الخطاب الفقهي المعاصر حول الحدود.. ومتغيراته

معتز الخطيب

 

تحتل عقوبات الحدود، المقدرة شرعًا، مكانًا بارزًا في فقهنا الجنائي، بل إنها ربما اختُزل فيها مفهوم "تطبيق الشريعة"، سواء لدى المناصرين أم الخصوم، وربما اعتُبرت أبرز مزايا هذا الفقه الإسلامي، حتى إن البعض قد تحدث عن أن تطبيق الحدود "من أكبر أسباب زيادة الخيرات والبركات"، وأحال كل شرور الأمة إلى عدم تطبيق تلك الحدود، فأصبح المجتمع الإسلامي -لديه- "أشبه بمجتمع الحيوانات"، وحكم عليه بأنه "مجتمع جاهلي" [1]. وفي ظل القوانين الوضعية -بحسب كاتب آخر- "تكثر الحوادث والجرائم بشكل مذهل"، وتفقد المجتمعات "الاستقرار والثبات"[2].

 

حين نرصد تصورات الإسلاميين للحدود الشرعية وأهمية تطبيقها بدل القوانين الوضعية المطبقة، نجد أن الوعي ومنطق الخطاب مر بتعرجات مختلفة ينبغي التعمق في تحليلها في سياق الموقف الحضاري من الغرب، والعلاقة مع الأنظمة القائمة، وكذلك في إطار توجهات ذلك الخطاب ومرجعياته. ونحن سنحاول الإشارة إلى طرف من ذلك بحسب المقام.

ويمكن تناول الموضوع من خلال المحاور التالية:

- معالجات الإسلاميين لمسألة الحدود

- كيف نقرأ تلك المعالجات؟

- دعوة تعليق الحدود.. وما يقاربها

- أسئلة مشروعة.. ومداخل متعددة

 

معالجات الإسلاميين لمسألة الحدود :

اهتم الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- ببيان مزايا وسَبْق قانون العقوبات الإسلامي للقوانين الوضعية، و"تخلُّف" تلك القوانين عن رِفعة الشريعة ومقاصدها، مقرِّرًا أن "الإجرام يسير مع الحضارة سيرًا مطردًا.. بخلاف الجماعات التي تطبق قانون السماء"، مؤمِّلاً من الطلاب دراسة فقه الجنايات الإسلامي، "فإن لم يؤخذ كله، فليؤخذ بعضه"؛ فإنه "لا يصح أن نستصغر ما عندنا ونُعجب بما عند غيرنا" [3].

وإذا كان أبو زهرة وغيره بينوا أن السَّجن لا يفي بالغرض من العقوبات، ولا يشفي صدر المجني عليه، فإن عبد الرحمن عبد الخالق انشغل ببيان تناقض مبدأ السجن مع أحكام الشريعة، وأنه حتى لو ورد في تصرفات بعض الصحابة "فهذا اجتهاد لسنا ملزمين بالأخذ به!". كل ذلك لأنه رأى أن جوهر العقوبات الوضعية يقوم على السجن، وهي رجس ومن "شرائع الشيطان".

وكان الفقيه عبد القادر عودة رحمه الله في كتابه "التشريع الجنائي" (بدأ يُعِد له 1947م)، وكذلك السيد إسماعيل الصدر الفقيه الشيعي الذي علق عليه، ومن ساروا على نهجهما كانوا يمثلون جيلا من المتخصصين في الفقه والقانون، وكان لهم هدف مشترك هو التقريب بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، وذلك لإقناع المسئولين والجماهير بأن الالتزام بالفقه لا يعني الاستغناء عن القوانين الوضعية السائدة والمطبقة، وإنما يكفي تعديلها لكي تتوافق مع الأحكام الشرعية. بل إن "عودة" حاول إقناع القضاة ورجال القانون العصري بأنهم يستطيعون أن يجمعوا بين تطبيق عقوبات الحدود مع تطبيق الأحكام الجنائية الوضعية الحالية؛ بوصفها تدخل ضمن التعازير، ووصل بذلك إلى الدعوة للتكامل بين هذين النوعين من الأحكام الفرعية، وعند دراسته لأحكام الجريمة والعقاب سعى لبيان سبق الشريعة للقوانين الوضعية إلى تقرير المبادئ التي يظن الكثيرون أن التشريعات العصرية استحدثتها.

لكن توفيق الشاوي حين جاء وعلق على كتاب "عودة" رأى أننا تجاوزنا هذه المرحلة؛ لأن الصحوة الإسلامية قد أقنعت كثيرين بأن الالتزام بالطابع الديني لشريعتنا أصبح ضروريًّا للمساهمة في تقدم الفكر القانوني العالمي وإثرائه؛ لأنه أصبح قاصرًا عن تزويد المجتمعات الإنسانية بما تحتاج إليه لإصلاح نظمها. ودعا إلى التنظير الفقهي (وضع الأسس الشرعية لنظريات عامة) لتجديد الفقه وإثراء أحكامه رغم ما يطرأ من تطورات، حتى "تستغني شعوبنا عن التسول على موائد الأجانب" ولا تحتاج إلى "استيراد أحكام من الخارج"[4].

وصولا إلى طارق رمضان الذي سعى (2005م) "لإطلاق دعوة عالمية من أجل تعليق فوري لمسألة العقوبات الجسدية وعقوبة الرجم والحكم بالإعدام في الدول ذات الأغلبية المسلمة"؛ لأن "النظم السياسية والحال التي أضحت عليها المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة لا توفر ضمانات لمعاملة تتصف بالعدالة والمساواة أمام القضاء".

 

كيف نقرأ تلك المعالجات؟

السؤال المثير للتأمل بعد هذا العرض هو: كيف نقرأ تلك التوجهات؟

في حالة عبد الرحمن عبد الخالق نجد الاعتبارات الأيديولوجية السلفية طاغية، خاصة أنه كتب كتابه ردًّا على د. سعاد جلال حين رأى أنه اتبع مذهب الخوارج في إنكار الرجم "الفريضة الجليلة" بحسب تعبيره، وهو ما اعتبره مدخلا لإقصاء الشريعة. ومن هنا اضطر -وهو السلفي - إلى رد الاعتبار بتصرفات الصحابة، لأنها وافقت "شرائع الشيطان" في مسألة "السجن".

أما أبو زهرة فصحيح أن ذكرى القوانين الوضعية كانت ماثلة أمام عينيه، إلا أنه -كفقيه- كان مهتمًّا ببيان (الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي) الذي بدا حريصًا على تطبيقه ودراسته أو حتى تطبيق بعضه. في حين أن محاولة عبد القادر عودة، كانت مختلفة عن ذلك كله، فقد كان حريصًا على فكرة الإسلام الشامل.

لقد تعرج الخطاب حول الحدود من الإطار الأيديولوجي الضيق والمقفل مع عبد الخالق الذي يرفض جملة وتفصيلا أي خلاف فيها أو أي حسنة للقوانين الوضعية، إلى الخطاب الفقهي الكلاسيكي مع أبو زهرة الذي اعترف بأنه "لا يمكن أن تكون شريعة من الشرائع الوضعية لا تعمل على حماية هذه المصالح (الخمسة) في عمومها وفي خصوصها، فهي تتلاقى مع الشريعة الإسلامية في المقصد، وإن تخلفت عنها في العلاج" [5]، وباح في "ندوة التشريع الإسلامي" عام 1972 بقناعته بأن الرجم ليس إسلاميًّا فهاج عليه أعضاء المؤتمر وثار عليه أغلب الحضور، وقام من قام منهم [6]. مرورًا للقول بإمكان الجمع بين التشريعين: الإسلامي والوضعي، مع "عودة"، إلى الاستغناء بالفقه الجنائي الإسلامي مع "الشاوي"، إلى تعليق الحدود مع "رمضان".

الإطار العام الذي يجمع كل المحاولات هو الإيمان بالذات وإمكانات الفقه الإسلامي وأسبقية تشريعاته، لكن هذا إن دفع السلفي إلى اعتبار الآخر رجسًا، فإنه – مع فكرة النظام الشامل لدى عودة- تفاعل وتأثر بالآخر، مع القول بتعديل ما لا يتوافق مع شريعتنا، ومع توفيق الشاوي ظهرت نبرة استعلاء في أن البشرية بحاجة إلى ما لدينا لتصلح أحوالها، لكن مع طارق رمضان، -وكما اتهمه طارق البشري- تحول الإدراك إلى إحساس بالصغار في الغرب، ومن هنا حصر دعوة تعليق الحدود بأنها نابعة من هذا الإحساس الدوني. وإذا ما وقفنا عند الموقف الأخير، فلنستحضر أن علي عزت بيجوفيتش كان متحفظًا على قانون العقوبات الجسدية لكنه عاد فوجده الأصلح في كتابه "هروبي إلى الحرية"، وكان مراد هوفمان أبدى تفهمًا جيدًا لقانون العقوبات الإسلامي في كتابه "الإسلام كبديل".

 

دعوة تعليق الحدود.. وما يقاربها

دعوة رمضان لتعطيل الحدود، وإن كانت في جوهرها تستند إلى فكرة يمكن مناقشتها وفق علمي الفقه وأصوله من خلال بحث شروط تطبيق الحدود، وعلاقة النص بإطار تطبيقه ومحله، إلا أنها جاءت ملفوفة بضبابية ذات نفس استشراقي من خلال الشرح المستفيض لواقع تطبيق الحدود وسكوت العلماء عن "خيانة ترتكب بحق التعاليم الإسلامية"، وأن الحدود "يقتصر تطبيقها على النساء دون الرجال، والفقراء دون الأغنياء، والضحايا دون الحكام القاهرين"، وفي الحقيقة هذا ما أساء إلى جوهر الفكرة التي طرحها، فانصرفت معظم الردود عليه لتبين ما هو واضح ومعلوم لكل مسلم يعيش في العالم الإسلامي، وهو أن تلك الحدود التي يتكلم عنها طارق رمضان بهذا الخطاب الحماسي المنفعل غير موجودة، وهي معطلة باستثناء أماكن محدودة جدًّا وفي حالات محدودة أيضًا. دون الدخول في مناقشة الخطاب الغريب الذي يدعي أنها لا تطبق إلا على النساء والفقراء!!.

وإن كان رمضان أكد على أنه لا يناقش في نصوص قطعية، فإن تساؤله الأول الذي يلح عليه هو (ما هي النصوص التي تشير إلى العقوبة البدنية والرجم وعقوبة الإعدام في المصادر التشريعية الأساسية للإسلام والتي يطلق عليها المتخصصون الحدود؟)، في حين أنه يقول إن دعوته تتعلق فقط بإطار التطبيق وشروطه، وإذا كان كذلك فإن تساؤله هذا في غير محله! وكان عليه أن يفرق بين الرجم وباقي الحدود المقررة في القرآن.

وإذا كان رمضان حَرَص على نفي كون مناقشته تدور حول العلاقة مع النصوص ذاتها، فإنه كان يغنيه -أمام معارضيه على الأقل- أن ينشغل بالاهتمام بشروط التطبيق وكيفية تحقيقها بالتساوي مع دعوة التعليق حتى لا يساء فهمه.

وإذا تجاوزنا المنطق الدعوي الذي طرحه عدد ممن ردوا على طارق رمضان، بأن هذا ليس من الأولويات أو ليس قضية ملحة، وإن كان يتناسب مع شكل أطروحة طارق وصياغتها الغريبة عن واقع المسلمين، لو تجاوزنا ذلك إلى المنطق العلمي لمناقشة فكرة تطبيق الحدود الآن، فسنجد رؤى مختلفة أيضًا، بعضها يقترب من دعوة طارق رمضان وإن اختلف معه في التوجه، فعبد الرحمن عبد الخالق يرى أن الإسلام كل متكامل، ولا يجوز ترقيعه بالقوانين الوضعية، ومن هنا شنّع على من أفتى بـ (إباحة الشرع للسجين أن يعاشر زوجته أثناء فترة سجنه). والسَّير بهذا المنطق إلى آخره يقضي بألا يجوز تطبيق الحدود في ظل وجود أنظمة غير شرعية، من سياسة واقتصاد وغيره؛ ما يعني تعليق الحدود إلى حين إقامة الإسلام أو المجتمع الإسلامي، وهذا المنطق هو منطق سيد قطب رحمه الله الذي منع الاجتهاد الفقهي حتى لا يتم ترقيع المجتمع الجاهلي باجتهادات إسلامية، ولا أعلم أن سيدًا تعرض لموضوع الحدود هذا، لكن منطق تفكيره في قضية الاجتهاد الفقهي هو ذاته ينطبق على مسألة الحدود. وفي هذا السياق يمكن تأمل منطق الفقهاء القدامى في عدم إقامة الحدود فيما أسموه "دار الكفر".

هذا المنطق في التفكير سرى أيضًا إلى عبد الكريم الحمداوي (المرشد العام للشبيبة الإسلامية المغربية) الذي قال: "المجتمعات الإسلامية التي اختلت فيها الأوضاع الإيمانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولم يطبق فيها حكم الإسلام، فهي أيضا غير صالحة لإقامة حد السرقة ما لم تستقم فيها هذه الأوضاع على نهج الإسلام وشريعته" [7]. وما ينطبق على حد السرقة ينطبق على باقي الحدود.

المفارقة حقًّا أن منطق "المجتمع الجاهلي" الذي دفع إلى تعليق الحدود إلى حين أسلمة المجتمع وأنظمته التقى مع منطق طارق رمضان الذي يريد أن يقول: إن "الظروف الاجتماعية والسياسية والقضائية والاقتصادية ليست متوفرة في أي مجتمع ذي أغلبية مسلمة ليصح فيه تطبيق هذه العقوبات".

كان توفيق الشاوي كتب ضمن تعليقه على "عودة" ما نصه: "بعض الإسلاميين يتصور أن تطبيق الشريعة هو تنفيذ الحدود الجنائية ويبدؤون بذلك، ويؤدي هذا إلى أن يعطوا السلطات السياسية والدول سلاحًا تُذل به أفراد شعوبها وتزيدهم بؤسًا، وتقف بعض النظم عند ذلك، دون أن تقوم بواجباتها في الالتزام بمبادئ الإسلام في احترام حقوق الإنسان وتطبيق حرية الشورى وتقييد سلطة الحكام ومساءلتهم وعزلهم عند الاقتضاء، ودون أن توفر في المجتمع قواعد الإصلاح الاقتصادي والتكافل والعدل الاجتماعي" [8].

ثم لنتأمل تلك الرؤية التي بدأنا بها هذا المقال والتي تعزو شرور المجتمع إلى غياب الحدود وبركاتها، في مقابل إلحاح عدد من الفقهاء على "درء الحدود بالشبهات"، بل إن سليم العوا رأى أن التعزيرات أيضًا تدرأ بالشبهات[9]، وألح الشاوي على اعتبار الفقه الجنائي "فقهًا استثنائيًّا" وليس عامًّا، وقال: "إن كثيرين لا يفهمون توسع الفقه في ذكر الشبهات التي تُسقط الحد أو القصاص حتى أصبح وجود هذه العقوبات رمزيًّا فقط في نظر البعض" (أ/176)، وإن "الشريعة توجب على الفقيه القاضي والمجتمع أن يعمل على تضييق نطاق تطبيق هذا العقاب القضائي الاستثنائي" (أ/178)، وكذلك إلحاح البعض –كالشاوي والحمداوي- على إسقاط الحد بالتوبة قبل رفعه إلى القضاء، حتى إن الشاوي قال: "إن الجزاء الأصلي على الجرائم والمعاصي هو الجزاء الأخروي، والجزاءات الدنيوية مكملة له فقط، وضرورات إصلاح الفرد وحماية المجتمع هي التي تبرر فرض هذه الجزاءات الجنائية الدنيوية، ولذلك يجب استبعادها كلما وجدت شبهة أو توبة، ولما كانت الضرورة تقدر بقدرها فإنه كلما وجدت وسيلة أخرى للإصلاح ليس فيها معنى العقوبة فإنها أولى من العقوبة الجنائية" (أ/172) واعتبر هذا من النظريات المميزة لشريعتنا والتي يجب بحثها.

لنتأملْ هذا كله، لندركَ الفارق الشاسع بين الرؤيتين: رؤية طهورية ترى كل البركات في تطبيق الحدود ورؤية تضيّق مساحة الحدود وأهميتها إلى حدود التطبيق "الرمزي" و"الاستثنائي" ودفعها بكل شبهة.

هذا وقد دار جدل حول درء الحدود بالشبهات، حتى إن بعضهم اعتبر هذه القاعدة السبب وراء "تمييع النصوص الإسلامية"[10]، وهو أشبه بما قيل لرمضان من تعطيل النصوص القطعية لكونه لا يرى توفر شروط تطبيق الحدود.

وكذلك لنتأمل تعليق الحدود الذي وصل إليه منطقان مختلفان في التفكير والتوجه بل والدوافع، لكنهما وصلا لمؤدى واحد!.

ما أود قوله هو أن ثمة اجتهادات متعددة في نطاق تطبيق الحدود، ومنها الأقوال التي ذكرناها والتي تلتقي في الغالب على مؤدى واحد، لكن طريقة معالجة الفكرة أو المدخل الذي تتم به هو الذي يعكر عليها فيثير توجسًا منها ومما وراءها، خاصة حينما لا تلوح نية معرفية –إن جاز التعبير- من وراءها.

 

أسئلة مشروعة.. ومداخل متعددة :

كما أن هنالك أسئلة مشروعة ومفتوحة في إطار فهم وتطبيق تلك الحدود، من قبيل السؤال عن مدى صحة اعتبار الرجم والردة من الحدود كما هو مدون فقهيًّا وقد رأى عدد من المعاصرين أنهما ليسا من الحدود، بل إن حدًّا كحد السرقة مثلا فيه اختلاف فقهي كبير يبدأ من تطبيقات الصحابة وينتهي باجتهادات بعض المعاصرين، ويبدأ من مفهوم القطع الذي رأى بعض المعاصرين أنه من باب قوله تعالى: (وقطّعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرًا)، وهي أيضًا مختلف في تفسيرها، هل هو القطع مع البتر، أو هو الخدش فقط؟ وثمة خلاف فقهي قديم وكبير حول حدود المقطوع وهل هو بعض اليد، أم اليد؟ وما حدود مفهوم اليد؟ إلى الرسغ أم إلى الإبط؟ وهل هي اليد في قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه)؟ وكذلك الخلاف والاضطراب حول نصاب المسروق الذي يُقطع فيه، والخلاف في عقوبة تكرار السرقة وكيف تكون إن بلغت ثلاث أو أربع مرات؟ كما أن هنالك إشكالا عقليًّا ورد قديمًا في كتب الفقه وإجابته موضع نظر، وهو المقارنة بين مقدار دية اليد، وقطع اليد حدًّا في سرقة ثلاثة دراهم. هذا بالإضافة إلى أن بعض الحدود مما يستحيل إثباته بالشروط المقررة فقهًا كحد الزنا والذي رأى البعض أن الحد إنما هو على المجاهرة بالزنا التي تقتضي توفر تلك الشروط، وليس على الزنا نفسه، وكذلك القذف.

كما أن ثمة مداخل متعددة للاجتهاد في الحدود، منها:

* درء الحدود بالشبهات، والخلاف حول ما يعد شبهة وما لا يُعد.

* إسقاط الحدود بالتوبة، والخلاف فيها أيضًا. وبعض المعاصرين عمم ذلك للحدود كلها، وآخر جعلها الأصل واستثنى بعضها بحسب القرآن، وهناك من الفقهاء القدامى من أثبت ما استثناه القرآن فقط، ونفاها عن الباقي.

* ومكانة الحدود من نظام الشريعة الكلي، وشروط التطبيق المعروفة فقهًا، وكذلك الواقعة حالاً في ظل الأنظمة السياسية والقضائية الحالية، وما يتفرع عنهما.

* وكذلك ما يمكن أن يتم بحثه مما أشار إليه إشارة خجولة عبد القادر عودة وتوفيق الشاوي من إمكان القول بحد أقصى وحد أدنى في العقوبات، وأن الحدود المنصوصة هذه هي حدود قصوى، وأن الحد الأدنى متروك للاجتهاد، ويبقى البحث في شروط تطبيق الحد الأقصى هذا.

* ومن المهم هنا الإشارة إلى مدخل مهم، وهو مدخل عدم تطبيق الحدود في دار الكفر ودار الحرب بحسب تقسيم الفقهاء، وتأمل منطق تفكيرهم في هذا، وهل له علاقة بإطار تطبيق الحدود وشروطها والنظام القائم فيها وأهداف إقامة الحدود ومدى إمكان تحقيقها؟.

إذن، مداخل الاجتهاد والاختلاف في هذا تعود إلى فهم النص، وإطار تنزيله على الواقع المتغير، دون اعتبار لصورتنا أمام الغرب، أو لموقف متصاغر أمام القانون الجنائي الوضعي. وإن كان الآن لا يمكن تجاهل الموقف العالمي في ظل النظام الدولي القائم وإكراهاته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] عبد الرحمن عبد الخالق، وجوب تطبيق الحدود الشرعية، 1983م

[2] علي بن دخيل آل عودة، حد الحرابة في الفقه الإسلامي وأثره في حفظ الأمن، رسالة ماجستير، 2001م.

[3] محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ص14، 21

[4] توفيق الشاوي، الموسوعة العصرية في الفقه الجنائي الإسلامي، القاهرة، الشروق ط1، 2001م أ/160،171

[5] أبو زهرة، الجريمة، ص21

[6] بحسب حكاية الشيخ القرضاوي وهو من شهود الواقعة.

[7] الحمداوي، حد السرقة بين الفهم والتطبيق، بحث منشور على الإنترنت.

[8] توفيق الشاوي، الموسوعة العصرية، أ/177.

[9] العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي، القاهرة، المعارف، 1979م، ص96

 

[10] أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح، النظام العقابي الإسلامي، القاهرة 1976، ص251

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=374&idC=2&idSC=6

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك