المثاقفة بين الرغبة والحقيقة

المثاقفة بين الرغبة والحقيقة

فيصل درّاج*
يحيل مفهوم المثاقفة -نظرياً- على عقل إنسان جماعي، قوامه حوار الثقافات المختلفة، وغايته مجتمع إنساني متكامل لا نزاع فيه؛ غير أن الفرق المتجدّد بين الظواهر الإنسانية العيانية والخطاب النظري الذي يرد إليها، يجعل من المثاقفة دعوة أخلاقية مجزوءة التحقق. ذلك أن بعض العقول يؤمن بالبحث عن الحقيقة وبنشرها، خلافاً لعقول أخرى تؤمن باحتكار حقيقة جاهزة ونهائية.

يقول محمد إقبال في مقدمة كتابه «تجديد الفكر الديني في الإسلام»: «إن روح الفلسفة هي روح البحث الحر، تضع كل سند موضع الشك، ووظيفتها أن تتقصى فروض الفكر الإنساني التي لم يمحصها النقد إلى أغوارها. وقد تنتهي من بحثها هذا إلى الإنكار، أو إلى الإقرار في صراحة بعجز التفكير العقلي البحت عن اكتناه الحقيقة القصوى..»(1). يؤمن إقبال بالفكر المتحرر من الأحكام المسبقة، وبضرورة البحث والتقصي التي لا تبلغ - لزوماً- الحقيقة الأخيرة، بيد أنه وهو يبحث عن حقيقة عصيّة على الترويض، يؤمن أولاً بـ«الفكر الإنساني»، المتعدد الأبعاد، الذي راكم الخبرة في أزمنة وأمكنة متعددة. ولعل هذا الفكر المتسامح الطليق، هو الذي يجعله يصطحب معه في رحلة بحثه المتسامحة بيركلي وبيرغسون، وكانت وغيرهم إلى جانب موروث إسلامي، اختبره وتعرّف على تفاصيله. لكن ما يقول به الفيلسوف الباكستاني المسلم لا يقر به برنارد لويس، المفكر السياسي الأمريكي البريطاني الذي كتب عن العرب والمسلمين، حين يكتب: «عندما تتصادم حضارتان، تسود أحدهما وتتحطم الأخرى»(2)، تلغي ثنائية السيطرة والإخضاع إمكانية الحوار، وتلغي معها فرضية «الحقيقة المجزوءة»، ذلك أن «الحقيقة الجوهرية» قائمة في الصدام وفيما آل إليه.

يقدم عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستروس منظوراً خاصاً به، لا ينقصه التسامح ولا يعوزه الانفتاح، فهو يقول: «إن الإسهام الحقيقي لأية ثقافة لا يتكوّن من قائمة الاختراعات التي أنتجتها، بل من اختلافها عن غيرها. فالإحساس بالعرفان والاحترام لدى كل فرد في أية ثقافة تجاه الآخرين لا يقوم إلا على اقتناع بأن الثقافات الأخرى تختلف عن ثقافته في جوانب عديدة حتى وإن كان فهمه لها غير مكتمل..»(3).

يلامس ستروس سؤال المثاقفة مشيراً إلى عناصر ثلاثة، يقول: أولها: لا وجود لثقافة إِلاَّ في هوية محددة تميزها عن غيرها، فإن انتفى التميز انتفت الثقافة وأصبحت باطلة ولاغية، مما يجعل كل حديث سوي عن الثقافات حديثاً عن الهويات الثقافية.

ينطوي العنصر الأول على آخر يقول: لا وجود لثقافة محددة إِلاَّ في علاقتها بثقافات أخرى مختلفة عنها، كما لو كان الاختلاف قوام الهوية الثقافية وشرط حوارها مع الهوِيَّات الأخرى. فلا حوار بلا اختلاف ولا اختلاف بلا هوية، ولا هوية إِلاَّ بوعي الفرق بين «الأنا» و«الآخر».

يفضي العنصران السابقان إلى ثالث، يتحدث عن فضيلة الاعتراف المتبادل بين الثقافات المختلفة، دون النظر إلى ما تتفق فيه وتختلف عليه، لأن الاعتراف تعبير عن موضوعية الاختلاف وعن الوعي الموضوعي، الذي يحتفي بالحوار ويستنكر الإلغاء.

1- المثاقفة: إضاءة المفهوم:

تتعين المثاقفة -نظرياً- بحوار ثقافة محددة مع ثقافات مغايرة لها، بحثاً عن عقل ثقافي جماعي، يرى في المشاركة العادلة مبدأ، ويرى إلى خير إنساني مشترك. لكن ما يبدو واضحاً وبسيطاً، قوامه ثقافات مستقلة تحاور بعضها، يتكشف أكثر صعوبة مما يبدو، بسبب شروط الحوار الثقافي بلغة معينة، أو المثاقفة بلغة أخرى أكثر دقة.

فاعتراف ثقافة محددة بأخرى مختلفة عنها، يردّ إلى منظومتين من المفاهيم غير متجانستين بالضرورة:

الأولى منهما: منظومة معرفية، تشرح الظواهر الإنسانية بمقولتي: الصحيح والخطأ.

والأخرى منهما: منظومة أخلاقية، تؤوّل الظواهر بمصطلحي: الخير والشر.

ومع أن في المنظومة الأولى، وهي تستند غالباً على التجارب الإنسانية المتراكمة، ما يقرّب بين الثقافات المختلفة ويضيّق أوجه الاختلاف بينها، فلا أحد يماري في مكافحة الأمراض على سبيل المثال، فإن في المنظومة الثانية ما يظل عصياً على القبول الجماعي، بسبب اختلاف العادات والمعتقدات. كأن في المنظومة الأولى ما يحيل على تاريخ العلم والمكتسبات العلمية، وكأن في الثانية ما يستدعي الإيمان والعقائد التي قد تقبل بالعلم، دون أن ترى فيه حقيقة نهائية.

لا يقوم الإشكال في المنظومتين السابقتين المختلفتين، بل في تأويل نتائجهما، الذي يستولد المثاقفة السوية، أو يلغي شروطها. فإذا كان الاعتراف المتبادل بين الهويات الثقافية المتغايرة شرط المثاقفة ومقدمة لها، فإن انقلاب مقولتي الخير والشر إلى مقولتي الأقوى والأضعف، يجتث شروط المثاقفة ويفرض مرجعاً ثقافياً وحيدًا. شيء يذكر ببعض أفكار اليوناني أرسطو القديمة، التي تحدثت عن «سيادة الكمال على النقص، والقوة على الضعف، والفضيلة السامية على الرذيلة»(4). ومع أن القول يلوذ بكلمة الفضيلة فإنه وهو يواجه الضعف بـالقوة يعيّن القوة في ذاتها فضيلة أولى، وهو ما لا يأتلف مع معنى المثاقفة، الذي يستدعي مفهوم المساواة لا فكرة التفاوت.

فعلى خلاف المفهوم الأول الذي يوزع على بشر متساوين حقوقاً وواجبات متساوية؛ يقرر التفاوت مراتب بشرية، يسوس فيها الإنسان الأعلى الإنسان الأدنى. وعن معتقد تفاوت الثقافات البشرية تصدر سياسات ثقافية تترجمه، كأن يحاول الفرنسيون إبّان سيطرتهم على المغرب العربي تنصير البربر وإلغاء اللغة العربية والعبث بالتقاليد الموروثة، على اعتبار أن تمدين العرب لا يتحقق إِلاَّ بتحريرهم من لغة القرآن.

يفضي الحديث عن الفرق بين التفاوت والمساواة إلى حديث مواز عن: النسبي والكلي؛ إذ المفهوم الأول يرى إلى تنوع الثقافات الإنسانية، بينما يكتفي التصور الثاني باختزال التنوع إلى تصور ثقافي وحيد، هو تصور «الإنسان المتفوق». والفرق بين التصورين هو الفرق بين الأحادي والمتعدد؛ ذلك أن التنوع الثقافي يقضي بتنويع المعايير والرؤى والأحكام، على مبعدة عن تصور ضيق يضع «الهوامش البشرية» المختلفة في «مركز وحيد» يشرف عليها ويقف فوقها. وواقع الأمر أن هذا التصور، الذي يحتفل بـ«الأدنى» و«الأعلى» يسهم في «الركود الثقافي الإنساني»؛ لأن الإبداع الثقافي، وهو أحد وجوه المثاقفة، يصدر عن التنوع الثقافي والاعتراف به وتسهيل سبله. ولهذا فإن صرخة باسكال الشهيرة: «العرف هو طبيعتنا» لن تنتهي، رغم ضمانها الديني إلى شيء كثير، لأن العرف الذي يدعو إليه هو: «العرف القومي الفرنسي». كأن باسكال لا يحاور غيره، إِلاَّ إذا ارتضى هذا «الغير» أفكار الفيلسوف، قبل بدء الحوار، كما أشار الناقد الأدبي تودوروف في كتابه «نحن والآخرون»(5).

يمحو التصور الإطلاقي، الذي يعيّن «العرف القومي المحدود» عرفًا للمجتمعات جميعًا، موضوعية الحكم ويصادر إمكانية المثاقفة. غير أن تأمل الحكم، وهو حكم يحتكر الحقيقة، يقوّض موضوعية الاختلاف ويمهّد لتبرير «المصالح» في آن. كما لو كان احتكار الحقيقة -وهي تمس الأفكار والعقائد- مدخلاً لاحتكار ما يقع «وراءهما»، ومسوغاً لعقاب من يرفض عرفاً غريباً عن هويته الثقافية.

فحين تحدث الفيلسوف الإنجليزي هيوم عن «الشعوب الأخرى» في القرن الثامن عشر قال: «تشكل الأمم الأوروبية هذا الجزء من الكرة الأرضية الذي يقتات بشعور الحرية، والشرف والإنصاف، وبقيم تتفوق على قيم البشرية جميعاً»(6). إن القيم الأوروبية التي تتفوق على «ما تبقى من القيم» هي التي تسمح بـ«احتكار» مصائر «الشعوب الأخرى»؛ لأنها قيم تمثّل الفضائل جميعًا. غير أن هذه القيم، التي تؤكد الشرف والإنصاف، تفصل بين القول والفعل؛ لأنها مطمئنة إلى مبدأ التفاوت الذي يضع شعباً فوق آخر، وعازفة عن مبدأ المساواة الذي يعترف بحقوق متساوية لثقافات مختلفة.

ولهذا تتأسس المثاقفة وفقاً لتصورات هيوم على ثنائية المعلم الشريف والتلميذ المحتمل؛ إذ على الأوروبي أن يعلّم غيره القيم التي يحتاجها، وأن يتوسل العقاب الملائم كي يعلّم التلميذ «القيم المتفوقة». وإذا كان هيوم قد وضع التفاوت في حقل القيم، فإن برنارد لويس -وبعد أكثر من قرنين- رفع التفاوت إلى مقام المواجهة النهائية، متحدثاً عن النصر والهزيمة والسيطرة.

تتأسس المثاقفة على تفاعل حر بين ثقافات مختلفة، ينشد خيرًا يتوزع على الجميع دون زيغ أو محاباة. وهذا التفاعل أثر لفكر حواري يؤمن بالاختلاف والمساواة في آن، دون أن يرى أن بعض الشعوب «أقل شرفاً» من شعوب أخرى.

إن وضوح القول لا يحرره من صعوبات محايثة له، ذلك أن الفكر هو ماضيه القريب والبعيد، الذي يحتضن ذاكرة متعددة المستويات والأطياف. ولهذا لا يستطيع المستشرق الإيطالي المعاصر فرنسيسكو جابرييلي أن يكون موضوعياً تماماً في حديثه عن «الإحياء العربي»، كأن يتعاطف مع ميل العرب إلى الوحدة القومية، دون أن يكون نزيهًا في موقفه من استعمار فرنسا للجزائر، على سبيل المثال. وهو ما أشار إليه الراحل الكريم د. شكري محمد عياد في كتابه: «نحن والغرب».

لم يستطع هيوم أن يرى قيمًا تضارع القيم الأوروبية في تفوقها، منتهيًا إلى ثنائية الأعلى والأدنى. ولم يقدر جابرييلي أن يتعرّف على «الأسباب الحقيقية» لحرب الجزائريين ضد السيطرة الفرنسية، منتهيًا إلى حياء زائف بين الطرفين.

وواقع الأمر أن الفيلسوف، كما المستشرق، يطرح موضوع الحقيقة والمنفعة، الذي يقوّض إمكانية المثاقفة السوِية، ويبني لقاء الثقافات المختلفة على مبدأ التفاوت. ومع أن الحقيقة لا تمنع المنفعة، فإن المنفعة لا تنفتح لزومًا على الحقيقة؛ لأنها تشتق مبادئ الأخلاق من نتاجات «الشعوب المتفوقة». وعلى هذا، فإن المثاقفة السوية تحيل على منظومة أخلاقية راقية قبل أن تستدعي الحوار والاختلاف الثقافي، على مبعدة عن مراجع معيارية، ترفض المساواة بين الشعوب المختلفة.

ليس غريبًا، والحالة هذه، أن تقرن اللغة العربية بين الثقافة والارتقاء، وبين التثاقف ومحاربة الاعوجاج. جاء في «لسان العرب» للعلامة ابن منظور: «ثقف الشيء: حَذَقَه. ورجل ثَقِف: رجل حاذق فَهِم، ذو فطنة وذكاء، والمراد أَنَّهُ ثابت المعرفة بما يحتاج إليه. وفي حديث عائشة تصف أباها رضي الله عنهما: وأقام أَوَدَه بثقافه. الثقّاف: ما تقوم به الرماح، تريد أَنَّهُ سوَّى عوج المسلمين..». ودون الوقوف على الكلمة في اشتقاقاتها المختلفة، فإن فيها ما يقول بالحذق والمهارة والصقل والحكمة. ويغدو معنى «المثاقفة» أكثر وضوحًا، حين تأمّل صيغة «المفاعلة» القائمة فيها، التي تعني تبادل المهارة النبيلة التماسًا لما هو أرقى وأكثر استقامة. كأن المثاقفة أثر للتعامل الأخلاقي مع الثقافات المختلفة، قبل أن تكون لقاء بين ثقافات تتميز من بعضها.

2- المثاقفة السوية في الموروث الإسلامي:

تتضمن المثاقفة، كما يدلل عليها الموروث الإسلامي الأصيل أبعادًا أربعة:

أولها: الوعي بالهوية الثقافية (الذاتية) والاطمئنان إليها، مِـمَّا سمح بالحوار مع الثقافة اليونانية والهندية والفارسية، وأنجز حوارًا مثمرًا، مبرّءًا من معايير القوة والضعف، غايته التعرّف النزيه والمعرفة الصحيحة. ولهذا عكف العالم المسلم «البيروني» -على سبيل المثال- على دراسة العقائد الهندية، التي كانت تباين العقيدة الإسلامية أشد المباينة، وخلّف وراءه أثرًا عظيمًا «تحقيق ما للهند من مقولة»(7). غير أن البيروني، كما غيره من علماء المسلمين، لم ينجز ما أنجزه إِلاَّ لسببين:

أولهما: اطمئنانه إلى هوية ثقافية إسلامية مستقلة عن غيرها، وواثقة بنفسها، ومؤمنة بغاياتها.

وثانيهما: وهو لا ينفصل عن الأول، موقفه الحيادي النزيه من الموضوع الذي تعامل معه؛ بل إن ذلك الحياد في الحوار والمساءلة لم يكن ممكنًا، من دون هوية مؤمنة ثابتة، لا تقبل باستكبار «الآخر»، ولا تواجه «الآخر» باستكبار ترفضه، إيمانًا منها باحترام الثقافات المغايرة وبالاقتراب منها بعدالة وتسامح.

أما العنصر الآخر، الذي حايث المثاقفة الإسلامية، فتمثل في الاعتراف بهوية الآخر المستقلة، كما لو كان استقلال الهوية الثقافية الإسلامية لا يستوي إلا بالاعتراف بهويات مغايرة مستقلة بذاتها. لذلك كان المسلمون بعيدون عن «فلسفة هيوم» اللاحقة، التي تمنع الفضائل عن شعوب معينة وتقصرها على شعوب أخرى. وقد تكشّف الاعتراف الإسلامي بالآخر في موقف علماء المسلمين من أرسطو، على سبيل المثال، الذي حظي بحلقات دراسية متعددة، تنقلت بين الإسكندرية وحران وأنطاكية، وبلغت ذروتها في بغداد، في زمن المأمون الخليفة العباسي.

ويعطي كتاب «الفهرست» لابن النديم، ومراجع أخرى صورة عن العلماء المسلمين الذين انصرفوا إلى الدراسات الأرسطية، مثل الفارابي وابن سينا والسجستاني.. بيد أن العنصر الجوهري في هذا كله، وهنا العنصر الثالث، فيتجلى في تصوّر المثاقفة وممارستها، الذي يضع ثقافة في مواجهة ثقافة، أو جملة من التصورات والمعتقدات والرؤى في حوار مع تصورات ورؤى مغايرة، دون توسّل عناصر خارجة عن الثقافة، ودون التماس أدوات غير ثقافية تنصر ثقافة وتحطّم أخرى.

كانت المثاقفة الإسلامية فعلاً معرفيًا-أخلاقيًا، ثقافيًا في استهلاله، وثقافيًا في ختامه، لا استكبار فيه ولا تزوير، كما لو كان يؤمن بتعددية المواجهات، ويؤمن أكثر بأن لكل مواجهة أدواتها ووسائلها وأغراضها.

كتب الفرنسي أرنست رينان في القرن التاسع عشر السطور التالية: «لقد هزمت البربرية إلى غير رجعة، لأن كل شيء يغدو، شيئًا فشيئًا علميًّا. فلن تملك البربرية المدفعية أبدًا، وحتى لو امتلكتها فإنها لن تستطيع استعمالها»(8). يقيم رينان علاقة بين المدفعية وانتصار الثقافة الأوروبية، مؤسّسًا حوار الثقافات على أدوات عسكرية، حيث المدفع الأقوى هو المعبّر عن الثقافة الأقوى، وحيث من لا مدفعية له لا ثقافة له. وهذا ما رفضه علماء المسلمين، في زمن ازدهار الإسلام وصعوده، حين حاوروا «النص الآخر» بالأسئلة، وساءلوا في «النصوص المغايرة» مواقع الصواب والخطأ.

إن ثقة الهوية الإسلامية الأولى الواثقة بذاتها، وهنا العنصر الأخير، هو الذي أتاح لها أن تحاور «الآخر» باستقلال كبير، دون أن تزوّر ما تقرأ أو تزوّر ذاتها، ودون أن تقع بما سيدعي، لاحقًا، بـ«التبعية الثقافية». وبسبب ثقة بالذات أكيدة، وإيمان بأن الحوار مع موضوع خارجي يغيّر الموضوع، وقد يغير المحاور أحيانًا، فإن «أرسطو العربي» لا يساوي تمامًا «أرسطو اليوناني». فقد فهمه المسلمون كما أرادوا أن يفهمونه، وأسندوا إليه كتبًا ورسائل ليست له، اتكاء على ما أملاه البحث وأفضى إليه السياق. بل إن مفكري الإسلام، وكما يذهب محمد إقبال؛ انتهوا إلى مناقضة الفكر اليوناني عمومًا، بعد أن أقبلوا عليه في باكورة حياتهم بشغف شديد. فقد كان عليهم أن يكتشفوا أن النظرة الواقعية، التي تملِيها روح القرآن الكريم لا تأتلف مع الفلسفة اليونانية بتفكيرها النظري المجرد، الذي يغفل جوانب من الواقع المحسوس(9).

وسواء أصاب محمد إقبال في اجتهاده كثيرًا أم قليلاً، فإن اختلاف الفكر الإسلامي مع الفلسفة اليونانية تعبير عن إبداع المثاقفة الإسلامية، التي اتكأت على ثقافتين مختلفتين، وتطلّعت إلى أفق ثقافي جديد. ولعل هذا المنظور الثقافي الإبداعي هو الذي استولد من الثقافة الإسلامية مناهج لن يصل إليها الفكر الأوروبي إِلاَّ بعد زمن لاحق طويل، كأن يرى النظَّام في الشك بداية لكل معرفة، وأن يكون الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» سابقًا للفرنسي ديكارت مرجع الفلسفة الأوروبية المعاصرة -كما يقال-، وأن (تقترب) دراسات ابن حزم والكندي والبيروني من المنهج التجريبي قبل أن يصل إليه الإنجليزي روجر بيكون(10). وهذا ما يدفع بـ«ريفولت» أن يقول في كتابه «بناء الإنسانية» ما يلي: «أما ما ندعوه العلم، فقد ظهر في أوروبا نتيجة لروح من البحث جديدة، ولطرق من الاستقصاء مستحدثة لطرق التجربة، والملاحظة والمقاييس، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان. وهذه الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب إلى العالم الأوروبـي»(11).

تجاوز المفكر الإسلامي إيجابًا المواضيع الثقافية (الأجنبية) التي تعامل معها؛ لأنه اعترف بها وباستقلالها عنه، دون أن يعلن عليها الحرْم والعقاب، متوسدًا منهجًا قوامه الموضوعية والتسامح، وجوهره المعرفة والأخلاق. وهو فيما فعل، كان مختلفًا عن المستشرق الذي ستأتي به أوروبا المسيحية - القروسطية، والذي سيترك آثارًا متوالدة، فقد نسب المستشرق، غالبًا، إلى الإسلام صورًا نمطية جامدة، مثقلة بالتصنيع؟ والسلب، كالزعم بعداء الإسلام للعقل والعلم، أو عجزه عن رؤية الحياة في وجوهها المتكاملة واقتصاره على الأحادي والمجزوء، أو إنكاره للتقنية وإكباره للنفعي المباشر.

وواقع الأمر أن الفكر الاستشراقي جعل من الإسلام نقيضًا للحضارة الأوروبية القروسطية والحديثة في آن، معترفًا بذاته فقط ورافضًا الاعتراف به، ومؤكدًا ذاته مقياسًا كاملاً يقاس به غيره. فإذا كان الفكر الأوروبي هو العقلانية والعلم والتقنية والمنظور الشمولي للعالم كان على الإسلام أن يكون نقيضًا كليًا له. لكن الركون إلى النموذج السوي الكامل وهو النموذج الأوروبي، والنموذج المشوه الناقص وهو النموذج الإسلامي؛ يدلل على أن المنظور الأوروبي يعيّن ذاته مرجعًا وحيدًا للعالم لا أكثر، يخترع الإسلام من تصوراته الذاتية قبل أن يتأمله بمقارنة موضوعية. لهذا يستطيع ماك دونال أن ينسب إلى الإسلام عدم القدرة على «تصور الحياة ككل، وميل للتأثر بفكرة واحدة وجهل بباقي الأشياء»(12).

يصدر اختراع «الآخر» سلبًا، في الفكر الاستشراقي، عن تصور مأخوذ بالتفاوت وبالمراتب البشرية، يرى في الأوروبي إنسانًا كاملاً تليق به حقوق كلية، ويرى في غير الأوروبي إنسانًا أدنى لا تحتاجه الحقوق ولا يحتاج إليها.

لذلك يُكثر ألكسي دوتوكفيل من الحديث عن الديمقراطية والمجتمعات الديمقراطية، فإن وصل إلى مستعمرات فرنسا في القرن التاسع عشر أغلق الحديث، وذهب في اتجاه آخر؛ كأن يكتب في عام 1846 خلال زيارته للجزائر: «وفي هذه الأثناء، مر شهر تم فيه ضرب العرب كثيرًا. هذه النوادر كانت تسلينا، لكنها لم تكن تعلمنا شيئًا، إذ ما يمكن أن يكون حال الموظف المدني المسكين في مواجهة الغطرسة الفرنسية التي تحتقره؟»(13). يندرج «ضرب العرب» اليومي في حواشي النوادر، ولا يتبقى منهم إلا «الموظف المدني» الذي يعمل تحت الإمرة الفرنسية، كما لو كان ما تبقى من نوافل بشرية لا تثير الاهتمام.

يقول البعض: «إن الفكر هو ماضيه»؛ يشير القول إلى عادات الفكر التي يورّثها كل جيل إلى آخر. ومع أن في القول ما يؤكد سطوة العادة المتوارثة، فإن العادة الموطدة تزداد ثباتًا في الفكر الانتصاري. فلقد أثّمت القرارات الكنسية الأوروبية ابن رشد منذ النصف الثاني من القرن الثالث عشر (1271 – 1277) ونسبت إليه الكفر والزندقة، ونسجت حول شخصيته روايات كاذبة، وأصبح اسمه نظيرًا للاعتلال والاختلال. ومهما تكن الأسباب التي أدّت إلى «أبلسة» ابن رشد في المحافل الدينية والدراسية الأوروبية، فإن ما كان مرفوضًا فيه هو وجوده «الغريب» أي: المسلم، الذي يؤثر في حلقات دراسية مسيحية(14).

وإذا كان تأثيم ابن رشد قد حصل قبل صعود السيطرة الأوروبية، فإن هذا الصعود المتواتر وضع «الغريب» في إيديولوجيا انتصارية مكتفية بذاتها، ترى في المنتصر مرجعًا للحقيقة وفي المهزوم عدوًا لها. ولعل هذا الانتصار الذي لازمته عادات الفكر المتوالدة، هو الذي جعل -ولا يزال- من المثاقفة الموسعة أمرًا مجزوء التحقيق، خلافًا لتجربة الفكر الإسلامي، التي ارتقت بالمثاقفة، حين كان الفكر الإسلامي في ذروة صعوده.

3- المثاقفة الناقصة في شرط معتل:

ابتداء من القرن التاسع عشر وما تلاه، دخل المفكر المسلم إلى لون من المثاقفة يختلف عما سبقه. كانت الثقافة العربية - الإسلامية في طور من الوهن والجمود، والتوسع الأوروبي اجتاح كثيرًا من ديار الإسلام، وكان العالم الأوروبي قد أنجز ثورات حاسمة متلاحقة، تتضمن الثورة الصناعية والعلمية والقومية.. وكان طبيعيًا أن تكون المثاقفة الإسلامية الجديدة مرآة للزمن الجديد، فلا هي قادرة على انتزاع اعتراف «الآخر» بها، وليس لها من المنعة والنفوذ ما تحاور به «ثقافة منتصرة» حوارًا متكافئًا. قادها هذا كله، ولم تكن مخطئة تمامًا، إلى اعتناق مبدأ: الكونية، فآمنت بكونية العقل والمعرفة والخبرة الإنسانية، مستدعية -ربما- حلم الحضارة الإسلامية القديم، الذي قام على البحث عن الحقيقة وتوزيعها على الجميع.

وإذا كانت المثاقفة الجديدة لم تخطئ كثيرًا وهي تأخذ بمبدأ كونية المعارف الإنسانية، فقد أخطأت وهي تضيف إليه مبدأ معتلاً هو: مبدأ المحاكاة، ظنًّا منها أن على ناقص المعرفة أن يحاكي من فاقَه علمًا، دون أن تدري أن الأزمنة الحديثة تعيّن مبدأ: الأقوى والأضعف مرجعًا مسيطرًا، داخل المعرفة وخارجها. ومع أن مبدأ المحاكاة يحمل تهافته في داخله، فهو يؤسس التقليد والتبعية، فإن التقليد التابع في ذاته لم يكن ممكنًا، بسبب المرجع المسيطر، الذي يحدّد شكل التقليد وحدوده.

حرص المفكر المسلم في المثاقفة الجديدة على هويته الإسلامية، وعمل على محاكاة الأوروبي المنتصر معرفة وفلسفة، مؤمنًا بأن المحاكاة -وهي نقيض الإبداع- ستضع المسلم والأوروبي في طريق واحد، ولو بعد حين. وواقع الأمر أن هذا المفكر لم يكن مخطئًا بقدر ما كان بريئًا؛ لأنه قاس المثاقفة الجديدة على المثاقفة الإسلامية المبدعة الأولى، معتقدًا أن التسامح قائم في جميع الأزمنة.

ويمثّل المصري رفاعة الطهطاوي (1216–1290هـ/1801–1873م) الذي درس في فرنسا ثلاث سنوات (1826 – 1830) المفكر المسلم، الذي جمع في تصوراته بين الهوية الإسلامية ومبدأ المحاكاة وَوَهم التسامح الكوني. ويعطي كتابه: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الذي طبع للمرة الأولى عام 1849 صورة عن دلالة الغرب في فكر من يود تقليده، أو صورة عن فتنة الغرب المتقدم في ذهن من عاش تجربة الانحدار والفوات. فهو يكتب على سبيل المثال، وهو يتأمل «الحق العام للفرنساوية» الكلمات التالية: «سائر الفرنساوية مستوون قدام الشريعة»(15). وبداهة، فَإِنَّهُ لم يكن «يترجم» احتفالاً بالمعرفة في ذاتها، بل كان يسعى إلى وضع المصريين أمام مشهد سياسي جديد، عناوينه الحقوق والمواطنة وتساوي المواطنين، كما لو كان على المصريين أن ينجزوا «انقلابًا كبيرًا» خاصًا بهم، يماثل انقلاب الفرنسيين في نهايات القرن الثامن عشر. لكنه وهو يكتب عن «المرجع - المثال» كان يكتب في اللحظة ذاتها، عما يدعّم المرجع، بالمصداقية والبرهان المقنع. لذلك يكتب بعد صفحات قليلة فصلاً عنوانه: «في عادة سكنى أهل باريس وما يتبع ذلك»، جاء فيه: «والبلاد الإفرنجية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي لا ينكر إنسان أنها تجلب الأنس وتزين العمران، وقد تقرر أن الملة الفرنساوية ممتازة بين الأمم الإفرنجية بكثرة تعلقها بالفنون والمعارف، فهي أعظم أدبًا وعمرانًا..»(16). يضع الطهطاوي في الفكرة المرغوبة ضمانها، والفكرة هي إقامة نظام يستوي الناس فيه «قدام الشريعة»، والضمان معارف فرنسا وفنونها الممتازة. لكن الطهطاوي ينسى، رغم نواياه الطيبة، أو بسببها، أن الحقوق التي جاءت بها الثورة الفرنسية مقصورة على الفرنسيين ممنوعة عن غيرهم، وهو ما جعل نابليون، حين غزوه لمصر في عام 1798، يَعِد المصريين الذين ثاروا عليه بالعفو ثم يرمي بهم بعد الاستسلام إلى نهر النيل.

تطلع الطهطاوي إلى مجتمع مصري يحاكي المجتمع الفرنسي عمرانًا وسياسة دون أن يفرّط بعقيدته الإسلامية، وهذه الرغبة التي لم تتحقق. هجس بها بعده خير الدين التونسي، الذي تعلّم الفرنسية وذهب بدوره إلى باريس عام 1853، ونشر في عام 1867 كتابًا شهيرًا عنوانه: «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك». رأى التونسي أن «التمدن الأوروبي هو أبعد ما توصلت إليه الأمم والإنسانية جمعاء»(17). ورأى في هذا التمدن معطى موضوعيًا ثابتًا، على الأمم أن تأخذ به دون النظر إلى السياسة الأوروبية ومراميها؛ ذلك أنه «تمدُّن» عاد بالخير على أصحابه، كأن نقرأ: «وقد صح حدس (الأوروبيين) في ذلك بما لم نزل نشاهده من تقدمهم في العلوم والصناعات، واستخراج كنوز الأرض..، حتى هابتهم الأمم واستولوا على ممالك كثيرة خارجة عن قسم أوروبا، ونالوا من نفوذ الكلمة في غير ممالكهم ما هو مشاهد، وصاروا في التصرفات الدينية قدوة لغيرهم. وما ذلك إلا بإجراء القوانين السياسية، التي مدارها على ما تقتضيه الحرية..»(18).

انطوى تصور خير الدين التونسي على مفارقة واضحة، فهو كما جاء في كتابه، يعزو تقدم الغرب إلى الحضارة الإسلامية التي وفدت إليه من الأندلس وغيرها، كما لو كان المسلمون يستعيدون «حضارتهم» التي تطورت في بلدان غير إسلامية. لكنه نسي أن مبدأ الاعتراف الثقافي المتبادل، الذي تقوم عليه المثاقفة غائب تمامًا، وآيته احتلال الفرنسيين للجزائر المسلمة عام 1830، واحتلالهم لتونس لاحقًا.

وفي الواقع، فإن التونسي لم يكن يفسّر في دعوته معنى المثاقفة، بل كان يدلل على «فتنة المنتصر» التي تجعل «المهزوم» يقلّد من انتصر عليه، معتقدًا أن حقيقة المثاقفة هي حقيقة الانتصار. ولهذا رأى إلى المثاقفة وأغفل شروطها الأساسية، التي تتعيّن بوحدة المعرفة والأخلاق، التي تقبل بالإنسان في ذاته، دون تمييز ولا فروق.

وربما يكون مشروع طه حسين الثقافي، وكما جاء في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» هو الحالة الأكثر تطرفًا وغلوًّا وسذاجة، فيما يتعلق بالمثاقفة وعلاقاتها. فقد انطلق في كتابه الذي وضعه في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي من مبادئ ثلاثة: أولها: وحدة العقل الإنساني التي تساوي بين الشرقي والغربي، وبين المسلم وغيره؛ ذلك أن البشر يتمتعون بأقساط من العقل متساوية. ويقول ثاني المبدأين بـ: «تبادلية الثقافات»؛ إذ الشعب الذي أضاء بثقافته ثقافة أخرى في زمن تاريخي محدد، يستطيع في زمن لاحق أن يستلهم «الثقافة الأخرى» خاصة إن كانت «قريبة» منه في التاريخ والجغرافيا، وهو ما أفضى به إلى «الثقافة المتوسطية»، التي تضع مصر في أوروبا وأوروبا في مصر. أما المبدأ الثالث، وقوامه تفاؤل مطلق السراح، فيقول بـ: وحدة المستقبل الإنساني التي تعني أوَّلاً وقبل أي شيء آخر، أن التقدم سيوحّد بين الأمم جميعًا، وأن المستقبل حاضنة كريمة لأمم متعددة متقدمة. ولأنّه رأى في الثقافة الفرنسية نموذجًا ومثالاً في آن، فقد توهّم عميد الأدب العربي أن مصر المستقبل هي «فرنسا اليوم»، وأن «فرنسا اليوم» ستأخذ بيد الشعوب إلى العلم والمعرفة والمساواة.

أغفل الدكتور طه حسين كما غيره من المثقفين الذين وقعوا في «فتنة المنتصر» أمرين: يقول أولهما: إن الحضارة الغربية نشرت ثقافتها غالبًا متوسلة الإملاء والاجتثاث في آن. كأن تملي لغتها ومعاييرها الثقافية على الشعوب الأخرى، وأن تسعى إلى اجتثاث الجذور التاريخية لثقافات هذه الشعوب. وآية ذلك «فَرْنَسَة» المغرب العربي إبان الاحتلال الفرنسي. ويرتبط الأمر الثاني بشروط التلقي والاستجابة، فلا تستطيع ثقافة معينة أن تتفاعل مع ثقافة أخرى إِلاَّ إذا تفاعلت معها، دون عسف أو إكراه، وعثرت لديها على ما تحتاجه وتقتنع به. يقول إدوارد سعيد: «فقد رسم الشرقي في لغة كرومر وبلفور بأنه شيء يحكمه الإنسان (كما في المحكمة)، شيء يدرسه الإنسان ويصوره (كما في المنهج الدراسي)، شيء ينظّمه الإنسان (كما في المدرسة أو السجن)، شيء توضيحي (كما في كتيب من علم الحيوان). الملاحظة هنا أن في كل حالة الشرقي محتوى ومصور من خلال أطر مهيمنة»(19). يندد سعيد بإلغاء الغربي لغيره عن طريق القوة، وبتحويل الشرقي الملغى إلى موضوع للدراسة، أو إلى شيء يُعاين ويُدرس كالأشياء الأخرى. ولأنه -أي الشرقي- شيء بين أشياء دراسية أخرى، فلا حق له في الاقتراح والاختيار، فتعطى أرضه لغيره، وتمتهن لغته إلى درجة جعل من اللغة العربية الفصحى في زمن بلفور «لغة نافلة»، تعاند العقل والمنطق، وينبغي الاستعاضة عنها بـ«لغة عامية»، تستجيب «لمتطلبات الحياة». وهكذا تصبح «لغة الحياة»، في التصور الغربي المتسلط هي اللغة الإنجليزية في مصر، واللغة العربية العامية التي تجرد المسلم من وجه أساسي من وجوه هويته؛ ذلك أن اللغة العربية الفصحى هي لغة القرآن الكريم. يمكن القول هنا: إن كان تعلّم لغة أجنبية، في شروط التسامح والاعتراف المتبادل، إشارة إلى ارتقاء معرفي وتوطيد للهوية الثقافية الوطنية، فإن الذهاب إلى لغة أجنبية في شروط مغايرة إشارة إلى إضعاف الهوية وتمكين الإلحاق الثقافي. فهناك فرق بين تعلّم الإنجليزية اليوم من أجل المعرفة والانفتاح على العالم، وبين تعلمها على حساب اللغة العربية، كما لو كان تعلّم الإنجليزية إشارة إلى نخبة اجتماعية «متعولمة»، والاكتفاء باللغة العربية إشارة إلى فئات اجتماعية أخرى أقل حظًّا وأقل «تمدنًا».

يدور الأمر كله في مهاد: الاختيار الحر الذي تمارسه شعوب حرة، غير مكرهة على اختيارها ولا مساقة إليه؛ ذلك أن الإكراه يستولد النزاع والتنابذ. فالاختيار الحر تعبير موضوعي عن الاختلاف، فلا اختيار بلا اختلاف، مثلما أن الإكراه تعبير عن إلغاء الاختلاف والمختلف. فمستقبِل (بكسر الباء) الرسالة الثقافية يتفاعل معها، إن عثر فيها على ما كان يتوقعه، أي: إن وقع على عنصر مشترك يحاور به الرسالة وتحاوره به. فإن انعدم الحيز المشترك أهمل الرسالة.

ليس غريبًا في هذه الحالة إن كان بعض القبائل الإفريقية يضع القناع وهو يتوجّه إلى الغازي الأجنبي، كما لو كان القناع يعلن عن انفصال لا سبيل إلى تجاوزه. فالوجه ينفتح على الوجوه الأخرى في الشروط العادية والسوية، ويحتجب إن غابت هذه الشروط، مكتفيًا ببديل جامد يتحدث عنه هو: القناع.

4- المثاقفة والمنظومة الأخلاقية:

تشكّل المغايرة -أي: اختلاف الهويات الثقافية- معطى موضوعيًا لا يمكن تجاوزه، ولا يجب تجاوزه، لأنه أثر من آثار التاريخ ومرآة لأزمنته المختلفة. فلكل حضارة من الحضارات الإنسانية هوية خاصة بها، بعيدة وعميقة الجذور، تملي على الشعوب عادات وقيمًا وتصورات، تؤمّن لها شخصياتها الوطنية المختلفة.

ومثلما أن الطفل والد الرجل الذي سيكونه، كما يقول الشعراء الرومانسيون، فإن ماضي الشعوب هو ضمان وجودها؛ ذلك أن العبث بهذا الماضي يفضي إلى دمار «الطفل والرجل» معًا.

وعلى هذا، فإن القضايا التي تثيرها المثاقفة، لا تصدر عن المغايرة في ذاتها، بل عن الموقف النظري والعملي منها، الذي تخالط فيه المعرفة المنفعة أحيانًا، وتمتزج فيه المنفعة بفلسفة التفاوت في أحيان أخرى.

يقول إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة والإمبريالية»: «.. مبدأ الهوية، وهو مبدأ سكوني أساسًا يشكل لباب الفكر الثقافي خلال العهد الإمبريالي. إن الفكرة الوحيدة التي لم يكد يمسها التغير إطلاقًا، عبر التبادلات التي بدأت بانتظام قبل نصف ألف من الزمن بين الأوروبيين و«آخريهم» هي أن ثمة شيئًا «جوهرانيًا» هو «نحن» وشيئًا هو «هم»، وكل منهما مستقر تمامًا، جلي، مبيّن لذاته، وشاهد على ذاته بشكل حصين منيع. وهو انقسام يعود «تاريخيًا»، كما ناقشته في الاستشراق إلى الفكر اليوناني عن البرابرة. لكن أيًّا كان من ابتكر هذا النوع من فكر «الهوية»، فإنه مع حلول القرن التاسع عشر كان قد أصبح العلامة المائزة للثقافات الإمبريالية، إضافة إلى تلك الثقافات التي كانت تسعى إلى مقاومة التطاولات العدوانية الأوروبية عليها» (20).

يشير سعيد إلى «فلسفة التفاوت» الأوروبية، وعمرها «نصف ألف» عام، التي تضع «الأوروبي» فوق «البربري»، وتقسّم العالم إلى «نحن» و«هم» قسمة ثابتة مستقرة لا تقبل التبدّل التغيّر. أكثر من ذلك: إن الإحالة على القرن التاسع عشر وما سبقه، يشرح المغايرة في التصور الأوروبي بوسائل المنفعة والتفوق والقهر، أي: بحق «الإنسان المتفوق» في إخضاع «الآخر» والتصرّف بحقوقه.

تطرح المثاقفة بالمعنى الأخلاقي النبيل موضوع الكل الإنساني المنسجم الذي يتشكّل من أجزاء متعددة متساوية. كأن الكل الإنساني في التصور الثقافي-الأخلاقي للعالم محصلة لأجزاء متعايشة، يحقق كل منهما مصلحته وهو يحقق مصلحة غيره، يتطور مع غيره ويتقدم معه، يشاركه الحقوق والواجبات، وينأى عن معايير التفاوت والغلبة والتحطيم.

والمسألة الشائكة التي تُحوّل المثاقفة إلى رغبة نبيلة غير متحققة، تقوم في الفكر «المتفوق» المغلق، الذي اطمأن إلى ثنائية «اليوناني» و«البربري»؛ ذلك أن الماضي الأوروبي القريب، الذي يشير إليه إدوارد سعيد، لا يزال ماثلاً في الوعي واللاوعي واللغة والثقافة والأحكام الجاهزة عن: التركي، المسلم، البربري، .. وبسبب ذلك، فإن المثاقفة المرغوبة لن تعثر على حلولها الموافقة عن طريق المعرفة والانفتاح على «تاريخ الآخر» فقط؛ لأن هذه المعرفة محاصرة بالأحكام الزائفة الجاهزة، ومثقلة بإيديولوجيات متعددة، يتعايش فيها العنصري والديني والثقافي ومركزية أوروبية متجددة الحضور.

إذا كانت المثاقفة هي الكل الإنساني المنسجم الذي تكوّنه أجزاء متساوية، فإن نقيض المثاقفة هو «الاحتكار الثقافي» الذي يقوّض الثقافات الوطنية، ويعيّن ذاته «كلاً» فوق الأجزاء ولا يحتاج إليها. بهذا المعنى، فإنّ تَحقّق المثاقفة يستلزم منظومة أخلاقية جديدة، أو تعاملاً جديدًا مع الأخلاق، ينفي كليًا «أخلاق الغَلَبة» التي تنقض المثاقفة وتقوض أجزاءها.

والمقصود بالمنظومة الأخلاقية الجديدة الارتقاء بحس بالمسؤولية الإنسانية، التي تقضي بتحرير «الآخر» من صورته الإيديولوجية المتوارثة، والنظر إليه كإنسان مشخص في شروطه المشخصة، له معاناته ويأسه وبؤسه وتفاؤله. فالاقتراب من وجوه الروح الإنسانية، وقوامها الخوف والفرح والانتظار والأسى؛ هو السبيل الأفضل للتعرف الفعلي على «الآخر» الذي تم اختراعه -غالبًا- بما يوافق مصالح عارضة أو مستمرة.

لقد ميّز الفيلسوف الألماني كانت (1724 – 1804) بين شكلين من الأخلاق: يحكم أحدهما علاقة الإنسان بغيره من البشر، وينظم ثانيهما الحياة الإنسانية ككل.

تؤسس الأخلاق الأولى علاقة الإنسان بغيره على مبدأ الاحترام؛ إذ الإنسان جدير بالاحترام لأنه إنسان، وتؤسس الأخلاق الثانية الحياة الإنسانية على مبادئ كونية، يتوزع فيها الاحترام المتبادل على شعوب متساوية(21). وهذه الأخلاق، إن تحققت، تؤمّن الحفاظ على استمرارية النوع البشري، وتقدم له أسباب النمو والازدهار. فاحترام الإنسان والاعتراف به وجودًا مستقلاً لا يختزل إلى غيره، كما احترام الشعوب المتبادل شرط لاحترام الإنسان لذاته وللآخر، ومتكأ لازم لتطور شخصيته وتفتحها، ومرجع أساسي يمكّنه من الرفض والقبول والاقتراح. إن الاعتراف بـ«الآخر» ينهض به، ويشعره بمسؤوليته إزاء الغير وبضرورة تحملها، ويعطي اعترافه بغيره مضمونًا إيجابيًا؛ لأن قيمة الاعتراف من قيمة المرجع الذي جاء منه.

ينطوي الاعتراف بـ«الآخر»، من حيث هو على اعتراف بحقه في القرار والمشاركة والمبادرة؛ أي: اعتراف بهويته الفاعلة التي تفعل بغيرها من الهويات المغايرة وتنفعل بها. ولعل جدل الفعل والانفعال، كما تقرّره المثاقفة السوية هو في أساس التعددية الثقافية، على المستوى الإنساني الذي ينسج كلاً ثقافيًا متآزرَ العناصر، خصبَ الإمكانيات، منفتحًا على أفق إنساني متفائل.

فبقدر ما يفضي اغتصاب الثقافات إلى الصراع والمنازعة، تبشّر المثاقفة السوية بالسلم العالمي وتنفي الحروب.

تقول بعض الاجتهادات في نظرية الرواية: تستطيع الشخصية الروائية في التصور الحواري أن تعلّم الروائي الذي أوجدها. يمكن نقل التصوّر إلى مجال المثاقفة، والقول: تستطيع الشعوب إن تثاقفت أن تعلّم التاريخ الواسع الذي جاءت منه، وأن تتعلم منه في آن.

****************

الهوامش:

*) باحث وناقد من فلسطين.

1- محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية 1968، ص5.

2- د. شكري محمد عياد: نحن والغرب، كتاب الهلال، القاهرة، العدد 477، 1990، ص34.

3- التنوع البشري، تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية، المجلس الأعلى للثقافة في مصر، رقم 27، 1997، ص29.

4- تزفيتان تودوروف: فتح أمريكا، سينا للنشر، القاهرة، 1982، ص163.

5- تزفيتان تودوروف: نحن والآخرون، دار المدى، دمشق، 1998، ص17 – 20.

6- Le nouveau systéme du monde (Actuel Marx) P. u. f, Paris, 1994. P: 173.

7- د. شكري عياد: نحن والغرب، ص83.

8- مجلة الكرمل، عمان - رام الله، العدد 51، ربيع 1997، ص88.

9- محمد إقبال: تجديد الفكر الديني، ص146.

10- المرجع السابق، ص149 – 150.

11- المرجع السابق، ص149.

12- هشام جعيط: أوروبا والإسلام، صدام الثقافة والحداثة، دار الطليعة، بيروت، 1995، ص41.

13- تودوروف: نحن والآخرون، ص19.

14- زينب الخضري: أثـر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى، دار الثقافة، القاهرة، 1983، ص43.

15- رفاعة رافع الطهطاوي: الديوان النفيس في إيوان باريس (أو تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2002، ص117.

16- المرجع السابق، ص129.

17- خير الدين التونسي: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، دار الطليعة، بيروت، 1985، تحقيق ودراسة د. معن زيادة، ص87.

18- المرجع السابق، ص258 – 259.

19- بيل اشكروفت، بال أهلوليا: إدوارد سعيد: مفارقة الهوية، دار نينوى، القاهـرة، 2002، ص89

20- إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية، دار الآداب، بيروت، 1997، ص23.

21- Axel Honneth: the struggle for recognition. Cambridge, the MIT press Massa chusetts, 1995, P: 172.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=25

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك