السيدة أمريكا وعقدة التَّشَرُّق

الشيخ أحمد البان

 

يغوص عبد الله الغذامي في تغضنات وجه أمريكا عبر نقد ثقافي عميق، يطال فلسفتها الحضارية وسياساتها الخارجية وواقعها الداخلي، وعبر 36 مقالا مترابطا يحاول تفكيك مكونات وجه “السيدة أمريكا” الثقافي، أمريكا التي انغرست في الثقافة البشرية باعتبارها أسطورة العصر الحديث، الحاضرة في كل البنى الفلسفية والثقافية والاجتماعية، ويقرر الغذامي أنه إذا كانت الأساطير الإغريقية هي نواة كل إبداع أدبي، وهي السر الكامن خلف كل خطاب نقدي، فإن أمريكا هي (يونان) العصر الحديث، حيث تجدها داخل كل خطاب ووسط كل معرفة ووسيلة كل مثاقفة.

أمريكا التي جاءت في أخريات زمن الأرض واقعة على طرفها النائي استطاعات أن تجعل العالم يبدأ منها، وتحكمت في الجهات فأصبح الشرق هو كل ما يقع شرق الساحل الأمريكي، بل أكثر من ذلك فقد غيرت مفهوم الجهات ذاتها لتنقله من الجغرافيا إلى الفلسفة، فأصبح الشرق والغرب يرمزان إلى أبعاد ثقافية أكثر من إحالتهما إلى دلالات جغرافية بحتة، أصبح العالم كل هو الشرق والغرب هو أمريكا وحدها بثقافتها وفلسفاتها وسياساتها.

يبدو العالم كله واقعا في حب أمريكا –حسب الغذامي-، سواء أعلن ذلك أو أعلن ضده، فأمريكا هي عقدة العالم الشرقي المتأرجحة في روحه بين الكره المعلن والمحبة المضمرة، وكل الذين يكتبون عنها بكره معلن ويطلبون موتها والقضاء عليها، يتمنون-في الوقت ذاته- أن يكونوا مثلها أو أن يتجنسوا بجنسيتها، أي إلغاء الآخر إما بقتله أو بتحويله إلى (ذات).

لكن أمريكا التي ينزع الشرق إليها مدفوعا بحب هيستيري وتقدير لا يوصف تعيش –حسب الغذامي- عقدة الخوف من التشرق، لدرجة أن الثقافة الغربية ترى أن إبليس كائن شرقي يتلبس في أسماء وهيئات معينة، ولذلك تحرص على تسميته في كل تجلياته، ويبدع الإعلام الغربي في مساعدة السلطة السياسية في كشف أقنعة هذا الشيطان الذي يظهر باسم الماركسية أو الإرهاب أو التطرف، ولكن أمريكا التي تخاف الشرق تظل –من ناحية أخرى- بحاجة إليه، إذ هو سر وجودها في الحقيقة، ذلك بأن كولومبس لم يكتشف أمريكا، فأمريكا كانت موجودة قبله، ميزة كولومبس هو أنه استطاع الاتصال بالشرق بعد وصوله إلى أرض أمريكا، وكان البحارة الذي سبقوه ينتهي ذكرهم بمجرد وصولهم إلى تلك الجزر النائية وبالتالي يموت معهم ذكر أمريكا نفسها، فهل هذا سر انشغال أمريكا الدائم بالشرق؟ يتساءل الغذامي.

لم يكتشف كولومبس أمريكا ولم يخترعها، كانت ميزته هو أنه استطاع أن يتصل من جديد بالشرق، عكس المهاجرين والفاتحين الذين سبقوه، فهل لا يمكن لأمريكا أن تعرف إلا من خلال الشرق دائما؟، هل هذا هو سر انشغالها الدائم به؟

يلفت الغذامي الانتباه إلى أن أمريكا متوحشة وليست متحضرة، ولكنها تمتلك امبراطورية لغوية استطاعت عن طريقها التحكم في وجدان ضحاياها من خلال إعادة تعريف التوحش، وبواسطة اللغة استطاعت أن تقتل ويقتنع العالم أن المقتول هو البادئ بالظلم، وأن أمريكا قتلته لا لتنتقم منه بل لتخلصه من ذاته الشريرة.

هذه الامبراطورية اللغوية التي تمتلكها أمريكا جعلتها قادرة على مواصلة التألق رغم الانكسارات الحقيقية التي مرت وتمر بها، أصبحت أمريكا بفضل اللغة قادرة على أن تظهر منتصرة حتى ولو كانت مهزومة في الواقع، وأن تكون صائبة طاهرة وهي في حمأة الخطئية.

تماما كما لو فكر الذئب أن يغير علاقته بالخروف من علاقة تحكمها الغرائز الحيوانية إلى علاقة تتخذ صيغة ثقافية متحضرة، في النهاية الخروف سيموت، ولكنه سيكون مقتنعا بأنه السبب في تسلط الذئب عليه، أما الذئب فسيظهر في موقع المدافع عن نفسه وعن كل الحيوانات التي يهددها وجود الخروف، وذلك بفعل تحول الذئب من سلاح الأنياب إلى سلاح اللغة.

هذه التوصيف الذاتي للتوحش والتحضر بذره البيض الأوائل منذ مجزة (كاوناو) في كوبا التي أبيد بسببها المئات من الهنود الحمر في سبيل تجريب مدى رهافة سيوف البيض البيضاء الصقيلة، البيض الذين –يا للمفارقة- يعتبرون الهنود أكلة بشر ويعتبرون أنفسهم جلاب حضارة.

يعمل الإنسان الأبيض الأمريكي على تصفية الذاكرة الأمريكية من أي تاريخ للهنود، تجسد إحدى القصص هذا النزوع الأبيض نحو محو الآخر من خلال طمس أي معلم لذاكرته، يروي الغذامي هذه القصة التي حدثه بها أحد الهنود الحمر يقول: “لقد منعوني من أن أتحدث لغتي في المدرسة، وكان المدرس الأبيض يأمرني بغسل فمي أمام الطلاب إذا ما غلطت وتفوهت بكلمة من لغتي الهندية”.

لقد استطاعت أمريكا عبر امبراطوريتها اللغوية أن تغرس نفسها في كل ذواكر العالم الحديث، لدرجة أن تسأل فتاة روسية الروائي غابرييل غارسيا وهي تودعه من موسكو عن طعم الكوكاكولا، بعدما ظن أن الاتحاد السوفيتي معافى من سعار الانبهار الأمريكي، بعد ذلك لم يستطع الشرق المقاومة فجاءت الصحف العالمية تعرض صورة يلتسين وهو على رأس الطابور المحتفل بفتح مطعم ماكدونالدز في موسكو، وكان وراءه صف بلغ طوله أكثر من ألف متر، “جاءوا كلهم ليتجرعوا أمريكا في جرعات من الهامبرغر وليتذوقوا الكوكاكولا”.

يناقش الغذامي مفهوم السوق ضمن آليات السيطرة اللغوية لأمريكا، السوق الذي “يأتي ظاهريا بوصفه نظاما اقتصاديا (رأسماليا) يقوم على حرية التجارة ، وهو في حقيقته أحد أركان اللغة الجديدة، وأحد شروط هيمنتها”، كما يمثل من ناحية أخرى تحولا هائلا في تاريخ العلاقات البشرية، حيث تنتقل السلطة من الجيش إلى السوق، وتستبدل أخلاقيات الجيش بأخلاقيات السوق، الاستهلاك بدل الاستعباد، لكن الاستهلاك في حقيقته رق أكثر إذلالا للبشر من الرق الكلاسيكي.

عبر ثقافة الاستهلاك وسعار الدعاية التي تقذف بها التلفزيونات، تتم فهرسة المشاهد والمستهلك في آن واحد وفق ترتيب تطرحه الشركات المنتجة، لتصبح الدعاية مؤسسة سلطوية تتحكم في الذهنية الاجتماعية وتخضعها  لشروط السوق، لكن السوق بالمفهوم الرأسمالي طرح إشكالا اجتماعيا حيث حطم وحدة العائلة، وأصبح أفراد هذه الوحدة أجزاء يعملون لمصلحة الأب الجديد الذي هو (السوق).

ورغم محاولات المجتمع الدولي ونداءاته لاستعادة العائلة لوحدتها باعتبارها ضامنا لاستعادة روح الإنسان، إلا أن ذلك يبدو مستحيلا، فأخلاقيات السوق غير قابلة للتراجع، وهي مناقضة لأخلاقيات العائلة، حيث لا يمكن أن يتصف الإنسان بالإيثار والتضحية والعطف من جهة وهي أخلاقيات العائلة، وأن يتصف بالأنانية والذاتية والمكسب وبراعة الحيلة من جهة ثانية وهي أخلاقيات السوق.

لكن أمريكا اليوم –حسب الغذامي- تحتاج إلى من يخلصها من ذاتها المريضة ومن فلسفتها التي تنتج القتل والجريمة داخلها، إن الجريمة في أمريكا –حسب الغذامي- “لا تأتي بوصفها نقدا للأوضاع أو معارضة للنظام، ولكنها تأتي من حيث هي أحد أعراض هذا الوضع الملحمي”.

هذه هي أمريكا الشوهاء في ذاتها، القادرة على إخفاء كل تشوهاتها وراء اللغة واللغة وحدها، كما يصفها الغذامي في كتاب نقده الثقافي لأمريكا “السيدة أمريكا، قراءة في وجه أمريكا الثقافي”.

المصدر: https://islamonline.net/24103

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك