كلمة سواء
كلمة سواء
خليل الشيخ
كنا ندرك، منذ تقرر أن يكون التسامح اسما لهذه الدورية أننا نختار طريقا شاقّا في عالم يغدو فيه التسامح صعبا، إن لم يكن في كثير من الأحيان مستحيلا. ولكن التسامح الذي يجسد أرقى ما في العلاقات الإنسانية، يظل يؤشر على الذرى التي يتوجب على الإنسانية أن تبلغها، وأن تجاهد للوصول إليها.
فالتسامح على المستوى الإنساني، يتجلى في القدرة على قبول الآخر –المختلف- واحترامه ومحاورته، وقبول الآخر والاعتراف به وعدم تنميطه وازدرائه، يشير في واقع الأمر، إلى ثقة الذات بنفسها، وإدراكها لهويتها، وما تتحلى به من ميزات وخصائص.
إن التسامح في أبعاده الكبرى، يقوم على حق الاختلاف، وإدراك معاني التعددية، والإيمان بالعلاقات المتوازنة بين الأفراد والمجتمعات، ويؤمن أن الاختلاف لا ينبغي أن يقود إلى الصراع.
وحق الاختلاف مسألة أشار إليها التنزيل الكريم، وحفلت الأدبيات الإسلامية ببيان أبعادها: ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾ (المائدة: 48).
فالتعددية في الواقع الاجتماعي هي الحافز للتنافس في شتى حقول الحياة بين الفرقاء المختلفين في الشرائع والمناهج والرؤى. وفي هذا التباين يكمن غنى هذه الحياة وثراؤها المعرفي.
ولكن هذا الاختلاف الذي قامت عليه الحضارات ونشأت، وأفادت من منجزات بعضها بعضا، يضيع عندما تختـل العلاقة بين بني البشر، وتتحول من التكافؤ والندية والاحترام المتبادل إلى انعدام المساواة والاعتقاد بدونيّة الآخر أو تخلفّه. وتتحول إلى صراع عندما تطغى الرؤية الأحادية، وتفرض قراءتها وتصورها على بني البشر، لتصنع عبر مجموعة ضخمة من الوسائل المادية والفكرية رؤية تبدو فيها تلك الحضارة مركزا، ويبدو فيها الآخر، الذي لا يتماهى مع تلك الرؤية، أو يسعى للحفاظ على ثقافته الذاتية، وهويتّه الحضارية، غريبا وغرائبيا وخارج العصر.
صحيح أن الرؤية القرآنية تنبه إلى خطورة غياب التدافع في واقع الحضارات؛ لأن غياب هذا التدافع يقود إلى موات اجتماعي، واضمحلال حضاري: ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض﴾ (البقرة: 201)
﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا﴾ (الحج: 40)
ولكن هذا لا يعني أن الصراع هو قانون تلك الرؤية بالمطلق، فالإشارات القرآنية إلى "التعارف" وهو يعني قراءة الآخر، واكتشاف ما يمتلكه من رؤى؛ تمثل قانونا مهما في العلاقات الحضارية، وتنطوي في جوهرها على الإيمان بحق الاختلاف، الذي يؤمن بالمشترك الإنساني، ويحترم التعددية في الهويات والثقافات. لذا تبرز آفاق التسامح وتتجلى في روح حضاري جوهرها العدالة، وقوامها الرحمة وأساسها الحوار. لذا ظلت العدالة عند بني البشر -على اختلاف مشاربهم وتصوراتهم- مطلبا أساسيا.
والعدالة في التصور القرآني سر ديمومة المجتمعات وأساس بقائها، لهذا حفل النص القرآني الكريم بالإشارة إلى أنواع شتى من الظلم والاستبداد أدت إلى انهيار حضاري ﴿فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا﴾ (النمل: 52). ورأى مفكر بارز مثل ابن خلدون وهو يقرأ أسس نشوء الحضارات وانحلالها "أن الظلم مؤذن بخراب العمران".
لقد كان جدل العلاقة بين الذات والآخر حاضرا في الثقافة العربية قبل الإسلام وبعده. ولعل هذا الجدل يبين في مستوياته الأولى، وبخاصة قبل الإسلام، أن الثقافة العربية لم تكن غافلة عما يجري خارج إطارها الحيوي.
وإذا كان سؤال "من أنا" الذي يطرحه الإنسان على نفسه هو "سؤال الآخرين" كما يقول محمود درويش في قصيدة "قافية من أجل المعلقات"؛ بمعنى أن الذات لا يكتمل تبلورها إِلاَّ في مرايا الآخر، فإن تصوير درويش الشعري المتميز لهذه الإشكالية الذي لا يخالف الوقائع التاريخية على الإطلاق، بل يجسدها على نحو مكثف لا يستطيع إِلاَّ الشعر الصافي بلورته، قد يقربنا من آفاق تلك الإشكالية، لهذا تتعانق في نص درويش مسألة الوجود مع اللغة، ويغدوان معا تجسيدا للهوية التي كانت تبحث عن ذاتها في إطار العلاقة مع الثقافات الأخرى التي كانت تصنع ذاتها وتبني خصائصها، وكان على العربي أن يجد ذاته في إطار علاقته مع الثقافات الأخرى وصلاته بها. لقد كانت اللغة العربية بكل ما تنطوي عليه هذه اللغة من عبقرية وسيلة للتعبير عن الذات، مثلما كانت غاية يسعى الشعر لاكتشاف جمالياتها، وكان هذا الاكتشاف وسيلة تحقيق الذات على المستوى الحضاري:
هذه لغتي و معجزتي، عصـا سحري
حدائق بابلي ومسلّتي وهويتي الأولـى
ومعدني الصقيـل
ومقدّس العربي في الصحـراء
يعبد مـا يسيـل
من القوافي كالنجوم على عباءتـه
ويعبد مـا يقول
وقد شهدت الحضارة العربية الإسلامية بعد ذلك علاقة عميقة ومعقدة على المستوى الفكري مع الآخر، ولم يكن ذلك الانشغال في كثير من أبعاده ترفا فكريا، لكنه ظل يعكس في حقب متباينة (يمكن أن نشير إلى الجاحظ، والتوحيدي، وصاعد الأندلسي، والبيروني، وابن خلدون مثلا) -كانت تتغير فيها موازين القوى- طبيعة هذه الحضارات وحيويتها، وقدرتها على الصمود والبقاء، وقدرتها على التغير والتحول والإفادة من تلك المثاقفة الحضارية. ولعل "الليلة السادسة" من ليالي "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي، وانشغالها العميق بالآخر تبين أن مثقفي القرن الرابع الهجري -تلك الحقبة الزاهية على المستوى الفكري والإبداعي في الحضارة الإسلامية– كانوا يؤمنون أن لكل حضارة من الحضارات الكبرى -يـوم ذاك- تميزها، ومنجزها الذاتي، وأنها أخذت وضعها على خريطة التاريخ الإنساني. وأن الغرور الذي يضع أية حضارة في المركز من تاريخ الإنسان، ويرفض التواصل مع الحضارات الإنسانية، ذلك التواصل القائم على التكافؤ، سيقود إلى قطيعة حضارية وموت حضاري أكيد.
وقد ظل الانشغال بالآخر في الأزمنة العربية والإسلامية الحديثة شغل المفكرين الشاغل، الذين ظل التقدم الغربي يمثل لهم تحديا جوهريا، وقلقا ممضّا. وقد أنتجت المجابهات المختلفة مع الآخر، ابتداء من عصر الكشوفات الجغرافية الأوروبية، ومرورا بحملة نابليون على مصر وبلاد الشام عام 1798م، وانتهاء بعصرنا أشكالا مختلفة من العلاقة مع الآخر، ظلت في مجملها منشغلة بمسألة التقدم من جهة، وإعادة وضع الحضارة العربية الإسلامية على خريطة العالم المعاصر من جهة أخرى. وهي في هذا الانشغال لا تقدم بطبيعة الحال إجابة محددة، فالقارئ لحركة هذا الفكر يلاحظ تعدد الإجابات، واختلاف الطرائق، وتعدد التشخيص لجوانب هذه الإشكالية. ولعلنا لا نعدو الصواب إذا قلنا بأن تلك الحركة كانت تفضي إلى إحدى مقولتين: الحوار أو الصراع.
لقد وقف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي أحد كبار مثقفي مصر في القرن الثامن عشر من حملة نابليون في كتابه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) على نحو يجمع بين الصراع والحوار. وكان يرى في الآخر تركيبا مزدوجا يجمع بين العدو والنموذج، فكان يصارع جانبا، ويحاور جانبا آخر بغية أن يفيد من الجوانب المتقدمة لديه. وهذه الثنائية ظلت تسم الخطاب الفكري العربي وتمزقه بين أبعاد عقلانية وأخرى وجدانية لها ما لها في الذات من المسوغات.
ولكن مقولتي الحوار والصراع لا تصدران كذلك رؤية عن رؤية بعينها. فهناك ضرب من الحوار يتغيَّا اختراق الآخر وإعادة تشكيله ليغدو على شاكلة الذات. وهناك حوار يسعى إلى الاستكشاف بغية التعايش بين الحضارات، وهو ما عبر عنه التنزيل الكريم بـ"كلمة سواء"، وقد برزت في الآونة الأخيرة خطابات صراعية تبشر بصدام الحضارات ونهاية التاريخ.
وإذا كانت مقولة الحوار تشير إلى العلاقة الفكرية بين الأمم التي تتجلى في مظاهر شتى من الاحتكاك والعلاقات، كالترجمة والبعثات، والتعليم، والاتصال بوسائل مختلفة، فإن مقولة الصراع تشير إلى أشكال العنف التي تستخدمها المجتمعات القوية للهيمنة والاختراق، والسيطرة.
وبعبارة أخرى فإن الحوار يبحث عن العناصر الجوهرية الفاعلة في الحقول المعرفية المختلفة في كل حضارة للإفادة منها، في حين تقوم مقولة الصدام بين الحضارات على مقاومة المشاريع النهضوية الأخرى وتدميرها، أو إلحاقها بالحضارة التي تعد نفسها مركزا، وترى في غيرها هوامش.
إن الحوار هو رؤية مستقبلية، لا تتعلق بأذيال التاريخ، ولا تقبل أن تكون أسيرة للحظة بعينها في حركته، بقدر ما يحسد البحث عن مستقبل للعالم، يقوم على تكافؤ الثقافات في المقام الأول.
ولعل نشوء الحضارات كما يبين دارسوها ومؤرخوها من أمثال ابن خلدون وول ديورانت، وأرنولد تويمبي، وإدوارد غيبون لا يقوم إِلاَّ على تفاعل مجموعة من المعطيات تنصهر كلها في بوتقة، لتمنح كل حضارة طابعها وروحها وبصمتها. وقد بينوا أن العلاقات بين شتى هذه الحضارات لا تتوقف، وإذا كان هؤلاء يبينون أن طغيان الكم على الكيف، والخارج على الداخل، وتلاشي روح التجربة والمغامرة والكشف المعرفي يؤذن بالاضمحلال، فإن هذه كلها مظاهر لافتتان الأنا بمنجزها، والوثوق به، وعدم القدرة على تجاوزه، وهي في أثناء ذلك تلغي الآخر، أو تعيد إنتاجه على نحو يتفق مع مخيالها ومرجعياتها، وعندما تفعل الحضارات ذلك يخفت صوت الحوار، الذي هو صوت العقل، لتعلو أصوات أخرى تستمد بلاغتها من أجواء الصراع.