قضايا الفكر الإسلامي المعاصر ومشكلاته: مراجعة نقدية للذات

قضايا الفكر الإسلامي المعاصر ومشكلاته: مراجعة نقدية للذات

رضوان السيد*
(1)

هناك ثلاثة اتجاهات في الوطن العربي اليوم في مجال تحليل وفهم ظواهر التشدد الديني إزاء الأمم الأخرى وثقافاتها، وإزاء الجماعات الدينية، أو بتعبير آخر إنها ثلاثة اتجاهات في تعليل سوء العلاقة بالعالم.

الاتجاه الأَوَّل: وهو الاتجاه السائد، لدى المثقفين الإسلاميين يربط علاقات أو لا علاقات سوء الفهم، وسوء التصرف بالمواريث الاستعمارية القديمة والجديدة؛ بدءا بالحروب الصليبية، ووصولا إلى القرنين الماضيين. فإذا كانت الحروب القديمة حروبا دينية بحتة أو أنها تعلن عن نفسها باعتبارها كذلك؛ فإن الحروب الحديثة، اتخذت لنفسها شعارات مختلطة من بينها الصراع على الموارد، والصراع على الأسواق. لكن من بينها أيضا التبشير والاستشراق والنزعات المركزية والعنصرية واحتقار الآخر المختلف. ولذلك فإن هذا التوجه الذي أسميه توجها أو اتجاها تبريريا، يعتبر أن كل تصرفات المسلمين والعرب طوال ما يزيد على القرن ونصف القرن، إنما كانت ردود أفعال نظرية وثقافية أو عملية على هذا العدوان القديم والمستمر.

ولأن الآثار المنظورة لهذا الاتجاه تتراوح من الكتابات ذات الطابع الدراسي، إلى البيانات التحشيدية والخطب، والفتاوى، وتفاسير القرآن، ومشروعات الدساتير، والإعلانات الإسلامية لحقوق الإنسان؛ فسأحاول أن ألخص أكثر تلك المجالات تماسكا في عدة نقاط:

أ‌) في الجانب التحليلي أو جانب الرؤية: يعتبر أتباع هذا الاتجاه أن "الحضارة الغربية" عدوانية بطبيعتها لغلبة الجوانب المادية عليها؛ بما في ذلك الصيغ المسيحية التي سادت فيها في العصور الوسطى وما تزال مؤثرة بقوة حتى اليوم. ويذكر "المعتدلون" بين أصحاب هذه الرؤية الجوانب المادية التي يقصدونها من مثل النزاعات القومية المتعصبة، ورسالة الإنسان المسيحي، ورسالة الإنسان الأبيض، وبدائية كل الأديان والثقافات والشعوب الأخرى غير الأوروبية. أما "المتطرفون" من بينهم فيذكرون أن هذا النزوع الغلاب للسيطرة والاستيلاء وإلغاء الآخر، يعود إلى ثلاثة تيارات ثقافية هي: الماسونية، والماركسية، والفرويدية.

ب‌) في الجانب التاريخي: يذكر أتباع هذه الرؤية أن المسلمين أجابوا على هذه العدوانية بعدة أشكال وطوال القرن ونصف القرن، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم: بالحركات المناوبة للاستعمار التي ظهرت في البلدان الإسلامية التي تعرضت للعدوان وللاحتلال، وفي سائر الأقطار العربية. والشكل الآخر من أشكال المواجهة هو الحجاج الثقافي أو النضال الثقافي ضد المفكرين الاستعماريين والمبشرين. أما الشكل الثالث فتمثل في بناء ثقافة إسلامية للحفاظ على الهوية الصلبة والطهورية، التي حاول الغربيون ويحاولون تذويبها أو إلغاءها.

ج‌) في الجانب العملي والمعاصر: كانت الإجابة الشاملة للأمة على هذه التحديات ظهور حركات "الصحوة الإسلامية" التي تجاوزت تصرفات وجداليات الفعل إلى بلورة حركات إسلامية نهضوية في الثقافة وفي السياسة والاجتماع، والتي بنت نظاما إسلاميا شاملا لم تتحقق سائر مناحيه بسبب ما تعرضت له حركات الصحوة وما تزال. أما العنف الثقافي، والعنف السياسي الظاهر لدى حركات الصحوة في العقود الأخيرة فأسبابه المباشرة تطور ظواهر وهجمات عنف الآخر المباشر وغير المباشر أيضا.

والاتجاه الثاني: يعتبر أن لسوء العلاقة بين العرب والمسلمين من جهة، والعالم من جهة ثانية طرفين وليس طرفا واحدا. والطرف الأَوَّل: بحسب دعاة هذا الاتجاه من القوميين والتقدميين هو النظام العالمي طبعا. وهو نظام ظهرت مركزيته الغربية إبان الحرب الباردة. وما كان الأمر أمر صراع ديني؛ بل هو صراع على الموارد والنفوذ بين الاتحاد السوفياتي، والكتلة الغربية، وموضوعه ما عرف بالعالم الثالث، الذي يقع في دائرته سائر العرب والمسلمين. وفي ذاك الصراع لم يسلك الاتحاد السوفياتي سلوكا استعماريا في الأعم الأغلب، إلا في المراحل الأخيرة. لكن كان لذاك الصراع جانبه الثقافي بين ما عرف بالثقافة الديمقراطية الليبرالية، والثقافة التقدمية أو ثقافة التحرر من الاستعمار. مشكلة ثقافية لدى العرب والمسلمين مع نظام القطبين ذاك. فكلتا الثقافتين ما رأت خصوصية للمسلمين أو للأديان والشعوب الأخرى في العالم الثالث؛ بمعنى أن الليبراليين والتقدميين اعتبر كل منهما أن قيمه عالمية وشاملة. وكلا الطرفين اعتبر عدم إقبال المسلمين ثقافيا على اعتناق قيمه بحماسة دليلا على رجعية الإسلام أو تخلف المسلمين وانتمائهم المستمر إلى عالم القرون الوسطى.

فإذا كانت مشكلات العرب والمسلمين مع نظام القطبين، في نظر أصحاب هذا الاتجاه، سياسية واقتصادية، بالدرجة الأولى؛ فإنه كانت لها جوانب ثقافية في الرؤية المتحيزة لمشكلات العالم الإسلامي، والعالم الثالث. وقد تبدى ذلك بوضوح بعدما استتبت السيطرة لنظام القطب الواحد في مطلع التسعينات من القرن العشرين. إذ ظهر مستشرقون جدد، واستراتيجيون، وإعلاميون، تحدثوا ويتحدثون عن الخطر الأخضر، والخطر الإسلامي، وصولا إلى المشهد العالمي اليوم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فالنظام العالمي هو السبب الرئيس للتوتر في العلاقات على المستوى العالمي، وعلى مستوى العلاقة مع العرب والمسلمين الآخرين.

أما الطرف الآخر المسؤول فهو غياب حرية التعبير عن مصالح الناس وأفكارهم ومطامحهم. أما حركات الصحوة- في نظر أصحاب هذا الاتجاه- فتفتقر إلى فكر تنويري في مجال فهم الإسلام خارج نطاق التجربة التاريخية، كما تفتقر إلى فهم صحيح للتجربة التاريخية العالمية للإسلام، وتفتقر أخيرا إلى فهم واسع للتطورات المعاصرة في المجالات العربية والإسلامية والعالمية. فالمشكلة عند الإسلاميين- في نظر التقدميين- ليس في العنف الذي تمارسه قلة منهم في الداخل أو الخارج؛ بل في أهداف هذا العنف، ونتائجه الثقافية والسياسية على العرب وعلى المسلمين.

والاتجاه الثالث: في فهم تطورات علاقة العرب والمسلمين بالعالم، وهو توجه مجموعة من المراجعين النقديين؛ فيرى أن قضايا العرب والمسلمين مع العالم هي قضايا سياسية واقتصادية، وأن المشكلة تكمن في أن استجاباتهم لها أو ردودهم عليها هي ردود واستجابات ثقافية. فالعجز في السياسة والاقتصاد، ألجأ العرب والمسلمين كما يحدث في ظروف التأزم السياسي والاقتصادي، إلى تأمل مشكلاتهم مع العالم مثل قضية فلسطين، والحروب الأهلية في عدة نواح، والقلق لدى الأقليات الإسلامية في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا؛ كل ذلك يجعل من مشكلاتهم مشكلات فريدة من نوعها، وعلتها كراهية الغرب وأهل الديانات والثقافات الأخرى للعرب والمسلمين أو بشكل أدق للدين الإسلامي. وقد شجع على هذا الانطباع أو هذا الوعي أطروحات وأحداث مثل قضية سلمان رشدي وأطروحة نهاية التاريخ، وأطروحة صراع الحضارات، ومشكلات المسلمين في عديد من البلدان. بيد أن هذا التأزم الناجم طبعا عن آليات الهيمنة الثقافية والتفوق الثقافي الذي يسوغ به سطوته، والناجم أيضا عن العجز العربي والإسلامي، لا يعني أنه ليست هناك أزمة ثقافية، وأزمة في الفكر الديني. بدليل التعليل الديني والثقافي للمشكلات، وليس لدى الإسلاميين وحسب؛ بل ولدى القوميين والتقدميين؛ في طرائق فهم العالم ورؤيته.

(2)

عندما أردت التحدث في القسم الأول من هذه الورقة عن وجهات النظر العربية الموجودة حول العلاقات بين الأمم والثقافات والجماعات الدينية، وجدت نفسي أتحدث وحسب عن علاقة العرب والمسلمين بالغرب. ولا علة لذلك إلا أن القراءات العربية للديانات والثقافات غير الغربية في الخمسين عاما الأخيرة نادرة. فالمثقفون العرب -والإسلاميون من بينهم على الخصوص- لا يعنون أو لم يعنوا إلا بعلاقاتنا المتأزمة مع الغرب. وحدها الديانة اليهودية لقيت بعض الاهتمام، بسبب الصراع الغربي الإسرائيلي. لكن ليت هذا الاهتمام لم يكن! فقد رأيت عشرات الكتب العربية عن الدين اليهودي هي في الأصل أطروحات جامعية أو مقررات أكاديمية، ومن الواضح أن كتب ابن حزم أو القاضي عبد الجبار أو الشهرستاني، تتضمن معارف ومعلومات أكثر بكثير مما تتضمنه تلك المؤلفات الإدانية. وينسحب ذلك على الكتب المؤلفة عن المسيحية، والتي تغلب عليها النزعات الجدالية القديمة. ومع ذلك فإن اليهودية تبقى في وضع أفضل من الديانات الأخرى التاريخية أو المعاصرة. فليست هناك بحوث جدية باللغة العربية- ولو مترجمة- عن الهندوكية أو البوذية. وعندما حدثت أزمة تماثيل الباميان البوذية، ما عرف أحد من الذين كتبوا في الصحف العربية شيئا شافيا عن الدين البوذي، ولا كيف حدث ويحدث أن البوذيين أقاموا ويقيمون هذه التماثيل، على الرغم من معارضة بوذا في الأصل لها، كما ذكرت وسائل الإعلام الغربية. وفي العقد الأخير من السنين ترجمت كتب، وألفت أو ترجمت بحوث عن الفرق الإنجيلية؛ وللأستاذ محمد السماك جهد متميز في هذا المجال؛ لكنني لا أعرف دراسة عربية معاصرة عن الكنائس البروتستانتية الرئيسية، أو الفرق اليهودية المعاصرة يمكن الرجوع إليها لفهم خلفيات الأحداث والتحركات الجارية، والتي توردها وسائل الإعلام؛ ربما باستثناء موسوعة عبد الوهاب المسيري الجيدة التي تختلط فيها أيضا الأيديولوجيا بالتاريخ.

لكن، ما علينا! ولنعد إلى الموضوع الذي يعتبره المثقفون العرب رئيسيا، وهو الصراع (أو الحوار؟!) مع الحضارة الغربية. لا أعرف دراسات عربية نظرية أو مترجمة إلى العربية في نصف القرن الأخير عن الحضارات وسنن قيامها وتطورها وانحطاطها، تتسم بالعرض الموضوعي، أو عرض المعارف والمعلومات المفيدة، باستثناء ما يلي: عروض مدرسية موجزة ضمن كتب فلسفة التاريخ أو المناهج التاريخية المقررة في الجامعات عن نظريتي شبنجلر وتوينبي. وترجمتين غير جيدتين لكتابي شبنجلر وتوينبي (موجز الكتاب وليس الكتاب كله)، وكتابات لمالك بن نبي عن الحضارة الحضاري الإسلامي/ الإفريقي الأسيوي (1950-1962)، وكتاب لقسطنطين زريق صدر عام 1964، وثالث لحسين مؤنس صدر عام 1977، وترجمة رديئة لكتاب فرنان بروديل عن الحضارات صدرت في التسعينات. وأعرف ستة عشر كتابا عن المواجهة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، قبل تسعينات القرن العشرين، لا تشكل دراسة علمية لا عن الحضارة الإسلامية ولا عن الحضارة الغربية. ففي العام الذي صدر فيه كتاب زريق (1964) وحتى عام 1966 صدرت خمسة كتب في شتم الحضارة الغربية دونما إمكان لمعرفة أي شيء جدي عن هذا العدو الهائل الذي نواجهه منذ قرنين في حقبة ما يعرف بالعصور الحديثة! وعندما صدرت مقالة فوكوياما عن "نهاية التاريخ" عام 1992، ثم مقالة هنتنغتون عام 1993 عن "صراع الحضارات" وانهمك العرب جميعا في الرد عليهما، استبشرت خيرا. فقد انصرف المناقشون إلى إنكار نهاية التاريخ، وإنكار عدوانية الإسلام، واتجاهه الأصيل والباقي للحوار والتواصل. ويرجع تفاؤلي آنذاك إلى أن الإسلاميين العرب وغيرهم ظلوا منذ مطلع الخمسينات من القرن الماضي يقولون إن الصراع بيننا وبين الغرب حضاري طويل الأمد. لذلك اعتبرت أن الذهاب إلى أن حضارتنا هي حضارة تواصل وحوار هو بمثابة المراجعة النقدية للتوجه السابق. بيد أن الحال انقلب منذ منتصف التسعينات وحتى اليوم. فالتواصلية تعرض بإيجاز وتنصب على المقولات القرآنية وإنسانية الخلفاء الراشدين، ثم تعود الإدانة للحضارة الأخرى لتحتل الساحة باعتبارها عدوانا، وباعتبارنا ضحايا. وقد أعان على سيطرة هذا التوجه إقبال التقدميين العرب على مهاجمة العولمة بطرائق عقائدية تشبه طرائق الإسلاميين، واعتبار العولمة هذه جزءا من الهيمنة على العالم، وعلى العرب بالذات. والطريف أن أفضل خمسة عروض للحضارة الإسلامية حتى اليوم هي عروض استشراقية؛ كتاب آدم متز الصادر عام 1901 عن نهضة الإسلام، وكتاب جوزيف هل في العشرينات عن الحضارة العربية، وكتاب كريمر في الثلاثينات عن روح الحضارة الإسلامية، وكتاب حضارة الإسلام لمجموعة من المستشرقين في الخمسينات وقد حرره برنارد لويس، وكتاب هودجسون الصادر عام 1972 بعنوان: "مغامرة الإسلام: الوعي والتاريخ في حضارة عالمية". أما الكتاب السادس -حسب رأيي- في هذا المجال فهو لسيد أمير علي، وهو صادر في ثلاثينات القرن العشرين. وقد أصدرت مجموعة من الباحثين المصريين، بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا دراسة جيدة عن العلاقات الدولية في التاريخ الإسلامي تقع في عدة أجزاء؛ لكنها عن العلاقات الدولية، وليست عن حضارتنا وعلاقاتها بالحضارات الأخرى.

إن المقصود من وراء هذه الإسهاب الوصول إلى أننا لا نملك في الفكر العربي والإسلامي المعاصر رؤية للعالم؛ لا بالمعنى النظري، ولا بالمعنى الاستراتيجي/ السياسي. وإذا شكل ذلك جانبا من جوانب الأزمة في علاقاتنا بالعالم؛ فإنه من جهة أخرى ينم عن قصور معرفي شديد يقع في أصل هذه الأزمة المتفجرة؛ ويشمل ذلك الوعي بالعالم، وطرائق التعبير عنه. فالقصور المعرفي هو الذي يدفع للوقوع في فخ هنتغتون أو غيره باللجوء إلى الدفاع عن حضارتنا باعتبارها حوارية، وإدانة الأخرى لأنها غير حوارية. فالحضارات تقوم بينها علاقات في المديات الطويلة، فيها الصراع وفيها التواصل والتقابس في الوقت نفسه؛ لكنها ليست فاعلا حاضرا ومباشرا في التصرفات السياسية والاقتصادية والثقافية؛ وبالتالي لا يمكن التعلل بها سلبا أو إيجابا في تصرفات هذا أو في تصرفات ذاك أو في التجارب التجربة اليابانية، وتجارب شرق آسيا في النهوض الاقتصادي. فقد اهتم الاقتصاديون والمثقفون العرب فعلا بالنهوض الاقتصادي الياباني منذ ستينات القرن التاسع عشر. لكن البعد المعرفي الموضوعي ما توافر غالبا. بل كان القصد تارة الوصول إلى أن النهوض لا يتطلب تخليا عن التقاليد الدينية والثقافية، كما كان القصد طورا القول إن النهوض قرار سياسي وتنظيمي. لكن في الحالتين، كما هو واضح، لا علاقة له بمدى عدوانية الغرب، ولا بالصراع أو الحوار بين الحضارات؛ بل برؤية العالم، ورؤية المصالح فيه ومعه.

ولنعد إلى المسألة الأكثر مساسا بعنوان هذه المداخلة: مسألة الرؤية للعلاقات بين الأمم والثقافات والجماعات الدينية. نحن لا نعرف شيئا تقريبا عن البوذيين والهندوس، كما سبق أن ذكرت عندما اعتبرت الدين عنصرا من عناصر الحضارة أو ركنا من أركانها. لكن علاقاتنا الثقافية والدينية بهذين المجالين سيئة منذ صار الوعي الديني عاملا فاعلا في السياسة، وفي العلاقات الدولية. وبالوسع القول إن هذه مشكلات عارضة وليست بالضرورة ذات طبيعة دينية. وبالوسع القول أيضا إن عدة باحثين إسلاميين كتبوا في السنوات الأخيرة عن إقرار الإسلام للتعددية الثقافية والسياسية. لكن هذه النظرات تقلل من جديتها وجدواها عدة أمور أولها مصائر الحوار المسيحي الإسلامي البادئ منذ أكثر من خمسين عاما. وثانيها: التطورات الفكرية والسلوكية لدى العرب والمسلمين تجاه المسيحيين. وثالثها رؤى الإسلاميين -المعتدلين على الخصوص- لمشكلات الأقليات الإسلامية في العالم، وفي الغرب على الخصوص. ففي مجال العلاقات الإسلامية المسيحية، والحوار المسيحي الإسلامي ما كانت هناك مراجعة ضمن الجماعة العربية في القرن العشرين للعلاقات مع المسيحيين العرب، والتي كانت ينبغي النقاش في تجديدها، وفي النظر في عقد جديد. وعندما كانت المسيحية العربية تتعرض لضغوط تبشيرية هائلة من جانب المسيحيات الغربية أفظع بكثير مما تعرض له المسلمون، كان الجهد منصبا على مواجهة التبشير والاستشراق بين المسلمين دونما حديث أو مساع لإمكانات التضامن والتفاهم على المستويين الوطني والعربي. ولمن لا يعرف؛ فإن الجدال بين المسيحية والإسلام في العصر الحديث؛ وإن كان قد بدأ في شبه القارة الهندية لمواجهة التبشير؛ لكن المسلمين انصرفوا منذ مدرسة المنار لمجادلة المسيحية العربية استنادا إلى آليات المجادلة القديمة. وقد بدأت جهود اجتهادية وتجديدية منذ عصر التنظيمات العثمانية لإحلال مبدأ المواطنة محل نظام أهل الذمة القديم. لكن "الصحوة الإسلامية" منذ أربعينات القرن العشرين جددت الثنائيات على نظام أهل الذمة، وصولا إلى تطرف السبعينات من القرن الماضي والذي أعاد الأمور إلى بداياتها الوسيطة. وقد اجتهد المصريون منذ الثمانينات لتجاوز الحركة الهدمية تلك في أطروحات جادة؛ لكنها استندت إلى موضوعة "الجماعة الوطنية" التي تصح في مصر لا في غيرها. وعندما أذكر هذا كله فليس للقول إن الإسلاميين العرب الآن لا يقرون مبدأ المواطنة والحرية الدينية؛ بل لأقول إن الفكر الصحوي الإسلامي ما تقدم بناء على فكر النهضويين؛ بل إنه نقضه أو حاول ذلك. ولست أرى طبعا أن الإسلاميين هم وراء تضاؤل أدوار المسيحيين العرب في الثقافة والاجتماع والسياسة والعدد؛ فلذلك أسباب أخرى. لكن يبقى أن الأصولية الإسلامية أدت دورا سلبيا مساوقا في ذلك كله حتى لو اقتصرت تأثيراته على تجديد الجداليات القديمة، وعلى استسهال التعرض لحياة الأديان الأخرى وشعائرها وحرياتها الدينية وحراكها الاجتماعي.

وللحوار المسيحي الإسلامي قصة أخرى. فقد دعتنا إليه نحن المسلمين والمسيحيين العرب الكنائس الغربية مطلع الخمسينات. وقد كنا وقتها متشككين بالدوافع والآليات. وقد زالت الشكوك منذ زمن. لكن المبادرة ما تزال بأيدي تلك الكنائس مثل مجلس الكنائس العالمي، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، والفاتيكان. وباستثناء معهد الدراسات الدينية في عمان-الأردن، لا أعرف مؤسسة عربية معنية بالعلاقات الإسلامية المسيحية أو بالحوار الإسلامي المسيحي. وفي حين تملك الكنائس والجامعات الغربية معاهد ومراكز ومجلات للعلاقات وللمعرفة وللحوار مع الإسلام، لا نملك نحن المسلمين شيئا من ذلك حتى الآن.

ولنصل إلى المسألة الطريفة والمحزنة، وذات الدلالة الفاقعة على علاقاتنا المتردية بالعالم، وغربتنا عن عالمية الإسلام، وعن التعددية التي أكثرنا الكتابة فيها في العقدين الأخيرين. ففي إفريقيا وآسيا ومنذ الستينات "حركات تحرير" وحركات استقلالية لأقليات مسلمة في بلدان ذات أكثريات مختلفة. وما استطاع المثقفون المسلمون الوصول إلى أطروحة عقلانية مصلحية في هذا الصدد.

وإذا كنا قد أشرنا هنا إلى سوء العلاقة بين الأقليات الإسلامية والأكثريات في بعض البلدان؛ فالأكثر دلالة على سوء علاقة المسلمين بالآخرين في بلدانهم وفي العالم أوضاع الأقليات غير المسلمة في بلدان الأكثرية الإسلامية.

بيد أن الأكثر تعبيرا عما أقصده من انغلاق الفكر الإسلامي وتأزمه وسوء علاقته بالعالم؛ يتمثل في النظرة الفقهية إلى أوضاع الجاليات الإسلامية في الغربين الأوروبي والأمريكي. فقد انصرف الإسلاميون المعتدلون في الثمانينات إلى إنشاء فرع دراسي سموه "فقه الأقليات المسلمة" لشرعنة إمكان استمرار عيش المسلمين في بلدان غير إسلامية! وهذا هو الغريب! الغريب هو الإقبال على تبرير التعايش بين المسلمين وغير المسلمين في ظل سلطة وقوانين غير إسلامية. لكأنما نحن المسلمين لا نملك تجربة تاريخية في العيش مع العالم وفيه، والعالم غير المسلم على الخصوص. ولكأنما نحن في أواخر القرن السابع عشر أو في منتصف القرن التاسع عشر، حين كان النقاش بين الفقهاء: نقاتل أو نهاجر؟ أو كما لو أن الآخر هو الذين أرغمنا على الإقامة في دياره. إن عدد المسلمين في العالم اليوم أكثر من مليار، ونتعامل مع أنفسنا ومع العالم كأنما نحن أقلية تريد الانعزال والانفصال خوفا من أن تنقرض أو تتهدد هويتها!

(3)

أظهرت التحولات المعاصرة أن الفكر الإسلامي والسياسات الإسلامية تعاني أزمة طاحنة. إن هذا لا يعني أن الآخر محق في سلوكاته تجاه أرضنا وإنساننا ومصالحنا. كما أن القلق الإسلامي على مدى العالم لا يمكن التسرع في إدانته أو إنكاره أو الاستخفاف به. لكن الوعي الثقافي والديني السائد في المجالات الثقافية العربي الإسلامية لا يعين على التصدي للمشكلات الحقيقية في العالم ومعه، فضلا عن أن يقدم رؤية أو رؤى ممكنة للعلاقات بين الأمم والثقافات والأديان الأخرى. نستطيع الاستمرار في الشكوى من هجمة العالم علينا. لكن ذلك لن يحل المأزق، كما لن تحل المأزق أو تخرجنا منه دعوات الأصالة والتجدد الذاتي والغزو الثقافي والانعزال أو الانتحار. ولست أعلم تماما ما يدور في بلدان العالم الإسلامي غير العربية. لكنني أعلم أننا نحن العرب المسلمين -والمثقفون الإحيائيون والأصوليون منا على الخصوص- صرنا بدون أن نقصد جزءا من العبء الواقع على أوطاننا وعلى المسلمين، ومشكلة للعالم أيا يكن الحق في دعاوانا وشكاوانا. لا بد من الخروج من اللحظة العاجزة. ولا بد من التصدي لها بالإصلاح، ولا بد أولا وأخرا من الدخول في العالم والمشاركة فيه بقوة وإن أبى ذلك علينا المهيمنون.
إن الرؤية الانقسامية للعالم من صناعة الإحيائية الإسلامية في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. فقد كان المراد الحفاظ على طهورية الهوية أو استحداث تلك الطهورية. وفي الحرب الباردة ازدادت تلك الطهورية تجذرا.

لا بد إذن من حركة للإصلاح الديني من ضمن نهوض ثقافي عربي وإسلامي. ولا يعني ذلك الرجوع إلى أطروحة تنويريي أواخر القرن التاسع عشر بحذافيرها، بل البناء على الروحية التي انطلقوا منها باعتبار أننا جزء من هذا العالم، ونريد المشاركة في تقدمه وأمنه وصنع حاضره ومستقبله، ومظلتنا مقاصد الشريعة التي تهب مطامحنا ومصالحنا الإنسانية طابعا أخلاقيا مسؤولا. وما أدعو إليه هنا ليس سهلا لا لأنه يتطلب شروطا ثقافية ومعرفية وأجواء نفسية غير متوافرة وحسب؛ بل إنه صعب لثلاثة أسباب رئيسية: الهيمنة الهاجمة فعلا وبالحق وبالباطل، وانحياز قوى الآخر فضلا عن صعوبات التغيير السياسي والاقتصادي في العالمين العربي والإسلامي- وهذه أمور التصرف في ظلها عسير ومضن- فالعدوانية- والاستبداد يضيفان عبئا إلى الأعباء الواقعة على عاتق الذين يريدون التغيير والإصلاح. وقد كانت تلك محنة الإصلاحيين الأوائل، لكنهم تقبلوا الأمر بشجاعة ومسؤولية في الأعم الأغلب.

وتحسن في هذا الصدد الإشارة إلى نموذج للصعوبات التي ذكرتها. فقد دأبت الصحافة الغربية خلال الشهور الماضية على المطالبة بإصلاح البرامج في المدارس الدينية الإسلامية. وهكذا فإن كل دعوة للنظر في برامج التعليم الديني وغيره وطرائق عرضها للآخر، وصور الآخر الديني والوطني والعالمي فيها، عرضة للاتهام بالرغبة في تشويه الإسلام.

وهنا أذكر أننا عندما كنا ندرس مادة الفقه في الأزهر في الستينات، كانوا يقرئوننا نصوصا فقهية قديمة عن أحكام أهل الذمة وعن الجهاد. لكن شيخنا محمد أبو زهرة كان يعتبر نظام أهل الذمة كله نظاما تاريخيا مضى وانقضى، فيدرسنا إياه معلقا بأن هذا الباب في كتب الفقه صار مثل باب أحكام الرق التي مضت وانقضت. ولذلك فقد كان يشجعنا على المقارنة بين آراء الفقهاء واجتهاداتهم المختلفة للتأكيد على التاريخية والانقضاء. وكذا فيما يتعلق بدار الإسلام ودار الحرب. وتمثل تأثير ذلك في حقبة الجمود العقائدي في العقود الأخيرة، فبحجة التأصيل بتحويل الموروث الفقهي إلى حكم يضاهي في ثباته النص القرآني المحكم. ويصبح الأمر أخطر في مباحث أصول الدين.

إنني أرى أن هذه الأمور كلها تتعلق بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى برؤية العالم، أي بعلائقنا به، ومصالحنا معه، ودورنا فيه. ويقتضينا ذلك عملا معرفيا دؤوبا، ومتابعة مصممة متبصرة، ونزوعا نقديا مسؤولا، ونظرا للأمة ومصائرها ومستقبلها. والأمر صعب بسبب اليأس والإحباط ونزعة الهروب إلى الأمام، والافتراق الهائل بين الواقع والطموح، والعجز عن التغيير. لكن الرهان يبقى على قدرات النخب على التجدد، وإرادتها المشتركة في صنع مستقبل آخر.

*****************

*) باحث وأكاديمي ومفكر من لبنان.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=24

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك