنوع الحياة وما تزخر من فضائل ومثالب، مثل كل الأمم.

لقد حمل الرحالة العرب-المسلمون هذا المتخيل الذي أنتجته الثقافة العربية-الإسلامية عن الآخر الأوربي، في تنقلاتهم في الأصقاع المختلفة لأوربا، فقدموا لنا من خلال مشاهداتهم معطيات جديدة أغنت هذا المتخيل وأثرَته.

***************

الهوامش

(*) باحث من الجمهورية العربية السورية.

(1) فهيم، حسين محمد: أدب الرحلات، (سلسلة عالم المعرفة 138)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1989، ص195.

(2) أفاية، محمد نور الدين: الغرب المتخيل، صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط، المركز الثقافي العربي، بيروت 2000، ص23.

(3) السيد، رضوان: الأمة والجماعة والسلطة، دار إقرأ، بيروت 1986، ص9.

(4) بروديل، فرناند: البحر المتوسط، ترجمة عرين سالم، تراث المعرفة، تونس 1990، ص113.

(5) غليون، برهان: نقد السياسة-الدولة والدين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1991، ص35.

(6) أفاية، المصدر السابق، ص52.

(7) زيدان، عبد الكريم: حقوق الأفراد في الإسلام، بيروت 1988، ص33.

(8) ابن عبد ربه (328هـ-939م): العقد الفريد، تحقيق أحمد أمين وآخرين، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1948-1953، ج4، ص7. راجع أيضاً، الخضري، محمد: نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، القاهرة 1910، ص325.

(9) أفاية، المصدر السابق، ص78.

(10) السيد، رضوان: مفاهيم الجماعة في الإسلام، منشورات رسالة الجهاد، طرابلس 1985، ص13. راجع أيضاً، عويدات، حسين: العرب والنصارى، الأهالي، دمشق 1992، ص65.

(11) السيد، مفاهيم الجماعة في الإسلام، المصدر السابق، ص113-114. راجع أيضاً، عويدات، المصدر السابق، ص66. وأيضاً، أفاية، المصدر السابق، ص91.

(12) عويدات، المصدر السابق، ص66.

(13) حتي، فيليب- وجبور، جبرائيل- وجبور، إدوارد: تاريخ العرب، ط8، دار غندور، بيروت 1990، ص202.

(14) أمين، أحمد: ضحى الإسلام، ج1، دار الكتاب العربي، ط10، بيروت، دون تاريخ، ص223.

(15) أمين، أحمد: ظهر الإسلام، ج1، دار الكتاب العربي، ط5، بيروت 1969، ص81-84.

(16) الجاحظ، أبو عثمان بن بحر (ت 255هـ-869م): رسائل الجاحظ-الرسالة الكلامية، قدم لها علي أبو ملحم، منشورات مكتبة الهلال، بيروت 1987، ص262. وراجع، أفاية، المصدر السابق، ص111.

(17) الجاحظ، رسائل الجاحظ، المصدر السابق، ص262. راجع أيضاً، أمين، ظهر الإسلام، ج1، المصدر السابق، ص325-326. راجع، أفاية، المصدر السابق، ص111.

(18) أمين، المصدر السابق، ص401.

(19) ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن هبة الله الشافعي (571هـ): تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج1، هذبه ورتبه الشيخ عبد القادر بدران، دار المسيرة، بيروت 1979، ص82.

(20) ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن هبة الله الشافعي (571هـ): تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج1، هذبه ورتبه الشيخ عبد

القادر بدران، دار المسيرة، بيروت 1979، ص82.

(21) المصدر نفسه، ص83.

(22) هارون، عبد السلام: تهذيب سيرة بني هشام، دار الفكر، والمجتمع العربي الإسلامي، بيروت، دون تاريخ، ص68.

(23) الجاحظ، رسائل الجاحظ، المصدر السابق، ج3، تحقيق وشرح هارون، عبد السلام، دار الجيل، بيروت 1991، ص309-313.

(24) أفاية، المصدر السابق، ص119.

(25) لبيب، الطاهر: الآخر في الثقافة العربية في صورة الآخر-العربي ناظراً ومنظوراً إليه، (ندوة)، تحرير لبيب، الطاهر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1999، ص210.

(26) المسعودي، أبي الحسن علي بن الحسين (287هـ/900م-346هـ/959م): مروج الذهب ومعادن الجواهر، ج2، تحقيق عبد الحميد/محمد محي الدين، مطبعة السعادة، ط4، القاهرة 1964، ص61-63.

(27) أمين، ضحى الإسلام، ج1، المصدر السابق، ص6.

(28) ابن الفقيه، أبي بكر أحمد بن محمد الهمذاني: مختصر كتاب البلدان، طبع مدينة ليدن 1301هـ، دار صادر، بيروت، دون تاريخ، ص93.

(29) المقدسي، شمس الدين أبي عبد الله محمد (ت 380هـ-990م): كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، طبع في مدينة ليدن 1909، دار صادر، بيروت، دون تاريخ، ص333.

(30) المصدر نفسه، ص241.

(31) المصدر نفسه، ص210.

(32) المصدر نفسه، ص241.

(33) ابن الفقيه، المصدر السابق، ص117.

(34) مصطفى، شاكر: التاريخ العربي والمؤرخون، ج1، بيروت 1978، ص288.

(35) سالم، السيد عبد العزيز: التاريخ والمؤرخون العرب، بيروت 1981، ص119.

(36) ابن الفقيه، المصدر السابق، ص114.

(37) ابن رستة، أحمد بن عمر (300هـ-913م): الجزء السابع من كتاب الأعلاق النفيسة، تحقيق دي خويه، مطبعة بريل 1992، ص168.

(38) لبيب، المصدر السابق، ص210.

(39) ابن الأثير، ضياء الدين: المثل السائر، القاهرة 1312، ص120.

(40) صاعد الأندلسي، القاضي أبو القاسم صاعد بن أحمد بن صاعد (462هـ-1070م): طبقات الأمم، نشره لويس شيخو، بيروت 1912، ص8-10.

(41) الجاحظ، رسائل الجاحظ، ج1، المصدر السابق، تحقيق وشرح هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة 1964، ص67.

(42) المصدر نفسه، ص67.

(43) المصدر نفسه.

(44) المصدر نفسه، ص68-70.

(45) المصدر نفسه، ص71.

(46) المصدر نفسه، ص73.

(47) أبو حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس: كتاب الإمتاع والمؤانسة، ج1، صححه وضبطه أمين-أحمد، والزين-أحمد، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، دون تاريخ، ص73.

(48) المصدر نفسه، ص74.

(49) المصدر نفسه.

(50) لبيب، المصدر السابق، ص203.

(51) ابن حوقل، أبي القاسم بن حوقل النصيبي: صورة الأرض، منشورات مكتبة الحياة، بيروت 1992، ص101.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=51

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك