المتديّن الصوفي لا يُفجر نفسه

منتصر حمادة

 

لو اشتغلنا على مُجمل الاعتداءات الإرهابية التي طالت لائحة عريضة من دول المنطقة ومعها دول العالم، ابتداءً [مثلاً] من منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001 حتى اعتداءات برشلونة في 17 غشت 2017، لما وجدنا متديناً صوفياً واحداً ضمن لائحة المتورطين في هذه الاعتداءات.

وبيان ذلك أن أغلب المتورطين في هذه الاعتداءات ينهلون من شتى المرجعيات الإسلامية الحركية في الساحة، سواء كانت محسوبة على الاتجاه الدعوي أو السياسي بلْه القتالي أو قل "الجهادي".

ليس هذا وحسب، حتى لو سلّمنا بوجود بضع صوفية في لائحة المتورطين مادّياً في هذه الاعتداءات، فإن عددهم [على افتراض أنه موجود أساساً] يبقى متواضعاً مقارنة عدد المتورطين من باقي المرجعيات الإسلامية الحركية، حيث ستكون نتيجة المقارنة مؤكدة لقاعدة "لا قياس مع وجود فارق الفارق".

ومعلوم أن التديّن الصوفي يتميز بأنه تديّن ينتصر للهاجس الإصلاحي الأخلاقي، مع رهان أساسي على إصلاح الذات/ الفرد أولاً ثم العائلة فالجماعة، على غرار ما نُعاين مع أدبيات جماعات "الدعوة والتبليغ"، التي تتبنى وتراهن على الخيار الدعوي الصرف، مُتخذة مسافة من العمل السياسي فالأحرى العمل القتالي، ولو أن ولادة مشروع "الدعوة والتبليغ" يبقى حديث النشأة مقارنة مع تجذر الممارسة الصوفية في التداول الإسلامي، ويشهد على ذلك، عدد الطرق الصوفية في المجال التداولي الإسلامي، ليس في محور طنجة ــ جاكارتا وحسب، ولكن حتى في المجالات التداولية الغربية (اليهودية والمسيحية مثلاً)، حيث نجد إن الصوفية هناك، لا علاقة لها بالقلاقل التي تصدر عن الإسلاميين.

وليس صدفة أن اعتناق الإسلام في أوروبا عبر بوابة التصوف أو قل عبر "الإسلام الصوفي" كانت نتائجه مختلفة كماً ونوعاً مقارنة مع اعتناقه عبر باقي أنماط التديّن، ومنها التديّن السلفي الوهابي على الخصوص؛ وليس صدفة أيضاً أن التديّن الإسلامي الصوفي، لا يوجد ضمن الأسباب المُغذية لظاهرة الإسلاموفوبيا هناك، بينما نجد باقي أنماط التديّن الحركي في اللائحة، وفي مقدمتها التديّن السلفي الوهابي ("التقليدي" و"الجهادي")، والتديّن الإخواني، في مقدمة الأسباب، وهذا ما يُفسر رهان التيار الإخواني في التداول الأوروبي، على تأسيس جمعيات تناهض الإسلاموفوبيا، مع أن ممارسته الحركية مُغذية للظاهرة. [لنا عودة لاحقاً لهذه المعضلة، من باب تسليط الضوء على جزئية غابت عن المتابعة الإعلامية فالأحرى المتابعة البحثية].

أدبيات التصوف لا تُعَلم الأتباع [أو "الفقراء" حسب التداول الصوفي] أن يكون هاجسه تكفير البلاد والعباد، أو شيطنة غير الصوفي، ولا تُعلمه "توزيع صكوك الغفران"، أو تزكية الذات مقارنة مع تديّن الغير، أو التعامل مع المجتمع والدولة والأمة والإنسانية على أساس أن هؤلاء جميعاً ضالون في حالة المسلمين، أو كفار أولاً وأخيراً في حالة غير المسلمين.

بل إن أدبيات التصوف توجد على النقيض كلياً مقارنة مع مضامين أدبيات العمل الإسلامي الحركي، في شقيه الإخواني والسلفي الوهابي، حيث لا نجد فيها هذا الإصرار الكبير على ترويج خطاب "المفاصلة الشعورية" أو "الجاهلية" أو "الحاكمية" أو "الطائفة المنصورة" أو "الولاء والبراء" و"الفرقة الناجية" وغيرها من المفاهيم التي أسّست ومَيّزت العمل الإسلامي الحركي في المنطقة منذ 1928، تاريخ تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" بداية، وتأسيس مُجمل المشاريع الإسلامية الحركية، في شتى دول المنطقة لاحقاً.

تميّز أدبيات التصوف النوعي عن الأدبيات الإسلامية الحركية، يُفسر مثلاً، أن هاجس المتديّن الصوفي، هاجس إنساني كوني، لأنه لا يُفكر في مصيره ومصير جماعته [طريقته] ولا حتى مصير وطنه [إذا سلمنا أن الإسلاموية تنتصر للوطن قبل الجماعة]، أو أمته، وإنما هاجسه الإنسانية جمعاء، ولذلك إن كان تعامله إجمالاً مع المسلم يتم انطلاقاً من مرجعية تُميز المسلمين، باعتبار الإسلام خاتم الديانات/ الدين، فإنه يتعامل مع غير المسلمين بخطاب ينتصر "للمشترك المنسي" [بتعبير عالم المنطق حمو النقاري]، مع الانتصار في الحالتين معاً ــ أي في حالة خطابه الموجه للمسلمين وغير المسلمين ــ للهاجس الإصلاحي الأخلاقي الصرف.

هذا التميز، يُساعدنا على قراءة الشيطنة الذي يتعرض لها التديّن الصوفي في المنطقة من طرف التيار الإسلامي الحركي، سواء كانت شيطنة عقدية أو شيطنة سياسية أو شيطنة تتداخل فيها هذه المُحددات وغيرها، وبيان ذلك كالتالي:

1 ــ يتولى الخطاب السلفي الشيطنة العقدية للتديّن الصوفي، من خلال ترويجه لائحة من الاتهامات ذات الصلة بالهاجس العقدي الذي يُهمين على جهازه المفاهيمي، من قبيل اتهام الصوفية بأنهم يُروجون البدع والشرك والمنكرات، أو يعملون بمقتضى مضاد للتوحيد وغيرها من الاتهامات التي تمهد لتكفير العمل الصوفي، وتخول للسلفي الجهادي على سبيل المثال، قتل الفاعل الصوفي تأسيساً على هذه "الأرضية النظرية السلفية" الموغلة في التطرف والتكفير.

2 ــ يتولّى الخطاب الإخواني الشيطنة السياسية للتديّن الصوفي، من خلال ترويجه لائحة من الاتهامات ذات الصلة بالهاجس السياسي الذي يُهيمن على جهازه المفاهيمي، من قبيل اتهام الدولة، في التداول الذي يتميز بحضور نوعي للتصوف، من قبيل المغرب أو مصر، بأنها توظّف التصوف لأغراض سياسية، منها تغطية المشروعية السياسية للسلطة الحاكمة، ومنها مواجهة الخطاب الإسلامي الحركي، في شقه الإخواني بله السلفي الوهابي.

ومن باب تحصيل حاصل، عندما يكون هذا الإخواني متسلّفاً (تعرض جهازه المفاهيمي للتسلف: انظر دراسة الباحث المصري الراحل حسام تمام، بعنوان: "تسلف الإخوان")، أو عندما يكون هذا السلفي الوهابي إخوانياً [انظر دراسة (هكذا تأخون السلفيون: مصر والكويت أنموذجين: تأليف بروفيسور بيورن أولاف أوتفيك، ترجمها للعربية حمد العيسى)، فطبيعي أن نُعاين تداخل الشيطنة الدينية مع الشيطنة السياسية، وهذا عينُ ما نطلعه عليه في الساحة منذ عقد ونيف، كما هو جلّي في الحالة المغربية مثلاً.

الصوفي لا يُفجر نفسه، وهذه ميزة تحسبُ للمسلمين. أما أن تكون الإسلاموية ترفض هذا الخيار، فهذه معضلة تهم جهازها المفاهيمي أولاً وأخيراً، ولا تهمّ المسلمين الذين كانت ولا زالت رسالتهم الدينية، رحمة للعالمين.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AF%D9%8A%D9...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك