من عناصر النهضة في الإسلام (ملامح من التربية الإسلامية )

من عناصر النهضة في الإسلام (ملامح من التربية الإسلامية )

ناصر الدين الأسد

(1)
الحديث عن "عناصر النهضة في الإسلام" يقتضي مواجهةً صريحة لمواقف محدّدة، وإجاباتٍ مُقْنِعة عن أسئلة لا تزال تحار فيها النفوس، ولا تفتأ تثور بين الناس في كثير من المجالس ويكثر فيها وحولها الجدل:
فهل في طبيعة الدين الإسلامي وصميمه شيءٌ كان – بالضرورة والتلازم – السببَ الحقيقيّ لنهضة المسلمين، والباعثَ لهم على ما أحرزوه من انتشارٍ في الآفـاق ومن ازدهارٍ حضاريّ؟
فإن كان في الإسلام هذا الشيء، فما هو على وجه الوضوح والتحديد، لا على سبيل الظنّ والتعميم؟ أهو قوة خارقة في العقيدة نفسها جعلت من المسلمين بمجرد اعتناقها قوةً قادرة على إنجاز ما أنجزوا؟ أم هو منهج نفسيّ فكريّ يتمثل في الحياة والعمل، له أصوله ومراحله ووسائله، أطلق في المسلمين حياةً دافقة جعلتهم يحقّقون ما حقّقوا؟
ثم لماذا أصاب المسلمين ما أصابهم من تأخّر وانحطاطٍ وتخلّفٍ عن ركب الحضارة؟ هل أضاعوا هذا الشيء وفقدوا أثره في نفوسهم وفي عقولهم؟
وإذا لم يكن الأمر كذلك، ولم يكن هذا الشيء في الإسلام، فبماذا استطاع المسلمون خلال قرون أن يكونوا أصحاب حضارة عالمية؟
وهل صحيح ما قيل في تعليل بعضِ ذلك من أن الإسلام جاء في زمنٍ ضعفت فيه قوة الدولتين العُظْمَيَيْن من حوله وهما فارس والروم، فكان مردّ الأمر إلى هذا الضعف في غيره، وليس لقوةٍ فيه؟ وهل من الحق في شيءٍ أن فارس والروم كانتا أضعف من المسلمين وأقلَّ عددًا و عُدَّةً وبأساً حين كانت المواجهات الأولى بينهم؟
(2)
هذه أسئلة طالما خطرت ببال كثيرين، وخاصة في القرنين الأخيرين، وطالما دارت حولها مناقشات ومناظرات ومحاورات، بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى، وطالما طوَّف حولها الباحثون من مسلمين وغير مسلمين، وصدرت فيها كتب ومقالات.

وقد جرت الأمور في أكثر ذلك على غير اليقين والوضوح والتحديد، وسادها شيءٌ من الظنّ والغموض والتعميم، بل شابها أحياناً قدْر من العصبية لها أو عليها. ثّم إن تناولها كان – في الغالب الأعمّ – تناولاً مفرَّقًا يلمس أجزاء مبعثرة تضيع من خلاله معالم الصورة المتكاملة. وربما تاه القارئ في غياهبِ حشوٍ طويل ليستخرج منه محصولاً ضئيلاً. ولو نَحّينا جانبًا كلَّ هذا لبقي قدرٌ بذَل فيه علماء مخلصون جهودًا صادقة لمعرفة الحقيقة ومحاولة سبر أغوارها والغوص إلى جوهرها.

ومع ذلك، ظلَّت هذه الأسئلة في مجموعها دون جوابٍ شافٍ يطمئن إليه العقل الحديث، وظلّ المتسائلون – وخاصةً الشباب – حَيارَى لا يَهْديهم من حيرتهم ما سمعوا ولا ما قرأوا.

وقد وضعتُ الأمر هذا الوضع الحادّ المفصَّل، وحصرت من الأسئلة ما حاصرني بحيث لا أكاد أُفِلتُ منه؛ لأنَّني أردت أن أنـبّه نفسي وغيري على أن شبّاننا أصبحوا يتطلّعون إلى أكثر مما قدّمنا إليهم حتى الآن، وأنهم أخذوا يضطربـون أشدّ اضطراب بين أشواق نفوسهم المشرئبة إلى الإيمان، الباحثة عن مناهل تراثهم وأصالتهم، وبين نوازع عقولهم وتفكيرهم الحديث حين لا يجدون أمامهم سوى فـراغٍ ينداح من حولهم، فيلهثون فيه حتى تتقطّع أنفاسُهم وهم يدورون على أنفسهم، ثمّ يحسّون أنهم كالمنبتّ لا أرضًا قطع ولا ظَهْرًا أبقى. فلا يكون لهم من سبيلٍ إلاّ الاستعانة بما عند الآخرين مما يُرْضي عقولهم، ولكن نفوسهم تظل تعاني قلقًا غامضًا؛ لأن هذا الذي أخذوه – على حداثته ورونق مظهره – ليس لهم، وَإِنَّمَا هو عارية مجلوبة لا تنتمي بوشيجةٍ أصيلة إلى جذور تفكيرهم وحقيقة نفوسهم. فعسى أن تتضافر جهود العلماء الجادّين المخلصين على معالجة هذه المسائل والأسئلة، معالجة واضحة صريحة، بعيدة عن الإسراف المملّ والتطويل المُضِلّ، والغلو في الانفعال، والسذاجة في الأحكام، والسطحية في الافتعال. حتى تعود الصلة الطبيعية فتنعقد في سماحة ويُسْر بين أجيال شبابنا وبين دينهم عن اقتناع ويقين وعقيدة، فيتمثل فيهم كل ذلك فكرًا وسلوكًا ونمطَ حياةٍ وعمل.

ولا أزعم لنفسي القدرة على أن أستقلّ بهذا العبء، وحسـبي أني أثرته ونبّهت عليه، ثم حسبي أن أشارك فيه بقدر ضئيل، محاولاً ما وسعني الجهد. ولا أدّعي أني أبدأ من فراغ، بل إني لمقرٌّ بفضل من سبقوني إلى الكتابة في مثل هذا الموضوع، وقد يكون جهدي الحقيقي في لـمّ شتات ما كتبوا، وجمع متفّرِقه، وتقييد شوارده، ثم ترتيبِ كل ذلك في صورة تبرز معالم الموضوع وتطرحه لمزيد من الدراسة والنقاش.

(3)

وملامح التربية في الإسلام تشمل – فيما أرى – قِيَمًا عُلْيا ثابتة، كما تشمل خصائصَ وميزاتٍ أساسية، ولها بعد ذلك وسائل وأساليب تتحقق من خلالها.

أما القيم العليا الثابتة فتتمثل في مجموعة من الركائز التي أعلى بها الله - عز وجل- من شأن الإنسان، ورفع بها من قدره، ومنحه بها إنسانيةً يحقّ له أن يُزْهَى بها على سائر خلقه بفضل ما حمَّله من أمانة وما حباه من قدرات في العقل والنفس:

فأولاها: أَنَّهُ - عز وجل- جعل الإنسان خليفته في الأرض، ووكيلاً عنه تعالى، وكَل إليه أمانة عظيمة هي أن يوحّـد الله وينفّذ أحكامه، ويَعْمُرَ الأرض بما يُرْضي خالقـه ﴿وإذْ قال ربُّكَ للملائكةِ إنّي جاعِلٌ في الأرضِ خَليفةً﴾ (البقرة:30) ثم أمر الله ملائكته أن يسجدوا لآدم سجودَ تحيّة وتوقير. ثم جعل ذُرّيّته بعد ذلك خلائف له، جيلاً بعد جيل، يحملون الأمانة ويواصلون الرسالة ﴿ وهوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلائفَ الأرضِ ورَفع بعضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيْبلُوَكُمْ في ما آتاكُمْ، إنَّ ربَّك سريعُ العِقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ (الأنعام: 165) وقد عرض الله - عز وجل- هذه الأمانة على السماوات والأرض فأبَيْنَ أن يَحْمِلْنَها خوفًا من المسؤولية، وحملها الإنسان بما منحه الله من قوة وعزيمة. فأي منـزلة يطمح إليها مخلوق أعلى من هذه المنـزلة وأيّ قدرة تفجّرها هذه المنـزلة الإلهية في العقل والنفس!

وثانيتها: أن الله - عز وجل- لم يترك الإنسان لضعفه ولبشريته الهابطة وللطين الذي خلقه منه، ولكنه - عز وجل- أمدَّه بقوة منه ونفخ فيه من روحه وأودع فيه من ذاته العليّة ليستطيع أن يجد طريق الهداية، وأسباب الصلة بربه، ويحمل أمانته ﴿ وإذْ قال ربُّكَ للملائكةِ إنّي خالقٌ بشرًا مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَأ مَسْنُونٍ. فإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فيه من رُوْحِي فَقَعُوا لهُ ساجِدِين ﴾ (الحِجْر: 28 و 29) ومنحه العقل والتفكير والتذكّر، ليكون في كل ذلك وسائلُ تُعِينه على الوفاء بحقّ الأمانة وأداء الرسالة، وخلقه في أحسن تقويم وأعدلِ صورة، حتى لقد أثنى - عز وجل- على نفسه لذلك بقوله ﴿ فَتَبارك اللهُ أحْسَنُ الخالِقين ﴾ (المؤمنون: 14) وأسبغ على الإنسان نِعمَه ظاهرةً، من حُسْن الصورة وجمال الخَلْق وتسوية الأعضاء، وباطنةً من القدرة العقلية والنفسية لتحصيل العلم وتحقيق المعرفة وعِمارة الأرض.

وثالثتها: أن الله - عز وجل- قد ضاعف مِنَنه على الإنسان وتكريمَه له، فهيّأ له الوسائل كلَّها، حتى لقـد سخَّر له ﴿ ما في السَّماواتِ ومـا في الأرضِ جميعًا منه ﴾ (الجاثية: 13) فشمل بذلك الفضاء وسائر الكواكب، وظاهر الأرض وباطنها، جعلها كلها ميدانًا لمعرفة الإنسان ولمنفعته، فذلّلها له ويسّر له العلمَ والمعرفة بقوانينها وأسرارها وأعطاه مفاتيحها بما منحه من قوة عقلية وقدرة على استخدامها لفائدته.

ورابعتها: أن الله - عز وجل- قد علم ضعف الإنسان، مع ما منحه من روحه وذاته العليّة، ومع استخلافه إياه في الأرض، ومع جزيل ما هيّأ له من وسائل، ولذلك لم يطلب منه إلاّ بذل الجهـد، وغفر له ما سوى ذلك، رحمـة منـه تعالى ﴿ لا يُكلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاّ وُسْعَها ﴾ (البقرة: 286) و ﴿ فاتَّقُـوا الله ما اسْتَطَعْتُمْ ﴾ (التغابن: 16) وجعل من دعاء الإنسان أن يرفع ربُّه عنه النسيان والخطأ، وألاّ يحمّله فوق ما يحتمل ﴿ ربَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أو أخْطأنا، ربَّنا ولا تَحْمِل علينا إصْراً كما حَمَلْتَهُ على الَّذِينَ مِنْ قَبلِنا، ربَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقـةَ لنا بِهِ ﴾. ومن أجل هذا فإن إرادة الله - عز وجل- وأمْرَه هما أن يبذل الإنسان أقصى جهده في استخدام ما منحه الله من عقلٍ وقوى نفسٍ، وفي الاستفادة مما سخّره الله في السماوات والأرض جميعًا، فإن عجز بعـد ذلك عن شيء دون تقصير منه أو تكاسل، فلا حرج عليه ولا تأثيم، ولكن بعد استنفاد الطاقة وإتقان العمل ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتْقِنَه". وهـذه صفة في الإنسان من إشعاع ذات الله الذي ﴿ أحْسَنَ كلَّ شيء خَلَقَهُ ﴾ (السجدة: 7).

وخامستها: أنه تعالى أسبغ على الإنسان مِنَنَهُ وأكمل عليه نِعَمه حين جعل كل شيء يعمله في هذه الحياة على الأرض عبادةً يثاب عليها ويؤجر، إذا كان مخلصًا فيه قائمًا به على وجهه الصحيح، قاصدًا منه مرضاة الله، مهما يكن هذا الشيء ضئيلاً، ومهما يكن فيه من منفعة أو متعة أو لذّة أو شهوة للإنسان. وهذا هو المعنى الشامل الواسع للعبادة التي تضمّنها قوله تعالى ﴿ وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاّ لِيَعْـبُدونِ ﴾

* * *

وليس المجال مجالَ استيعابٍ وحَصْر، ولكنه مجالُ توضيحٍ وأمثلة. فهذه خمس قيم عليا ثابتة، هي الأساس في التوجيه النفسي وفي التربية. والمنطلقُ الحقيقيّ في استخـراج كامن القوة والطاقة إنما يكون حين يَعْرِف الإنسانُ بقولٍ صريحٍ من ربه، منـزلتَه عنده وقُرْبَه منه، وحين يدرك أنه خليفته في الأرض، وأن فيه مـن رُوِح الله رُوحًا، وأن كل شيء في السماوات والأرض مسخَّر له، قابلٌ لتفكيره وتدبيره، وأنه تعالى منحه مفاتيح كل ذلك بما وهبه من قوة في العقل والنفس، وأنه حمَّله أمانته ورسالته وألقى عليه مسؤولية لم يُلْقِهـا على غيره، وطلب منه بذل أقصى الجهد في العمل واستعمالِ العقل، ومع ذلك لم يكلفه مالا يطيق، ورَحِم ضَعْفَه، وجعل كل ما يقوم به من شؤون دنياه حتى أصغرها وأمتعها لنفسه، عبادةً تقرّبه إليـه.

ولو هبطنا من هذا المستوى الإلهي إلى مستوى البشر، فأيّ قيم عليا نتطلب من المعلّم أن يبدأ بها مع من يعلّم وينطلق منها وإياهم، أكثر من أن يفجّر في أنفسهم الإحساس بقيمتهم ويرسّخ فيهم الشعور بالمسؤولية والثقة بقدراتهم، ويكشف لهم عمّا يتمتعون به من قوى لتحقيق الأمل المعقود عليهم، ثم يزودهـم بالأدوات والالآت، ويسخر لهم الوسائل الكفيلة بالعمل، ثم يثيبهم ويكافئهم عن كل جهد مهما يكن ضئيًلا ويتجاوز عن ضعفهم وتقصيرهم فيما لا يطيقون؟

إنه توجيه ربَّاني من خالق الكون خاطب به عقل الإنسان وَنفْسَه حين أعلمه بما أغدق عليه من علوّ المكانة، ورِفْعة الشأن، والقدرة على التفكير والعمل، وبمـا منحه من أدواتهما ووسائلهما، مما يحقّ له أن يُزْهَى به ويتيه، إيمانًا واحتسابًا وتحدّثًا بنعمة الله، وأن يقابله بالعمل الجاد والفكر المتدبر حمدًا وشكرًا واستدامة لهذه النعم.

(4)

أما الخصائص والميزات الأساسية للتوجيه النفسي وللتربية في الإسلام، فأكثر من أن يستوعبها بحث موجز في مثل هذا المقام. ومع ذلك سنحـاول أن نشير إلى بعضها:

فأولاها: العالمية الشاملة والمسـاواة بين الناس، لا فرق في ذلك بين قاصيهم ودانيهم، ولا بين ذكرهم وأنثاهم، ولا بين أسودهم وأحمرهم وأصفرهم، ولا تمييز بين الأقطار والبلاد، ولا بين العروق والأجناس، وإنما شمول للجميع ومساواة بينهم. فالخلق كلهم عيال الله، ولا فـرق بين عربي وعجمي إلاّ بالتقـوى. وكتاب الله ﴿ إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ للعالَمِين ﴾ (التكوير 27) لهم جميعًا، وليس لفريق دون فريق. و ﴿ الحَمْدُ للهِ ربّ العالَمِين ﴾ (الفاتحة 2). و ليس ربَّ قوم دون قوم. و ﴿ قُلْ أعوذُ بربّ الناسِ، مَلكِ الناس، إلهِ الناس ﴾ (الناس 1-2) الناس جميعًـا. ولذلك قال الله تعالى لنبيه الكريم ﴿ وما أرْسَلْناكَ إلاّ رحمة للعالَمِين ﴾ (الأنبياء 107).

وهذه الخصيصة قاعدة أساسية كبيرة تظهر آثارها في جميع الخصائص الأخرى، وتترتّب عليها نتائج نلمسها في غيرها، إذْ حين يكون الإسلام دينًا عالميًّا ودعوة تشمل الناس جميعًا وتسوّي بينهم صار من الطبيعي أن تكون له أيضًا نظرة شاملة في الفكر والتربية والثقافة.

بل إن هذه الدعوة العالمية أوسع آفاقاً وأرحب مدى من الاتجاه العصري الحديث إلى "ديمقراطية التربية " أو " ديمقراطية الثقافة ". فهذه إنمـا تحصر نفسها في نطاق الطبقات المختلفة في الشعب أو الوطن الواحد نفسه، ولا تتجاوزه إلى غيره من الشعوب أو الأوطان. بل إننا لنعلم جميعًا أن الدول الكبيرة ليومنا هذا أصبحت تحتكر أنواعًا من المعارف والعلوم، وتمنعها غيرَها من الدول، وصار العلم أسراراً يخفيها أصحابه، وصار لغيرهم جواسيس يبذلون الجهد لسرقة هذه الأسرار بشتى الأساليب، حتى أصبح من الصفات الواضحة لهذه العصر أنه عصر "كتمان المعرفة " ولا ينحصر ذلك في نطاق السباق المحموم في غزو الفضاء، وعلوم الذرّة، وصناعة الأسلحة والطائرات المقاتلة، بل تعدَّاه إلى غيره مما يعرفه بعض طلابنا في الخارج حين لا يتلقَّون إلا ما يراد لهم، لا مـا يريدون.

وثانية هذه الخصائص: الإنسانية، وهي غير الخصيصة الأولى، وإن كانت متصلة بها أوثق اتصال. فالتربية الإسلامية، والثقافة الإسلامية، منفتحتان على غيرهما مـن أنواع التربية والثقافات عند جميع الأمم قديمها وحديثها، غير مغلقتين على نفسيهما. كانتا في جميع عصورهما تأخذان من غيرهما في يُسْر و دونما حرج، فطلب المسلمون العلم " ولو في الصين " وأخذوا الحكمة أنَّى وجدوها " فالحكمة ضالة المؤمن ". واستوعبوا ثقافات الأمم الأخرى وعلوم الأوائل، وتمثلوها وهضموها حتى صارت جزءًا من معارفهم وثقافتهم وعلومهم، بعد أن أدمجوها في أصول ثقافتهم ونَفَوْا ما لا يتّسق مع هذه الأصول، وكما أخذوا في يسر وسماحة أعطوا الثقافات الأخرى عطاء ثرًّا، دون تقتير ولا تعصب ولا إخفاء للمعرفة، حتى صار ما أعطوه أساساً من أسس الحضارة الإنسانية الحديثة.

وصفة الانفتاح على الثقافات الأخرى والأخذ منها في يسر ودون تردد، موضعُ مزيدٍ من النظر والتوقف. فقد كان ذلك حين كان المسلمون متصلين بدينهم وتراثهم اتصالاً يربطهم بالأصول الصحيحة ويتيح لهم أن يتمثلوا ما يأخذون ويهضموه، وأن يميزوا بينه وبين ما يَدَعون. ومع ذلك لم يَسْلَم تراثُنا من كثير من الدَّسّ الذي شاب بعضَه وزيَّفه. أما اليوم، وحالنا على ما نعرف من الضعف والانهزامية والشعور بالنقص أمام غيرنا، والبعدِ عن أصول تراثنا وفكرنا، فيحلو لي أن أكرر ما قلته في مناسبة سابقـة من أننا "نحن اليوم لا بدّ لنا من تمثُّلٍ واضح لأصول فكرنا وثقافتنا، ورؤية صحيحـة لصورتهما، ومعرفة شاملة بجوانبهما حتى نشـارك في حمل لوائهما واستئناف رسالتهما، ثم نفتح من أمامهما النوافذ لتستقبـلا النور والهـواء من حيث أتيا، على أن نرى النور بأعيننا لا بأعين غيرنـا، وأن نتنفس الهـواء برئاتنا لا برئاتٍ تُصْنَع لنا، فيكون حينئذ اختيارنا حرّاً نأخذ ما نريد لا ما يراد لنـا، وعلى الصورة التي نختارها لا على الصورة التي تُفْرَض علينا. وشتَّان بين أمـة قوية غالبة تنفتح على غيرها وأمة ضعيفة مغلوبة يقتحمها غيرها".

وثالثة هذه الخصائص: التفاعل الإيجابي مع المجتمع، والمسؤولية الفرديه أمام الجماعة. فالمسلم لا يقوم منفردًا ولا يعيش لنفسه، وإنما هو عضو في أسرة متكافلة مترابطة تتكافأ دماؤها ويسعى بذمّتها أدناها، وهو مع بقية أفراد الأسرة كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا، وكالجسم إذا شكا منه عضو تَداعَى له سائر الأعضاء بالحُمَّى والسهر.

ومن كان هذا شأنَه لم يَجُزْ له أن يعتزل الجماعة ويغمض عينيه عن شؤونهـا، بل عليه واجب النصيحة لكل واحد منها، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكـر، ومن رأى منكرا فَلْيُغَيّره. ولا يحق له أن يتصرف فيما يظن أنه له وهو في الحقيقة متصل بالجماعة، وضُرِب لذلك مَثَلُ مَنْ كان في سفينةٍ فأراد أن يُحْدِث فيها خَرْقًا في الموضع الذي له منها، فإن أخذت الجماعة على يده نجا ونَجَوْا وإن تركوه يفعل هلك وهلكوا. وواجب النصيحة والعمل لخير الجماعة ومن خلالها واجب مؤكد مقرر ذكـره الله في كثير من آيات كتابه الكريم. ومن أجل هذا ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إسْرائِيلَ عَلَى لِسان داوُدَ وعيسى ابنِ مَرْيَمَ، ذلك بما عَصَوْا وكانوا يَعْتدون. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعلون ﴾ (المائدة 78و79). ومن أجل هذا حـذّر الله المسلمين بقوله: ﴿ واتَّقُوا فتنةً لا تُصِيبنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً ﴾ (الأنفال25).

وإذا كان الأمر على هذه الصورة من التكافل الاجتماعي والمسؤولية المشتركة والرقابة المستمرّة في توازن بين الحرية والمسؤولية الجماعية، كان لا بدَّ أن يكون أمر المسلمين شورى بينهم، وأن يصبح كلهم راعيًا وكلهم مسؤولاً عن رعيته.

ورابعة هذه الخصائص: التكامل والتماسك في النظرة إلى الحياة والكون، فلا ثنائيةَ ولا ازدواجية ولا انقسامَ على النفس: فالروح والمادة، والدين والدنيا، والحياة والآخرة، كلها أمور متكاملة منسجمة ليس بينها تناقض ولا صراع. فليست الدنيا مذمومة كريهة، ولا الجسد خطيئةً ونَجَساً، وليس السعي في سبيل الحياة والرزق بعدًا عن الدين بل هو عبادة وقُرْبة إلى الله. ﴿ وابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرةَ ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنُّيا ﴾ (القصص 77). و ﴿ ربَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرَة حَسَنةً ﴾ (البقرة 201) وبذلك كان كل شيء في الإسلام لله، وكان كل شيء أيضًا للإنسان، معاً في آن، لا اختلاف ولا تجزئة. وهذا يعود بنا مرّة أخرى إلى المعنى الشامل للعبادة كما ذكـرناه في القيم العليا.

وخامسة هذه الخصائص: ارتباط العلم بالعمل، والقول بالفعل، كترابط العقائد والعبادات والمعاملات. فلا خير في عِلْم لا يُعْمَل به، والعلم نمط سلوك وحياة، وليس مجرد معارف ومعلومات يختزنها العقل. وليس له أحبار ولا رهبان يحتكرونه ويحرّفونه. ولا عزلة لأهل العلم عن الحياة، ولذلك كَثُرَتْ في تراثنا نسبة شعرائنا ولغويينا ومحدّثينا ومفسّرينا ومؤرخينا وفلاسفتنا إلى الحِرف والصناعات، فمنهم: السقَّاء والخياط والبزَّاز والنجَّار والغزَّال وما شئت من هذه النسب التي تدلّ على احترام العمل اليدويّ ومزاولته.

وانتفت الفجوة بين الكلام وتحقيقه أو بين النظر والتطبيق، ﴿ يا أيُّها الَّذِين آمَنُوا لِمَ تَقُولونَ ما لا تَفْعَلُونَ ﴾ (الصف 2). ﴿ أَتَأْمُرونَ النَّاسِ بِالبِرّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ ﴾ (البقرة 44). ﴿ ما أُرِيـدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى ما أنْهاكُمْ عَنْهُ ﴾ (هود 88).

ومن أجل هذا كله كثر الربط في الآيات الكريمة بين العمل الصالح وعدم الشرك بالله، وبين الإيمان ووجوه متعددة من المعاملة والسلوك. ومن هنا كانت التربية والثقافة في الإسلام لا تقفان عند ما هو نظري مجرّد بل تتجاوزانه إلى الحسّ والتجربة والمشاهدة.

وسادسة الخصائص: القوة. فالمسلم عزيز منيع، وعزّته من عزّة الله ودينِه، ولذلك فرض عليه الجهاد بأنواعه، ومنه قتال العـدو ﴿ وأعِدّواُ لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُـوَّةٍ ومِنْ رِبَاطِ الخَيْل ﴾ (الأنفال 60). وكانت اليدُ العليا خيرًا من اليد السفلى في العطاء والبذل وفي البأس والمنَعة، وكانت رَهَبُوتى خيرًا من رَحَموتى، واطْلُبِ الموتَ توهَبْ لك الحياة. ولذلك قرّع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلاً رآه في المسجد مغالياً في مظاهر الخشوع وقال له: لا تُمِتْ علينا ديننا. فالإسلام ليس دين المـوت بل هو دين الحياة، والتسلح لها بأسباب النجاح فيها.

ولكن هذه القوة مشروطة بما يقيّدها ويكبح جماحها، فهي قوة على المعتدين والظالمين والأشرار، ومن أجل هذا يجب أن تبرأ من أن تكون هي نفسها ظالمة معتدية. وما أكثر ما حذّر الله في كتابه الكريم من الظلم والعدوان.

وفي هذا من التوازن والتكامل والاعتدال والقصد في الأمر الواحد ما في سائر الخصائص.

وسابعة هذه الخصائص: تحرير العقل من الخرافات والأوهام والأباطيل. وليس من غرضنا الإطالة فيما هو معروف في هذا الباب، وما أكثر ما نعى الله - عز وجل- على المشركين تمسكهم بهذه الخرافات، وحث على إعمال العقل والتفكير، وقد بلغ من تقدير المسلمين للعقل وإعماله أن كان للمجتهد أجران إن أصـاب وأجـر إن أخطأ.

وهـذا مجـال واسع كتبت فيـه بحوث طوال بل صدرت فيه كتب كاملة، وحسبنا منه هذه الإشارة المقتضبة.

(5)

ثم إن للتوجيه النفسي والتربية في الإسلام وسائلَ وأساليبَ يتحققان بها، هـي من جنس تلك القيم والخصائص، تتسق معها وتتفق، ولا تخرج عن طبيعتها أو تشذّ عن أغراضها.

فمنها: أن القدوة والأسوة لهما مكان الصدارة من هذه الوسائل، فالوعظ وحده لا يكفي، والكلام لا ينفصل عن المتكلم. وسئلت عائشة عن أخلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كان خلقه القرآن. ولذلك كان لنا في رسول الله أُسْوةٌ حسنة، وكانت سُنَّته من قول وفعل وتقريرٍ مكمّلة لكتاب الله وأساسًا من أسس التشريع، وطالبنا الله - عز وجل- أن نأخذ بما أمرنا به الرسول وأن ننتهي عما نهانا عنه. ومن سنَّ سُنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

وهذا متّصل أشد اتصال بما ذكرناه قبل قليل من الترابط والتلازم بين العلم والعمل وبين النظر والتطبيق وانتفاء الفجوة بينهما.

واستمر أمر القدوة والأسوة إلى الصحابة فالتابعين، فعنهم أخذنا الكثير من القول وأساليب التفكير والعمل؛ لأن الصحابيّ قدوةُ التابعيّ، ورسول الله قدوة الصحابة عن مشاهدةٍ وسماعٍ أو عن رواية متصلة بمن شاهد وسمع.

وانتقل أمر القدوة إلى تحصيل العلم في مجالسه وتلقّيه عن علمائه تلقّيًا مباشرًا، وصار أصلاً من أصول الدراسة. فكان العالم لا يُعَدُّ عالمًا بحقّ إلاً إذا أخذ عن الشيوخ في مجالسهم وحلقات علمهم، وكان الشيخ - لا المعهد – هو الذي يمنح الشهادة ويجيز المتخرّج على يديه، ومن هنا نشأ هذا الإسناد الذي كان يحرص عليه العلماء لِيُبُرِزوا سلسلة الشيوخ الذين تلقوا عنهم ومنْ سبقهم من شيوخهم في نسَق متصل، وكان هذا: في رواية الشعر، وفي أخبار التاريخ، وفي أقوال المفسّرين، وأوضحُ ما كان في الحديث الشريف. وعُنِى بعض العلماء بجمع أسماء شيوخهم في كتب مفردةٍ، وكثُرت أحكام العلماء على هؤلاء الشيوخ تعديلاً وجرحًا. وهذا كله تراث لا نظير له عند الأمم الأخرى. بل لقد أسقط العلماء من لم يتلقوا العلم مُدارَسةً ومُشافَهةً على الشيوخ واكتفوا بالأخذ مـن الكتب، وسَمَّوا هؤلاء الآخذين من الصحف بالصحفيين، ومن الصحف نشأ " التصحيف " الذي قلما يقع فيه من كان له شيخ يسمع منه ويقرأ عليه. وكانوا يحثّون على الاختلاف إلى عدد من الشيوخ في الموضوع الواحد، وعدم الاقتصار على شيخ بعينه مهما يكن علمه؛ لأنَّ الحقيقة لا تُعْرَف إلاّ بالاستماع إلى الآراء المتعددة ومناقشتها والاتصال الدائم المباشر بالعالم والشيخ (الأستاذ).

ومن هذه الوسائل: ما نسمّيه الآن بالتعليم الحر أو الجامعة الشعبية، فقد كانت مجالس العلماء وحلقاتهم مفتوحة لكل من يرتادها، وخاصة في المساجد، لا يُصَدّ عنها طالب علمٍ مهما تكن سِنّه، ومهما تكن حالته المالية أو مستواه الاجتماعي. وكانت هذه المجالس والحلقات متجاورة حينًا، ومتباعدة حينًا آخر، وقد تكون في بلاد أو أقطار مختلفة. وما أكثر العلماء الذين رحلوا في طلب العلم ولقاء شيوخه من المغرب إلى المشرق أو من المشرق إلى المغرب، أو من الشمال إلى الجنوب، أو من الجنوب إلى الشمال. وكانوا بين بداية رحلتهم ونهايتها يتوقفون في كل بلد فيه عالم مشهور فيحضرون مجلسه دون أن يدري بهم أحد، حتى إذا باحثوا أو ناقشوا أو أجابوا عن أسئلة في المجلس وعُرِفتْ مكانتهم، جلسوا هم في تلك البلاد للتدريس أو للقضاء والإفتاء، وقد يطول بقاؤهم أو يَقْصُر إلى أن يشاء الله أن يَشُدّوا الرحال إلى بلد آخر، وكل البلاد بلادهم، لا يُنْبَزُون بغربة وهم في دار الإسلام. وألّف بعضهم كتبًا عن رحلاتهم ذكروا فيها فوائد وطرائف.

ومن هذه الأساليب أيضاً: ما نسميه اليوم بالتعليم المستمر أو التعليم مدى الحياة. فلم يقيَّد المتعلم بسنّ معيّنة ولم يكن للتعلم مدى زمنيٌّ محدود، فكان يحضر مجلسَ العلم الصبيُّ والشاب والشيخ. وقد يتقن المتعلم ميداناً من ميادين العلم ثم يرى بعد حين وتقدّم في العمر أَنَّهُ لا يزال ينقصه التفقه في ميدان آخر، فيعود تلميذاً في هذا الميدان يتلقاه عن شيوخه في حين أنه شيخ جليل وعالم مشهور في ميدانه الأول يأخذ عنه فيه طلبته. وما ذاك إلا لأنا أُمِرْنا أن نطلب العلم من المهد إلى اللحد، لا نتوقف فيه عند مرحلة معيّنة، ولا نستغني بشهادة عن مواصلـة التعلّم، و " لا يزال العالم عالماً ما تعلَّم فإذا ظنّ أنه قد عَلِمَ فقد جَهِل".

ومن هذه الأساليب: الأخذ بمبدأ وحدة المعرفة وتكاملها. فقد كانت المجالس والحلقات التي أشرنا إليها تشمل: التفسير والحديث والفقه والنحو واللغة والشعر والأخبار والموسيقى والطب والفلسفة، وما شئتَ من ميادين المعرفة، لكل ضربٍ منها شيخُه ومجلسُه، وكثيرًا ما كانت هذه المجالس متجاورة أو متقاربة يتنقّل بينها طلبة العلم يأخذون منها ما يشاؤون. ولا يبرّز عالم في ميدانٍ بعينه منها إلا بعد أن يكون قد ألـمّ بالميادين الأخرى، بل إن كثيرًا من الميادين كانت تُعَدّ أدواتٍ وآلاتٍ للميدان الذي يتخصص فيه الطالب، فالمفسّر مثلاً لا بدَّ أن يكون مستكملاً لأدوات التفسير من العلوم والمعـارف الأخرى، وكذلك الفقيـه والأخباريّ واللغويّ. ونجد في تاريخنا أطبّاء يجمعون مع طبهم الفقـهَ والفلسفة واللغة وقد يضيفون إليها الموسيقى، وربما اشتهروا بها جميعها، فعُرِف عنهم أنهم أطباء ولغويون وفلاسفة وموسيقيون معًا، ولهم كتب في كل ضرب منها.

(6)

وبعد؛
فقد آن لنا أن نردّ نهايات هذا الحديث على أوائله، وأن نجيب عن الأسئلة التي أثرناها في مطلعه. فليس من شك – بعد الذي قدَّمت – أن في طبيعة الدين الإسلامي وصميمه شيئًا كان – بالضرورة والتلازم – السببَ الحقيقيّ لنهضة المسلمين والباعث لهم على ما أحرزوه من انتشار وتقدم. وقد ضربنا المثل بجانب واحد، أو عنصر واحد، على وجه اليقين والوضوح والتحديد، لا على سبيل الظن و الغموض والتعميم. ومع أنني قسمت ما ذكرت ثلاثة أقسام، هي: القيم العليا، والخصائص، والوسائل أو الأساليب، إلا أنها تندرج جميعها في نَسَق واحد، وتتداخل معًا في سلسلةٍ حلقاتهُا آخذٌ بعضها برقاب بعض، وهي تؤلف في مجموعها منهجًا نفسيًّا فكريًّا يتمثل في الحياة وفي العمل. ثم إن هذا الشيء قد اختُصَّ به هذا الدين وحده فاقتصر عليه دون غيره من الأديان، وفيما ذكرتُ إشارات مقتضبة إلى ذلك لم أجد سببًا للتفصيل فيها لأنها واضحة لكل من يدرس تلك الأديان.

وليس من شك في أن أصحاب الديانات الأخرى، وأهلَ الوثنية والشرك، أقاموا في عصور مختلفة حضارات متعددة، ولكنها تختلف في روحها وجوهرها وبواعثها واتجاهها عن الحضارة الإسلامية، ثم إنهم لم يقيموها في ظل أديانهم أو وثنيتهم وبسببٍ منها، كما أقام المسلمون حضارتهم، وإنما كان ذلك بسبب ما أودع الله في النفوس البشرية، كائنًا ما كان اعتقادها ودينها وموطنها وعصرها، من "فطرة " سليمة هادئة، هي من روحه التي نفخ في الإنسـان حين خلقه، فاستطاعت هذه " الفطرة " أن تهتدي بالبصيرة إلى قدر مشترك بين أفراد الإنسانية ومجتمعاتها في مختلف العصور. ولكن هذه الفطرة وحدها، دون منهج إلهي متكامل موحًى به يربي النفس والعقل، وينظّم الحياة بكل جوانبها، هذه الفطرة وحدها، كانت عُرْضةً للضلال والزيغ والانحراف. فكانت حضاراتها محصورة في الأقوام التي أنشأوها، وربما امتد أثرها إلى أمم مجاورة بالاقتباس أو الاحتكاك أو التعلّم، ولكنها لم تكن حضارة إنسانية شاملة للعالمين. وقد زالت تلك الحضارات، وبقي منها تاريخ يذكر، وبادت بعض تلك الأمم، وحرِّفت الأديان وغُيّرت، وتعاقبت أمم أخرى واصلت الطريق، واستمدّت جوانب متفرقة من غيرها، وبنت لنفسها حضارات، اضطربت في قيمها اضطرابًا شديدًا وتصارعت فيما بينها، وبعضها الآن آيل إلى الزوال. أما القرآن والإسلام وما فيهما من مناهج متكاملة لكل جوانب الحياة ومن دعوة إنسانية شاملة، فلا يزالان هما هما، بمناهجهما، وبقدرتهما على استئناف الحضارة التي كانت للمسلمين دهرًا.

أما لماذا أصاب المسلمين ما أصابهم من تأخر وانحطاط وتخلف عن ركب الحضارة؟ هل أضاعوا ذلك الشيء وفقدوا أثره في نفوسهم وفي عقولهم؟

فالجواب: نعم، لقد أضاعوا – في جماعاتهم ومجموعهم ودولهم، وليس في أفراد قليلين منهم – ذلك المنهج المتكامل: تمثُّلاً في النفس والعقل، وتطبيقًا في السلوك والعمل والحياة. غيّروا ما في نفوسهم فغيّر الله أحوالهم، ولقد أنذرهم - عز وجل- بقوله ﴿ إن الله لا يغيّر ما بِقَوْمٍ حتّى يُغيّروا ما بِأنْفُسِهِمْ ﴾ (الرعد 11). وهذا وعد ووعيد معًا، فإنْ غيّروا إلى الباطل والفساد أراد بهم سوءً ا وأزال عنهم نِعَمه، وإن غيّروا إلى الحق والصلاح أراد بهم خيرًا وأعاد إليهم نِعَمه. هذه سُنّة الله ولن تجد لسنّة الله تبديلاً، وهذا قانونُ تداولِ الأيام بين الناس: ﴿ وَعَد اللهُ الذِينَ آمنُوا مِنْكُمْ وعَمِلُوا الصَّالحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرضِ، كما اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ولَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِيْنَهُمُ الذي ارْتَضَى لَهُمْ، ولَيُبدّلنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْناً، يَعْبُدُونَني لا يُشْرِكونَ بي شَيئًا ومَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلكَ فأولئكَ هُمُ الفاسِقون ﴾ (سورة النور 55).

اللهم إنا نسألك أن تمكن لنا ديننا الذي ارتضيت لنا، وأن تبدلنا من بعد خوف أمْنًا، نعبدك لا نشرك بك شيئًا. واجعلنا نغيّر ما بنفوسنا لتغيّر ما بنا، إنك على كل شيء قدير، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وسلَّم تسليمًا.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=11

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك