سبينوزا بين الدين والفلسفة

سبينوزا بين الدين والفلسفة
هاشم صالح*

ما هي المشكلة الأساسية في عصر سبينوزا؟ بل ما هي المشكلة الأساسية على مدار ثلاثمائة سنة من تشكل الحداثة الأوروبية؟ إنها مشكلة الدين والأصولية الدينية. إذا لم نفهم هذه النقطة، إذا لم نعرها الاهتمام الكافي فإننا لن نفهم أبدًا جوهر الحداثة ومعاركها الكبرى.

عندما نشر سبينوزا كتابه «مقالة في اللاهوت السياسي»(1) عام 1670، فإن ذلك يعني أَنَّهُ انخرط في إحدى المعارك الرهيبة التي استمرت بعده طيلة مائتي سنة وأكثر. لقد أراد تحديد العلاقات بين الدين والسياسة، أو بين رجال الدين ورجال الحكم. وأراد -أيضًا وبالدرجة الأولى- البرهنة على الشيء الأساسي التالي: وهي أن حرية التفلسف، أو حرية الضمير والمعتقد والكلام، لا تضرّ أبدًا بالسلام العام للدولة، ولا تؤدي إلى الفسق والفجور كما يدعي اللاهوتيون. على العكس، إنها شرط أساسي لتحقق هذا السلام ولشيوع الاستقامة والنـزعة الأخلاقية في المجتمع. وبالتالي فلا ينبغي التضييق على الحرية الفكرية أو الفلسفية ما دامت تعبر عن نفسها داخل حدود القانون.

في الواقع إن هذا الكتاب يمثل أول تدخل لسبينوزا في الشؤون الدينية والسياسية لزمنه. ولذلك فهو يحتل مكانة خاصة بين أعماله. فهو قد ظهر في مرحلة حرجة من تاريخ هولندا. فالجدالات اللاهوتية كانت عنيفة بين مختلف الطوائف المسيحية وبالأخص البروتستانتية الكالفينية التي كانت تشكل دين الأغلبية. وذلك على عكس فرنسا، أو إسبانيا، أو إيطاليا حيث يسيطر المذهب الكاثوليكي بشكل مطلق تقريبًا. وقد أدت هذه الصراعات اللاهوتية بين مختلف الطوائف البروتسانتية إلى انتصار المذهب الكالفيني أولاً، وذلك قبل أن يحصل تعايش سلمي إلى حد ما بين مختلف هذه الطوائف. وهو تعايش فريد من نوعه في أوروبا آنذاك. فمعظم الدول ما كانت تقبل إلا بمذهب واحد في أراضيها، وكانت تحرِّم كل المذاهب المسيحية الأخرى تحريمًا قاطعًا باعتبار أنها منحرفة عن الخط المستقيم للدين المسيحي، أي عن الأرثوذكسية؛ وبالتالي فهي مهرطقة، أو زنديقة، ويحل تكفيرها وإدانة أتباعها، وحرمانهم من الحقوق السياسية والمدنية. وهذا ما فعله المذهب الكاثوليكي في فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، والبرتغال، مع البروتستانتيين. وحدها انجلترا كانت تمشي في اتجاه التحرر من الطائفية والمذهبية، أي في الإتجاه الذي سلكته هولندا.

بالإضافة إلى الصراعات اللاهوتية المذكورة كانت هناك صراعات على السلطة. وهي صراعات اندلعت بين عائلة «أورانج» الملكية، وبين المجالس المحلية التي تحكم المدن والأقاليم. فبعد موت الملك غيوم الثاني وصل إلى السلطة شخص مستنير يدعى «جان دوفيت». وشهدت هولندا في عهده ازدهارًا للعلوم والجامعات، وتم إدخال الفلسفة الحديثة إليها؛ أي: فلسفة فرانسيس بيكون، وديكارت، وهوبز. وانتعشت الحياة الثقافية وشهدت دور النشر نشاطًا كبيرًا. وأصبحت هولندا منارة للفكر والآداب في كل أنحاء أوروبا.

وإذن لماذا نشر سبينوزا كتابه؟ لماذا دافع بشكل مستميت عن حرية الفكر في أكثر بلدان أوروبا تسامحًا وليبرالية؟ لأن التسامح لم يكن كليًا ولا كاملاً. فنحن نعيش في النصف الثاني من القرن السابع عشر لا في القرن العشرين، ينبغي ألا ننسى ذلك. وأصدقاء سبينوزا وناشروه كانوا يعرفون مدى محدودية هذه الحرية، وقد دفعوا الثمن غاليًا.

وثانيًا لأنه إذا كانت الدولة متسامحة، فإن الكنيسة لم تكن كذلك. كان هناك تفاوت كبير بين الحاكم جان دوفيت المشهور باستنارته وعقلانيته، وبين رجال الدين المتعصبين. وهو تفاوت أدى في نهاية المطاف إلى مقتل الزعيم الهولندي(2).

وأخيرًا يمكن القول بأن جو التسامح الذي كانت تعيشه هولندا كان مهددًا، وسبينوزا أول من يعرف ذلك بحسِّه الفلسفي الخارق. فمعروف أن المتشددين البروتستانتيين كانوا مرتبطين بالنظام الملكي المخلوع ويتمنون عودته لأنهم يكرهون جو الحرية والتسامح، ولا يستطيعون تحمل كل هذه الزندقة الفكرية!!.

صحيح أن النظام الليبرالي كان يبدو واقفًا على قدميه عندما كتب سبينوزا هذا الكتاب الحاسم في تاريخ الفكر. فزعيم هولندا الذي كان صديقه وحاميه كان يترأس جمهورية مزدهرة بالتجارة وذات مؤسسات راسخة ظاهريًا. ولكن بعد سنـتين فقط من ذلك التاريخ حصل الغزو الفرنسي لهولندا، وتمت تصفية الحكم الليبرالي، وأُعيد النظام الملكي الأصولي إلى سدة الحكم. وهكذا انهارت كل أحلام سبينوزا وصدقت تنبؤاته المتشائمة عن الأصوليين أو اللاهوتيين كما يحب أن يسميهم. فهم أصل العلَّة والبلاء؛ أي: أصل الاستبداد والقضاء على الحرية الفلسفية.

ولكن كتاب سبينوزا ككل كتاب فلسفي عظيم، يتجاوز الحالة الهولندية لكي يشمل الحالة الأوروبية وربما الكونية بأسرها. وهو يعكس عدة مستويات من الصراع. فهناك أولاً الصراع المتفجر بين اللاهوت والسياسة؛ من هنا عنوان الكتاب: «مقالة في اللاهوت السياسي»، أو بحسب ترجمة أخرى: «مقالة في اللاهوت والسياسة».

وهناك ثانيًا الصراع الدائر في أوروبا منذ عصر النهضة بين الكتاب المقدس وفقه اللغة التاريخي أو ما يدعى بعلم الفيلولوجيا. فمعلوم أَنَّهُ منذ القرن السادس عشر راح بعض النهضويين يدعون إلى تحقيق الكتاب المقدس تحقيقًا لغويًا وتاريخيًّا من أجل التوصل إلى نسخة صحيحة أو أقرب ما تكون إلى الصحة، وهو تحقيق سوف يؤثر على تفسيره بطبيعة الحال. ولذلك أثار ردود فعل غاضبة في أوساط الكهنة والمحافظين، وقد استعاد سبينوزا هذه المناقشة الكبرى وساهم في بلورتها.

وهناك أخيرًا الصراع الأبدي الكائن بين الفلسفة واللاهوت، وهو صراع يتجاوز حدود المسيحية الأوروبية لكي يشمل الإسلام والأرثوذكسية الشرقية وسواها. بهذا المعنى فإن كتاب سبينوزا كَونِي أو يتناول مسائل كَونِية. إن راهنيَّته بالنسبة للإسلام حاليًا تبدو أكثر من واضحة وملحة..

في الواقع: إن سبينوزا ناقش في هذا الكتاب مسائل كان ديكارت قد تحاشاها قبل ثلاثين أو أربعين سنة خوفًا من رجال الدين.

من هنا جرأة سبينوزا وجدَّته بالقياس إلى ديكارت. صحيح أنه يُعتبر أحد تلامذة الفلسفة الديكارتية مثله في ذلك مثل لايبنتز (1646-1716)، والأب مالبرانش (1638-1715). ولكنه تجاوز الأستاذ من حيث أنه طبق منهجيته العقلانية على مجال آخر لم يجرؤ الأستاذ على الخوض فيه. لنستمع الآن إلى كلام أحد كبار مؤرخي الفلسفة في فرنسا فريدنان الكييه: «من المعلوم أن ديكارت كان حريصًا على الفصل الكامل بين مجالين للحقيقة، مجال الكتابات المقدسة التي تؤدي إلى نجاة أرواحنا في الدار الآخرة، ومجال الطبيعة الفيزيائية. وهنا يمكننا أن ندرس الظواهر بطريقة علمية من أجل التحكم بالطبيعة وتسخيرها لمصلحة الإنسان. وبحسب ديكارت فإن هذين المجالين إذا كانا منفصلين عن بعضهما البعض إِلاَّ أنهما ليسا متعارضين أبدًا. على هذا النحو تحاشى ديكارت بكل مكر ودهاء غضب اللاهوتيين الذين كانوا ينتظرونه على قارعة الطريق لكي يبطشوا به إذا ما تعرض للدين، وحاول تطبيق منهجيته العقلانية عليه»(3).

والآن ماذا يقول سبينوزا؟ عندما نقرأ مقدمته للكتاب يخيل إلينا للوهلة الأولى أنه يتبع أيضًا نفس الحل الذي اتبعه سلفه الأكبر ديكارت. فبما أَنَّهُ حريص على حماية الحرية الفلسفية أكثر من حرصه على إنقاذ الإيمان، فَإِنَّهُ راح يحصر الفلسفة في مجالها، والدين في مجاله لكيلا يعتدي أحدهما على الآخر! يقول مثلاً:«اقتناعي العميق هو أن الكتابات المقدسة (أي التوراة والإنجيل) لا علاقة لها بالفلسفة على الإطلاق. وَإِنَّمَا كل واحد منهما ينحصر في مجاله الخاص بالذات. فالتعاليم التي تخص الروحانيات نستمدها من الكتابات المقدسة فقط، وليس من تعاليم النور الطبيعي؛ أي العقل. وبالتالي فالمعرفة القائمة على الوحي تتمايز كليًّا عن المعرفة الطبيعية أو العقلانية سواء فيما يخص موضوعها أم مبادئها الأساسية أم وسائلها ومنهجيتها.

نستخلص من كل ذلك ما يلي: بما أن هذين النمطين من المعرفة مختلفان كليًّا فَإِنَّهُ يمكن لكل واحدة منهما أن تمارس فعلها داخل مجالها الخاص دون أن تتناقض مع المعرفة الأخرى أو تدخل في معركة معها»(4)...

عندما نقرأ هذا المقطع وسواه نتوهم أن سبينوزا حل المشكلة عن طريق تحاشيها! فالفيلسوف العقلاني يتفلسف ويدرس الطبيعة دون أن يأخذ الكتابات المقدسة بعين الاعتبار أبدًا. ورجل الدين (أو المؤمن) يقرأ الكتابات المقدسة أو يفسرها دون أن يأخذ بعين الاعتبار المبادئ الفلسفية أو العقلانية الخارجة على الوحي. بمعنى أن حل العلاقة بين هذين القطبين الكبيرين تكون عن طريق اللاعلاقة؛ أي: الفصل الكامل والقطيعة المطلقة. ولكن هل هذا ممكن؟ وهل ترك رجال الدين غاليليو يفسر الطبيعة على هواه؟ ألم يجبروه على التراجع عن مقولة دوران الأرض حول الشمس؛ لأن الكتابات المقدسة تقول بعكس ذلك؟

في الواقع: إن سبينوزا لا يجهل كل ذلك. ولكنه يتقدم في أرض ملغومة، هو يعرف أن أي خطأ يرتكبه سوف يُستخدم من قبل الأصوليين المسيحيين واليهود للانقضاض عليه. فهم يشتبهون به مثلما كانوا يشتبهون بديكارت وأكثر. ولذلك فالحذر الشديد لازم، والفكر مشروط باللحظة التي يظهر فيها. وعظمة الفكر تكمن في حجم المقاومات التي يثيرها أو المخاطر التي يتحداها والتي تحيط به من كل الجهات. فالفكر ليس نزهة مريحة في واد من الزهور، وليس سيرًا في طريق سهل مفتوح إلى ما لا نهاية. الفكر في كل خطوة يخطوها، بل وقبل أن يخطو خطوة واحدة يشعر بأنه يصطدم بالعقبات، ويشعر بأن هناك مقاومة تعرقل تقدمه وتحاول إيقافه في أرضه أو وأده في مهده. الفكر بالمعنى القوي للكلمة هو تحرير من كل التراكمات المترسِّبة، والإكراهات التي تضغط علينا وتسدّ الطريق.

عندما نتقدم في قراءة كتاب سبينوزا عن اللاهوت السياسي نلاحظ أَنَّهُ لم يتقيد بالمبادئ الحذرة وربما التمويهية التي نصَّ عليها في المقدمة. فهو كان مضطرًا لأن يتقدم مقنَّعًا، لأن يراعي الجو العام المحيط. والفلسفة بنت وقتها وعصرها كما يقول هيغل. ولا يمكنك أن تخرج كليًا على عصرك أو أن تهمل مشروطيته التاريخية. مهما تكن عبقريًا وسابقًا لزمنك فإنك مشروط بمصطلحاته، ولغته، ومسموحاته ومحرَّماته.

يبتدئ سبينوزا الفصل الأول من كتابه بتحديد النبوة قائلاً بأنها معرفة يقينية أو محققة. ولكن منذ الفصل الثاني نلاحظ أنه يقول لنا بأن الوحي يختلف من نبي إلى آخر بحسب طبعه، ومزاجه، وخياله، وظروف عصره. وبالتالي فنحن مضطرون لاستخدام النقد العقلاني من أجل فهم معنى كلامهم.

وعلى الرغم من أن سبينوزا يقول بأنه لن يفسر الكتاب المقدس إِلاَّ من خلال الكتاب المقدس ذاته ولن يقحم عليه أي منهجية من خارجه، إِلاَّ أنه في الواقع يطبق عليه المنهجية الديكارتية؛ أي: العقلانية.

نقول ذلك ونحن نعلم أن ديكارت نفسه لم يتجرأ على ذلك عندما حصر منهجيته بدراسة الظواهر الطبيعية، ومنع تطبيقها على مجال الدين أو الإيمان. مهما يكن من أمر فإن جرأة سبينوزا على الاقتحام الفلسفي لم تكن تقل عن جرأة الفاتحين الكبار؛ فهو لم يتردد مثلاً عن تطبيق نظرية انكسار الأشعة الديكارتية على المقطع التوراتي التالي: «يا شمس قفي على جبعون، ويا قمر على وادي أيَّالون. فوقفت الشمس وثبت القمر إلى أن انتقمت الأمة من أعدائها»... هذا المقطع وارد في سفر النبي يوشع، وهو يناقض العقل وقوانين الطبيعة؛ فكيف فسره شخص عقلاني محض مثل سبينوزا؟ قال: بأن النبي يوشع لم يكن يعرف علم الفلك الحديث؛ لأن هذا العلم لم يكن قد وجد بعد. وبالتالي فتوهم أن الله أوقف الشمس فعلاً بطريقة خارقة للعادة. ولذلك فَإِنَّهُ جهل السبب الحقيقي لاستطالة النهار وتأخر الليل. فالواقع أن كمية الصقيع كانت كبيرة في تلك اللحظة في الهواء، فحصل انعكاس استثنائي لأشعة الضوء، وتوهم الناظرون أن الشمس توقفت في السماء ولم تعد تتحرك...

نلاحظ أن سبينوزا لا ينكر حصول القصة أو المعجزة، ولكنه يعزوها إلى أسباب طبيعية لا إلى أسباب خارقة للطبيعة. وهنا يكمن الفرق بينه وبين المؤمن التقليدي الذي يبتهج أكثر كلما كانت المعجزة أكثر انتهاكًا لقوانين الطبيعة.

مهما يكن من أمر فإن سبينوزا يتجرأ على قول ما يلي: بما أن النبي يوشع كان يجهل قوانين الطبيعة فَإِنَّهُ لم يفهم المعنى الحقيقي لهذه الظاهرة الاستثنائية التي شهدها بأم عينيه. وبالتالي فإن مهمة النقد العقلاني تكمن فيما يلي: الكشف بواسطة علم الفيزياء عن القوانين التي كان يجهلها النبي. ولكن المعجزة بحسب تعريف سبينوزا تفترض التعليق المؤقت من قبل الله لقوانين الطبيعة؛ أي: للقوانين التي خلقها هو نفسه من أجل تنظيم حركة الكون؛ وبالتالي فالمعجزة إذن مستحيلة. فالله لا يمكن أن ينـتهك القوانين التي سنَّها.

وهنا نلاحظ أن الأمر ينتهي بسبينوزا ليس فقط إلى تقديم تفسير جديد للتوراة، وإنما إلى نفي المعجزات الواردة فيها. وهنا تكمن عقلانية سبينوزا المطلقة، وبعضهم يقول: وقاحته... وهي التي تميزه عن جميع مفكري عصره، بمن فيهم مالبرانش الذي كان عقلانيًا أيضًا وديكارتيًا، ولكنه لم يكن يستبعد حصول المعجزات لسبب استثنائي.

هذا فيما يخص اليهود والتوراة. وأما فيما يخص المسيحية والإنجيل فإن سبينوزا تجرأ على رفض العقائد الأساسية للمذهب الكاثوليكي: كالتأكيد على تجسُّد الله في المسيح، أو القول بقيامة المسيح بعد موته ببضعة أيام، أو القول بالقربان المقدس؛ أي: أن جسم المسيح ودمه موجودان حقيقة في الخبز والخمر الذي يعطيه الكاهن للمصلين في نهاية القداس.. فهذه خرافات في رأي سبينوزا، ولا يمكن لأي شخص عقلاني أن يؤمن بها. ولكي يترك مخرجًا للمسيحيين فَإِنَّهُ قال بتأويل هذه العقائد على أساس رمزي، لا حقيقي واقعي. فقيامة المسيح بعد الموت لم تكن جسدية وَإِنَّمَا رمزية أو روحية. وتجسد الله فيه هو أيضًا على سبيل الرمز. وقل الأمر ذاته عن قطع الخبز الصغيرة وجرعات الخمر...

وبالتالي فالتفسير الرمزي أو المجازي ضروري لكيلا يحصل تناقض فظيع بين الكتاب المقدس وبين المنطق والعقل. ولم يتردد سبينوزا عن القول لأحد أصدقائه: ينبغي تفضيل العقل؛ إن لم يكن على الكتاب المقدس فعلى الأقل على ما نفهمه منه...

ولكن هل يعني ذلك أن سبينوزا ينكر أهمية الدين أو بالأحرى فائدته؟ بالطبع لا. فالواقع أن العامة لا يمكن أن تجد خلاصها إِلاَّ عن طريق الخضوع للدين. وتُروى عنه الحكاية التالية: «سألته يومًا مؤجِّرته التي كان يسكن عندها: هل يمكن أن أجد نجاتي عن طريق ديني وممارستي لشعائره وعباداته؟ فأجابها سبينوزا: دينك جيد يا سيدتي، ولست بحاجة إلى دين آخر غيره بشرط أن يكون ذلك من خلال التقى، وأن تعيشي حياة هادئة ومسالمة ولا تؤذي أحدًا..

في الواقع، إن سبينوزا كان يعرف أن الدين يؤمن للناس البسطاء الطمأنينة النفسية التي لا يمكن أن يجدوها في أي مكان آخر. وبالتالي فمن غير المعقول أن يحرمهم من هذه الطمأنينة التي لا يمكن للإنسان أن يعيش بدونها. أما هو فكان يستطيع التوصل إليها عن طريق آخر غير الدين. وبالتالي فهناك جوانب إيجابية في الدين لا يمكن إنكارها. ولكن الشيء الذي كان يخيفه في الدين هو التعصب.

نقول ذلك وبخاصة أن الصراعات المذهبية أو الدينية كانت حادة في هولندا عندما ألَّف كتابه. فالمذهب الرسمي المسيطر كان يحتقر المذاهب الأخرى على الرغم من أنها تنتمي إلى المسيحية مثله. فلم تكن تعتقد بضرورة ممارسة الشعائر والطقوس، وإنما كانت ترى أن جوهر الدين يكمن في محبة الآخرين. كانت ليبرالية جدًا في فهم المسيحية، فعل الخير ليس إلا. ولم تكن تؤمن بالعقائد الأساسية المسيحية: كالتـثليث مثلاً، أو الإيمان بألوهية المسيح... ولهذا السبب تعرضت الطوائف البروتستانتية الليبرالية للاضطهاد والملاحقة وهذا ما أزعج سبينوزا جدًا؛ لأن الكثيرين من أعضائها كانوا أصدقاءه. فهو أيضًا يرى أن الدين هو المعاملة، وحسن الطوية، ومساعدة الفقير، ومحبة الآخر ولو لم يكن ينتمي إلى ديننا أو طائفتنا. وهذا الفهم الواسع للدين، والذي هو أخلاقي بالدرجة الأولى كان غريبًا جدًا على عقلية الأصوليين المتزمتين الذين يختزلون الدين إلى جملة من الطقوس والشعائر الشكلانية الخارجية، وجملة من المحظورات والمحرمات، وجملة من العقائد اللاهوتية التي تخرج عن سيطرة العقل.

هكذا نجد أنه كان يوجد داخل المسيحية نفسها مفهومان للدين: مفهوم أصولي متحجر، ومفهوم ليبرالي متحرر. وكان الأصوليون يتهمون الليبراليين بأنهم من عَبَدة الشيطان! لماذا؟ لأنهم يرفضون رجال الدين ولا يعتقدون بضرورة أداء الطقوس والشعائر.. ولأنهم كانوا عقلانيين أو روحانيين في فهمهم للدين فإنهم اُتُّهموا بالزندقة، أو حتى بالإلحاد والكفر. فالأصولي يهمه قشور الدين وطقوسه الخارجية، لا جوهره ولا مضمونه. وفهم الأصولي للدين يكون عادة قمعيًا، متجهمًا، إرهابيًا. وبالتالي فلا يستطيع أن يتحمل وجود هذه الطوائف المتسامحة جدًا في فهمها للدين.

نذكر من بينها طائفة الصاحبيّين (أو الكويكرز) التي كانت منـتشرة أيضًا في انجلترا. وهم الذين أثنى عليهم فولتير عندما زار انجلترا في بدايات القرن الثامن عشر، كما أثنى على تسامحهم وإنسانيتهم، وقارن ذلك بتعصب الكاثوليكيين في فرنسا. وقد دعوا بالصاحبيين لأنهم كانوا يشكلون في البداية جمعية الأصحاب أو الأصدقاء التي تجتمع بشكل دوري من أجل التأمل من خلال فترات صمت طويلة. وهم لا يزعجون أحدًا ولا يفرضون تديُّنهم على أحد ويحبون جميع البشر بمن فيهم أولئك الذين لا ينـتمون إلى طائفتهم أو طريقة فهمهم للدين. وقد أُسست جمعيتهم حوالي منتصف القرن السادس عشر، وهي عبارة عن فرع من فروع البروتستانتية. وينحصر تواجدهم اليوم في انجلترا، وهولندا، وبخاصة أمريكا. ولا يتجاوز عددهم اليوم المائتي ألف شخص في شتى أنحاء العالم.

وهناك طوائف أخرى بروتستانتية ليبرالية غيرها.

وعمومًا كان أصدقاء سبينوزا ينتمون إلى هذه التيارات الدينية البعيدة عن التعصب.نذكر من بين هذه الطوائف بشكل خاص طائفة المنّونيين، نسبة إلى الكاهن الهولندي منّو سيمون (1496-1561).

على الرغم من أن سبينوزا كان صديقًا للتيارات المسيحية الليبرالية إِلاَّ أنه اصطدم أحيانًا بالخرافات المنتشرة في أوساطهم. وهي خرافات يصعب اقتلاعها من النفوس؛ لأنها متجذّرة منذ زمن طويل. ونقصد بها هنا الأفكار الشائعة عن الكتب المقدسة والتي يحتج بها المؤمنون ضد العقل كلما دعت الضرورة إلى ذلك. فالنقل يتغلَّب على العقل لدى المؤمنين بشكل عام. أو قل: إن هيبة النصوص المقدسة، وهي هيبة راسخة منذ قرون عديدة في عقول البشر، تتغلَّب بالضرورة على هيـبة الفلسفة أو الفكر المنطقي.

وعلى الرغم من أن سبينوزا كان يعيش في العزلة ويحرص على عدم نشر آرائه عن الدين، إِلاَّ أن سمعته كانت قد انتشرت وأقنعت الناس بأنه ملحد لا يؤمن بأي دين من الأديان بما فيها الدين اليهودي الذي نشأ فيه. وهذه السمعة كانت مخيفة في ذلك الزمان؛ لأن كلمة ملحد كانت تعني تقريبًا كلمة مجرم! وكان القانون الأوروبي يعاقب عليها أشد العقاب.

بالطبع فإن سبينوزا لم يكن ملحدًا بالمعنى الذي يقصدونه، ولكن فهمه الواسع للدين كان فوق مستوى أناس عصره. في الواقع إن سبينوزا لم يكن طائشًا ولم يهاجم الدين، وإنما هاجم اللاهوتيين وطريقة تفسيرهم للدين. وهنا يكمن فرق كبير. ولكن عامة الناس لا تفرق بين الدين ورجاله. فأنت إذا ما هاجمت الأصوليين أو رجال الدين فإنهم يعتقدون أنك هاجمت الدين!

مهما يكن من أمر فإن هدف سبينوزا من وراء تأليف كتابه عن اللاهوت السياسي هو تقديم تفسير جديد للدين وللنصوص المقدسة. وهو يحرص على القول بأن هذا التفسير لا يتعارض مع النظام السياسي الجمهوري ولا مع الحرية المطلقة للتفكير. وحده تأويل الأصوليين للدين يتناقض مع ذلك.

والبعض يعتقد أن تصور سبينوزا لله لم يكن بعيدًا جدًا عن تصور أديان التوحيد. ولكن الكثيرين من الآخرين يعتقدون العكس. فهم يرون أنه كان أقرب إلى مذهب الحلولية ووحدة الوجود. مهما يكن من أمر فربما كان موقفه أقرب إلى الإيمان منه إلى الإلحاد بالمعنى المادي المحض للكلمة.

وعلى أي حال فإن أحدًا لم يتحدث عن الله مثلما تحدث هو، ولم يكرر كلمة الله على مدار كتبه مثلما كررها هو. فإذا كان ملحدًا بعد ذلك، فإنه ليس بالمعنى المبتذل أو السهل أو الرخيص الشائع.

ينبغي العلم بأن نقطة انطلاقه الأولى في الكتاب المذكور هي الوحي الذي يعترف به بدون أي مناقشة؛ فأنبياء العهد القديم وحواريو العهد الجديد استطاعوا التوصل إلى مجموعة صغيرة من الحقائق الأساسية الضرورية لهداية الإنسان في هذه الحياة. لقد توصلوا إليها عن طريق آخر غير طريق الفلسفة. وأولى هذه الحقائق هي أنه يوجد إله، والله هو الذي يسهر بعنايته على البشر ويأمرهم بأن يحبوا بعضهم بعضًا. وكل اللاهوت الديني يختزله سبينوزا إلى هذه الفكرة الأساسية، والاعتقاد بصحة ذلك يعني أنك شخص مؤمن. وتطبيق هذا الأمر في الحياة العملية يعني أنك تقيٌ ورع.

وسبينوزا يعتقد أن طاعة الله والإيمان به وتنفيذ أوامره التي تتلخص كلها بمحبة الآخرين تكفي لنجاة الإنسان أو خلاص روحه في الدار الآخرة. وليس بحاجة إلى الإيمان بشيء آخر، أو ممارسة أية طقوس أو شعائر.. هكذا نلاحظ أنه بسَّط الدين إلى أقصى حد ممكن، وأعاده إلى جوهره الحقيقي: التقى، الورع، الاستقامة، محبة الآخرين.

في الواقع إن التفسير العقلاني الذي قدمه سبينوزا عن الكتابات المقدسة يهدف بالدرجة الأولى إلى بلورة نوع الأخلاق الاجتماعية التي تجنِّب البشر الصراعات الطائفية والمذهبية. فالمبدأ اللاهوتي الذي نصّ عليه لا يمكن أن يُرفَض من قبل أي دين أو مذهب. لا يوجد دين يرفض المبدأ القائل بمحبة الآخرين أو مساعدتهم ومعاملتهم بالحسنى. ولكن الطقوس والشعائر والعقائد التي تختلف من دين لآخر هي التي تفرق بين البشر وتشعل الحروب المذهبية والعصبيات الطائفية.

وإذن فسبينوزا حاول حلَّ مشكلة اجتماعية خطيرة كانت تهدد هولندا التي يعيش فيها المسيحيون بشتى طوائفهم وكذلك اليهود.. فهؤلاء، لكي تجنّبهم الشقاقات والنـزاعات ينبغي أن تجمعهم على مبدأ واحد يكون بمثابة القاسم المشترك للجميع. وبعدئذ يستتبُّ السلام العام في المجتمع، ويمكن للفلاسفة أن يتفرغوا لأنفسهم وتأملاتهم بدون أن يعكِّر ضجيج العامة صفوهم أو يهدد طمأنينـتهم. وعندئذ تبتدئ بلورة الطريق الآخر المؤدي إلى الحقيقة: أي طريق الفلسفة، لا طريق التسليم والدين...

في الواقع إن مشكلة سبينوزا كانت هي الكثرة: أي أغلبية الشعب التي سرعان ما تستفزها الأهواء والعصبيات فتنهض لكي تحرق الأخضر واليابس. وهي أكثرية عاجزة عن فهم الفلسفة أو الارتفاع إلى مستوى المعرفة الفلسفية. ولذا فمن المستحسن أن نقدم لها أخلاقًا عملية قائمة على الإيمان والدين المتسامح. ولذا لم يحاول سبينوزا أبدًا تغيير عقلية أصدقائه أو جيرانه الذين كانوا يجدون طمأنينتهم في الدين، وممارسة طقوسهم وشعائرهم. فما داموا يعيشون بسلام وأمان ولا يؤذون أحدًا فإن تديُّنهم جيد ومقبول عند الله. ولكن إذا حاولوا الاعتداء على الآخرين أو إجبارهم على ممارسة الشعائر والطقوس أو إكراههم على اعتناق نفس العقائد، فإن تديُّنهم يتحول إلى تعصب غير مقبول. وهو تعصب يهدِّد السلام الاجتماعي في بلد يعجُّ بالطوائف والمذاهب المختلفة.

في الواقع إنه كان يرفض شخصيًا كل الطقوس والشعائر سواء أكانت مسيحية أم يهودية؛ لماذا؟ لأن جوهر الدين يكمن في مكان آخر، ولأن اختلافها من هذا الدين إلى ذاك، بل وأحيانًا من هذا المذهب إلى ذاك، يدلُّ على عرضيّتها وطابعها التاريخي المحض. وبالتالي فهي ليست ملزمة وخاصة بالنسبة للفيلسوف. أما بالنسبة للعامة فبإمكانهم أن يمارسوها إذا كانت تؤمِّن لهم الراحة النفسية.

ولكن ماذا نفعل إذا ما عثرنا على تناقض بين أحد مقاطع التوراة وبين العقل؟ سبينوزا لا يتردد لحظة واحدة في الانتصار للعقل وإهمال المقطع المذكور واعتباره شيئًا مضافًا من قبل النسّاخ إلى الكتاب المقدس، وبالتالي فهو ليس منه ولا يلزمنا بأي حال.

وأخيرًا نطرح هذا السؤال: ماذا كان موقف المعاصرين من كتاب سبينوزا بعد صدوره؟ على الرغم من أَنَّهُ لم يوقع اسمه عليه. وعلى الرغم من كل الاحتياطات التي اتخذها إِلاَّ أَنَّهُم عرفوا بأنه هو الذي ألَّفه.

وقد أجمع اللاهوتيون على تكفيره والتنديد بأفكاره الهدّامة والخطرة على الدين. ففي رأيهم إِنَّهُ لا يمكن اختزال الدين إلى مجرد طاعة الله ومحبة الآخرين، وإنما هناك أشياء أخرى غير ذلك، أو بالإضافة إلى ذلك هناك الطقوس والشعائر والعقائد... ثُمَّ قالوا بأن فكر سبينوزا يتعارض مع تعاليم الكنيسة المسيحية، وبالتالي فلا يمكن القبول به؛ لأن ذلك يعني الخروج عن الدين... ولكن هذه الإدانات الصادرة عن رجال الدين والتي كانت متوقعة لم تمنع انتشار الكتاب وحصول ضجة كبيرة حوله.

وبما أنه مكتوب باللاتينية -أي: لغة الثقافة في كل أنحاء أوروبا آنذاك-؛ فَإِنَّهُ انتشر خارج هولندا؛ أي: في ألمانيا، وفرنسا، وانجلترا. وتصدى الكثيرون له إما لشرحه، وإما لدحضه، وإما للاثنين معًا.

في الواقع إن أطروحته القائلة بأن الفلسفة لا تهدّد الدين لم تقنع الكثيرين، وبخاصة إذا ما أخذنا الدين بالمعنى الشائع في المجتمع لا كما يتصوره هو. فالدين بالنسبة للمسيحي العادي كان عبارة عن طقوس وشعائر وأسرار ربانية غيبية قبل كل شيء آخر. وبالتالي فالمفهوم العقلاني الذي قدمه عن الدين ما كان بإمكانه أن يواجه المفهوم التقليدي الراسخ منذ مئات السنين. سوف ينتصر مفهومه عن الدين ولكن لاحقًا؛ أي: بعد مائتي سنة، بعد أن تتقدم الشعوب الأوروبية، وتتعلّم، وتستنير... حقًا لقد جاء سبينوزا قبل الأوان بوقت طويل...

************

الهوامش

*) مترجم وباحث من سوريا يقيم في فرنسا.

1) في بداية هذا الكتاب يقول سبينوزا ما يلي: هذا الكتاب يتضمن بعض المقولات التي تبرهن على أن حرية التفلسف تتوافق مع التقى والإيمان واستتباب السلام والأمان في الدولة، ولا تسبب لها أي خطر. بل ليس فقط تتوافق مع كل ذلك، وإنما لا يمكن القضاء على الحرية الفلسفية إِلاَّ إذا قضينا في ذات الوقت على التقى ذاته وأمان الدولة ذاتها. انظر النص الفرنسي الذي يحمل العنوان التالي: مقالة في اللاهوت السياسي. منشورات فلاماريون، 1965.

- SPINOZA: Traité théologico-politique. Flammarion. 1965.

2) جان دوفييت هو رجل سياسي هولندي (1625-1672) قتل مع أخيه في وسط الشارع من قبل الرعاع والمتـزمتين المسيحيين بسبب أفكاره الليبرالية والتحررية. وكان قد لعب دورًا كبيرًا سابقًا بصفته الحاكم الفعلي لهولندا طيلة سنوات عديدة.

- Jan de Witt

3) نقلت هذا الكلام مع بعض التصرف في الترجمة والعرض عن كتاب فيردنان الكييه، أحد أساتذة الجامعة الفرنسية في الخمسينات والستينات. وعنوان الكتاب هو التالي: عقلانية سبينوزا. المطبوعات الجامعية الفرنسية. 1981، ص26-27.

- Ferdinand ALQUIE: Le rationalisme de SPINOZA. P.U.F. 1981. pp. 26-27.

4) المصدر السابق، ص27.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=29

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك