السنة والشيعة نظرة للوراء

محمد فتحي النادي

 

لا يحتاج المطالع لما نحن فيه أن يدله أحد أو يأخذ بيده ليُعْلِمه بمدى تعمق فجوة الشقاق ما بين السنة والشيعة، ووصولها إلى حد خطير ينذر بعواقب وخيمة تحِل على الجانبين، ويخرج كلا الفريقين وهو خسران.

وهذه الفجوة ضاربة بأطنابها في جذور التاريخ الإسلامي، وليست وليدة الساعة؛ فهي قضية متلازمة معنا، ولا يمكن بجرة قلم، أو بمؤتمرات تعقد، أو بمقالات تكتب أن تحُل هذه القضية، ولكن يمكن أن نتعايش معها، وننحي التصارع جانبًا.

ويأتي هذا الصراع من محاولة كل طرف أن يبسط نفوذه على الآخر سواء كان نفوذًا عقديًّا، أم سياسيًّا، أم جغرافيًّا باحتلال الأرض.

والصراع يتشكل حينما لا يقبل كل طرف من الأطراف -أو أحدها- الآخر، فيعمل على اجتثاث الآخر بكل السبل المتاحة لديه.

ويسبق الصراع تقوقع كل فريق على نفسه بحيث لا يرى الآخر، وإن رآه يراه في زاوية العدو المترصد له.

هذا التقوقع على الذات هو مشكلة المشاكل، وبحلِّه ينحل الصراع؛ لأن المتقوقع على ذاته يرى أن الصواب المطلق معه دائمًا حتى وإن كان على خطأ عظيم، بل ولا يتصور أن هذه الدنيا لا تتسع لأحد معه.

والعجيب في العلاقة ما بين السنة والشيعة أن كلا الفريقين يقبل بتعايش ديانات أخرى بجانبه سواء أكانت سماوية أم وضعية، ولا يقبل بوجود الآخر.

ففي العراق -مثلاً- هناك النصارى واليزيدية والصابئة والذين عاشوا في هذا البلد قرونًا عدة، ولم نسمع أن حدث بينهم وبين المسلمين مثل ما يحدث الآن ما بين السنة والشيعة.

وكذلك في إيران يقبل الشيعي أن يتعامل مع الزرادشتية (عبدة النار) أو اليهود، ولا يقبل السني الذي يعيش معه في نفس الدولة.

لم كل هذا الخوف والترصد الذي يظهره كل فريق بالآخر؟!

تعالوا ننظر إلى العلاقة التي كانت تحكم السنة بالشيعة أيام السلف الصالح، ونحاول أن نجعلها الحكم بيننا الآن.

يقول الإمام ابن بطة في (المنتقى) ص(360): “عن عبد الله بن زياد بن جدير قال: قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة قال لنا شمر بن عطية: قوموا إليه فجلسنا إليه فتحدثوا فقال أبو إسحاق: خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما، وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون، ولا والله ما أدري ما يقولون”.

فالكوفة موطن التشيع منذ الإمام علي، ورغم ذلك كان التشيع هو مناصرة الإمام علي على الإمام معاوية.

يقول محب الدين الخطيب في حاشية “المنتقى”: “هذا نص تاريخي عظيم في تحديد تطور التشيع؛ فإن أبا إسحاق السبيعي كان شيخ الكوفة وعالمها، ولد في خلافة أمير المؤمنين عثمان قبل شهادته بثلاث سنين، وعمر حتى توفي سنة 127ﻫ، وكان طفلاً في خلافة أمير المؤمنين علي…”.

ويقول أيضًا تأكيدًا لنفس السياق الليث بن أبي سليم: “أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدًا….”([1]).

فهؤلاء هم الشيعة الأوائل وسلفهم، فلم الحيدة عن طريقهم؟ هذا من ناحية الشيعة.

أما من ناحية أهل السنة فهم قبلوا أن يتعاملوا مع الشيعة، وأن يأخذوا عنهم العلم، ولم يطرحوا العلم الذي يأتي عن طريقهم، يقول الذهبي في “ميزان الاعتدال”، (1/5): “التشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق. فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة… فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب عليًّا t وتعرض لسبهم.

والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضًا، فهذا ضال مفتر”.

ولذلك تجد علماء الحديث رووا عن الشيعة، ووثقّوا من كان ديّنًا ورعًا، ولم يضعِّفوه من ناحية اعتقاده، وإليكم بعض الأمثلة:

1- خيثمة بن سليمان الطرابلسي:

“قال عبد العزيز الكتاني: ثقة مأمون، كان يذكر أنه من العباد، غير أن بعض الناس رماه بالتشيع، مات سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة. قال غيث بن علي: سألت عنه الخطيب فقال: ثقة ثقة. فقلت: يقال: إنه كان يتشيع. فقال: ما أدري إلا أنه صنف فضائل الصحابة ولم يخص أحدًا”([2]).

2- علي بن المحسن أبو القاسم التنوخي:

قالوا عنه: “سماعاته صحيحة. قال ابن خيرون: قيل: كان رأيه الرفض والاعتزال. قلت: محله الصدق والستر انتهى. قال شجاع الذهلي: كان يتشيع يذهب إلى الاعتزال”([3]).

3- علي بن هاشم

قال الذهبي: “علي بن هاشم بن البريد، الإمام الحافظ الصدوق، أبو الحسن العائذي القرشي، مولاهم الكوفي، الشيعي، الخزاز، مولى امرأة قرشية. قال أحمد بن حنبل: ليس به بأس. وقال ابن معين، ويعقوب السدوسي، وعلي بن المديني، وطائفة: ثقة. وعن ابن المديني رواية أخرى: صدوق يتشيع. وقال الجوزجاني: كان هو وأبوه غاليين في مذهبهما. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: كان يتشيع، يكتب حديثه. وعن عيسى بن يونس قال: هم أهل بيت تشيع، وليس ثم كذب”([4]).

بل إن هناك علماء اشتهروا عندنا -نحن أهل السنة- وهم شيعة أو يميلون للتشيع، وإليكم بعض الأمثلة:

1- عبد الرزاق صاحب المصنف

قال الذهبي: “عبد الرزاق بن همام بن نافع، الحافظ الكبير، عالم اليمن، أبو بكر الحميري، مولاهم الصنعاني الثقة الشيعي. قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: إذا اختلف أصحاب معمر، فالحديث لعبد الرزاق. قال علي بن المديني: قال لي هشام بن يوسف: كان عبد الرزاق أعلمنا وأحفظنا. قلت: هكذا كان النظراء يعترفون لأقرانهم بالحفظ. قال أحمد العجلي: عبد الرزاق ثقة، كان يتشيع”([5]).

2- الحاكم صاحب المستدرك

تحدث الذهبي عنه فقال: “صنّف وخرّج، وجرّح وعدّل، وصحّح وعلّل، وكان من بحور العلم على تشيع قليل فيه.

وقال أبو بكر الخطيب: كان أبو عبد الله بن البيع الحاكم ثقة، أول سماعه سنة ثلاثين وثلاثمائة، وكان يميل إلى التشيع”([6]).

3-النسائي صاحب السنن

قال الذهبي: “لم يكن أحد في رأس الثلاثمائة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة، إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه”([7]).

هذا هو فقه السلف وقبولهم للآخر، مع علو كعبهم في العلم والتقى والورع، لم يجدوا بأسًا في التعامل مع الشيعة وقبولهم، وعدم نبذهم أو اطّراحهم.

وكذلك الشيعة عليهم أن يتعاملوا مع أهل السنة، وأن يطرحوا فكر الصراع من رءوسهم، أو بسط نفوذهم الشيعي بينهم.

فهذا هو الأصلح للأمة في الماضي والحاضر والمستقبل، فلا يتصور أن يكون هذان الفصيلان متحاربين، والعالم قد اتحد عليهما وتتداعى، وكلما ازداد الصراع بينهما فإن ذلك سيكون في صالح المتربصين بهما.

ألا فليسمع العقلاء من كلا الجانبين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


([1]) المنتقى، ص(360-361).
([2]) لسان الميزان، (1/374-375).
([3]) السابق، (2/212-213).
([4]) سير أعلام النبلاء، (8/342-343).
([5]) السابق، (9/563-566).
([6]) السابق، (17/165، 168).
([7]) السابق، (14/133).

المصدر: https://islamonline.net/23007

الأكثر مشاركة في الفيس بوك