أفق الإسلام المستنير

أفق الإسلام المستنير

حسن حنفى*

الإسلام المستنير مصطلح شائع منذ عقدين من الزمان، ويشير إلى تيار فكري يجمع
بين الإسلام والعصر، الماضي والحاضر، وكما عرف باسم الأصالة والمعاصرة أو التراث والتجديد، ويقال عادة إنه لا يوجد إسلام مستنير، وإسلام غير مستنير، فالإسلام واحد. والواقع أن الإسلام المستنير تيار ثقافي يوجد فى كل عصر عبر تاريخ الإسلام الطويل يشير إلى تفسير معين للنصوص، واختيار جماعي معين. فهو يشير إلى تيار اجتماعي فى مقابل تيارات أخرى كما هو الحال فى الفرق الكلامية معتزلة وأشاعرة، وفى المذاهب الفقهية، والاتجاهات العقلية أو الإشراقية، والمذاهب الصوفية المعتدلة أو المغالية، وكلها تنتسب إلى الإسلام.

وهو قادر على أن يكون جسرا بين التيارات المتصارعة فى عصرنا الحاضر، وينهي القتال الدامي بين أنصار الدنيا وأنصار الدين، المتحررين والمحافظين؛ لأنَّه يدافع عن مصالح الناس، ويحاول نقل المجتمع كله من عصر إلى عصر، ويبدأ من تراث الأغلبية، وهى المحافظة الدينية، ويلتحم معها؛ لأَنَّهَا الاتجاه الغالب على الناس، ويحقق مقاصد الشريعة.

والإسلام المستنير ليس غريبا على الإسلام فقد بدأ منذ نشأته الأولى. كان فهما
مستنيرا لليهودية والمسيحية، بعيدا عن عبادة الأحبار والرهبان وتعظيمهم، واعتزازا بدور العقل فى رفضه مظاهر الشرك والتعدد، وتأكيدا على المسؤولية الفردية، واستحقاق الإنسان بصرف النظر عن انتسابه إلى جماعة أو انتظار مخلص، اعتمادا على الفطرة الأولى، الطيبة الطاهرة بلا وزر، لا حيلة للإنسان فيه، يتوارثه عن غيره. السلطة فيه بيعة من الناس، والأمر شورى بينهم، والعدالة الاجتماعية سارية فيهم، ومن ثم أصبح الإسلام منذ نشأته دين العقل والحرية والفردية والطبيعة والإنسان والتقدم. وهو ما عرف فى الغرب بعد ذلك بفلسفة التنوير.

وقد عبرت الاتجاهات الفكرية عبر تاريخ الإسلام الطويل عن هذه الروح. ففى علم التوحيد ظهر الاعتزال مؤكدا أصلي التوحيد والعدل، أو أنه لا توحيد دون عدل، ولا عدل دون توحيد، ويشمل العدل أصلي الحرية والعقل، فلا عدل دون أن يكون الإنسان حرا عاقلا. والحرية تأتي قبل العقل، ويتفرد بها عن غيره، ثم يأتى العقل سندا للحرية. والعقل قادر على الفهم والتأويل، فالعقل أساس النقل. والإنسان باستحقاقه، آخرته مشروطة بعمله فى دنياه، الثواب والعقاب طبقا للعمل الحسن أو القبيح، وأن صلة الحاكم بالمحكوم عقد اجتماعى يبايع فيه المحكوم الحاكم، ويطيعه بشرط طاعة الحاكم لشروط العقد، وإلا فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب على المحكوم قوله وواجب على الحاكم سماعه.

وقد ظهر التنوير أيضا عند الحكماء، الفلسفة والدين شيء واحد متفقان فى الهدف،
وهو الوصول إلى الحكمة، وفى الوسيلة وهو العقل. لذلك كثيرا ما نصت الآيات على العقل ﴿أفلا تعقلون﴾، وكذلك الأحاديث النبوية "أول ما خلق الله خلق العقل... ". والنظر أول الواجبات على المسلم، والنظر يتم بالعقل وهو شرط التكليف، فلا تكليف لصبي أو مجنون، وجود الله وخلق العالم، وخلود النفس، كُلّ ذلك يثبت بالعقل.

بل إن الصوفية جعلوا الذوق مرادفا للعقل، وسيلتان لغاية واحدة فالصوفي يشاهد ما يعقله الفيلسوف. الفيلسوف يعقل ما يشاهده الصوفي. وحكمة الإشراق الفلسفي منطق ذوقي. فالكشف له منطق وقضاياه وأقيسته. والفلسفة الإلهية حكمة تعبر عن الكون الذى يشعر به الصوفي بالعقل.

أما الأصوليون فالعقل لديهم مصدر من مصادر التشريع يسمونه القياس، تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما فى العلة. هو الاستحسان أو الاستصحاب أو أصل العقل. والأشياء على البراءة الأصلية قبل حكم الشرع، أي أنها على حكم العقل. وطرق استنباط العلة، تنقيح المناط، وتخريج المناط، وتحقيق المناط كلها منطق يجمع بين العقل والتجربة في فهم النص والواقع. ومن لا منطق له لا ثقة بعمله.

وَأَمَّا الفقهاء، فالعقل لديهم أيضا أساس النقل كما عرضه ابن تيمية فى "موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول"، ومن قدح فى العقل فقد قدح فى النقل. ومن مبادئ المنطق الإسلامى، ما لا دليل عليه يجب نفيه، وقياس الأولى، وهي كلها أقيسة عقلية تقوم على البداهة والاتساق.

وقد استمر التنوير فى النهضة العربية المعاصرة فى كل التيارات الفكرية الإصلاحية والليبرالية والعلمية. تجلى ذلك عند الأفغانى ومحمد عبده مقتربين من الاعتزال القديم. العقل قادر على إدراك حسن الأشياء وقيمها، والإرادة مستقلة، لها حرية الاختيار، والطبيعة لها سننها، و"للكون نظامه" و﴿لن تجد لسنة الله تبديلا﴾، والإسلام حركة فى التاريخ، تدفعه نحو التقدم والكمال كما عرض محمد عبده فى "رسالة التوحيد". الإسلام أساس قيام المدنية، العلم والحضارة، الطبيعة والمجتمع كما بين فى نقاشه مع فرح أنطون. وغياب تحكيم العقل عند الكواكبى أحد أسباب الاستبداد.

وقد أصبحت الليبرالية فى عصر النهضة كما مثلها الطهطاوى وخلفاؤه: علي مبارك
وأحمد لطفى السيد وطه حسين والعقاد تعادل التنوير بل وتقتصر عليه، ويقتصر هو عليها نظرا لوجود الطهطاوى في فرنسا فى عصر التنوير ورواده وتحول التنوير إلى ثورة. فأدرك أن قاعدة الحسن والقبح العقليين هما ما سماه الغرب التنوير، وأن ابن خلدون هو مونتسكيو العرب، وأن مونتسكيو هو ابن خلدون فرنسا. فلا فرق بين "المقدمة" و"روح القوانين"، بين العمران والأندوستريا، بين الفكر والوطن "فليكن هذا الوطن مكانا لسعادتنا أجمعين. فنبنيه بالحرية والفكر والمصنع". وتعليم البنات لا يقل أهمية عن تعليم البنين. والإسلام مرتبط بالأوطان ارتباط الرسول بالحجاز.

وبالرغم من أن التيار العلمي الذى أسسه شبلي شميل، وفرح أنطون، ويعقوب صروف، وسلامة موسى، وإسماعيل مظهر يعتمد على التجربة أساسا، إلا أن التجربة نفسها تعتمد على العقل، والعقل أساس العلوم الرياضية والطبيعية على حد السواء لمعرفة نظام الكون. العقل والطبيعة صوتان، وصوت العقل هو صوت الطبيعة، ودراسة النفس ودراسة البدن لمعرفة أسرار الكون كما كان الحال عند الحكماء، الفلاسفة الأطباء. وما سماه فرح أنطون العلمانية هو في الحقيقة تأسيس مصالح الناس على العقل والعلم. والطبيعة كتاب مفتوح ينظر العقل فيها كما ينظر فى الكتاب المدون.

والإسلام المستنير أساس النهضات العربية الحديثة منذ حركة عرابى 1881-1882م الذي كان تلميذا للأفغانى متأثرا بتعاليمه، وقد وقامت حركة 1919م على أفكار محمد عبده الذى صاغ مبادئ الحزب الوطنى بعد أن وضع الأفغانى شعار "مصر للمصريين". ومن ثنايا الثورة المصرية الثانية تأسست الجامعات وقامت النظم البرلمانية، وتمت صياغة الدستور الذى يكفل الحريات العامة.

يستطيع الإسلام المستنير أن يحيي المشروع النهضوي العربي بعد أن بدأ يتفكك ويتضاءل وتبهت معالمه. ويتمثل ذلك في تحرير الأرض. و بناء المواطن المتحرر من صنوف القهر والعسف والطامح إلى الاستثنائية و تحقيق العدالة، و تحقيق وحدة الأمة بدلا من التفتت والتجزؤ والتناحر على الحدود والقضاء على الأوطان باسم الأقليات، و الدفاع عن الهوية والأصالة ضد التغريب والتقليد، و التنمية المستقلة للموارد الطبيعية والقوى البشرية ضد التبعية.

والإسلام المستنير قادر على أن يكون خطابا موحدا لأنواع الخطاب السياسى القائم. فهو موجود في الخطاب الليبرالى منذ نشأته وتبنيه الإسلام المستنير كمصدر له بالإضافة إلى المصدر الغربى. وهو موجود فى الخطاب القومي، فالقومية هي الحامل للإسلام، وإسلام الجزيرة العربية أولا كان شرط انطلاق الإسلام منها شرقا إلى فارس وغربا إلى بلاد الروم. والقومية لغة العرب، والإسلام ثقافتها. الإسلام المستنير إذن هو القاسم المشترك فى الإيديولوجيات العربية المعاصرة، والقادرة على التقريب بينها فى برنامج عمل وطني مشترك.

والإسلام المستنير ثقافة الناس، النخبة والجماهير والطبقات المتوسطة. تستعمله النخبة
لإعطائها شرعية التاريخ، وتستعمله الطبقات المتوسطة دفاعا عن القانون والنظام. وهو حي في الثقافة الشعبية التي تمتد إلى الناس بتصرفاتهم وقيمهم ومعاييرهم. هو أساس مشترك للجميع، يسهل الانتساب إليه والولاء له بعيدا عن الاختيارات الإيديولوجية المتنافرة والتنظيمات الحزبية المغلقة. وهو موجود فى المدارس والجامعات والمساجد والصحف وأجهزة الإعلام دون حاجة إلى منبر مستقل وجهاز إعلامي جديد وهو الرابطة بين الحاكم والمحكوم، بين الحكومة والمعارضة. ممكن الاحتكام إليه حتى لو تباينت التفسيرات. لا يرفض الحاكم أن يكون الأمر بينه وبين المحكوم شورى، وأن يحكم بالعدل، وأن يحقق العدالة الاجتماعية والمساواة وأن يستمع إلى النصح، وأن يدافع عن الثغور وأن يعلم الناس، وأن ينمي موارد البلاد. ولا يرفض المحكوم أن يتم تحقيق مصالحه باسم ثقافته حتى يتوحد ماضيه فى حاضره، وحاضره فى ماضيه. فلا يثور على الحاضر باسم الماضى، ولا يثور على الماضى باسم الحاضر.

الإسلام المستنير إذن تيار ثقافي واختيار فكري، وممارسة عملية لبناء الأوطان، وتغيير المجتمعات لما هو أفضل فى إطار من الثقافة المشتركة والعمل الوطنى الموحد، بعيدا عن التنازع والتناحر والقتال بين الأخوة الأعداء، ففي أوقات التحديات الكبرى تتوحد الجهود.

*********************
الهوامش
*) باحث ومفكر من جمهورية مصر العربية.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=18

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك