من صور التسامح الإسلامي في الأندلس

من صور التسامح الإسلامي في الأندلس

صلاح جرار*

امتاز المجتمع الأندلسي إبان الحكم العربي (92-897هـ) بالتنوع الثقافي، حيث تألف من عناصر مختلفة الأعراق والأديان، من عرب وبربر، وإسبان وصقالبة، ومسيحيين ومسلمين، ويهود وغيرهم. وقد تفاعلت هذه العناصر تفاعلا عميقا جعل من المجتمع الأندلسي مجتمعا متميزا في بنائه الحضاري والفكري.

ولم يكن ليتسنى ذلك لولا سياسة حكام الأندلس القائمة على العدالة والتسامح، واحترام الهويات الثقافية لمختلف عناصر النسيج الأندلسي.

وقد تجلى التسامح في مظاهر شتى من بينها التزاوج بين مختلف تلك العناصر، والتبادل التجاري مع قشتالة ودول أوروبا، والتبادل العلمي من خلال ترجمة الكتب اللاتينية واليونانية إلى العربية، وتبادل الكتب والمخطوطات، وأما التسامح والتفاعل في مجال اللغة فيتجلى في استخدام عامة أهل الأندلس للغة القشتالية، إلى جانب عاميتهم.

كما يظهر ذلك من خلال تساهل بعض الفقهاء وتغاضيهم عن كثير من عادات الأندلسيين، وتجاوزاتهم في طربهم ولهوهم، بل إن بعض هؤلاء كانت لهم مشاركات في مجالس اللهو والطرب.

ومن مظاهر هذا التسامح، ما ألفيناه لدى الأندلسيين من منح المسيحيين واليهود حرية العبادة، وإقامة الكنائس والأديرة، وممارسة شعائرهم الدينية، فضلا عن استخدامهم في وظائف الدولة، إلى حد اتخاذ بعض الوزراء والكتاب منهم، حتى لقد اشتهر من اليهود والنصارى عدد من أعلام الأندلس في الطب والفلسفة والأدب وسائر العلوم والفنون.

ولم يقف المسلمون عند هذا الحد بل نجدهم يشاركون النصارى أعيادهم التي تختص بهم، مثل عيد ميلاد السيد المسيح (عيد النيروز)، وعيد العنصرة (المهرجان)، وخميس أبريل وغيرها من الأعياد، ويحتفون بهذه الأعياد احتفاء لا يقل عن احتفاء المسيحيين بها.

وقد بلغ من تفشي هذه الظاهرة في الأندلس أن وضع الأندلسيون فيها كتبا منها كتاب "بستان الأنفس في نظم أعياد الأندلس" لأبي عامر محمد أحمد السالمي، وكتاب "الدر المنظم في مولد النبي المعظم" لأبي القاسم العزفي، وجزء لطيف جمعه أبو القاسم خلف عبدالملك بن بشكوال الأنصاري القرطبي.

وقد عني بإيراد أخبار هذه الاحتفالات مؤلفو كتب الفقه مثل الطرطوشي وابن رشد والعزفي والونشريسي وغيرهم، مثلما عني بها المؤرخون ومؤلفو الكتب الأدبية بالإضافة إلى الشعراء والكتاب، والوشاحين والزجالين، مِـمَّا يشي بمدى شيوع هذه الظاهرة في المجتمع الأندلسي على اختلاف طبقاته وطوائفه.

تتناول هذه الدراسة التعريف ببعض الأعياد، وصور احتفاء المسلمين بها، وأسباب شيوع هذه الظاهرة ودلالاتها.

1- الأعياد المسيحية في الأندلس:

عرف الأندلسيون عددا كبيرا من أعياد المسيحيين الذين عاشوا معهم في الأندلس، واتخذوا من تلك الأعياد أعيادا أندلسية، يشارك بها المسلم إلى جانب المسيحي. ومن هذه الأعياد:

أ ـ عيد ميلاد المسيح -عليه السلام-:

أو النيروز / أو النوروز(*) وهـو الاحتفال بأول النوروز المعروف عندهم ينير(1)، كما احتفلوا بسابع أيام ولادته -عليه السلام-(2)، ووصف صاحب المعيار المعرب هذا العيد بقوله: "ليلة ينير التي يسمونها الناس الميلاد"(3).

ب ـ العنصرة:

وهو عيد ميلاد النبي يحيى بن زكريا -عليه السلام-(4)، ويقال له المهرجان أيضا(5) وليلة المهرجان(6). يقول المقري: "يوم مهرجان أهل البلد المسمى عندهم بالعنصرة الكائن في ست بقين من شهر يونيو الشمسي من شهورهم الرومية(7). وسميت بالعنصرة نسبة إلى شعلة النار التي كانوا يعملونها في تلك الليلة ويقفزون فوقها، ولذلك عرف من أمثال أهل الأندلس "الكبش المصوف ما يكفز العنصرة(8)" أي: أن الكبش الذي عليه صوف لا يقفز فوق شعلة العنصرة لأنه إذا قفز فوقها احترق.

ويعرف عيد المهرجان في إسبانيا حاليا باسم San Juan.

ج – خميس إبريل(9):

وهو السابق لأحد عيد الفصح، قال المقريزي في خططه: "خميس العهد، ويعمل قبل الفصح بثلاثة أيام.. وعوام أهل مصر في وقتنا يقولون: خميس العدس من أجل أن النصارى يطبخ فيه العدس المصفى، ويقول أهل الشام: خميس الأرز وخميس البيض، ويقول أهل الأندلس: خميس إبريل، وإبريل اسم شهر من شهورهم"(10).

وذكرت المصادر عيداً رابعاً أطلقوا عليه اسم " ليلة العجوز " وأن الأندلسيين كانوا يحتفون كثيراً بهذه الليلة(11).

2- صور الاحتفال بهذه الأعياد:

لم يكن احتفال المسلمين الأندلسيين بهذه الأعياد وقفا على عيد بعينه، بل كان يشمل جميع الأعياد المسيحية، ولم يكن محصوراً في فئة معينة من أبناء مسلمي الأندلس، وَإِنَّمَا شمل معظم طبقات الأندلس من الرجال والنساء والصغار والكبار والرعية والحكام والأدباء والجواري والحرائر، وقد عجب العزفي في كتاب الدر المنظم من إحصاء الأندلسيين لتواريخ النصارى والاعتناء بمواقيتها، فكثيرا ما يتساءلون عن ميلاد عيسى -على نبينا وعليه السلام-، وعن ينير سابع ولادته، وعن العنصرة ميلاد يحيى -على نبينا وعليه السلام-... فقد انتهى اليوم إلى العذراء في خدرها، والحرة المصونة في سترها، وأضافوا للتحفي عنها بالسؤال، والمحافظة عليها والإقبال، من بدع وشنع ابتدعوها، وسنن واضحة أضاعوها.."(12)، وأضاف العزفي إن العادة جرت عند الأندلسيين أن يستعدوا لهذه الأعياد، ويفخموا لشأنها عاما بعد عام "حتى رسخت في صدوره وتصورت في عقولهم وتاقت إليها أنفسهم"(13).

وقد اتخذت احتفالات الأندلسيين بهذه الأعياد صورا عدة، لخصها العزفي بحديثه عن: "موائد نصبوها لأبنائهم ونسائهم وصنعوها، وتخيروا فيها أصناف الفواكه وأنواع الطرف وجمعوها، وتهادوا فيها بالتحف التي انتخبوها، والمدائن التي صوروا فيها الصور واخترعوها، ونصب ذوو اليسار نصبات في الديار، كما نصب أهل الحوانيت فنضدوها، فقوم أباحوا أكلها لعيالهم وقوم منعوها، وجعلوها كالعروس لا تغلق دونها الأبواب، وفي منصتها رفعوها، وبعضهم أكل من أطرافها، ثم باعوها.

ولقد ذكر لنا غير واحد من المسافرين أن النصبة ببعض بلاد الأندلس -جبرها الله وأمنها- يبلغ ثمنها سبعين دينارا، أو يزيد على السبعين، لما فيها من قناطير السكر وأرباع الفانيد، وأنواع الفواكه، ومن غرائر التمر، وأعدال الزبيب والتين على اختلاف أنواعها وأصنافها وألوانها، وضروب ذوات القشور من الجوز واللوز والجلوز والقسطل والبلوط والصنبور إلى قصب السكر ورائع الأترج والنارنج والليم، وفي بعض البلاد طاجن من مالح الحيتان ينفقون فيه ثلاثين درهما، إلى نحوها، ولقد شاهدت في بعض الأعوام سد الحوانيت مِـمَّن لا يبيع ما يحتاجون إليه، كسوق القيسرية والعطارين وغيرها من الأسواق، وفي ذلك لضعفائهم من الدلالين وغيرهم من قطع المعايش وتعذر الأرزاق، ويطلقون الصبيان من المكاتب..."(14).

ويقول: وكان هذا في ينير، ثم صنعوا نحوا منه في العنصرة وفي الميلاد... إذ يلقون إليهم أَنَّهُ من عمل هذا العمل، لم يخل عامه من رغد العيش وسعة الرزق، وبلوغ الأمل، وربما جعلوا جمارة تحت أسرتهم تفاؤلا وإمارة، ليكونوا في عامهم ذلك أسمى من الجمارة"(15).

وذكر أبو القاسم خلف بن عبدالملك بن بشكوال الأنصاري القرطبي من جزء ألفه في هذه الظاهرة قائلا: "فإني رأيت الجمهور اللفيف، والعالم الكثيف من أهل عصرنا قد تواطؤا على إعظام شأن هذه البدع الثلاث: الميلاد، وينير، والمهرجان وهو العنصرة، تواطؤا فاحشا، والتزموا الاحتفال لها، والاستعداد لدخولها التزاما قبيحا، فهم يرتقبون مواقيتها ويفرحون بمجيئها.. واستسهلوا هذه البدع حين ألفوها وعظموها، وصارت عندهم كالسنة المتبعة، وسكت العلماء عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها، وتأنى السلطان في تغييرها..."(16)، وكان الناس في هذه الأعياد يتبادلون الهدايا، حتى إن الطلبة كانوا يهدون شيوخهم(17) كما كانوا يذبحون الذبائح(18)، وكان الناس يجتمعون ليلة قبل ينير، أو ليلة بعده مع أقاربهم وأصهارهم فيأكلون الإدام والفاكهة(19)، وكانوا كذلك يصنعون الصور في هذه الأعياد(20)، وكانت النساء في عيد العنصرة يرششن بيوتهن بالماء، ويلقين في ثيابهن ورق الأكرنب ويغتسلن"(21).

وَمِـمَّا يفهم من قول العزفي أن الطلبة كانوا يعطلون عن المدارس في تلك الأعياد، وقد ورد في اختصار القدح المعلى في الترجمة لأبي الحسن علي بن جابر الدباج الإشبيلي أن الطلبة كانوا يخرجون في هذه الأعياد في رحلات مع شيوخهم فيأكلون المجبنات، وهي حلوى أندلسية مشهورة، على عادة إشبيلية يوم خميس إبريل، وقد خرج الدباج مع طلبته برسم الفرجة، وأكل المجبنات يوم خميس إبريل، على عادة أهل إشبيلية(22).

وورد في اختصار القدح المعلى في الترجمة لأبي عمران موسى بن علي الطرياني (ت639هـ) وصف المدينة التي يصنعها الأندلسيون عادة في النيروز من العجين وبأصناف الألوان، وهي كما يقول مشهورة العمل في ذلك الموسم وفي وصفها يقول الطرياني: (23)

مدينة مسـورة تحار فيها السحرة

لم تبنها إلا يـد عذراء أو مخـدرة

بدت عروسا تجتلى من درمك مزعفرة

ومالها مفاتـح إلا البنان العشـرة

(الدرمك: ناعم الزعفران ودقائقه).

كما كان الأندلسيون يطبخون ليلة ينير ويوقدون النيران، وكأنها كانت ظاهرة عامة في الأندلس، ولذلك أورد صاحب الصلة عن شيوخ بني قاسم بن هلال: "أنهم كانوا لا توقد نار في بيوتهم ليلة ينير ولا يطبخ عندهم شيء" الصلة، 1/10 – 11.

ويصف ابن زرين التجيبي في كتابه فضالة الخوان (ص54) طعاما خاصا يعد في يوم النيروز يسميه "الثريد المثومة المصنوعة في يوم النيروز".

وبمناسبة هذه الأعياد كان علية الأندلسيين من الوزراء والأدباء وأولي الأمر يتبادلون الهدايا، وأوردت المصادر أن صاحب شرطة الأندلس أبا بكر بن القوطية كان ليلة المهرجان يهدي الورد ومطيبات الأزهار إلى الأدباء والوزراء، فمن ذلك أنه أهدى ثلاث وردات لأبي الوليد حبيب مؤلف كتاب البديع في وصف الربيع ومعها أبيات منها: (24)

بعثت بأغـرب الأشياء طرا وأعجبها لمـختبر ومخبر

بورد ناعم غض نـضــير يروقك ناسما طورا ومبصر

أتى في المهرجان فكان فوق الـ بكير غرابة وهو المؤخر.. إلخ

وفي يوم المهرجان كان الناس يلبسون البياض ويستمرون على ذلك إلى أول شهر تشرين الأول، وتذكر المصادر أن ذلك مما سنّه زرياب في المجتمع الأندلسي، فقد ورد في كتاب "نفح الطيب" في سياق ذكره لما أخذه الناس عن زرياب:

"ولبسه كل صنف من الثياب في زمانه الذي يليق به، فَإِنَّهُ رأى أن يكون ابتداء الناس للباس البياض وخلعهم للملون من يوم مهرجان أهل البلد المسمى عندهم بالعنصرة الكائن في ست بقين من شهر يونيو الشمسي من شهورهم الرومية، فيلبسونه إلى أول شهر أكتوبر الشمسي منها ثلاثة أشهر متوالية، ويلبسون بقية السنة الثياب الملونة".

وورد في كتاب "المعيار المعرب" للونشريسي إشارات كثيرة لما كان يفعله أهل الأندلس احتفالا بهذه الأعياد، فمن ذلك أن أهل البادية منهم كانوا يوم العنصرة ينشرون ثيابهم ويصمون الخيل قبل الصلاة(25).

وَمِـمَّا كان يفعله الأندلسيون في العنصرة "إجراء الخيل والمباراة "(26)، وكذلك "ما يفعله النساء من وشي بيوتهم يوم العنصرة.. وكذلك إخراج ثيابهن إلى الندى بالليل... وتركهن العمل في ذلك اليوم، وأن يجعل ورق الكرنب والخضرة (في ثيابهن) واغتسالهن بالماء ذلك اليوم"(27)، ومما فعلوه أيضا "بيع الملاعب المصنوعات في النيروز كالزيافات وشبهها"(28)، ومما كانوا يفعلونه كذلك أن يقوم أسطول المسلمين بألعاب في الماء احتفالا بيوم المهرجان.

3- أسباب احتفال المسلمين بأعياد المسيح:

يلاحظ من خلال الأخبار الوارة عن احتفالات المسلمين بأعياد المسيحيين في الأندلس أن هذه الظاهرة كانت سائدة هنالك في زمن متقدم، منذ أيام أمراء بني أمية في الأندلس في منتصف القرن الثاني الهجري، وأنها استمرت حتى آخر عصور الحكم الإسلامي للأندلس أيام بني الأحمر، وما من شك أن التمازج الذي حدث بين المسلمين والمسيحيين إبان الحكم الإسلامي للأندلس من خلال الحروب، وما نجم عنها من سبي متبادل واختلاط مباشر ومن خلال الجواري، ومن خلال التجارة المتبادلة في حالات السلم، ومن خلال التزاوج، قد أسهم ذلك كله في انتشار هذه الظاهرة. كما لاقت هذه الظاهرة استعدادا وقبولا كبيرين لدى الأندلسيين بسبب ميلهم الواضح إلى الترف واللهو وحب الاستمتاع في الحياة.

ولا شك أن كثرة تزاوج المسلمين من الإسبانيات وغيرهن من الرقيق الأبيض منذ أيام فتح الأندلس وكثرة اتخاذهم للجواري، قد جعل في كثير من بيوت الأندلس من يحتفل بالأعياد المسيحية ثم انتقلت هذه الظاهرة من الأمهات إلى أبنائهن من المولدين، حتى شاعت في أرض الأندلس كافة. وإذا ما وقفنا على مدى حرص الأندلسيين من مختلف طبقاتهم الاجتماعية على استرضاء نسائهم وجواريهم لأدركنا مدى سهولة تفشي هذه الظاهرة.

ومن أسباب ذلك أن المسلمين حكموا جزيرة واسعة كان أهلها جميعا يدنيون بالنصرانية، وأن منهم من أسلم، ومنهم من بقي على دين أجداده، وكان الفاتحون في بادئ الأمر قلة بالقياس إلى عدد السكان الأصليين، فلم يعمل المسلمون على حرمان هؤلاء السكان من ممارسة عباداتهم وطقوسهم وثقافاتهم، لأسباب شتى منها أن الدين الإسلامي لا يلزم أحدا ممن بقي على دينه على ترك عاداته وعباداته، ومنها أن الحكام الجدد للأندلس حرصوا على تأليف قلوب أهل البلاد المفتوحة سواء من أسلم منهم أو من بقي على دينه، وحرصوا على أن لا يبدو الحكم الإسلامي الجديد ثقيل الوطأة على حياتهم ومسالكهم وضمائرهم، حتى يشعروا بالأمن والطمأنينة والمساواة والعدل.

ولا ننسى أن الأندلس كانت أقرب بلاد المسلمين إلى بلاد النصارى جوارا، وأكثرها تداخلا وتعاملا في حالتي الحرب والسلم.

ولا ننسى الطبيعة المتسامحة لأهل الأندلس التي سمحت بتفشي هذه الظاهرة حتى غدت هذه الأعياد أعياداً أندلسية تضاف إلى أعياد المسلمين كالفطر والأضحى وعاشوراء وعيد المولد النبوي وغيرها. وكانت مشاركة الحكام والسلاطين والأمراء والقادة والشعراء والأدباء والوزراء في هذه الأعياد، بالإضافة إلى تعطيل المدارس والأعمال في هذه الأعياد دليلا على اتخاذها طابعا رسميا وشعبيا وترسيخا لها في المجتمع الأندلسي، كما أن تغاضي القضاة والفقهاء عنها -إلا ما ندر أو إذا سئلوا عن حكمها الشرعي- دليل آخر على التسليم بها.

ويدل على موقف السلاطين وموقف الفقهاء منها قول العزفي " وسكت العلماء -رضي الله عنهم- عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها، وتأنى السلطان في تغييرها"(29). ولقد اختار المنصور محمد بن أبي عامر ليلة نيروز العام 367 هـ للدخول بأسماء بنت غالب مولى الناصر، وكان كما يقول صاحب الذخيرة "أعظم ليلة عرس بالأندلس"(30).

ولم تخل ظاهرة الاحتفال بالأعياد المسيحية من أبعاد سياسية منها الحرص على ولاء نصارى الأندلس للحكم الإسلامي القائم في الأندلس آنذاك من خلال مشاركتهم في أعيادهم، والسماح لهم بممارسة عاداتهم والاحتفال بأعيادهم، وبخاصة أن المولدين قد قاموا بعدة ثورات ضد الحكم الأموي في الأندلس. ومنها أيضا التقرب من الدول المسيحية المجاورة التي كانت على حرب دائمة مع الأندلسيين.

ولعل من أسباب احتفاء الأندلسيين بأعياد المسيحيين في الأندلس أن ذلك يحقق لهم بعض ما كانوا يتطلعون إليه من تمييز للشخصية الأندلسية عن الشخصية المشرقية، وبخاصة أيام حكم بني أمية في الأندلس الذين كانوا على خلاف مع بني العباس في المشرق.

وبعد...

فإن الصورة التي ترسمها احتفالات الأندلسيين بأعياد الميلاد والعنصرة (المهرجان) وخميس أبريل وليلة العجوز وسواها من أعياد المسيحيين، تجعل المجتمع الأندلسي مجتمعا حرا منفتحا يحترم الثقافات الفرعية في داخله، ويجعل منها عنصرا مهما من عناصر نسيجه الثقافي، ويؤكد على انحيازه إلى الأندلسيين مهما كانت جذورهم ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم، كما أن هذه الاحتفالات تصور المجتمع الأندلسي مجتمعا متماسكا متسامحا يعشق الحياة والمتعة والترف.

وتكشف هذه الاحتفالات عن انخراط المجتمع الأندلسي على اختلاف شرائحه وطبقاته في مشاركة المسيحيين بهذه الأعياد، حتى غدت هذه الأعياد في الأندلس ليست أعيادا مسيحية بل أعيادا أندلسية، فالنساء يقمن بإعداد الحلوى والأطعمة ويعطلن أعمالهن، والتجار يقومون بصناعة مدن من عجين الحلوى مزينة بالتماثيل والألوان، والباعة يقومون بعرض الحلوى على أنواعها، والأغنياء يعدون نصبات من الفواكه والحلوى والمكسرات، وطلبة المدارس والكتاتيب يتحررون من الذهاب إلى كتاتيبهم، وشيوخ العلم يخرجون مع طلبتهم في رحلات ويتناولون المجبنات، والولاة ينظمون سباقات للخيول، وقادة الأسطول يقيمون عروضا للسفن، والسلاطين يفتحون أبوابهم لتلقي التهاني، والشعراء ينشدون قصائد التهنئة بين يدي السلاطين والأمراء، والناس يتبادلون التحف والهدايا والتهنئات.. إلى آخر ذلك من صور الاحتفال بهذه الأعياد. أما الفقهاء فيغضون الطرف مالم يتوجه إليهم أحد بالسؤال عن حكم ذلك في الشرع.

إنه إجماع بين الأندلسيين كافة على أن تكون لهم أعياد أو مناسبات مشتركة، يجتمعون حولها ويعبرون فيها عن تآلفهم وتماسكهم، ويقدمون من خلالها صورة مضيئة للشخصية الأندلسية، وأنموذجا فريدا للمجتمعات ذات التنوع الثقافي والعرقي.

**********************

الهوامش

*) الكاتب أستاذ بقسم اللغة العربية فِي الجامعة الأردنية.

(1) المغرب، 1/294.

(2) الدر المنظم، 19.

(3) المعيار المعرب للونشريسي، 11/150.

(4) الدر المنظم، ص19، 21، وانظر تقويم قرطبة 65، والبيان المغرب 3/84.

(5) نفسه، ص23.

(6) نفسه، ص29.

(7) نفح الطيب، 3/128.

(8) أمثال العوام للزجالي، ص85.

(9) اختصار القدح المعلى، ص156، الحوادث والبدع للطرطوشي، ص141.

(10) خطط المقريزي، 1/256، (ط، دار صادر بالأوفست).

(11) الدر المنظم، 25، 29، المعيار المعرب، 11/293.

(12) الدر المنظم، ص19- 20.

(13) نفسه، ص28.

(14) الدر المنظم، 20 - 21.

(15) نفسه، 21.

(16) نفسه، 23.

(17) نفسه، 24 – 25 – 26.

(18) نفسه، 27.

(19) نفسه، 27 – 28.

(20) نفسه، 29.

(21) نفسه، 30.

(22) اختصار القدح المعلى، 156.

(23) نفسه، 202، المغرب 1/294 (مع بعض اختلاف)، نفح الطيب 4/63، 131 (مع بعض اختلاف).

(24) البديع، 128، شعر أبي بكر بن القوطية من أعيان المائة الخامسة الهجرية، صنعة هدى شوكة بهنام، مجلة المورد، المجلد الرابع عشر، العدد الأول، ص100.

(*) الإسفنج: عجين من السميد يقلى بالزيت (فضالة الخوان، ص80 – 82).

(25) المعيار المعرب، 11/92.

(26) نفسه، 11/151.

(27) نفسه، 11/151.

(28) نفسه، 6/70، فتاوى ابن رشد 2/940 " وسئل -رضي الله عنه- هل يحل عمل شيء من هذه الملاعب التي تصنع في النيروز من الزرافات والكمادين وما يشبهها؟".

(29) الدر المنظم، 23.

(30) الذخيرة، 7/65.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=8

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك