صورة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في الكتابات الأنكلو-أمريكية: مقدمة منهجية ونماذج

صورة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في الكتابات الأنكلو-أمريكية: مقدمة منهجية ونماذج

عبد النبي اصطيف*

1) مقدمة منهجية
في السادس والعشرين من شهر أيلول عام ثمانية وثمانين وتسعمائة وألف صدرت رواية سلمان رشدي الموسومة بـ"الآيات الشيطانية"(1) The Satanic Verses عن دار النشر فايكنغ/بنغوين في لندن، وسرعان ما أثارت ردود فعل في مناطق مختلفة من العالم تميزت بالاتساع والشمول والتباين الشديد.

ففي حين شهد العالم الغربي اهتمامًا ملحوظًا بالرواية تمثل بترشيحها لجائزة البوكر البريطانية المشهورة، ومن ثم إدراجها في قائمة التصفيات الأخيرة لها؛ وبفوزها بجائزة وايت بريد للرواية لذاك العام؛ وبإصرار ناشرها على عدم سحبها من الأسواق تحت أي ظرف من الظروف؛ وبرفض وزير الداخلية البريطاني التوسع في تطبيق قانون التجريح ليشمل الإسلام في بريطانية، الرفض الذي يعني حرمان مسلميها من مقاضاة رشدي وغيره على أساس منه؛ وتنادي المثقفين والكتّاب في بريطانيا و الغرب للدفاع عن رشدي وحريته في كتابة ما يريد، بوصف هذه الحرية حقًا من حقوقه الإنسانية الأساسية، شهد العالم الشرقي والمنتمون إليه من المسلمين في الغرب مظاهر نقيضة في شكلها ومحتواها شملت منع الكتاب في الهند وجنوبي إفريقية وعدد كبير من الدول الإسلامية والعربية؛ وحرق نسخٍ منه في مدينة برادفورد البريطانية؛ وتنظيم المظاهرات في لندن وسواها من مدن الغرب، وفي باكستان وغيرها من دول الشرق والتي بلغت حدًا من العنف أودى بحياة عدد من المتظاهرين غير قليل، وانتهى بعدد أكبر من الجرحى؛ ومنع جميع منشورات فايكنغ وبنغوين من دخول إيران، والتظاهر خارج السفارة البريطانية في طهران، وإعلان يوم حداد وطني في إيران كلها، وإصدار فتوى بهدر دم رشدي، وأخيرًا قطع علاقات إيران ببريطانية في مطلع شهر آذار من عام 1989(2).

وربما كان من أبرز ما يلفت انتباه الملاحظ المتتبع لردود الأفعال هذه هو استغراب كل فريق لردود أفعال الفريق الآخر. فبينما حار الغرب في تفسير اتساع نطاق ردود أفعال المسلمين ومظاهر الغضب والعنف التي رافقتها احتجاجًا على أمر لم ير فيه مسوغًا كافيًا لها؛ انتابت المسلمين في مختلف بقاع العالم موجة من خيبة الأمل، والإحباط، والعنف، والشعور بالإهانة، إزاء سماح الغرب بنشر رواية كهذه تسيء أيما إساءة إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وإلى الدين الحنيف، الذي يجل أتباعه أيما إجلال رسول المسيحية السائدة في الغرب، ويجعلون الإيمان به وبأمه السيدة مريم العذراء مقوّمًا أساسيًا من مقومات عقيدتهم(3) في الإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته وبالقدر خيره وشره فضلاً عن الإيمان بيوم الحساب.

ولكن ما فات الغرب معرفته هو ما يكنّه المسلمون من حبّ وإجلال وتقدير لخاتم الأنبياء محمد -صلى الله عليه وسلم-، وما يمثله بالنسبة إليهم من أسوة حسنة يستلهمونها في جميع مظاهر حياتهم ووجودهم، على نحو يجعله في نقطة المركز تمامًا في هذا الوجود.

وما فات الشرق معرفته هو أن الصورة التي يقدمها سلمان رشدي للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في رواية الآيات الشيطانية ليست بعيدة عن الصورة الغالبة على أذهان الغربيين(4)، والتي رسختها قرون طويلة من المواجهة المتعددة الوجوه والمستويات بين الشرق والغرب.

ومعنى هذا أن التدهور الذي سببته هذه الرواية في علاقات الشرق بالغرب كان مرده إلى جهل كل فريق بالآخر وما يحمله من تصورات وآراء وأفكار وأهواء ومشاعر تجاهه.

ولا أظن إِلاَّ أن الغرب ربما كان أكثر حساسية تجاه مشاعر المسلمين لو كان على علم واسع بمركزية شخصية النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في المجتمعات المسلمة وتواريخها وعقيدتها. وأن الشرق ربما كان أكثر تفهمًا للامبالاة الغرب بفعل رشدي لو كان على علم واسع بالصورة التي تحتضنها أذهان الغربيين ومخيلاتهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتي تشكلت عبر مئات السنين منذ بدء انتشار الدعوة السريع في الشرق والغرب وحتى يومنا هذا.

ومعنى هذا أن دراسة لصورة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغرب يمكن أن تسهم في تنوير المسلمين حول حقيقة ما يحفز مواقف الغرب تجاههم، وتجاه ما يتصل بهم من قضايا ومسائل وهموم، مثلما يمكن أن تسهم في حفزهم على السعي لتصحيح هذه الصورة على نحو يكفل احترامًا أكبر للدين الإسلامي ولأتباعه أينما وجدوا من جانب الغرب، ولا سيما أن مجتمعات هذا الأخير باتت تحتضن أتباع هذا الدين، الذي بات من أكثر الديانات اعتناقًا وانتشارًا بعد المسيحية في معظم الدول الغربية.

ولكن ربما كان على الباحث قبل الشروع في دراسة كهذه أن يشير إلى جملة من الحقائق المهمة المحددة لملامح هذه الصورة بغرض استيعاب هذه الملامح وتفهمها على نحو أفضل.

*) وأول هذه الحقائق هي أن صورة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- جزء لا يتجزأ من المعرفة التي أنتجها ولا يزال ينتجها الغرب عن الشرق ولاسيما المسلم منه، وأنها لذلك عرضة لجميع المؤثرات التي تتعرض لها هذه المعرفة الغربية، والتي نسميها عادة بالاستشراق، مثلما هي خاضعة لمختلف شروط إنتاجها واستهلاكها في المجتمعات الغربية.

*) وثاني هذه الحقائق هي أن هذه الصورة قد تشكلت في ظل المواجهة بين الشرق المسلم الناهض والغرب الذي تبنى المسيحية دينًا له، واتخذها مظلة أيديولوجية، تسوّغ مناجزته لهذا الشرق دفاعًا عن مصالحه الدنيوية، هذه المواجهة التي امتدت نحوًا من أربعة عشر قرنًا، وبدأت بالفتوحات العربية الإسلامية في شرقي العالم القديم وغربه، واستمرت حتى يومنا هذا متخذة أشكالاً متفاوتة في عنفها وشموليتها ومستوياتها؛ وشملت فسحًا عديدة (من مثل بلاد الشام ومصر وشمالي إفريقية التي انتزعت من هيمنة الإمبراطورية البيزنطية، وشبه الجزيرة الإيبرية أو ما بات يعرف بالأندلس وصقلية لاحقًا، والشرق العربي ثانية زمن الحروب الصليبية، والبلقان وجنوبي أوربة زمن التوسع العثماني، وجلّ الوطن العربي والعالم الإسلامي زمن المد الاستعماري في القرنين الأخيرين). ومعنى هذا أن هذه الصورة قد ولدت ونشأت وترعرعت ونمت وتطورت وعدّلت في ظل هذه العلاقة، لتؤدي وظائف محددة لها في مواجهة الآخر واحتوائه وتدجينه، وأنها في الغالب استخدمت سلاحًا يقارع به هذا الآخر على المستوى الثقافي والإيديولوجي والنفسي.

*) وثالث هذه الحقائق هي مركزية شخصية النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في المجتمعات الإسلامية: تاريخًا وثقافة ووجوه حياة مختلفة، فضلاً عن مركزيتها في الدين الإسلامي عقيدة (فالمسلم لا يؤمن حتى يشهد بأن محمدًا عبد الله ورسوله) وعبادات (يتأسى فيها بالنبي في كل ما يؤدّيه منها في حياته اليومية، صلاة وصومًا وزكاة وحجًا وغيرها) ومعاملات (يلتزم فيها بسنّة النبي وما صدر عنه من قول أو فعل أو صفة أو تقرير) ومكارم أخلاق (يحاكيها المسلم باستمرار ولا سيما أن صاحبها قد وصف بأنه على خلق عظيم، وأنه إنما بعث ليتمّم مكارم الأخلاق التي سبقته إليها الديانات السماوية الأخرى).

وقد عزز من مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه المجتمعات أنه جسّد الإسلام(5) إنسانيًا وواقعيًا، وأنه كان باستمرار الدليل الحي على جدوى اتباعه طريق حياة. وهكذا اتّخذت سنّته مصدرًا أساسيًا من مصادر التشريع على أساس أَنَّهُ لا ينطق عن الهوى، وأنه في كل ما أتاه كان يستوحي التوجيه الإلهي، وباتت محبته محرّكًا فعالاً في المسلمين، وانصرف شطر كبير من مسعاهم الفكري والثقافي والفني للإفصاح عن هذه المحبة التي لفتت إليها حتى أنظار الآخرين من غير المسلمين(6).

والحقيقة أنه، وبسبب مركزية شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدين الإسلامي والمجتمعات الإسلامية، وكون سنّته المصدر الثاني للتشريع في معظم الممالك والدول الإسلامية عبر العصور، ونتيجة النجاح الصاعق للفتوحات العربية الإسلامية في شرقي العالم القديم وغربيّه؛ فقد كان من الطبيعي أن تنال صورته في الغرب مختلف مظاهر التشويه والطعن وسوء التمثيل، الناجمة أساسًا عن دوافع دينية وأيديولوجية ومصالح دنيوية، بغرض نزع مصداقيته بوصفه خاتم الرسل، وحاملاً لرسالة إنسانية سامية تدعو إلى العدل والمساواة والارتقاء بالإنسان خليفة الله على هذه الأرض من جهة، وإضعاف قوة أتباعه المادية والمعنوية بضرب أساس مهمّ من أسس وحدتهم وتضامنهم فيما بينهم من جهة أخرى.

وهكذا وجدنا الغربيين يشككون بداية في صدق نبوته، ويتبعون ذلك بإثارة مصداقية كتاب دعوته، وسنّته، فضلاً عن الطعن في مختلف وجوه سلوكه الدنيوي ولا سيما علاقاته الزوجية، وصلاته بأصحابه، وغير ذلك مما شكّل مادة خصبة للخيال الأوربي.

وقد شهد القرنان الأخيران جملة من التطورات، كان يفترض بها أن تصحح هذه الصورة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتجعلها أكثر موضوعية ونزاهة وقربًا من واقع الحال، كان من بينهما:

‌أ- الاطلاع المتنامي للغرب على المصادر الإسلامية للسيرة النبوية، وذلك بعد تحقيق الكثير من المؤلفات العربية والإسلامية على يد المستشرقين الغربيين في البداية، والباحثين المسلمين لاحقًا، وفي مختلف اللغات الشرقية، ونشرها.

‌ب- الاحتكاك الشامل مع الشعوب الإسلامية في فسح أكثر إنسانية، ولا سيما في ظل تطور وسائل النقل والاتصال الحديثة التي يسّرت تواصلاً يوميًا ومباشرًا بين الغرب والشرق لم تعرفه القرون الخالية. وأكثر من هذا فقد باتت معظم المجتمعات الغربية تحتضن جاليات مسلمة وطنية ووافدة، وغدت أكثر معرفة وإلفة للإسلام دينًا وثقافة وتاريخًا وطريقة حياة.

‌ج- اطلاع الباحثين الغربيين على كتابات المسلمين الحديثة عن السيرة النبوية، سواء أكان ذلك باللغات الشرقية، أم باللغات الغربية التي ترجمت إليها أو كتبت فيها؛ فضلاً عن إلمامهم بما أنتجه المسلمون من نقد لكتابات المستشرقين والغربيين عامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-وما أخذوه عليها من عيوب ونواقص وثغرات منهجية ومعلوماتية.

‌د- التطورات المهمة التي حققتها تقاليد كتابة السيرة (biography) وطرائقها بشكل خاص، ومختلف العلوم الإنسانية المساعدة بشكل عام، والتي يبدو أنها ظلت بعيدة عن ملامسة كتابة سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو عن التأثير فيها على النحو المرجو، ولاسيما بعد تبيّن بعض المتنوّرين الغربيين ما تنطوي عليه شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- من عبقرية وتفوّق وعظمة وقيم سامية.

‌ه- التطورات الهائلة التي حققتها الحقول المعرفية المتصلة بدراسة ثقافة «الآخر The Other»وتاريخه ومجتمعه، ولا سيما بعد التأثير الواسع الذي ولّدته منظورات متقدمة معرفيًا ومنهجيًا وفكريًا، مثل منظور إدوارد سعيد وكتاباته عن صلات الشرق بالغرب والثقافات المولّدة وغيرها، مما انعكس إيجابيًا في دراسات الغرب عن الآخر، ولكنه لم يمسّ بعمق دراسات هذا الغرب عن محمد -صلى الله عليه وسلم-(7).

* * *

2- السيرة النبوية في القرن العشرين: مسح عام

شهد العالم الأنكلو-أمريكي ظهور أكثر من خمس عشرة سيرة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- نشرت على شاطئي المحيط الأطلسي خلال القرن العشرين. وربما كان أولها وأبرزها كتاب المستشرق الإنكليزي المشهور مارغوليوث الموسوم بـ«محمد ونهوض الإسلام»(8) الذي صدر عام 1905، تلاه كتاب Menzeg «حياة محمد ودينه»(9) عام 1912، فكتاب سل Edward Sell «حياة محمد»(10) عام 1913، فكتاب دراي كوت Draycott «محمد مؤسس الإسلام»(11) عام 1915، فكتاب ثيودورا بارتن Theodora Barten «أحاديث عن محمد وأتباعه»(12) عام 1932، فكتابا مونتغمري وات M. Watt «محمد في مكة»عام 1953، و «محمد في المدينة»(13) عام 1956، اللذان أصبحا من أبرز المراجع المعتمدة في الكتابة عن حياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.

هذا وقد صدر كتاب ألفريد غيوم Alfred Guillaume الموسوم بـ«حياة محمد: ترجمة لسيرة رسول الله لابن اسحق»(14) عام 1955. وشكل إضافة مهمة إلى تقليد كتابة السيرة النبوية بتيسيره مصدرًا أساسيًا من مصادرها المبكرة.

وشهد عقد الستينات والسبعينات ظهور ثلاثة كتب كان أولها كتاب مايكل إدوارد Michael Edwarde «حياة محمد: رسول الله»(15) الذي نشر عام 1964، وثانيها كتاب بايك E. R. Pike الموسوم بـ«محمد: النبي ودين الإسلام»(16) الذي نشر في نيويورك عام 1962 وفي لندن عام 1968، وثالثها كتاب جون غلوب John Glubb الذي حمل عنوان: «حياة محمد وأزمنته»(17) وصدر عام 1970. وفي عام 1983 ظهر كتاب مايكل كوك Michael Cook الموسوم بـ«محمد»(18) عن مطبعة جامعة أكسفورد في سلسلة «سادة الماضي». وكتاب مارتن لينغز Martin Lings الذي حمل عنوانًا دالاً هو: «محمد: حياته مؤسسة على أقدم المصادر»(19). وكان كتاب كارين آرمسترونغ Karen Armstrong «محمد: سيرة للنبي»(20) الذي صدر عام 1992 أبرز ما صدر من سير للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في التسعينات، وقد تيسرّت له ترجمة جيدة إلى العربية على يد د. محمد عناني، و د. فاطمة نصر عام 1998، نشرت في سلسلة كتاب سطور(21).

وثمة كتب أخرى لم يتيسر لصاحب هذه السطور الوقوف عليها، أسهمت بدورها في تكوين صورة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في الكتابات الأنكلو-أمريكية في القرن العشرين؛ فضلاً عن عدد كبير من الكتب الأوربية التي ترجمت إلى الإنكليزية من الفرنسية (ككتابي بلاشير ومكسيم رودنسون)، والألمانية (ككتاب اليهودي صاحب الاسم العربي محمد أسدبيه، أو أسعد بيه Mohammad Essed Bey)، والإيطالية (ككتاب كايتاني)، وعدد من اللغات الإسكندنافية (ككتاب أندريه)، أو تلك التي ألفت باللغة الإنكليزية، على عادة بعض المستشرقين الاسكندنافيين والهولنديين. وعدد أكبر من الكتب التي عنيت بالإسلام وضمت فصولاً عن نبيه. وعدد لا يحصى من المقالات الموزعة على عشرات الدوريات الاستشراقية، أو التاريخية العامة، باللغة الإنكليزية. وعدد لا بأس به من الرسائل الجامعية التي ما زالت مخطوطة لم تر النور بعد(22).

وَلَـمَّا كان من غير الممكن في حيز محدود كهذا البحث دراسة جميع ما تقدم من سير للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد تم اختيار ثلاثة نماذج منها ظهرت في الربع الأخير من هذا القرن، ولفتت الأنظار بتميزها (كل بطريقته الخاصة به بالطبع) على نحو من الأنحاء، وهي تمثل طيفًا واسعًا في توجهاتها ودوافعها ومنظوراتها وتوكيداتها وبؤر اهتمامها وتركيزها، فضلاً عن تباين مواقفها تجاه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-بشكل خاص، والإسلام والحضارة الإسلامية بشكل عام. وقد رشحها لهذا الاختيار انتشارها الواسع بين صفوف قراء الإنكليزية في الأقطار الناطقة بها، أو خارجها، وترجمة بعضها إلى أكثر من لغة، وذلك إلى جانب نشرها جميعًا بطبعة شعبية ذات غلاف ورقي ييسر اقتناءها على القارئ العادي. وهذه الكتب هي:

1) كتاب مارتن لينغز «محمد: حياته مؤسسة على أقدم المصادر».

2) كتاب مايكل كوك «محمد».

3) كتاب كارين آرمسترونغ «محمد: سيرة للنبي».

2- نماذج

الأنموذج الأول:

محمد: حياته مؤسسة على أقدم المصادر، لمارتن لينغز Martin Lings

"Muhammad: his life based on the earliest source"

ومن أبرز ما يميز هذا العمل الفريد حقًا اعتماده على مصادر عربية تعود إلى القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، وبالتالي فإنه يستمد جدّته من جانب، ومباشرة مقاربته من جانب آخر، من إفساحه الفرصة لأصوات رجال ونساء من أصحاب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- سمعوه أو شهدوا أحداث حياته. وتضم هذه المصادر كلاً من:

- سيرة رسول الله لابن إسحاق

- كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد

- كتاب المغازي لمحمد بن عمر الواقدي

- أخبار مكة لمحمد بن عبد الله الأزرقي

- تاريخ الرسل والملوك لمحمد بن جرير الطبري

- الروض الأنف لعبد الرحمن بن عبد الله السهيلي

فضلاً عن مجموعة أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- المعروفة كـ صحيحي البخاري ومسلم، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن أبي داود، والدميري، وابن ماجه، وكتابي السنن الكبرى لأحمد بن الحسين البيهقي، ومشكاة المصابيح لحسين بن محمود الغراء البغوي.

وإلى جانب ذلك فإن تأهيل صاحبه لافت للنظر حقًا أيضًا. فقد حصل على عدد من الدرجات العلمية في الأدبين الإنكليزي والعربي من كل من جامعتي أكسفورد ولندن، عمل بعدها نحوًا من اثني عشر عامًا أستاذًا محاضرًا في جامعة القاهرة يدرّس عددًا من المقررات ولا سيما شكسبير. وتولى لعدد آخر من السنين مهمة قيّم المخطوطات الشرقية في المتحف البريطاني. وكان أحد مستشاري «مهرجان العالم الإسلامي»في لندن، وعضوًا في مجلس الفنون لمعرض «فنون الإسلام»فيها أيضًا. كما دعي عام 1977 للمشاركة في مؤتمر عن التربية الإسلامية عقد في مكة ونظمته جامعة الملك عبد العزيز في جدة.

وقد كان للقرّاء من نتاج قلم لينغز ثلاثة كتب عن التصوف الإسلامي طبعت أكثر من مرة، وترجمت إلى العديد من اللغات؛ ومجموعتان شعريتان؛ وكتاب مهم عن شكسبير يحمل عنوان: «سر شكسبير»، وكتاب رائع عن «فنون الخط والزخرفة القرآنية»؛ ومقالات كثيرة ظهرت في مجلات مرموقة من مثل «دراسات في الأديان المقارنة»، و«الفصلية الإسلامية»، وموسوعات مثل: «موسوعة الإسلام الجديدة»، و«الموسوعة البريطانية».

أما كتابه عن محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد جمع فيه ما بين الباحث المدقق الخبير بمصادره، والراوي المتمكن الذي مضى في سرد سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في فصول قصيرة متتالية وآسرة، وحقق بذلك معادلة قلّ نظيرها، في عالم كتابة السيرة النبوية لا نكاد نجدها في أي عمل نظير في أي من اللغات الأوربية؛ إذ قدّم لمن لا يعرف سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- رواية محكمة تغلب عليها البساطة والجلال اللائق بشخصية محمد -صلى الله عليه وسلم- معًا، وقدّم لمن يعرفها روعة السرد وغنى نسيجه وحميمية معرفة تفاصيله. وأتبع بفصوله التي بلغت خمسة وثمانين فصلاً خارطة لغربيّ الجزيرة العربية، وشجرة نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- بدءًا من قريش.

ويبدو أنه أخذ بسحر ما كان يقوم به فتوارى مثل سارد أو راو مجهول لقصة منح موضوعها كل الأولوية والتبجيل، وبالتالي فاته أنّ عليه أن يناقش الكثير من مواد روايته، ولا سيما أنه لم يكن يكتب في فراغ، وأن قرّاءه قد شحنوا وعلى مرّ القرون والعقود والسنين بروايات أخرى تسودها روح غير روحه، ونزعات وأهواء وانحيازات وألوان من البغض والكراهية محفوزة بشتى الدواعي الفكرية والدنيوية. وربما كان هذا ما دعا كارين آرمسترونغ أن تكتب في معرض تقويمها لكتابه:

«يقدّم كتاب مارتن لينغز «محمد: حياته مؤسسة على أقدم العصور «ثروة من المعلومات الآسرة من كتاب سيرة محمد في القرون الثامن والتاسع والعاشر. ولكن لينغز يكتب للمهتدين. وإن الخارجي سيكون لديه الكثير من الأسئلة ذات الطبيعة الأساسية وحتى المحاجيّة، والتي لا يوجهها لينغز»(23).

وبالتالي فإن كتابه لا يؤثر التأثير المرجو في تصحيح السائد والشائع عن النبي من صور مختلقة ومشوّهة وبعيدة عن الواقع والموضوعية.

الأنموذج الثاني: محمد لـ مايكل كوك Michael Cooke، Muhammad

وهذا الأنموذج جدير بوقفة متأنية بعض الشيء لعدة أسباب، ربما كان من أهمها أنه صادر عن مطبعة جامعية عريقة يوحي تبنيّها لكتاب ما، أو كاتب ما، بأنهما جديران بالثقة؛ ذلك أن هذه المطبعة لا تنشر أي شيء دون إخضاعه لمعاييرها التي أكسبت ما تنشره سمعة طيبة بين الباحثين والقراء على حد سواء. وكذلك فإنه صادر في سلسلة رائجة غاية الرواج بين صفوف القراء من الطلبة (ولا سيما في المدارس والجامعات التي تتخذ من الإنكليزية أداة لها) هي سلسلة «سادة الماضي»«Past Masters» التي غدت مرجعًا ميسّرًا سهل التناول، مقبول السعر حتى للقارئ العادي، الذي يمكن أن يرضي فضوله في الاطلاع على حياة واحد من سادة الماضي وآثاره في جلسة مطوّلة في يوم واحد، أو قراءة مادّة الكتاب الغنية الموجزة في رحلة الذهاب أو الإياب إلى العمل. فكتب السلسلة من كتب الجيب في حجمها، وهي لا تتعدى مائة صفحة في طولها، فضلاً عن كونها مكتوبة بلغة سهلة واضحة غير مثقلة بالحواشي والإشارات المرجعية المتعالمة. وقد صدر منها حتى اليوم عدد كبير شمل شخصيات دينية (مثل بوذا وكونفوشيوس والمسيح)، وفكرية (مثل أفلاطون وأرسطو وباسكال وهيغل وإنغلز وغيرها) وسياسية وأدبية (من مثل كولريدج، وكارلايل، ودانتي، وبروست، وغيرها)، وعلمية (من مثل داروين وغاليله وغيرهما)، وثمة عدد كبير آخر ينتظر صدورَه قراءُ هذه المطبعة الموثوقة بفارغ الصبر، وقد أعلن عنه مسبقًا ويشمل أبرز سادة الماضي الإنساني الحافل بالشخصيات الفذّة التي تؤهلها للدخول في عالم هذه السلسلة التي يحررها كيث توماس Keith Thomas.

والحقيقة أن أول ما يستوقف القارئ في هذا الكتاب مؤلفه فهو الباحث مايكل كوك صاحب العديد من المؤلفات التي تتناول تاريخ الإسلام والشرق الأوسط، والتي ربما كان من أبرزها كتابه المشترك مع باتريشيا كرونه الموسوم بـ«الهاجرية»(24) الذي أثار صدوره عام 1977 عن مطبعة جامعة كامبريدج عاصفة من النقد للجامعة ومطبعتها، فضلاً عن الباحثين اللذين قدما رواية مسرفة في الشطط الخيالي عن نشوء الإسلام في ضوء المصادر غير الإسلامية التي كانت تناهض دعوته وتسعى إلى وأدها في مهدها دون طائل. وقد قدماها بمقدمة بعيدة جدًا عن لياقات مواجهة القارئ والتودد إليه بغرض تشجيعه على قراءة الكتاب، بَله مراعاة حساسية أتباع هذا الدين الذين يقرب عددهم من مليار ونصف المليار، والذين بات يسكن بعضهم في قلب العديد من العواصم الغربية. وهكذا نراهما يكتبان:

«إن العرض الذي نقدّم لأصول الإسلام ليس ذلك الذي يستطيع أن يقبله أي مؤمن … لقد كتب هذا الكتاب لكفرة ومن قِبَل كافِرَين، وأُقيمَ على ما يجب أن يبدو -من منظور أي مسلم- تقديرًا مبالغًا فيه لشهادة مصادر الكفرة»(25).

واستنادًا إلى مصادر الكفرة يخرج المؤلفان بقصة جد أصيلة في خيالها الجامح عن الإسلام الذي يفضلان نعته بـ«الهاجرية» Hagarism (نسبة إلى هاجر أم إسماعيل وزوج إبراهيم عليهم السلام)، ويفضّلان نعت أتباعه بـ«الهاجريين».

وهكذا يغدو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- شخصية أسطورية لفّقها الهاجريون، ويغدو القرآن نتاج مجهود الهاجريين الجماعي التراكمي، ويغدو الدين الجديد مجرد دعوة سامرية ما أبعدها عن جادة الحق والصواب(26).

ومعنى هذا أن مؤلف كتاب «محمد»مؤلف مشكّك في وجود موضوعه التاريخي، فضلاً عن استخفافه بما يحمله من رسالة بات يؤمن بها أكثر من مليار ونصف المليار من المعاصرين، وقدّم أتباعها على مدى أربعة عشر قرنًا ما لا ينكر من إنجازات للحضارة الإنسانية.

وهو ما يبدو وحتى في مقدمته التي يشير فيها إلى اعتراض «محمد» -صلى الله عليه وسلم- على صيغة الجمع (سادة) في عنوان السلسلة؛ لأنه يؤمن بالتوحيد، ولأنه لا يؤمن إلا بسيّد واحد للكون هو الله عز وجل.

يقع كتاب مايكل كوك في مقدمة، وثمانية فصول، فضلاً عن الخرائط، وثبت بقراءات أخرى يوصي بها قارئه، ومؤشر يساعده في تتبع تفاصيل موضوعات الكتاب. وهو يقدم فيه عرضًا مكثفًا لخلفية موضوعه، وحياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والعالم التوحيدي الذي يقدمه الإسلام، والتاريخ التوحيدي الذي صنعه، والقانون التوحيدي الذي يحكم نظامه، والسياسة التوحيدية التي حكمت سيرته وممارسات قادته، فضلاً عن دراسة للمصادر التي تناولت حياة نبي الإسلام وأصوله في التقاليد الدينية، والوثنية السابقة له.

والنزعة الغالبة على كل ما يقدمه لقارئه هي نزعة التشكيك المغرض التي تنظم فصوله جميعًا.

ففي مطلع الفصل الأول يكتب عن التوحيدية:

«كان محمد نبيًا توحيديًا. والتوحيدية، أو نزعة التوحيد: هي الإيمان بأن هناك إلهًا واحدًا، وواحدًا. وهي فكرة بسيطة، ولكنها، مثلها في ذلك مثل الكثير من الأفكار البسيطة، ليست واضحة تمامًا»(27).

وفي تقديمه لحياة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يزعم أَنَّهُ سيعتمد اعتمادًا كاملاً على سيرة ابن إسحق، وأن غرضه من ذلك هو تقديم رواية تقليدية لهذه الحياة في خطوطها العامة، وليس تفسيرها، أو اختبار مصداقيتها (ص12). ولكنه يشكك باستمرار بكل ما يقدمه. يكتب على سبيل المثال عن «الحياة المبكرة»للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول:

«ولد محمد في تاريخ غير مؤكد نحو عام 570م (وعند وفاته في عام 632م، كان في الستين، أو الثالثة والستين، أو الخامسة والستين تبعًا لاختيار المرء للمرجعيات). ولم يتلق رسالته بوصفه نبيًا حتى بلوغه الأربعين (أو الثالثة والأربعين، أو الخامسة والأربعين)؛ أي: نحو عام610م» (ص14).

ويضيف لاحقًا:

«وعند ولادته انبثق معه نور تمكنت والدته به من رؤية قلاع بصرى في سورية» (ص14).

ويكتب عن أصول الإسلام في الفصل الثامن فيقول:

«من الضروري لفهم ما كان يفعله محمد من خلق ديانة جديدة، معرفة المصادر الدينية المتيسرة له، وصورها» (ص 77).

ويضيف متحدثًا حديث الواثق:

«وبالطبع فإننا، وبمعنى ما نعرف ذلك جيدًا وعلى نحو كامل. فلدينا بقايا أدبية غنية من التقاليد اليهودية والمسيحية، ونحن نعرف شيئًا ما عن وثنية الجزيرة العربية، ولكن المضي إلى ما وراء ذلك يغدو صعبًا» (ص77).

وبعدها يقدم للقارئ ما يهديه به من مقترح في النظر إلى صاحب الرسالة فيقول:

«وربما نود أن نفكر بمحمد على أَنَّهُ تاجر واسع الأسفار، وعلى معرفة بأشكال التقليد التوحيدي ذاتها المألوفة لدينا، أو ربما نفكر بأنه رجل ذو آفاق محلية أكثر، وأنه كان على صلة ببعض سبل التوحيدية العربية التي لم تُخلف أي أثر»(ص77).

ويخلص في نهاية المطاف إلى ما يريده من تأكيد لهذه الأصول فيكتب:

«وكما يمكن أن يكون متوقعًا، فإن التأثير اليهودي في القرآن بارز، ويمكن أن يرى على سبيل المثال في الطريقة التي تُسرد بها الروايات التوراتية في القرآن» (ص78). «ويمكن أن نأخذ مثالاً آخر على التأثير اليهودي من مفردات القانون الديني» (ص78).

أما ما يتصل بالتأثير المسيحي فإنه واضح تمام الوضوح بالنسبة إلى كوك الذي يكتب عن هذا التأثير فيقول:

«والعناصر القرآنية الأخرى هي مسيحية بالتحديد في أصولها» (ص79).

ويضيف مشيرًا إلى تأثيرات أخرى مدفوعًا بنزعة التشكيك لديه:

«وهناك كذلك إمكانية تأثيرات مجموعات توحيدية معروفة أخرى»، يذكر من بينها المجموعة «السامرية» (ص79).

وثمة في النهاية التقاليد الوثنية في جزيرة العرب في العصر الجاهلي؛ ذلك أن كوك يرى أن من المرجح أن بعض الوصفات القرآنية -بشكل خاص- هي تبنّيات لعادات دينية للجزيرة العربية الوثنية (ص80).

وفي محاولته قفل الحديث في خاتمته، يكتب، وعلى نحو مثير للاشمئزاز في نظرته إلى المواريث الدينية السماوية، التي تبدو له بقاياها مثل نفايات تفترش المشهد المعاصر:

«لقد رأى «محمد» نفسه تبعًا للتراث اللبنة الأخيرة في صرح النبوة التوحيدية. ونحن نعيش اليوم في مشهد مفروش -هو يستعمل كلمة لها إيحاؤها الخاص وهي Littered- ببقايا الأبنية المهدمة لصروح كهذه. فما الذي يمكن أن نرى إسهام محمد في هذا المشهد، واللبنات ليست غير صلصال بالنسبة لنا؟» (ص88).

وفي محاولته الجواب على سؤاله البلاغي يعترف بأن أي جواب سيقدمه سيكون بالضرورة اعتباطيًا وعلى نحو صارخ، ولذلك فإنه سيسعى إلى مجرد تحديد مواصفة الإسلام التي أثرت فيه خلال تأليفه لهذا الكتاب الذي يدور حول سيّد من سادة الماضي. وهكذا نراه يكتب مقارنًا بين الأديان التوحيدية الثلاثة:

«إن كلاً من اليهودية والمسيحية ديانة تعاطف عميق: اليهودية بحلمها بالافتداء العرقي من البؤس الحاضر، والمسيحية بخلاصها الفردي من خلال معاناة إله المحبة. والتعاطف العميق في كل حالة مؤثر حقًا، ولكنه التعاطف الذي يروق بسهولة لعاطفة الشفقة الذاتية. وعلى النقيض من ذلك فإن الإسلام متحرر -وعلى نحو مثير- من هذه الغواية. والكآبة التي رأيناها في تصوره لصلة الله بالإنسان هي الكآبة الأصيلة الحقيقية للكون نفسه» (ص88-89).

ولذا فقد كان من الطبيعي أن يكتب أحد مراجعي كتاب كوك عند صدوره:

«إن كوك يبدي عداءً وانحيازًا عظيمين تجاه محمد الرجل، وتجاه تعاليم الإسلام…وهذه هي بالتأكيد رؤية منحازة جدًا، ورؤية ملطخة بالإلحاد للإسلام»(28).

الأنموذج الثالث: محمد: سيرة للنبي لـ كارين آرمسترونغ، Karen Armstrong

Muhammad: A Biography of the Prophet

وإذا كان كتاب مارتن لينغز يستند أساسًا إلى المراجع الإسلامية ويقدم صورة للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كما تبدو في المصادر العربية دون كبير مساءلة، بل إنه يتوارى تمامًا إلى درجة عدم التقديم لعمله؛ وكان كتاب مايكل كوك يقوم على التشكيك في كل ما يتصل بهذه الشخصية، وما صدر عنها، بل ويعمد - على وجه الإجمال - إلى تجاهل المصادر الإسلامية، إلاّ ما كان من إشاراته إلى سيرة ابن إسحق التي لا يمل من مساءلتها وإثارة الشكوك التي تستهدف مصداقيتها؛ فإن ما يميز كتاب «محمد:سيرة للنبي» لكارين آرمسترونغ طبيعة التكوين الثقافي لمؤلفته التي أمضت سبعًا من سنين عمرها في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية راهبة، ثُمَّ تخلت عن حياة الأديرة عندما وجدتها لا تجسد رؤيتها الدينية الخاصة بها، ومضت بعدها إلى دراسة الأدب في جامعة أكسفورد، ثُمَّ إلى تدريسه، والانشغال بالتعليق على الشؤون الدينية، لتغدو واحدة من أبرز المعلّقين على هذه الشؤون في العالم الأنكلو-أمريكي، وتدرّس لاحقًا في كلية ليو بايك Leo Baeck لدراسة اليهودية، وتدريب الحاخامات والمدرسين، وتؤلف الكتب المعنية بالتجربة الدينية وعلاقات الأديان السماوية فيما بينها بشكل خاص، محفوزة بما يجري في العالم المعاصر(29).

وفضلاً عن تكوين المؤلفة فإن مساءلتها للتقاليد الدينية والثقافية، ولا سيما ما اتصل منها بالعلاقات بـ«الآخر» أمر لافت للنظر في تدبّرها لسيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث نراها تعمد إلى بيان «أسباب عداوة الغرب للإسلام ممثلاً في شخص محمد -صلى الله عليه وسلم-»(30)، و«لتجليات تلك العداوة وأصولها، والتهم التي كيلت لمحمد وللإسلام، ثم تحولت إلى أساطير أصبحت لها مصداقية الحقائق التاريخية»(31)، وتردّها إلى أسبابها الحقيقية المتمثلة بـ«الجهل والخوف»، مبيّنة تناقضاتها واعتباطيتها.

تكتب كارين آرمسترونغ - في تقديمها - عن علاقتها برسالة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن السبب الأساسي لتأليفها لكتاب عن سيرته فتقول:

«إن للتفسير الإسلامي لعقيدة التوحيد عبقريته الخاصة به، ولديه أشياء مهمة نتعلمها منه»، ثُمَّ تضيف عن تنامي معرفتها بهذا التفسير:

«ومنذ أن استرعى الإسلام انتباهي غدوت بالتدريج واعية بذلك. وكنت حتى بضع سنوات خلت أكاد أجهل هذا الدين تمامًا. وجاءتني أول إلماعة إلى أنه تراث يمكن أن يخاطبني عندما كنت في إجازة في سمرقند. وهناك وجدت أن العمارة الإسلامية تفصح عن روحانية تُرجِّع أصداء ماضيّي الكاثوليكي. وفي عام 1984 كان عليّ أن أعدّ برنامجًا عن الصوفية أو التصوف الإسلامي، وقد أثّر فيّ -وعلى نحو خاص- تقدير الصوفيّ للأديان الأخرى، وتلك صفة لم أعثر عليها بالتأكيد في المسيحية. وتحدّى هذا كل شيء سلّمت به عن الإسلام، ورغبت في أن أعرف المزيد. وفي نهاية المطاف، وخلال دراستي للحروب الصليبية والصراع الراهن في الشرق الأوسط، اهتديت إلى حياة محمد، وإلى القرآن أو الكتاب المنزّل الذي جاء العربَ به. إنني لم أعد مؤمنة أو ممارسةً مسيحية، ولا أنتمي إلى أية ديانة رسمية؛ ولكني في الوقت نفسه الذي كنت أراجع فيه أفكاري عن الإسلام كنت أعيد النظر كذلك في التجربة الدينية ذاتها.

لقد تصور العرّافون والأنبياء في كل الأديان الكبرى رؤًى متشابهة على نحو مثير لحقيقة تجاوزية نهائية. ومهما يكن تفسيرنا لهذه التجربة الإنسانية، فإنها حقيقة من حقائق الحياة. والبوذيون ينكرون بحق أن هناك أي شيء فوق-طبيعي في هذه التجربة، فهي حالة ذهنية طبيعية بالنسبة للإنسانية؛ ولكن الأديان التوحيدية تدعو هذا «التعالي» الله.

وإني أعتقد أن محمَّدًا مرّ بهذه التجربة وأَنَّه قدّم إسهامًا متميزًا وقَيِّمًا للتجربة الروحية الإنسانية. وإذا كان لنا أن ننصف جيراننا المسلمين، فإن علينا أن نقدّر هذه الحقيقة الأساسية، ولهذا قمت بكتابة هذا الكتاب»(32) (ص 13-14).

يضم كتاب آرمسترونغ مدخلاً، وعشرة فصول، فضلاً عن الخرائط، ومخططات الأنساب المتصلة بقبيلة قريش ومحمد -صلى الله عليه وسلم-، والأسر الأخرى ذات الصلة. وثمة بالطبع ثبت بالمراجع التي استندت إليها في تأليف هذه السيرة.

ولأنها تنظر «إلى النبي من وجهة نظر شخص ذي تصورات مسبقة محددة عن الإسلام» فإنها تقدم سيرة النبي من خلال حوار مستمر وهادئ ومثير مع هذه التصورات، تسائلها وتناقشها وتختبر مقدار اتساقها وانسجامها الداخلي، لتبين في معظم الأحيان - وعلى نحو غاية في الوضوح- مقدار ما تنطوي عليه من التناقض والأهواء، والانقياد لنوازع الكراهية التي حكمت نظرة الغرب عامة إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-. ولهذا نراها تبدأ كتابتها بفصل ذي عنوان موح هو «محمد العدو» (ص:21-44)، تـتتـبَّع فيه المعرفة الغربية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتربطها على نحو بوقائع المواجهة بين الإسلام والغرب، والتي سادتها مشاعر الخوف والكراهية والعداوة على نحو غير مسبوق في التاريخ الإنساني.

لقد جعل الخوفُ من الإسلام الغربَ غير قادر على الإطلاق على أن يكون موضوعيًا أو عقلانيًا في نظرته لهذا الدين، وهذا مناقض تمامًا لما كان -ولا يزال- يزعمه عن نفسه من عقلانية وموضوعية في دراسة الآخر.

ومعنى هذا أن صورة الإسلام ونبيّه في الغرب ليست جزءًا من تاريخ الفكر الأوربي بمقدار ما هي «جزء من تاريخ المخيلة الأوربية»(33) على حد تعبير ريتشاردز سوذرن. ولذا فإن «الصورة التخيلية لماهوند في الآيات الشيطانية (لسلمان رشدي) ترجّع -وبعمق- أصداء هذه الخيالات الغربية الراسخة»؛ لأنها في الأصل تصدر عن هذه الخيالات.

يكتب سوذرن عن طبيعة الإسلام وشخصية نبيه كما تبدو في مرآة الغرب في العصور الوسطى:

«كانت الصورة التي تكونت لدى الغربيين عن طبيعة الإسلام وشخصية نبيه في النصف الأول من القرن الثاني عشر الميلادي نتاج الانتصار الأول للفرسان الصليبيين، وقد جمعت أجزاء هذه الصورة في جنوبي فرنسا؛ وأسهم في تركيبها في الغالب الفرسان العائدون، والكهنة والرهبان ممن لم يعرفوا جبهات القتال عن كثب. لقد كان هؤلاء يزوّدون المخيلة الأوربية أمام مواقد النار في الشتاء بطرائف عن الشرق والإسلام والنبي. ووصلت هذه الصورة الخيالية المتكونة إلى المدارس والأديرة الوسيطة بعد وضعها في شكل مدرسي يشجع على قبولها. وأدّى ذلك في النهاية إلى انطباع شعبي مروّع وعجيب في قدرته على البقاء، ومقاومته لكل المعلومات الصحيحة ونصف الصحيحة التي توالت فيما بعد»(34).

وهكذا احتضنت القصة الشعبية هذه الصورة التي أنتجتها «المخيلة الأوربية الغنية الشطاحة»، وجاء الشعر الشعبي الأوربي فيما بعد:

«ليردد الصورة الخيالية المتكونة عن الإسلام جيلاً بعد جيل دون أن يطرأ عليها تعديل ملحوظ. وكانت العامة تنتظر من هذه الشخوص الشعبية -مثلما هو في الحكايات والمرويات- أن تتصرف بطريقة معينة؛ ولذلك لم يطرأ على النموذج الأول المعهود كبير تغيير يمكن أن يخلّ بالصورة المنتظرة. وهكذا بقي الإسلام وبقي نبيّه عند الغربي العادي مسجونين في الصورة الخيالية الأولى لعدة قرون. وليس سهلاً هنا تحديد الوقت الذي أدرك فيه الجميع أن صورتهم عن الإسلام والشرق طفولية تمامًا هدفها الإخافة والاستهزاء»(35).

لقد جعلت منزلة ماهوند التخييلية الغرب غير قادر على رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- بوصفه شخصية تاريخية، لها وجودها التاريخي الواقعي الفعلي كما هو الشأن في معالجته لنابليون، أو الاسكندر المقدوني. ولذا فإنه لجأ إلى الأسطورة ليفسر نجاح النبي -صلى الله عليه وسلم- في نشر الإسلام وإقامة دولته التي امتدت في الأزمنة اللاحقة لتشمل جلّ العالم القديم.

تكتب كارين آرمسترونغ عن لجوء الغرب إلى أسطورة ماهوند التي لفقها لـ«محمد العدوّ»، فتقول:

«وقد زعمت الأساطير في شرحها لنجاح محمد أَنَّهُ ساحر دبّر«معجزات» زائفة حتى يخدع العرب السذج، ويدمّر الكنيسة في إفريقية والشرق الأوسط. وتتحدث واحدة من الحكايات عن ثور أبيض أرهب الناس، وظهر -آخر الأمر-، والقرآن وهو الكتاب المنزّل الذي جاء به محمدُ العربَ يتهادى بين قرنيه على نحو معجز. وقيل: إن محمدًا قد درّب حمامة على التقاط حبات بازلاء من أذنيه حتى يبدو وكأن روح القدس يهمس فيهما. وقد فُسِّرت تجاربه الصوفية بالزعم بأنه كان مصابًا بالصرع، والذي كان يفضي - في ذلك الوقت - إلى القول بأنه رجل مسكون بالجن. وجرى الحديث عن حياته الجنسية، ونسب إليه كل شذوذ معروف لدى الرجال، وقيل: إنه شدّ الناس إلى دينه بتشجيعهم على الانقياد إلى أحطّ غرائزهم. ولم يكن هناك أي شيء صادق في مزاعم محمد، فهو دجّال عامد خدع كل شعبه تقريبًا» (ص 26-27).

وبمقدار ما تعكس صورة النبي -صلى الله عليه وسلم- القاتمة هذه كراهية الغرب له، فإنها في الوقت نفسه تفصح عن الازدواج في نفسية الغرب «التي ترى "الإسلام" بوصفه صورة لكل شيء فيها لاتستطيع أن تستسيغه» (ص 29).

ولذا فإن على الغرب أن يواجه هذه الصورة في نفسه، ويتبين حوافزها حتى يستطيع أن يكسب مجددًا ثقة العالم الإسلامي. إن عليه أن يتخلى عن كراهيته المتأصّلة للإسلام، وعندها يدرك حقيقة الصورة التي يلفّقها له في كل عصر.

تعبيرًا عن هذه الكراهية تضيف آرمسترونغ:

«إننا ننتج باستمرار رواسم جديدة للتعبير عن كراهيتنا، التي يبدو أنها متأصلة للإسلام. فقد كنا في السبعينات مسكونين بصورة شيخ النفط الغني غنًى فاحشًا؛ وفي الثمانينات بصورة آية الله المتعصب؛ ومنذ مسألة سلمان رشدي أصبح الإسلام دينًا يهدر دم الإبداع والحرية الفنية» (ص43).

ولكن أيًّا من هذه الصور «لا يعكس الحقيقة الأكثر تعقيدًا على نحو لا نهائي» (ص43).

إن قسطًا من «المشكلة الغربية هي أن محمدًا قد نظر إليه على أنه نقيض للروح الدينية، وعدو للحضارة المهذبة. وربما كان علينا أن نحاول بدلاً عن ذلك أن ننظر إليه على أَنَّهُ رجل روح، استطاع أن يجلب السلام والحضارة لقومه» (ص44).

وهكذا تمضي آرمسترونغ لتتناول سيرة النبي في الفصول التالية، وتقدمها تقديمًا تاريخيًا يسوده الحوار والنقاش الهادئ بين صورتين للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-:

- الصورة التي تحكم المخيّلة الغربية والتي تفصح عن صانعها أكثر مما تفصح عن موضوعها.

- والصورة التي تكشف عنها المصادر والروايات التاريخية الموثوقة التي تقاربها المؤلفة مقاربة مقارنة؛ وذلك بغرض الوصول إلى ما تراه من حقيقة عن هذه الشخصية العظيمة.

وبمقدار محاولة آرمسترونغ مساءلة الصورة الغربية والكشف عما تنطوي عليه من تناقض وأهواء ونزعات وكراهية ومواقف متكافئة الضدين في أكثر الأحيان؛ فإنها تلجأ -وربما إرضاءً لأصحاب هذه الصورة- إلى تقديم رواية أكثر قبولاً لديهم، على الرغم من بعدها عن حقيقة التصور الإسلامي. ويبدو أن انشغالها بالتجربة الدينية للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قد طغى على كل شيء في تفكيرها فغدت تحاول تفسير هذه التجربة وشرحها لنفسها أولاً قبل أن تشرحها للآخرين. وبسبب تكوينها الثقافي فَإِنَّهَا تعمد باستمرار إلى المقارنة بين الموقف الغربي من اليهود والموقف الغربي من المسلمين والإسلام. وفي ذلك ما فيه من فقدان لحس النسبة في النظر إلى الأمور. فليس ثمة مجال للمقارنة بين المسلمين واليهود في علاقاتهم بالغرب، أو في إسهامهم الحضاري، أو في مجرد حجم مجتمعاتهم، وطبيعة ما سادها من قيم اجتماعية وروحية ولا سيما ما اتصل بعلاقاتهم بـ«الآخر»، حيث اتسم الإسلام عامة بروح التسامح واللين والرفق بأهل الكتاب بشكل خاص، وهو أمر تؤكده المؤلفة في مختلف فصول الكتاب.

وعلى أي حال فإن تقديم بعض الأمثلة من معالجة المؤلفة لبعض المسائل الشائكة والشائقة في آن معًا يوضح ما تقدم. ففي معرض مناقشة كارين آرمسترونغ لرحلة الإسراء والمعراج تشير بوضوح إلى أن بعض المسلمين يؤكدون «أن محمدًا قد قام بالرحلة إلى عرش الله بالجسم»، ولكنها لا تلبث أن تضيف مباشرة: أن ابن إسحق يستشهد بحديث مروي عن عائشة يكشف بوضوح «أن الإسراء والمعراج كانا مجرد تجربتين روحانيتين» (ص 140). وتمضي بعدها لتفسير هذه التجربة الروحية من خلال مقارنتها بتجارب روحية من التقاليد الدينية الأخرى كالبوذية واليهودية، واستنادًا إلى بعض معطيات التحليل النفسي. (ص 140-141).

وفي مناقشتها لتعدد زوجات النبي تسعى آرمسترونغ إلى مناقشة المسألة في سياقاتها التشريعية والاجتماعية والسياسية، وتنفي ما يزعمه نقاد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- من أَنَّهَا ممارسة تنطلق من شوفينية ذكورية صرفة. ذلك أنها في رأيها تشريع اجتماعي (ص190)، ولاسيما بعد غزوة أحد التي كان لا بد أن يتلوها تدبير يكفل الاستقرار الاجتماعي والمادي للأسر التي نكبت بفقد سيدها. وهي كذلك ضرورة سياسية أحيانًا وتعزيز لصلات النبي بالقبائل العربية المختلفة كما هو الشأن في زواجه من زينب بنت خزيمة أرملة عبيدة بن الحارث شهيد بدر، الذي أريد له أن يعزّز صلة النبي بقبيلة بني عامر، ومن أم سلمة لاحقًا بغرض توطيد علاقاته بمخزوم؛ وفضلاً عما تقدم فإن هذه الممارسة - في بعض الأحيان - تأكيد لبطلان صلات التبني في الإسلام كما في زواجه من زينب بنت جحش التي طلقها زيد.

ولعل أفضل ما يبين عن موقف الباحثة بصدق ما تختم به كتابها من رأي في العلاقة بين الإسلام والغرب، تكتب كارين آرمسترونغ:

«والواقع أن الإسلام والغرب يشتركان في تراث عام. وقد تبيّن المسلمون ذلك منذ زمن النبي محمد، ولكن الغرب لا يستطيع قبول ذلك. وقد بدأ بعض المسلمين اليوم بالتحوّل ضد ثقافات أهل الكتاب التي أذلّتهم واحتقرتهم حتى أنهم بدؤوا بأسلمة كراهيتهم الجديدة. وغدت شخصية النبي المحبوب مركزية في واحد من آخر الصدامات بين الإسلام والغرب في أثناء مسألة سلمان رشدي. وإذا كان على المسلمين أن يفهموا تقاليدنا ومؤسساتنا الغربية على نحو أكثر دقة، فإن علينا في الغرب أن نخلِّص أنفسنا من بعض تحاملنا القديم. وربما كانت شخصية النبي أحد المواضع التي يمكن البدء بها، وهو الرجل المركّب والمتوقد العاطفة الذي قام أحيانًا بأشياء يصعب علينا قبولها. والذي كان ذا عبقرية تنتمي إلى نظام بعيد الأغوار، وأسس ديانة وتقليدًا ثقافيًا لم يقوما على السيف، على الرغم من الأسطورة الغربية، والتي يدل اسمها «الإسلام»على السلام والتصالح» (ص 266).

2- صفوة القول

وربما كان على المرء أن يشير في خاتمة دراسته لصورة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في الكتابات الأنكلو-أمريكية إلى جملة من الأمور التي يحسن بدارسي السيرة النبوية ومؤلفيها أن يضعوها في أذهانهم عند تدبر موضوعهم الجليل، الشائك، والخطير في آن معًا لما ينطوي عليه من تضمنات ليس للمسلمين فقط، وليس لغيرهم وحسب، وإنما للعلاقات الإنسانية بين الفريقين كذلك.

1- وأول هذه الأمور أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إنسان ينتمي إلى البشر، وليس إلى أي صنف آخر من المخلوقات العليا، وأنه ليس على أية صفات «فوق طبيعية»«supernatural»، أو«فوق إنسانية» «superhuman» إِلاَّ بمقدار كون هذه الصفات جزءًا لا يتجزأ من المعجزات المؤيدة لنبوته، والتي أرادها الله دلائل للناس كافة على هذه النبوة، تؤكد مصداقيتها ومصداقية صاحبها. ولذلك فإن من الأهمية بمكان أن يدرس بوصفه إنسانًا كلاً متكاملاً، وأن ينظر إلى ما صدر عنه من قول وفعل وصفة وتقرير (أي مجموع سنّته) على أنه يشكّل وحدة منسجمة تنبع من وحدة المصدر -أي النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- نفسه- مثلما تستجيب لوحدة العالم الذي يحيط بهذا المصدر.

ومعنى هذا أن أي مظهر من مظاهر السلوك النبوي، أو أي قول، أو فعل، أو صفة، أو تقرير يتصل بأي وجه من وجوه الحياة الإنسانية، وعلى أي مستوى من المستويات، ينبغي أن يُدرس، ويُفسر، ويتدبّر، من خلال علاقاته المعقدة مع سائر الكل ومكوناته المختلفة.

لقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- الابن، والحفيد، وابن الأخ، والزوج، والأب، والسيد المقدَّم في قومه، والوكيل الثقة الأمين قبل بعثته. وكان بعد البعثة كل ذلك مضافًا إليه النبي، والزعيم السياسي، والقائد العسكري، والمفاوض، والمفسر لتشريع الله، والمعلِّم، والحكم، وحامل رسالة سماوية للإنسانية كافة، مثلما كان محقق أهداف ومطامح دنيوية تجسد قيم هذه الرسالة في الحق والعدل والخير والمساواة.

ومن الضروري أن يدرس كل ما يتصل به من خلال جملة الوظائف الدينية والدنيوية التي نهض بها في مجتمعه الذي نشأ وترعرع ونما فيه وتطّور إلى أن بلغ به ما بلغ من وحدة وقوة وتطلعات؛ لأن أية دراسة جزئية لن تكون مجدية في الفهم الحق لهذه الشخصية الفذة الرائدة في تجسيدها لتطلعات الإنسان نحو مستقبل أفضل.

2- وثاني هذه الأمور أن شخصية النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- شخصية عالمية كونية إنسانية بمقدار كونها شخصية عربية إسلامية. لقد بعث -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين. وإذا ما نُظر إليه بأي منظور، وقيس بأي مقياس، وقدِّر بأي معيار؛ فَإِنَّهُ يبرز مخلِّفًا وراءه الكثيرين من نظرائه على أي مستوى من المستويات، وربما بمسافات شاسعة.

ولذا فإن دراسته وتدبر وجوه سيرته وشخصيته مسائل لا يمكن أن تقتصر على المسلمين وحدهم، بل ينبغي أن يسهم بها كل من يمتلك المعرفة بصاحب هذه الشخصية أو من تتيسر له مصادر دراستها. ومعنى هذا أن على الغربيين أن ينظروا فيما يكتبه الباحثون العرب والمسلمون عامة عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مثلما أن على هؤلاء الأخيرين أن ينظروا فيما يكتبه الغربيون ويأخذونه بالحسبان، وذلك بدلاً من هدر طاقات كل فريق وقدراته فيما لا يغني فهمنا لصاحب هذه الشخصية.

ولعل المرء يطمح إلى أكثر من هذا، فيرغب في أن يرى مسألة تدبّر شخصية النبي وسيرته مسعى ينهض به الباحثون من شرق العالم وغربه، وشماله وجنوبه؛ وذلك بغرض فهم التجربة الغنية لصاحب هذه السيرة في وجوهها الدينية، والسياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، والفنية، وتبيّن دورها الفاعل في المجتمعات الإسلامية المختلفة قديمًا وحديثًا.

ولربما لا يبالغ المرء إن زعم أن شراكة معرفية من هذا النوع الذي ينصرف إلى دراسة حياة رجل عظيم كالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ستقود في نهاية المطاف إلى الارتقاء بمستوى العلاقات الإنسانية بين الشرق والغرب؛ وذلك بعد إزالة الجهل بـ«الآخر»، وما ينتج عنه من مخاوف وأهواء ونزعات عدوانية ورفض من جهة، وسعي من جهة أخرى إلى تدجينه واحتوائه، والتحكم بمقدراته وتحديد مصيره. وعندها يتبين للغرب أن هذه الشخصية تمثل أسمى القيم الإنسانية النبيلة وتجسدها، وأن أتباع رسالة الإسلام الذين يتخذون من حامل هذه الرسالة الأسوة الحسنة أبعد ما يكونون عن الإرهاب والتزمت والتعصب وكراهية الغرب، مِـمَّا بات يحرص على نشره دعاة المواجهة من الغربيين في السنوات الأخيرة.

3- وثالث هذه الأمور هي أن معظم الكتابات الغربية التي تناولت شخصية النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أو حياته وما يتصل بها ملوّثة بفيروس مناخ المواجهة بين الشرق والغرب، وبالتالي فإنها تنتمي إلى نظام من المعرفة محكوم بعلاقات القوة والمصالح الدنيوية التي كثيرًا ما تتخذ الدين مظلة أيديولوجية لها، تغطيها وتسوغ عقابيل استخدامها ذريعة لتدجين الآخر واحتوائه والسيطرة عليه وتقرير مصيره. ومن الحيوي لهذه المعرفة إذا ما أريد لها أن تسهم في الارتقاء بمستواها النوعي، وفي إغناء فهمنا لموضوعها، وفي المشاركة في تعزيز التفاهم بين الأمم والشعوب؛ أن تطهّر نفسها وبشتى الوسائل من فيروس القوة والمصالح الدنيوية والنزعات الأيديولوجية المختلفة التي تحفزها. وعندها يصبح الوصول إلى الحقيقة هو الهدف الأسمى للمعرفة التي ينبغي أن تتخذ سبيلاً لنشر المحبة والسلام بين الأمم والشعوب، وليس لتأجيج نار العداوة والبغضاء والكراهية التي تستعر هذه الأيام في بعض دوائر الغرب تجاه ما يسمى بخطر الإسلام.

**********

الهوامش

*) باحث وناقد من الجمهورية العربية السورية.

1. انظر:

Salman Rushdie, The Satanic Verses (The Consortium, Inc., Dover, Delaware,1992)

2. انظر: The Rushdie File, Edited by Lisa Appignanesi and Sara Maitland (Fourth Estate, London, 1989)

3. انظر: إشارة آن ماري شيمل لهذه المفارقة في:

Annemarie Schimmel, And Muhammad is His Messenger: The Veneration of the Prophet in Islamic Piety (The University of North Carolina Press, Chapel Hill and London, 1985), pp. 5 and 263-4.

4. انظر: Karen Armstrong, Muhammad: A Biography of the Prophet (Harper San Francisco, New York, 1992) p.26.

5. انظر:

Muhammad Manazir Ahsan, “Forward” in: " Jabal Muhammad Buaben, Images of the Prophet Muhammad in the West: A Study of Muir, Margoliouth and Watt (The Islamic Foundation, Leicester, 1996) p. xiv.

6. انظر: كتاب آن ماري شيمل المشار إليه في الحاشية رقم(3) وكذلك كتاب

Kamal Abdel_Malek, Muhammad in the Modern Egyptian Popular Ballad (E.J. Brill, Leiden, 1995)

7. انظر: Muhammad Manzir Ahsan, Ibid, pp.xiv_xv

8. انظر:

D. S. Margoliouth, Mohammad and the Rise of Islam (The Knickerbocker, New York and London,1905)

9. انظر: Th. Menzel, The Life and Religion of Mohammad, the Prophet of Arabia (Sands and Company, London, 1912)

10. انظر: Edward Sell, The Life of Mohammad (The Christian Literature Society, for India, 1913)

11. انظر: G.M.Draycott, Mohamet_The Founder of Islam(1915)

12. انظر: Theodora Barton, Talks on Mohammed and His Followers (Edinburgh House Press, London, 1932)

13. انظر:

M. Watt, Muhammad at Mecca (Clarendon Press, Oxford, 1953) Muhammad at Medina (Oxford University Press, 1956)

14. انظر:

Alfred Guillaum, The Life of Muhammad-Translation of Ibm Ishaq`s Sirat Rasul Allah Oxford University Press, Oxford, 1955)

15. انظر:

Michael Edwarde, The Life of Muhammad, Apostle of Alla (The Folio Society, London, 1964(

16. انظر:

E. R. Pike, Mohammad-Prophet and the Religion of Islam (Weidenfeld and Nicolson, London,1968)

17. انظر:

John Bagot Glubb, The Life and Times of Muhammad (Hodder and Stoughton, London,1970)

18. انظر:

Michael Cook, Muhammad (Oxford University Press,Oxford,1983)

19. انظر:

Martin Lings, Muhammad:his life based on the earliest sources (Inner Traditions, Rochester,Vermont,1983)

20. انظر:

Karen Armstrong, Muhammad:A Biography of the Prophet (Harper-Collins Publishers, New York, 1992)

21. انظر: كارين آرمسترونغ، سيرة النبي محمد، ترجمة د. فاطمة نصر ود. محمد عناني (كتاب سطور(1)، القاهرة، 1998)

22. من أجل مزيد من التفاصيل عن هذه الكتب المترجمة إلى الإنكليزية، أو المؤلفة بها، وتلك التي تضم فصولاً عن النبي مُـحَمَّد (ص)، والمقالات التي تضمها بطون الدوريات، والرسائل الجامعية انظر الفصل الرابع والبيبليوغرافيا من كتاب:

Jabal Muhammad Buaben, Ibid,, pp.131-167 and pp. 339-383.

23. انظر: Karen Armstrong, Ibid, p. 14.

24. انظر:

Patricia Crone and Michael Cook, Hagarism: The Making of the Islamic World (Cambridge University Press, Cambridge, 1977)

25. انظر: المرجع السابق، ص((viii.

26. انظر: عبد النبي اصطيف، "نحن والاستشراق: ملاحظات نحو مواجهة إيجابية "، المستقبل العربي (بيروت)، العدد (56)، 10/1983، ص(33-34).

27. تشير جميع الأرقام الواردة بين قوسين في متن الدراسة إلى صفحات الكتاب المناقش.

28. انظر:

A. W. Boase, Muslim World Book Review, vol. 4, no. 3 (1984), pp. 6-7. Cited in Buaben, Ibid, p. 154.

29. من كتب كارين آرمسترونغ العديدة يمكن للمرء أن يشير إلى:

المسيحي الأول: تأثير القديس بول في المسيحية.

ألسنة النار: مختارات من التجربة الدينية والشعرية.

الإنجيل تبعاً للمرأة: خلق المسيحية لحرب الجنس في الغرب.

الحرب المقدسة: الحروب الصليبية وتأثيرها في عالم اليوم.

التصوف الإنكليزي في القرن الرابع عشر.

تاريخ للإله: 4000 سنة من مسعى اليهودية، المسيحية والإسلام.

تاريخ للقدس: مدينة واحدة وثلاثة أديان. (وقد ترجم إلى العربية في كتاب سطور).

30. انظر: د. فاطمة نصر ود. محمد عناني "محمد هذا الإنسان"، في كارين آرمسترونغ، المرجع السابق، ص(7).

31. انظر: المرجع السابق، ص(5).

32. انظر: تشير جميع الأرقام الواردة بين قوسين في متن الدراسة إلى صفحات الكتاب المناقش.

33. انظر: ريتشارد سوذرن، صورة الإسلام في أوربا في العصور الوسطى، ترجمة وتقديم رضوان السيد (كتاب الفكر العربي 7، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1984) ص(66).

34. انظر: المرجع السابق، ص(64-65).

35. انظر: المرجع السابق، ص65.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=27

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك