الثقافة والحياة العربية المعاصرة

الثقافة والحياة العربية المعاصرة

غسان عبدالخالق*

[توزّع الثقافات في العالم يعكس توزّع القوة، التجارة قد تتبع العلم وقد لا تتبعه، لكن الثقافة تتبع القوة دائما. وعبر التاريخ كان توسّع حضارة ما يحدث دائما إبان ازدهار ثقافتها، وكان يتضمن دائما استخدام تلك القوة لنشر قيمها ومؤسساتها وممارستها، والوصول بها إلى مجتمعات أخرى]. (صموئيل هنتنجتون: صدام الحضارات، الفصل الرابع: (اضمحلال الغرب: القوة والثقافة والعودة إلى القومية)).

الثقافة والحياة العربية المعاصرة بأي معنى؟

سوف أختصر كثيرا من الوقت والجهد اللذين يصرفان عادة لاستعراض عشرات التعريفات لمفهوم الثقافة، عبر ما يمكن أن أسميه محاولة التموضع في المنظورات الواقعية التي استقر عليها المفهوم، على الصعيد العربي أو على الصعيد المعرفي الإنساني، أو على صعيد شبكة الصراعات العالمية الراهنة.

إن هذا الاعتناء بالتموضع في هذا المنظور أو ذاك لا يعني أنني بالضرورة مقتنع تمام الاقتناع بجوهره، قدر ما يعني أنني أحاول – وأرجو أن لا يكف الآخرون عن هذه المحاولة – المحافظة على معاينة الواقع العربي بمعياره القومي التاريخي إلى جانب المعيار المعرفي الإنساني غير الملزم، أو المعيار السياسي العالمي الملزم على صعيد ضرورة الارتقاء إلى مستوى التحديات التي يفرضها، والاستحقاقات التي يتطلبها، وغير الملزم على صعيد ضرورة الأخذ بمضمونه غير الإنساني.

وعليه فإن مفهوم الثقافة في الوطن العربي، وبالمعيار الواقعي السائد وليس بالمعيار المثالي المأمول ما زال يتمحور حول الأدب أولا والفن ثانيا والفكر المحض ثالثا. ورغم أن الاستقراء التاريخي العام لمجمل التفكير العربي في الثقافة قديما وحديثا يمكن أن يحيل إلى معيار أوسع يكاد يشمل الاقتصاد والسياسة والعلوم والاجتماع، وأنماط التفكير والسلوك والشعور والعمران البشري بعامة، إلا أن ما استقر عليه (العرف الثقافي) على أرض الواقع يكاد ينحصر في المفردات الثلاث المشار إليها آنفا.

أما مفهوم الثقافة على الصعيد المعرفي الإنساني، وبالمعيار الإجرائي السائد الآن في كثير من دوائر البحث والتنظير فيكاد يتمحور حول (المنهج الأنثروبولوجي) المعاين للثقافة بما هي (أسلوب حياة) غير ملزم للآخرين على الصعيد المادي أو المعنوي.

على أن مفهوم الثقافة على صعيد شبكة الصراعات السياسية العالمية، ومع أنه يتمحور حول (المنهج الأنثروبولوجي) المعاين للثقافة بما هي (أسلوب حياة) للجماعة على الصعيد المادي أو المعنوي، إلا أنه يتجه إلى التفكير بكيفية الدفاع عنه، وكيفية إلزام الآخرين به في ضوء المقولة الداروينية: "المستقبل في صراع البقاء متاح فقط للأصلح بما هو الأقوى". ويتقاطع هذا الفهم الدارويني مع متغير الثقافة في الحياة العربية المعاصرة من أربع جهات: الموضوع، التاريخ، والجغرافيا، والاستحقاقات. فهو في أحد وجوهه يمثل تجليا للاستشراق الجديد الذي يتخذ من الشرق عموما موضوعا للدراسة والتحليل، وغني عن الذكر أن الثقافة العربية الإسلامية تمثل أبرز مفردات هذا الموضوع.

وهو من جهة التاريخ والجغرافيا مضطر للتعامل مع الثقافة العربية على أنها أحد عوامل الصراع السياسي التاريخي الطويل للسيطرة على ما يسمى جغرافيا (الشرق الأوسط)، والذي يمثل الوطن العربي في الواقع لحمته وسداته.

وهو من جهة الاستحقاقات يتطلب التموضع فيه بغية إدراك الأدوات التي يستخدمها والتحديات التي يفرضها والأهداف التي يتجه إليها.

هذا هو الفهم السياسي الاستراتيجي الجديد للثقافة بما هي التعبير (الناعم.. الهادئ.. اللين) الأبرزعن السيادة والهيمنة والنفوذ في العالم، وبما هي الثابت الذي ينبغي دعمه بمتغيرات القوة التقليدية العسكرية أو الاقتصادية أو العلمية التكنولوجية أو الإعلامية أو السكانية، هذا هو فهم هنتنغتون.

ويظل من اللازم والملّح أيضا تحديد المقصود بالحياة العربية المعاصرة. هل المقصود بهذه الحياة المعنى (الكرنفالي – الوصفي – الاحتفالي – الاستعراضي) لوجوه المعاش اليومي، أم المقصود بها الإطار القانوني السيادي؟

سأغامر بالقول – قطعا – إنني ملتزم بالقصد إلى الإطار القانوني السيادي الدستوري الناظم لهذه الحياة، ممثلا بالدولة العربية المعاصرة، بحدها القطري الواقعي الأدنى، أو بأفقها القومي المأمول.

على أن من الضرورة بمكان تأكيد استيعائي – الذي أرجو أن يكون عميقا – للفرق الثاوي بين بنية الإطار الواقعي الناظم للحياة العربية المعاصرة، الآن، وبين بنية الإطار المأمول الناظم للحياة العربية، في المستقبل. إنني أعي حقيقة أن الدولة القطرية العربية المعاصرة كانت وما زالت تعبيرا عن (فهم إداري فني) للدولة، رسخ وما زال يرسخ النظر إليها على أنها (واقعة حكومية فحسب) فيما ينبغي النظر إليها والعمل على أن تكون تعبيرا تاريخيا سياسيا ثقافيا عن إرادة جمعية قومية للحرية.

إنني أغامر هنا بتبني الفهم الهيجلي للدولة، بما هي التجسيد العقلاني الدستوري الحديث لحرية الجماعات البشرية في أن تكون وفي أن تختار وفي أن تفكر وتعبر وتعيش وتتقدم.

أقول: (أغامر) لأن هناك من لا يزال يتهم هيجل بالانحياز إلى الدولة الشمولية، وبعبادة سلطة الدولة، ومعاداة الديمقراطية، مع أنه – كما يلاحظ فوكوياما في أحد أبرز استبصاراته التي لم تحل للأسف الشديد دون وقوعه في مصيدة الدورة المغلقة للتاريخ – كان الفيلسوف الأكثر انشغالا بالحرية وبتجسيدها عبر المؤسسات السياسية والاجتماعية. كما أنه كان الفيلسوف الأكثر دفاعا عن المجتمع المدني والأكثر مطالبة بضرورة احتفاظ المجتمع المدني بجزء كبير من النشاط الاقتصادي والسياسي مستقلا عن سيطرة الدولة، وهو ما جعل منه هدفا للهجوم الشرس الذي شنه عليه ماركس بوصفه (مدافعا عن البرجوازية).

الثقافة والحياة العربية المعاصرة في ضوء المشهد العالمي:

مع أن أحدا لا يستطيع الجزم بأن جنرالا ما قد وضع قدمه على ما تبقى من سور برلين ليقول: الآن انتهت الحروب الإيديولوجية، إلا أن انهيار الاتحاد السوفياتي وما تبعه من تداعيات أحدث اختلالا هائلا في موازين القوى السياسية والثقافية في العالم، إلى الحد الذي يمكن معه تأكيد حقيقة أن العالم بعد ذلك الانهيار لم يعد هو العالم ذاته الذي توازن قبل ذلك بين قوتين سياسيتين ثقافيتين عملاقتين: الرأسمالية الديموقراطية، والاشتراكية الشمولية.

ومع أن الغرب الرأسمالي كان قد نجح في تسويق أجندة ثقافية أثبتت أكثر من غيرها أنها الأكثر قدرة على تقويض دعائم النظام الثقافي السياسي الاشتراكي، وأعني بها مقولة التفكيك التي أطلقها الفيلسوف الفرنسي داريدا في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1966، إلا أن ما جهد الغرب لإقناع العالم به لم يمّثل في الواقع إلا أجندته المعلنة التي لم تكلفه بنيويا أي ثمن يذكر. فالغرب يتمتع ببنية حداثية راسخة يمثل مفهوم (النظام / المؤسسة) فيها جوهرا تاريخيا قارا إلى الحد الذي لا يمكن معه لأية مقولة ما بعد حداثية مثل التفكيك أن تهزها أو تؤثر فيها، إلا بالقدر الذي يؤكد التعددية الفكرية التي يحرص هذا النظام على إبرازها ونسبتها لنفسه، وهكذا فقد بدت الدعوة إلى تحطيم فكرة النظام بإطلاق وتقويض سلطة الدين والعائلة والمدرسة والجامعة والدولة، والمناداة بالإعلاء من قيم الشك بدلا من اليقين، والعبث بدلا من الجدوى، والعدم بدلا من المعنى.. الخ، أقول: كل هذه المفردات الناظمة لأجندة ما بعد الحداثة التفكيكية لم تمثل لمراكز القوى في الغرب إلا رجعا لدعوات وأفكار فوضوية عدمية سبق للمجتمعات الغربية أن عرفتها، وتعايشت معها ونجحت في امتصاصها واحتوائها، ثم الإفادة القصوى من الحمولة النقدية الثاوية في كل الدعوات، والأفكار الفوضوية والعدمية التي سبقت الحرب العالمية الثانية، فإنها لم تدخر وسعا أيضا في الإفادة من الحمولة النقدية الثاوية في كل الدعوات والأفكار ما بعد الحداثية وبوجه خاص في (نهج التفكيك) الداريدي. ولا ريب في أن هذه القدرة على الاحتواء والحرص على تحصين النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي عبر الإفادة القصوى من الحمولة النقدية الثاوية حتى في أكثر الطروحات تطرفا، مّثلت وما زالت وستظل تمثل أبرز وسائل النظام الرأسمالي الديمقراطي الضامنة لاستمراره وتفوقه.

إن الآثار المدمرة لثقافة (أجندة) ما بعد الحداثة بواجهتها الأبـرز (التفكيك) وبمفرادتها التي أشرت إلى بعضها آنفا، طالت في الواقع أسس النظام السياسي الثقافي الاشتراكي الشمولي / السوفياتي، وامتداداته المباشرة وغير المباشرة، أو نظائره البنيوية القريبة من الاتحاد السوفيتي في العالم العربي، بمثقفيه اليساريين الشموليين أو بمثقفيه النقديين الليبراليين، قد مثل على نحو جدلي أبرز امتدادات الاتحاد السوفياتي الذي كان منقوعا في الشمولية وعازفا عن الديموقراطية المؤسسية، ولذا فقد فعلت مقولة التفكيك فيه فعلها على نحو تراجيدي.. فاليساريون الشموليون دخلوا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في حالة انعدام وزن عبرّت عن نفسها بمزيج من الأفكار المحبطة، أو المتخبطة أو الارتكاسية، والنقديون الليبراليون عدوا انهيار الاتحاد السوفياتي نصرا مؤزرا لهم فانهال معظمهم جلدا على الذات العربية والشخصية العربية والثقافة العربية يحملونها أوزار الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي البائس. أما الإسلاميون الذين مثلت بعض أجنحتهم رأس حربة متقدم للغرب ولبعض الأقطار العربية ضد الاتحاد السوفياتي فقد انثنوا بعد انهياره لسحب بساط الشرعية من تحت أقدام كل الأقطار العربية، وبوجه خاص من تحت أقدام الأقطار العربية التي ألقت بكل ثقلها السياسي والاقتصادي لإلحاق هزيمة منكرة بالاتحاد السوفياتي تحت شعار محاربة الشيوعية والإلحاد.

الفراغ السياسي والثقافي الذي أحدثه انهيار الاتحاد السوفياتي، وبالتالي سقوط ورقة الخوف من تغلغل الشيوعية والإلحاد في الوطن العربي، وتضاؤل القيمة الاستراتيجية لإسرائيل، كان ينبغي ملؤه فورا بالاتجاه إلى الديمقراطية السياسية في الوطن العربي ورفع مستوى التنسيق العربي إلى حدوده القصوى، أسوة بكثير من الأقطار والتجمعات القومية والسياسية في العالم التي راحت تعيد ترتيب أوراقها لمواجهة نظام عالمي جديد يدور من حول محور واحد، هو الولايات المتحدة الأمريكية، وبغية احتواء ثقافة وقوى التفكيك. ومع أن بعض الأقطار العربية -وبتفاوت ملحوظ- قد اتجهت إلى الديموقراطية إلا أن حرب الخليج الثانية وما رافقها وأعقبها من تداعيات أدت إلى تباطؤ التوجه إلى الديموقراطية، كما أدت إلى انفراط عقد الإجماع العربي.

في هذه الأثناء وخلافا للأجندة الثقافية المعلنة والمدعومة من قبل مراكز القوى في الغرب، ورغم تعالي الأصوات باندثار الحروب الإيديولوجية وموت المؤلفين الإيديولوجيين والجمهور الإيديولوجي، إلا أن ثمة سيناريوهين ثقافيين ما لبثا أن أنطلقا من الولايات المتحدة الأمريكية وراحا يتدحرّجان ويكبران مثل كرتي ثلج عملاقتين، بقوة الإعلام أولا وثانيا وثالثا. الأول لفوكوياما (نهاية التاريخ) ومؤداه أن آخر المعارك المقدسة في التاريخ قد حسمت لصالح الغرب بوجه عام ولأمريكا بوجه خاص، وأن الفردوس الحتمي الموعود للبشرية يتمثل في الليبرالية الديمقراطية، وثانيهما لهنتنجتون (صراع الحضارات) ومؤداه أن المعارك المقدسة لم تنته بعد، وأن قوة الغرب في اضمحلال متزايد رغم قشور الهيمنة الخادعة التي يغلف نفسه بها، وأن على هذا الغرب أن يستنفر قواه لحروب جديدة غير تقليدية، ستحل فيها (قوة الثقافة) محل القوة العسكرية والاقتصادية التقليدية.

ومع أن كلاّ من هذين السيناريوهين يتسمان بخطورة بالغة، إلا أن هيمنة القطعية على الأول منهما جعله مغلقا، فيما أن اتسام الثاني بالانفتاح على الاحتمالات جعله مرشحا للتداول، كونه يلامس عصب الشعور الدائم بالخطر لدى الغرب، واستعداده لاختراع أخطار جديدة، وكونه منسجما مع طروحات المجتمعات الصناعية العسكرية الثقافية التي مثل انهيار الاتحاد السوفياتي بالنسبة لها كارثة اقتصادية كبيرة هددت وما زالت تهدد بإيقاف خطوط إنتاجها العملاقة، أو بانتفاء الحاجة لها بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها.

لقد قامت مراكز صنع القرار وعلى امتداد عقد من الزمان بتعبئة الرأي العام الغربي (1990- 2000) عبر ماكينات إعلامية جبارة بضرورة الاستعداد لما بعد الشيوعية، للخطر الجديد القادم من الشرق ممثلا بالثقافة العربية الإسلامية بوجه خاص، رغم احتضان الغرب لكثير من الجماعات الإسلامية المتشددة ودعمه لبعضها في حروب عدة، رغم تحفظ كثير من الأقطار العربية على هذا الاحتضان وهذا الدعم بعد انتفاء الحاجة إليه في ضوء انهيار الاتحاد السوفياتي وانثناء هذه الجماعات المتشددة إلى الضرب في عمق الوطن العربي.

ولا أريد الاستطراد في الكلام على كثير من المفارقات والملابسات والظروف والمآسي، التي تراكمت بالصدفة أو بالتوجيه أو بالتداعي أو بالإيحاء، لكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر جاءت لتنضج وتعزز السيناريو الثاني، وسيناريو هنتنجتون، ولتطلق بين ليلة وضحاها مكبوتا سياسيا ما انفك يعتمل في مراكز صنع القرار في الغرب منذ عقد كامل، وتسنده كثير من الذكريات والتجارب التاريخية المؤلمة بين الوطن العربي والغرب. لقد مثلت أحداث الحادي عشر من أيلول رضة عنيفة لكبرياء أمريكا كما أحدثت هزة عميقة في ثقة الأمريكي بنظامه. ومع أن الإدارة الأمريكية نجحت في نقل (الأزمة) من داخل الولايات المتحدة الأمريكية إلى العالم بسرعة فائقة، واعتمادا على أكبر عملية عصف إعلامي في التاريخ الحديث والمعاصرة هدفت إلى خلخلة وفكفكة وقلب معظم القناعات والمفاهيم والقيم والأفكار السائدة في العالم بخصوص الحق والعدالة والخير والشر، إلا أن اتجاهها بعد ذلك إلى فرض معيار صارم على العالم بصيغة (إما / أو – مع / ضد) قد ساهم إلى حد كبير في تصاعد الاستقطاب السياسي والثقافي في العالم وفي الغرب وفي الوطن العربي كما هدد وما زال يهدد باستشراء حالات من (التطهير الثقافي) والاستئصال. لقد مثلت (الثقافة) جوهر العصف الإعلامي الهائل الذي تم تسديده باتجاه العالم الإسلامي بوجه عام والوطن العربي بوجه خاص. وقد استند هذا العصف إلى مقولة (الفاشية) الثاوية في الإسلام وفي الثقافة العربية، وإلى مفردات فرعية يمكن تلخيصها بـ: لا عقلانية الإسلام ولا عقلانية الثقافة العربية، ولا ديمقراطية الإسلام ولا ديمقراطية الثقافة العربية، والكراهية المتأصلة لدى العرب والمسلمين تجاه الأغيار، واحتقار النساء والأطفال وكبار السن. ومما زاد هذه الحملة جملة مقالات دارت من حول محور رئيس هو (ما السبيل إلى إصلاح وتحديث العالم العربي و الإسلامي؟) وقد أسهم في كتابتها كل من: هنتنجتون وفوكوياما وفريد زكريا وتوماس فريدمان. ورغم أن هذه المقالات اتخذت من التساؤل عن كيفية إصلاح وتحديث العالم العربي والإسلامي مدخلا، إلا أنها انطلقت من جملة مغالطات تمثل أولها في التنصل التام من مسؤولية الغرب عن تأجيج التشدد الديني في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وفي التنصل التام من مسؤولية الغرب عن تصاعد الاستبداد السياسي، وتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي والإسلامي، وفي الدعوة الصريحة إلى تغيير الأوضاع السياسية السائدة في الوطن العربي، وفي العالم الإسلامي والثقافة العربية تحت مسمى (الحدود الدموية للإسلام) و(الفاشية الإسلامية) من جهة، وربط التقدم والانفتاح والتسامح من جهة أخرى بالغرب تحت مسميي (الحداثة) و(الديمقراطية الليبرالية).

الثقافة والحياة المعاصرة في ضوء المشهد العربي

الحق أن تداخل الثقافة مع الحياة العربية المعاصرة وبالمعنى أو المفهوم الذي أشرنا إليه، ما زال يعاني من اختلالات عميقة تعكس هامشية مفهوم الثقافة في الحياة العربية المعاصرة كما تعكس الوزن النوعي للوطن العربي في العالم.

ولو افترضنا جدلا إمكانية عزل الحالة العربية الثقافية السياسية عن العالم نظريا – وهي ليست معزولة بالتأكيد على صعيد التأثر السلبي بالمشهد العالمي – للاحظنا أن الثقافة بوجه عام ما زالت تعني الأدب بوجه خاص، والأدب بوصفه كمالية أو إكسسوارا حياتيا، مع أنه يمكن التأشير على حالات استيعاء تاريخي فذ للثقافة، وفي حقب عربية متباينة بمعناها الحضاري أو الأنثروبولوجي أو الاستراتيجي أو العابر للتخصصات. ولعل تراث الجاحظ وابن خلدون أبرز شاهدين على ذلك. وهو ما يؤكد أن مفهوم الثقافة العربية قد تعرض لجملة ارتكاسات متتالية لم يحل دون استمرارها تمكن ابن خلدون من تجاوزها عبر (مقدمته) رغم ظروف الانحطاط الحضاري التي أحاطت به.

ولو جربنا أن نستنطق أحد أبرز مفردات الأدب في الحياة العربية المعاصرة استنطاقا ثقافيا سياسيا، وتوقفنا بإزاء (الرواية) مثلا بوصفها (ديوان العرب في القرن العشرين)، لهالنا حجم التطابق القائم بين هذه المدونة وجوهر حركة التطور العام للحياة العربية المعاصرة وضآلة تأثيرها في هذه الحركة. لا أعني هنا بالتأكيد مدى تمثيل الرواية العربية للاتجاهات الإيديولوجية أو الأفكار السياسية أو مدى تعبيرها عنها ميكانيكيا، بل أعني مدى إسهام الرواية في تغيير الواقع الحضاري للحياة العربية المعاصرة ومدى استلهامها في الخطاب الفكري والسياسي.

من المفترض نظريا أن تعبر الرواية العربية عن انتقال المجتمعات العربية من نمط الحياة الرعوية أو الزراعية إلى نمط الحياة المدينية، لكنها في الواقع لا تعبر عن هذا الانتقال إلا شكليا فقط، إذ أنها تتدثر بالمواصفات الفنية والأسلوبية الظاهرة للرواية، لكنها على صعيد المضمون العميق لا تعكس إلا علاقات رعوية أو ريفية، إنها تضطلع بالدور الثقافي السياسي الذي اضطلعت به في الغرب. وهذه بالضبط هي عين المعضلة في التجارب السياسية أو الديموقراطية أو التنموية التي قامت وما زالت تقوم في أنحاء مختلفة من الوطن العربي.

هذا التطابق في النتاج وهذه القطيعة بين أبرز مفردات الأدب في الحياة العربية المعاصرة وأكثرها قابلية للتأثير في هذه الحياة، وبين الإيقاع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ليسا مقتصرين على الرواية، بل يمكن سحبهما على مفردات العلوم الإنسانية والاجتماعية والبحتة والتطبيقية.

انطلاقا من هذا المثال، يمكننا أن نتساءل: لماذا لم يقتحم الأدبي أو الفني أو الفكري أو العلمي عالم السياسي أو العكس من ذلك، في الحياة العربية المعاصرة؟ لماذا لم يتم إنتاج شبكة ثقافية سياسية وطنية أو قومية ذات وزن نوعي؟

هذه هي إحدى مفارقات الدولة القطرية العربية المعاصرة في علاقتها مع الثقافة والمثقفين وفي علاقة الثقافة والمثقفين مع الدولة القطرية العربية المعاصرة. وعليه فليس مستغربا أن تظل الثقافة وطوال النصف الثاني من القرن العشرين أشبه بتفاحه صناعية توضع على منضدة الطعام لفتح الشهية أو لالتقاط الصور، وأعني بذلك أن الثقافة لم تتحول في معظم برامج الدولة القطرية العربية المعاصرة إلى خدمة أساسية تلتزم بتقديمها وتنفق عليها سلطات الحكم المحلي مثلها في ذلك مثل الكهرباء والماء والصحة والتعليم، مع كل ما يترتب على ذلك من ضرورة رفدها ببنية تحتية عميقة، مثل المسارح والمعارض والمكتبات.

على أنه لَـمَّا كانت علاقة الدولة القطرية المعاصرة بالثقافة والمثقفين حافلة بالتجارب، فقد اتجه معظم المثقفين العرب إلى تصعيد خطاب ما بعد الحداثة بوجه عام والتفكيك بوجه خاص، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب بدعوى ضرورة تجاوز وتفجير البنى التقليدية للمجتمعات العربية. فيما تنبه عدد قليل من المثقفين لحقيقة أن الانصياع المعرفي البحت لخطاب التفكيك تحديدا يتطابق تاريخيا وظرفيا مع تداعيات العولمة وهو ما قد يؤدي إلى فتوحات معرفية نقدية لكنه قد يؤدي في الوقت نفسه إلى تخلخلات عميقة في بنية النظام السياسي العربي ستتعدى آثارها حدود إنتاج نظام عربي جديد إلى حدود إنتاج نظام جديد غير عربي، تمثل (الشرق أوسطية) واجهته الأبرز.

هاهنا تتبدى مغبة تعامل كل من الدول القطرية العربية المعاصرة والمثقفين العرب مع الدولة أو النظام على أنه واقعة حكومية، وليس على أنه واقعة تاريخية تراكم مخزونها الخاص من أنظمة الدفاع الثقافي الذاتي الجماعي التلقائي.

ها هنا نتفهم سبب التبعثر والارتباك في ردود أفعال المثقفين العرب إزاء حرب الخليج الثانية، واتسام هذه الردود بالتسارع والتوتر والاصطفاف تبعا للظروف والتجارب والحسابات الشخصية، وليس تبعا للشعور بالمسؤولية التاريخية تجاه فداحة ما حدث والعمل على دراسته بمنظور تحليلي شامل.

إذن، ولهذا السبب، وجدت الدولة القطرية العربية المعاصرة نفسها في العقد الأخير من القرن العشرين، ومستهل هذا القرن بلا مخزون خاص من أنظمة الدفاع الثقافي الجماعي التلقائي؛ لأنَّ منتج هذه الأنظمة ببساطة يقف على الطرف الآخر من مستقيم التناقض ويحلم بـ (نماذجه الغائبة)، وليس لديه – كما أَنَّه ليس للدولة القطرية أي استعداد – للقيام بقفزة كبيرة واحدة للالتقاء في منتصف الطريق الموصل إلى التقدم، أو الدفاع عن الذات في الحد الأدنى.

لماذا لم يفرز النظام العربي وفي العقد الأخير من القرن العشرين مفكرا واحدا، مثل بيير بورديو رائد علم الاجتماع في القرن العشرين مثلا؟ بيير بوردو مفكر فرنسي عالمي كان يحمل إرثا يساريا.. لكنه في ضوء استيعائه العميق للأخطار التي باتت تنذر بها العولمة ووسائل الإعلام السريع الاستهلاكي على جوهر الثقافة الفرنسية بادر إلى المخاطرة بإرثه الفلسفي والسياسي العريق، واتجهه إلى المناداة بضرورة العودة إلى حماية قيم العائلة والدولة المضطهدة من جهة، والدعوة إلى مناهضة العولمة من جهة أخرى! الدولة الفرنسية لم تدفع لبورديو أجرا لقاء هذا التحول الدرامي في مواقفه! وبورديو لم يقل للدولة الفرنسية: لقد حان وقت الشماتة!

لقد تم ذلك تلقائيا؛ لأن الدولة الفرنسية واقعة تاريخية وليست حكومية ومثقفوها المعارضون وغير المعارضين جزء لا يتجزأ منها، وهم بأجنداتهم المختلفة يمثلون سلة دفاعها الثقافي العام. إنهم كلهم يمارسون الحق في الاختلاف على قاعدة التسليم بشرعية الدولة والنظام وقدسية هذه الدولة وهذا النظام.

ها هنا لا أريد أن أسرد نكتة، لكن من المهم جدا التذكير بأن أقسى الانتقادات التي وجهت لبورديو على هذا الموقف (اليميني الرجعي!!) ساقها أحد المثقفين العرب التفكيكيين ما بعد الحداثيين؛ علي حرب في كتابه (أصنام النظرية وأطياف الحرية)! مع أن الشجاعة الفائقة التي أبداها بورديو وجرأته الاستثنائية على المراجعة (ومراجعة الآراء والمواقف علم مهجور في الثقافة العربية ولدى المثقفين العرب!!) تؤكد أنه أبعد ما يكون عن التصنيم لذاته، أو الانصياع لأية صنمية نظرية.

آفاق الثقافة والحياة العربية
مع ضرورة تأكيد الشواخص الرئيسة على طريق العلاقة السوية بين المثقفين العرب والدولة القطرية المعاصرة.. العلاقة المنتجة لثقافة تستجيب لتحديات الحياة العربية المعاصرة: ضمان حرية التعبير والتفكير عبر كل وسائل الإعلام الناقل للحقيقة وليس للآراء فقط، واحترام التعددية واستبعاد الاستئصال والتغييب.

مع ضرورة تأكيد ذلك كله، ولا أريد الاستطراد فيه؛ لأَنَّهُ غدا من المعتاد المكرور، فإن الثقافة ستظل تشتبك وتتقاطع مع الحياة العربية المعاصرة – كما أقدر – في ثلاث محاور رئيسية:

المحور الأَوَّل: الحداثة بما تتضمنه من ترسيخ للنظام الاجتماعي العام والمؤسسة التاريخية القارة، ومن عقلانية وعلم مناقضين لأنماط التفكير الخرافي السحري، ومن حرية وديمقراطية لضمان ذلك كله. ولسنا ملزمين بالأخذ بما عدا ذلك مثل العلمنة، ولا ضرورة للاستمرار في التخوف من الحداثة لهذا السبب، والإصرار على إبراز هذا التخوف؛ لأنَّ ذلك لن يؤدي إِلاَّ إلى تنبيه مراكز صنع القرار في الغرب، وإلى الإلحاح على هذا الجانب الذي لم تأخذ به اليابان مثلا وامتلكت مع ذلك نموذجها الحداثي الخاص. علما أن مفهوم النظام والمؤسسية وقيم العقلانية والعلم والتعددية في الاجتهاد هي من صميم المتن العربي الإسلامي الرفيع الذي علاه كثير من ركام ومخلفات حقب الانحطاط.

المحور الثاني: العولمة بما يصدر عنها من سياسات هيمنة اقتصادية وسياسية وثقافية لا يجوز التفريط باتخاذ كل الوسائل الحمائية للحد من تأثيراتها السلبية على السيادة الوطنية أو القومية، وعلى الاقتصاد الوطني أو القومي وعلى الهوية الوطنية أو القومية. وما تقوم عليه من أسس إيديولوجية داروينية متوحشة (البقاء للأقوى)، ولا يجوز التهاون في التصدي لها ثقافيا وسياسيا. وما تنطوي عليه في الوقت نفسه من مزايا كونية لا يجوز التفريط فيها مثل المشاركة في امتلاك وتبييء تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

المحور الثالث: صدام الثقافات بما هي مقولة مرفوضة في ذاتها كونها تمثل استمرارا للفهم الدارويني للحياة والإنسان والمجتمع والتاريخ من جهة، وكونها تبرز وتجسد في آن ثقافة وإيديولوجيا القوة. على أن رفضها في ذاتها لا ينبغي أن يحجب عن أنظارنا ضرورة التموضع في منظارها بغية القبض على أدواتها، ورفع شروط التصدي لتفاصيلها، والاستجابة العقلانية الخلاقة لتحدياتها، وأبرزها العمل على تأكيد أن الثقافة العربية الإسلامية بقدر ما هي تعبير عن التطور التاريخي للأمة العربية، فهي أيضا تعبير عن الإرادة التاريخية للعرب والمسلمين في المشاركة ببناء ثقافة إنسانية. إنها بنت رسالة تم تأكيد (عالمينّيتها) في القرآن، الكريم (73) مرة.

أخيرا، وبقطع النظر عن مدى اختلافنا، أو مدى اتفاقنا على أطروحة هنتنغتون (صدام الحضارات) التي تقاطعت وأثرت في حياتنا العربية المعاصرة اكثر مما تقاطع وأثر أي متغير آخر، فإن كلا من هذا الاختلاف أو الاتفاق لا ينفي حقيقة أن هذه الأطروحة الثقافية رغم كل المآخذ التي أخذت عليها: إيديولوجيا، وموضوعيا، ومنهجيا.. الخ، قد تحولت إلى دليل عمل سياسي للغرب، بقوة الإعلام الجبار الذي جعل منها أطروحة جماهيرية في المقام الأول، وبفعل الاعتناء بتبنيها من قبل مراكز صنع القرار في القطاعات الأساسية في الغرب: الاقتصاد، السياسة، التعليم. وبحكم مباشرتها وواقعيتها وبنيتها المعلوماتية وأهدافها المحددة الواضحة. وتعبيرها التاريخي عن طبيعة المصالح السياسية الراهنة، وإخلاصها لمرجعيتها الحضارية، وحرصها على صيانة وتعظيم الأطر القانونية والسيادية التي تتحدث باسمها.

ولعل في هذا كله ما يصلح وفق نظرية التحدي والاستجابة للبدء في إنتاج ثقافة عربية نهضوية معاصرة معبرة عن الإطار التاريخي الناظم للحياة العربية المعاصرة.

**************************

الهوامش

*) أستاذ مساعد بجامعة فيلادلفيا، الأردن.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=15

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك