الإســلام والغـــــرب

الإســلام والغـــــرب

حسن حنفي*

أولا: المنهج
1- موضوع الإسلام والغرب ليس موضوعا جديدا برز بعد حوادث 11 سبتمبر الأخيرة في نيويورك وواشنطن؛ بل هو موضوع قديم منذ انتشار الإسلام منذ أربعة عشر قرنا أو يزيد حول شاطئ البحر الأبيض المتوسط في الجنوب ثم الشمال وورثته للإمبراطورية الرومانية. إذا قوي الشاطئ الشمالي الأوربي اتجه بالغزو نحو الشاطئ الجنوبي الأفريقي وإذا قوي الشاطئ الجنوبي الأفريقي امتد أثره إلى الشاطئ الشمالي الأوربي طبقا للمثل المعروف «الرُّوم إذا لم تغزُ غُزِيت».

وأثناء الحرب الصليبية أتى الغزو من الشمال الغربي الشاطئ الأوربي إلى الجنوب الشرقي الأسيوي في الشام. ونجح الجنوب و الشرق، مصر والشام في صد الحملة. وفي العصر الحديث أتى الغرب من جديد من الشمال والغرب، من أوربا وأسبانيا والبرتغال إلى الجنوب والشرق، إلى أفريقيا وآسيا عبر البحار والمحيطات بحركة التفات نحو العالم القديم بعد أن فشل الاختراق في القلب في فلسطين.

وقامت حركات الاستقلال الوطني في أفريقيا وآسيا بالتحرر من الاستعمار الغربي الحديث وشاركت أمريكا اللاتينية في ذلك بعد أن أراد الغرب الأسباني احتلال الشرق الأسيوي عن طريق البحر، عبر الأطلنطي.

2- فالصراع بين الشرق والغرب منذ الصراع بين فارس والروم وفتوحات الإسكندر في قلب آسيا، والصراع بين الشمال والجنوب منذ الصراع بين روما وقرطاجنة ثُمَّ الصراع حول البحر الأبيض المتوسط بشاطئيه الشمالي الأوروبي والجنوبي الأفريقي عبر المرحلة القديمة اليونانية الرومانية ثم الوسيطة المسيحية الإسلامية ثم الحديثة، صراع قديم ما زالت جذوره متأصلة في اللاوعي الحضاري حول البحر الأبيض المتوسط. هذا الإرث التاريخي، والتراكم الثقافي جعل شاطئي البحر الأبيض المتوسط كفارسين متبارزين عبر التاريخ، ندان خصيمان لا غلبة لأحدهما على الآخر، فنشأت بين الضفتين علاقة محبـة وكراهية، الأثر المتبادل بين الشمال والغرب من ناحية والجنوب والشرق من ناحية أخرى. وهـو ما يعرف في الأدبيات الحالية باسم "الإسلام والغرب"، وهو تقابل بين حضارة ومنطقة جغرافية، والأصح بين حضارتين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، أو بين منطقتين جغرافيتين بين الغرب والشرق، بين ريح الغرب وريح الشرق، بين الريح الغاربة والريح القادمة. لذلك تعثر حوار الشمال والجنوب، والحوار العربي الأوربي.

وكل محاولات تأسيس حضارات شرق أوسطية أو متوسطية، فهو الغرب وسط الشرق، والشمال وسط الجنوب. وربما يكون مصير محاولات الشاطئ الأفريقي العربي أو الأسيوي التركي الانضمام إلى الاتحاد الأوربي وكذلك محاولات برشلونه أن تلقى نفس المصير إذا لم يتم التخفف من هذا الإرث التاريخي القديم المتراكم في الأذهان والقابع في اللاوعى الثقافي لشعوب المنطقة والذي يطفو بين الحين والآخر على السطح كما هو الحال هذه الأيام.

وربما أن الفترة الوحيدة التي عاشت فيها الضفتان الشمالية والجنوبية نموذج حوار الحضارات هي الفترة الأندلسية التي عاش فيها العرب والبربر، المسلمون واليهود والنصارى في غرناطة وأشبيلية وقرطبة و طليطلة وخلق حضارة إنسانية واحدة تنصهر فيها الثقافات المتعددة. وهو ما عرف في تاريخ اليهودية باسم العصر الذهبي. وعرف الغرب بعد خروج العرب المسلمين من الأندلس محاكم التفتيش للمفكرين والعلماء. ولم تبدأ نهضة الغرب الحديثة إلا بفضل الترجمات التي تمت في طليطلة وفي صقلية وفي بيزنطة للتراث العربي الإسلامي العلمي والفلسفي والعمراني من العربية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر اللغة العبرية، وعندما كان الإمبراطور فردريك الثاني يتحدث العربية في بلاطه ويراسل عبد الحق بن سبعين.

3- إن التأصيل التاريخي لعلاقة الحضارتين العربية الإسلامية والحضارة الغربية بين الإرث التاريخي الذي يثقل الكاهلين ويمنع من التحرك نحو النموذج الأندلسي الجديد، حوار الثقافات. كما أنه يساعد على القضاء على أسطورة الجواهر الثابتة للحضارات، والشخصيات القومية للشعوب، الدوائر المغلقة التي تتناطح فيما بينها، مرة غالبة ومرة مغلوبة. ويتجنب الوقوع في إصدار الأحكام المطلقة التي لا تراعي المراحل التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية التي تنشأ فيها كل حضارة.

والغرب معروف بنسبية الأحكام في دراساته الخاصة به، وفي الخارج يطلقها على الحضارات اللاغربية. في الداخل يحلل تاريخية حضارته ومسارها في الزمان والمكان، وفي الخارج يدرس الحضارات اللاغربية في جوهريتها خارج الزمان والمكان. في الداخل يتجنب أحكام القيمة ويفضل أحكام الواقع بدافع الموضوعية والحياد، وفي الخارج يطلق أحكام القيمة مما يكشف عن التحيز واتباع الأهواء. فالمعيار المزدوج يتجلى في النظرة العلمية للحضارات وطبيعتها.

4- ومن الظلم المقارنة بين الثقافتين الإسلامية والغربية في لحظة واحدة؛ إذ تعيش كل ثقافة في مسار تاريخي خاص. فالثقافة الغربية مرت بثلاثة عصور: القديمة والوسطى والحديثة؛ في العصر القديم لم يكن الإسلام قد ظهر بعد أو انتشر، فورث الحضارة القديمة اليونانية واللاتينية وتراث الآباء اليونان واللاتين، ترجمة وتعليقا، وشرحا وتلخيصا، وعرضا وتأليفا، وقراءة وتأويلا، وانتحالا وإبداعا. وفي العصور الوسطى نشأت الحضارة الإسلامية الزاهرة في عصرها الذهبي، عصر المتنبي والبيروني والتوحيدي وابن سينا وابن الهيثم، وهو ما يقابل العصر الوسيط الأوربي. ثم بدأ عصر الشروح والملخصات في الحضارة الإسلامية التي استدعت بالذاكرة ما أبدعته قديما بالعقل، وهي فترة العصور الوسطى بالنسبة لها. العصر المملوكي التركي العثماني، عصر التدوين الثاني، وهو العصر الذي بدأ فيه الترجمة من العربية إلى اللاتينية للعلوم الرياضية والطبيعية والفلسفة الإسلامية والتي كانت وراء النهضة الأوروبية الحديثة. فالعصور الوسطى الأوروبية من القرن السابع حتى القرن الرابع عشر الميلادي تقابل عصرنا الذهبي في القرون السبعة الهجرية الأولى والتي أرخ لها ابن خلدون. والعصور الحديثة الأوروبية من القرن الخامس عشر حتى القرن الواحد والعشرين تعادل عصورنا الوسطى من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر الهجري.

فكل حضارة الآن تعيش لحظة تاريخية مختلفة عن الأخرى نظرا لاختلاف مساريهما التاريخي. أما الآن فالعصور الحديثة الغربية التي بدأت منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، وعصر النهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والعلم في التاسع عشر؛ تنتهي في أزمة القرن العشرين وما بعد الحداثة في القرن الواحد والعشرين.

وعصورنا الوسطى التي بدأت منذ ابن خلدون في العصر المملوكي التركي العثماني، عصر الشروح والملخصات والموسوعات الآن تنتهي منذ فجر النهضة العربية الحديثة والحركات الإصلاحية في القرن الماضي.

5- والغالب على صورة الحضارة الإسلامية في الغرب الصورة النمطية التقليدية الموروثة عن العصر التركي والمملوكي العثماني، الصورة التي أعطتها تركيا للغرب في أوج الامتداد الأسيوي في شرق أوربا حتى أبواب فينا، وهي الصورة التي تناقلها الاستشراق التقليدي في القرن التاسع عشر، هي صورة الحضارة الإسلامية النمطية بعد أن فقدت تعدديتها منذ القرن السادس الهجري. أخذ الغرب صورة الإسلام الذي يثبت المعجزات وليس قوانين الطبيعة، والسحر والخرافة وليس العقل والبرهان، وحقوق الراعي وواجبات الرعية وليس حقوق الرعية وواجبات الراعي. عرف الغرب الإسلام التقليدي الشائع.

لذلك فإن مهمة المفكرين المعاصرين والباحثين في التراث إبراز الجوانب المستبعدة منه، والمهمشة فيه، العقلانية، وهو ما سماه المعاصرون "الإسلام المستنير".

6- وبعد أن يتم تحرير الصورة المرئية للحضارة العربية الإسلامية من مرآة الغرب يتم تحرير الغرب من مرآة ذاته، والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية، ولبيان أن الحضارة الغربية حضارة تاريخية نشأت في زمان ومكان معينين ولشعوب بعينها، لها أصولها في الحضارتين اليونانية الرومانية وفي الثقافتين اليهودية والمسيحية ثم تفاعل هذين المصدرين مع البيئة الأوربية نفسها وثقافاتها المحلية وأساطيرها الشعبية ودياناتها الوثنية. صمت عن مصادرها الشرقية من أجل الإيحاء بأسطورة "المعجزة اليونانية" التي ورثتها المعجزة الأوربية، الخلق العبقري الأصيل على غير منوال. صبت فيها حضارات العالم القديم والوسيط كلها، من الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرين ومصر القديمة، ثم كانت الحضارة الإسلامية أحد مكوناتها في مطلع عصورها الحديثة. وفصل العلم عن تاريخه حتى يظل العلم إبداعا أوروبيا خاصا، وأوحى بأنه يتميز بالعقل والعقلانية، والعلم والعلمية، والإنسان والإنسانية. الغرب وحده هو الذي اكتشف الإنسان والتاريخ واتهم الحضارات الأخرى بأنها حضارات الأبدية والخلود. فتربت عنصرية دفينة في أعماق الوعي الأوروبي ظهرت في النظريات العريقة في القرن التاسع عشر، وفي المركزية الأوروبية منذ العصور الحديثة وما سمي بالكشوف الجغرافية. فأوربا مركز العالم، وغيرها ما وراء البحار. أوربا هي "المتروبول" وغيرها "الكومنولث". أوربا هي الذات وغيرها هو الموضوع كما هو الحال في الاستشراق. ثم تتحول هذه الثنائية من الواقع إلى القيمة. فتصبح أوربا على حق، وغيرها على باطل كما هو الحال في الحركات الأصولية. مبادئها لنفسها وعكسها لغيرها، العلم والعقل والإنسان والتقدم داخل حدود أوربا وحدها. وتتكسر هذه المبادئ خارجها، وتتحول إلى نقيضها، الجهل والخرافة وخرق حقوق الإنسان والتخلف هو أعلى درجة من درجات العنصرية الثقافية.

7- هذا التأصيل التاريخي للحظات الصراع ولحظة الحوار بين ضفتي البحر المتوسط الشمالية والجنوبية لا يمنع من إمكانية بروز لحظة حوار أخرى في المستقبل القريب "حوار الثقافات" بدلا من "صراع الحضارات".

لقد لعبت أوربا دور الأستاذ مرتين، الأولى في اللحظة اليونانية، والثانية في اللحظة الحديثة. وكانت الحضارة العربية الإسلامية هي التلميذ في كلتا الحالتين. فأرسطو هو المعلم الأول والفارابي هو المعلم الثاني. وبطليموس هو الأول، وابن الهيثم بطليموس الثاني. وفلاسفة التنوير المحدثون الطهطاوي وخير الدين التونسي هم المعلمون الجدد، والنهضة العربية الحديثة نتاج لها. ولعبت الحضارة الإسلامية دور المعلم مرة واحدة، في الأندلس، عندما تمت الترجمة من العربية إلى اللاتينية وكانت العصور الحديثة الغربية التلميذ.

ثانيا: الموضوع

بعد هذا التأصيل التاريخي في المنهج تأتي عناصر الموضوع التي ينشأ فيها التوتر بين الثقافتين الغربية في الشمال والإسلامية في الجنوب على شاطئ البحر الأبيض المتوسط والتي تسبب سوء فهم الشمال للجنوب. ولما كان الإسلام صلب ثقافة الجنوب ارتبط سوء الفهم به دون التفرقة بين ما هو من صلب الدين وما هو ناتج عن الظروف الاجتماعية والسياسية، بين ما هو من جوهر الدين وما هو من صنع التاريخ. وأهمها:

1- ربط الإسلام بالإرهاب وعدم الاعتراف بالآخر. والحقيقة أن هذه صورة مشوهة. فالإسلام دين التحرر من القهر والعدوان بفعل التشهد، والإعلان أنه "لا إله إلا الله"؛ أي المبدأ الواحد الشامل الذي يتساوى أمامه الجميع ضد الجبروت والطغيان وآلية العصر المزيفة، القوة، والثروة، والجاه، والشهرة، والجنس، والترف، والثروة، والعدمية.

2- ربط الإسلام بالقسوة في التعامل مع البدن والآخر بوجه عام، قسوة الشريعة الإسلامية في الحدود: القتل، والصلب، والرجم، وقطع اليد، والجلد، والتغريب، حدود الردة والقصاص والسرقة والزنا وشرب الخمر. والحقيقة أن هذه الصورة إعلامية صرفة لتشويه الإسلام كدين وثقافة. فالشريعة الإسلامية كل لا يتجزأ، ولا تنفصل الحدود عن الفروض والكفارات. فالحدود تأتي في النهاية وليست في البداية، والحقوق تسبق الواجبات. فمن حقوق المسلم الكفاية؛ أي: إشباع الحاجات الأساسية من طعام وشراب وإسكان وتعليم وعلاج وعمل وزواج مبكر.

3- أما التعصب والتشدد ورفض الحوار والتصلب للرأي فهي ممارسات حانقة ومواقف غاضبة حتمتها الظروف النفسية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات العربية الإسلامية التي تضيق بالمعارضة وبالرأي الآخر. إقصاء في مقابل إقصاء، واستبعاد ضد استبعاد. في حين أن الاختلاف حق شرعي، وموضوع لعلم الخلافيات، وحلها في التعارض والتراجيح.

ولا يوجد كتاب سماوي حاور المخالفين مثل القرآن الكريم الذي حاور إبليس والكفار والمشركين والمنافقين والصابئة والوثنيين، الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، والبرهان بالبرهان. الاختلاف سنة الطبيعة والحياة من أجل إيجاد الوحدة السارية وراءه. الوحدة في التنوع، والتنوع في الوحدة.

4- وقد عمم الغرب ما سماه بالأصولية على الثقافة الإسلامية كلها واعتبرها أصولية. ويعني بها رفض الجديد، والتمسك بالقديم، العودة إلى الأصول ورفض الحداثة، والحرص على المظاهر والأشكال، وممارسة العنف في الداخل والخارج، وتكفير المجتمع، ويستشهدون بقول ابن خلدون: إن العرب -ويقصد الأعراب- إذا استولوا على دولة أسرع إليها الخراب. فالبداوة ضد الحضارة، والبدوي أسعد في الخيمة منه في الدولة.

والحقيقة أن الأصولية تيار في كل حضارة له مميزاته وعيوبه؛ إذ إِنَّهُ ينبه على مخاطر الاغتراب، وفقدان الهوية، والانبهار بالحداثة والثمار، وترك الأصول والجذور. وهي ليست بمفردها بل في حوار مع الإصلاحية أو في صراع معها وهما تياران صحيان، يصحح بعضهما البعض الآخر.

الأصولية في الغرب أيضا رفض للحداثة وقيم المجتمع الاستهلاكي. والعود إلى الحياة البدائية كان نموذجا للتحرر منذ روسو، عود إلى الطبيعة والبراءة الأولى.

5- ويُتَّهم الإسلام باللاعقلانية وبالإيمانية الشديدة مِـمَّا يؤدي إلى الاتكالية، والإيمان بالقضاء والقدر، والسلبية والاستسلام، وترك السعي للرزق والعمل في الدنيا والكدح فيها، ومقاومة مظاهر الفساد فيها.

وقد اتَّهم رينان وليون جوتيه كل الحضارات السامية بالتناقض والجمع بين النقيضين، وغياب الاتساق والاستدلال، وتطابق المقدمات مع النتائج، تجمع ولا تفرق، تخلط ولا تميز. وهو اتهام غير صحيح، وإسقاط من بعض التيارات الدينية على الإسلام.

فالإيمان برهان عقلي وتصديق قلبي، ليس فيه ما يتجاوز العقل كما هو الحال في العقائد المسيحية مثل التثليث الأقرب إلى السر أو في اليهودية كالاختيار والعهد وأرض الميعاد وحب الله لأبنائه غير المشروط بطاعة أو تقوى أو صلاح.

وعندما يدرس البيروني حضارة الهند فَإِنَّهُ يقيسها بالعقل في كتابه الشهير «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة».

والعقل مناط التكليف، والنظر أول الواجبات، والقياس مصدر من مصادر التشريع، وإيمان المقلد لا يجوز، والتقليد ليس مصدرا من مصادر العلم.

بل إن الغرب الآن قضى على عقلانيته واتهمها بالصورية والتجريد، والشكلانية والفراغ. وآثر اللامعقول والتناقض، ونقائض العقل، وإرادة القوة، الحياة والوجود الإنساني، الاشتباه و"موت الإله". وقلب القيم كما قال فاير آنبد في «وادعا أيها العقل» و «ضد المنهج».

6- ويقال: إن الإسلام حضارة دينية تنتمي إلى العصور الوسطى اليهودية المسيحية في حين أن الغرب وحده هو صاحب الحضارة العلمية ومؤسسها. الدين والأخلاق، والتصوف والزهد صناعة الشرق، والعلم والحضارة، والسياسة والمدنية صناعة الغرب. الشرق مهد السحر والخرافة والفراسة والكهانة وقراءة الطالع والفنجان وسرب الودع والتنجيم. والغرب وحده هو الذي نقل المعرفة من الوهم إلى الطبيعة. الإسلام هو ألف ليلة وليلة وبساط الريح، وعلاء الدين والمصباح السحري، وليالي شهرزاد، وغناء الجواري والقيان، حضارة الكهوف كما وصفها شبنجلر في مقابل حضارة السهم الحضارة الغربية. وهو تعميم خاطئ.

فقد نشأ العلم في حضارات الشرق القديم في الهند، والنظم السياسية في فارس، والفلك في حضارات ما بين النهرين، وازدهرت العلوم الرياضية و الفلك والحساب والجبر والهندسة والموسيقى والعلوم الطبيعية والطب والصيدلة و الكيمياء والنبات و الحيوان و المعادن في الحضارة الإسلامية. وكانت هذه العلوم في ترجماتها اللاتينية وراء نهضة العلم الغربي الحديث.

فالوحي والعقل والطبيعة شَيْء واحد في النموذج الحضاري الإسلامي كما أن مظاهر الكهانة وقراءة المستقبل موجودة في كل حضارة، الكاهن في مصر القديمة، والعراف في الهند، والتنبؤ بالمستقبل عرفه شيشرون عند الرومان، وكاهنة معبد دلفي عند اليونان. وقد جعلها كاسيرر كلها أشكالا رمزية وأنماطا متعددة للمعرفة.

7- ويقال: إن الحضارة الإسلامية لم تعرف «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» والذي لم يعلنه إِلاَّ الغرب الحديث مرتين، بعد الثورة الفرنسية وبعد الحرب العالمية الثانية. الحقيقة أن هذا اتهام باطل؛ فكل حضارة بها نزعة إنسانية في مقابل النزعة الإلهية والنزعة الطبيعية. ويمثلها كونفوشيوس في الصين، وبوذا في الهند، وسقراط عند اليونان، والمسيحية كقراءة جديدة لليهودية، والإسلام في نظرية الإنسان الكامل، وخلافة الإنسان لله في الأرض، والصفات المشتركة بين الإنسان والله مثل: العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، مطلقة في الله، ونسبية في الإنسان، مجازا في الله، وحقيقة في الإنسان، قياسا للغائب على الشاهد. وقد عرف الصوفية نظريات وحدة الشهود ووحدة الوجود.

وعرفت الشريعة حقوق الإنسان في مقاصدها كما عبر عن ذلك الشاطبي الذي وضع للشريعة ابتداء الضروريات الخمس: الحياة والعقل والدين والعرض والمال. وفي القرآن ﴿من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا.ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾. وذكر الإنسان في القرآن بحدوده وعظمته، في واقعيته وفي مثاليته. وهو الإنسان المعياري وليس الإنسان النسبي، الإنسان الذي يتجاوز حدود الأقوام والشعوب والأجناس والأعراق، خليفة الله في الأرض وليس الإنسان الذي لا يوجد إِلاَّ داخل الحدود الجغرافية للغرب، وخارجه لا توجد إلا الطبيعة أو القبائل؛ أي الشعوب البدائية موضوعا للمتاحف أو لعلوم الأنثروبولوجيا الثقافية.

وإذا كانت الثقافة العربية والإسلامية قد عرفت مفهوم الواجبات دون الحقوق فإن الحضارة الغربية قد قامت على مفهوم الحقوق دون الواجبات. العربي الإسلامي عليه واجب دون أن يقابله حق. والأوربي له حق دون أن يكون عليه واجب.

8- ويقال: إن وضع المرأة في الإسلام لا يتفق مع حقوق المرأة في العصر الحديث، فهي الأنثى مقابل الذكر، الزوجة المطيعة للزوج والأم الولود والبنت القاصر التي في حاجة إلى وليّ، فلا نكاح إِلاَّ بولي، ميراثها وشهادتها نصف ميراث وشهادة الرجل، ولا تكون قاضية أو رئيسة دولة، والرجال قوامون على النساء، تضع الحجاب، وتمكث في المنزل، وتتعدد الزوجات لرجل واحد، وتكون رهينة الطلاق كحق مطلَقٍ للرجل.

والحقيقة أَنَّهَا صورة مسرحية سينمائية من الحياة الشعبية تبتسر وضع المرأة في الشريعة وفي الواقع المعيشي. فالشريعة أتت في بيئة لم يكن للمرأة فيها حق الحياة، كانت توأد عارا، فرد الإسلام لها حق الحياة. لم يكن لها نصيب في الميراث ولا تعتبر شهادتها، وجعل لها الإسلام شخصية اعتبارية في الحفاظ باسمها وبحقها في الممارسات التجارية، وفي التعليم والعمل، والاشتراك في شتى نواحي الحياة الاجتماعية. ولها الحق في اختيار شريك حياتها، قبولا أو رفضا، وحق طلب الطلاق في حالة عدم استيفاء حقوقها والنيل منها كما هو الحال في قانون الخلع.

وحق الإجهاض والشذوذ الجنسي والعري مرتبط بالحضارة الغربية وحدها دون باقي الحضارات التي تقوم على حق الحياة للأفراد وللنفس والجنس الطبيعي وحرمة الجسد.

9- ويقال: إن الإسلام لم يعرف المواطنة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وأن الهوية هي الهوية الإسلامية وليست الهوية الوطنية، وأن النظام الإسلامي هو نظام «الملة» الذي عرف في الدولة العثمانية، ويشار إلى الجزية، وأهل الذمة، وأهل الكتاب، فالنصارى واليهود أهل الكتاب في ذمة المسلمين، عليهم الجزية في مقابل العيش في أمان، والمساهمة في تكلفة الدفاع في مقابل الإعفاء من الجندية.

والحقيقة أن هذه أيضا صورة مبتسرة للتعددية في المجتمع الإسلامي؛ فالأمة متساوية في الحقوق والواجبات مثل الأفراد بصرف النظر عن ملته، وكما نص على ذلك «ميثاق المدينة».

المجتمع الإسلامي بطبيعته متعدد يحكمه قانون العدل، وهناك أشياء انتهت بتقادم الزمن مثل الجزية كضريبة للدفاع، وأهل الكتاب الآن مواطنون ينخرطون في سلك الجندية، ولم تعد تستعمل هذه المصطلحات التي نحتها الفقهاء القدماء مثل أهل الكتاب وأهل الذمة، فالولاء اليوم للوطن، والحق والواجب للمواطنة وللمواطن، والقوى المتصارعة باسم الدين والملة. وقد تقدم فقه الملل الآن في الاجتهادات الإسلامية المعاصرة وصولا إلى المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات.

10- وما يقال عن الطوائف والملل يقال عن الأجناس والأقوام والشعوب والقبائل، والتي سماها الغرب الأقليات العرقية التي يحددها لون البشرة، والتقابل بين الأبيض من ناحية، والأسود والأصفر والأحمر من ناحية أخرى، ويبدو أن الغرب يسقط تصوره على باقي الحضارات.

فقد اعتبر الإسلام العنصرية من تراث الجاهلية، والعروبة ليست بأب وأم وَإِنَّمَا هي اللسان، ولا فضل لعربي على عجمي إِلاَّ بالتقوى والعمل الصالح. وكان بلال مؤذن الرسول أسودا حبشيا. وكان النجاشي ملك الحبشة النصراني نصيرا للإسلام والمسلمين، وإليه كانت الهجرة الأولى، وعندما قضى نحبه صلَّى عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- كأخ للمسلمين، الكل لآدم وآدم من تراب، العبيد هم عباد الله.

والعبودية كانت نظاما شائعا لدى الفرس والروم الحضارات القديمة حاول الإسلام انتزاعها من النفوس. فلا يجوز استرقاق من يعرف القراءة والكتابة ولا الأمة بفعل الأمومة، وإن تحرير الرقاب إحدى الكفارات عن الذنوب مِـمَّا يدل على أن الاسترقاق كبيرة من الكبائر، وإذا كان رق الأفراد قد انتهى فقد بقي رق الشعوب.

11- وتوصف الشخصية العربية في الأنثروبولوجيا والأدب بالكذب والنفاق والتآمر والخسة والغدر وعدم الوفاء، والكسل والتبعية والعبودية، وعدم الإحساس بالزمن والتراخي والترهل وقبول الضيم والتعود على القهر والفقر، والخضوع والاستسلام، والقبول بأقل القليل، الكلام الطيب يرضيه، وشراء الخواطر يريحه، كما أَنَّهُ حِسّي في تصوره للدنيا والآخرة، ماديّ في التعامل مع الغيب، في تصوره للجنة والنار وأمور المعاد، وهو معروف بالبذخ والبخل وبالتبذير والتقتير في آن واحد. يعيش في الماضي ويجتره، وينقل عن الآخرين إبداعاتهم، وهي صور فولكلورية شعبية من أجل السخرية من الآخرين، يلصقها الغرب بالآخر دائما، الهدف منها جعل الآخر في مرتبة أقل. وقد ألحقت باليهود أيضا عبر التاريخ.

وفي حماس الدفاع عن النفس يمكن أن يقال العكس كما يصور ذلك شعر المديح والفخر، فالعربي مغامر يؤثر الآخرة على الدنيا، والموت على حياة الذل، كريم مع الكرماء، وفي بالعهد إلى الآخر ما هو معروف في أدبيات الشعوب القديمـة.

*******************

*) باحث ومفكر من جمهور مصر العربية.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=23

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك