المشهد الإسلامي على الإنترنت

معتز الخطيب

 

ينظر إلى الإنترنت على أنها قلبت القواعد الأساسية التي تحكم عالم السياسة والمال والإعلام، ومع تحولها إلى "ظاهرة عالمية" فرضت عددًا من التحديات على بلاد المنشأ نفسها، وأحدثت الكثير من التغيرات على مستويات مختلفة.

وفي هذا "العالم" اختلفت الموازين المألوفة في نظيره الواقعي الذي كان يتسم بالتجانس. فالعالم الموازي/ الافتراضي يضع كل فرد أمام العالم بأسره متيحاً له كل الأفكار والمذاهب والنِّحَل, وهذا ما زاد من انفراط الدور الاجتماعي والتربوي، وقلَّص من ممارسات الوصاية، وخلخل فكرة الرأي الواحد.

إن ثمة سمة أساسية يمكن نسبتها إلى الإنترنت، وهي "الكشف والانكشاف"؛ فقد أدت إلى انكشاف ملامح وعي كل الفئات وتمثلاتها وتلويناتها. وفي الوقت الذي وفرت فيه فرصة تاريخية لنشر الخطاب الإسلامي للعالم، أظهرت تلويناتِه وخارطةَ وعيه التي يتحرك فيها من خلال تشكيلاته الخطابية وتوزعاته عبر مواقعها، وبهذا يمكن أن نفهم الإنترنت على أنها شكل من أشكال الحقيقة؛ لأنها تبرزها وتجليها على مستوى النظر الكلي لهذا العالم الموازي، وهنا ندرك بعمق معنى "العالم الافتراضي" بعد أن كان الوعي منقسماً إلى واقع وخيال.

ونتيجة لهذا تبرز مجموعة من الأسئلة التي ننشغل بالإجابة عنها؛ كيف واجه الإسلاميون أسئلة الإنترنت وتحدياتها؟ وكيف فهموها؟ وكيف تعاملوا معها؟ وما ملامح المشهد الإسلامي على الإنترنت؟ ولماذا اقتحموها؟

كيف تم النظر إليها؟

بدأ الاشتباك مع الإنترنت مطلع التسعينيات عن طريق جمعيات الطلبة المسلمين في أميركا بغرض الاطلاع على "الشبهات" والرد عليها، ومع ازدياد المواقع وتنوعها توفرت فرصة لتأمل علاقة الإسلاميين مع الإنترنت، كما أن تنوع المواقع في الاهتمامات والأدوار والخطاب عكس اختلاف مستويات الوعي بهذه التقنية الجديدة وتحديد الأولويات بناء عليه. فضلاً عن أن هذا الاشتباك يمثل نموذجاً فريدًا يمكن من زاويته مقاربة تعامل الإسلاميين مع العصر.

تنويعات الخطاب الإسلامي غير المتجانسة تتجلى في كيفية التعاطي مع العصر، وجدل الدنيا والآخرة في موازناته، ففي حين تعتبر "الإنترنت" نتاج الحداثة، في سياق الفكر الغربي، نجد أن شريحة من الخطاب الإسلامي (والسلفي خاصة) تبقى تقايس الحاضر بمنظور "الاقتراب" من الآخرة على حساب الدنيا، لتغدو الإنترنت هنا "من علامات الساعة" حيث "تقارب الأسواق" و"تقارب الزمن" و"فشو التجارة" و"شيوع الزنا" و"ظهور الربا" و"كثرة الكذب". فإذا كان تحول العالم إلى "قرية كونية صغيرة" اعتُبر في الفكر المعاصر من إنجازات العولمة فإن هذا التحول نفسه "دليل واضح على أننا في آخر الزمان، وعلى أن أشراط الساعة الصغرى قد تحققت فعلاً ولم يبق منها إلا القليل". (محمد المنجد).

غير أن جدل (دنيا-آخرة) في التعامل مع منجزات العصر، يأخذ شكلاً مغايرًا لدى آخرين ليغدو صراع (مؤمن-كافر)؛ فالإنترنت – على هذا - "وُضعت لمسخ الهوية الإسلامية والحمد لله رب العالمين استطاع كثير من طلبة العلم أن يعيد هذا السلاح إلى نحور أعداء الله" (أ.د. صالح السدلان). في حين يتم الحديث في الفكر المعاصر عن الإمكانيات الهائلة لتواصلية الإنترنت، وتلاشي المكان.

في مقابل هذه الرؤى المغرقة في "الصراعية" وهاجس السلبية، نجد رؤية تدرك أبعاد العالم الموازي وتقول: "ننظر إلى الإنترنت كمجال وقناة وفرصة, ومن منطلقاتنا تكريس علاقة الإنترنت بعالم الواقع، والتعامل بحذر مع الهويات الإنترنتية الموهومة، وبيان حلال الإنترنت وحرامه، وأثر الوعي على الصورة، وتحجيم الآلة على العقل..." (إسلام أونلاين.نت).

لكن الجدير بالملاحظة أن هذه الرؤى - على اختلافها- تتفق على ضرورة "الإنترنت الإسلامي"، بل تجعل منه "فريضة دينية دعوية، وضرورة يحتمها الواقع" (د.القرضاوي)، ومن ثم يجوز الإنفاق عليه من مصرف "في سبيل الله" (الشيخ فيصل مولوي)، وهو من باب "الجهاد بالمال" (د. صالح السدلان)، و"إذا كنا عاجزين عن غزو الكفار بالسلاح فلا أقل من أن نغزوهم بهذا الدين عبر استعمال مثل هذه الشبكة" (محمد المنجد).

وهذا يعني أن الإسلاميين تجاوزوا السؤال المألوف (هل يجوز)، غير أن هذا التجاوز لا يبدو نتيجة وعي كافٍ بالعصر، بقدر ما يتموضع في رؤية "دعوية" تقليدية هي ضرورة "الرد على الأباطيل والشبهات".

هذا المعنى وإن ألح عليه كثيرون - وهو يفسر إلى حد كبير كيفية التعامل، ويحدد أولويات الخطاب- فإن مفهوم "الأباطيل" الواجب الرد عليها سيختلف حسب مرجعية كل فئة، ففي حين يكاد يقتصر - عند بعض الفئات- على أباطيل الفرق والأديان، يشمل - لدى آخرين - الخلافات المذهبية التي توجب إنشاء مواقع دعوية لتنشر "علماً سلفياً" (محمد المنجد).

كيف تم التعامل معها؟

إن ممارسات الإسلاميين داخل الإنترنت ارتهنت لتصوراتهم عنها، و"ردُّ الشبهات" وإن شكل المدخل الرئيسي إليها، غير أن الدخول إليها دفع إلى ممارسات وخيارات أخرى، تارة باعتبارها وسيلة لدعوة المسلمين أنفسهم، وأخرى بوصفها أداة للنشر، وثالثة بكونها سبيلاً للانفلات من القيود السياسية بما توفره من الحرية التي عانى الإسلاميون من غيابها كثيراً، ورابعة باعتبارها وسيلة إعلامية إعلانية.

لكن النظر إلى الإنترنت باعتبارها "شبكة معلومات" سيطر على ممارسات الإسلاميين كثيراً حتى عرّف بعضهم "الموقع الإسلامي" بأنه "مكتبة كبيرة وغنية بالمعلومات عن الإسلام"، في حين اشتملت توصيات وزارة الأوقاف السعودية لمؤتمر وزراء الأوقاف (الرباط 2001) على "إنشاء قاعدة معلومات إسلامية مشتركة لمختلف الدول الإسلامية". وهذا الإلحاح على الجانب "المعلوماتي" يفسر غلبة المواقع الإسلامية التي تقدم "الكتب الإسلامية" التراثية والمعاصرة.

في المقابل حرصت كل جهة أو مؤسسة أو جماعة، أو شخصية على أن تنشئ موقعاً لها؛ مما يعكس إيمانًا بضرورة "الحضور" إما رغبة في "العالمية"، أو استجابة لإكراهات هذا العالم المبهر، وهنا لا بد من أن نسجل ملحوظة وهي أن الكثير من المواقع - أو أغلبها - فردي.

الإلحاح على دخول الإنترنت، جعل كثيراً من المواقع يتعامل معها بخفة، ويلقي نفسه في غمارها دون وعي بأبعادها أو معرفة بإمكاناتها، لذا لم يكن غريباً - مثلاً - غياب الخاصية التفاعلية - أهم خصائص الإنترنت - بين المرسِل والمستقبِل عن معظم المواقع الإسلامية، فضلاً عن أن هذه الخاصية التي تتطلب "مرونة" تشكل بؤرة توتر للمواقع ذات السمة "الرسمية" أو حتى "الشخصية" التي ترى أنها تصدر في مادتها عن "الحق"، وتخشى على المتصفح من التشويش، فتمارس نوعاً من "الوصاية" في عالم من طبيعته أنه مفتوح ولا مركزي!

هذه الملامح كلها ربما تحملنا على وصف تعامل الإسلاميين مع الإنترنت بـ"فوضى التعامل"، بمعنى أنه لم يكن هناك وعي كلي عميق بهذا العالم الافتراضي، فالذي حملهم على هذا التعامل موقف "اضطراري"، ومن جانب آخر أيضا انفتاحهم على الحرية التي تتيحها الإنترنت بعد قسوة الإكراه والتضييق الذي عانوه من السلطة السياسية. ربما يغدو ذا مغزى هنا غيابُ صفحة خاصة بتقديم الرؤية والمنطلقات والأهداف عن معظم المواقع الإسلامية.

إننا نتكلم هنا عن نموذج حاكم في المواقع الإسلامية، وهذا لا يمنع من وجود مواقع قليلة قدمت تجربة واعية، فمثلاً يقدم "إسلام أونلاين" نفسه على أنه "يطور رؤى واجتهادات حول حلال الإنترنت وحرامه، ويعيد تعريف الفاحشة في زمن غرف الشات وتجارة الجنس البصري واللفظي ... ويدرك بعمق حتمية تغير عقل المخاطبين". يأتي هذا في مقابل أن (88.6%) من المواقع الإسلامية - حسب استبيان شمل (44) موقعاً إسلاميًّا- "تقوم بأعمال دعوية من إتاحة الكتب والأشرطة والدروس".

المشهد الإسلامي على الإنترنت

مع وصف التعامل بالفوضى يغدو التساؤل ملحًّا عن ملامح الخطاب المتشكل من هذا الاشتباك.

إن المشهد الإسلامي العام على الإنترنت لم يغادر خطابه التقليدي، ولا تزال رموزه القديمة هي الحاضرة، بالرغم من ظهور أسماء جديدة، ولا يبدو أن هذه التقنية - التي يُنظر إليها كأداة "حيادية" - أحدثت تحولات ذات بال في جوهر الخطاب، وإن ظهرت تنويعات جديدة، مع استمرار خطاب المفاصلة بين الجماعات والفئات (غرف الدردشة كانت موضوع خطبة في المسجد الحرام).

ولا بد من الاعتراف بأن الخطاب الإسلامي لن يتغير كليًّا، لاعتبارات مختلفة، ولعل العلاقة مع الآخر والرأي المخالف يمثلان نقطة مركزية في استيضاح ثبات الخطاب، وهو - لثباته في بنيته وضعف وعيه بالعالم الجديد وفضاءاته - يتعامل مع الإنترنت كمن يطلق صرخة في وادٍ دون أن يكون هنالك دراسة لجمهور الإنترنت، وتعلم فنونها، وإدراك عوالمها، ودراسة جدوى الخطاب ونفعه، وقياس تأثيره، الأمر الذي تكشفه ندرة تطوير معظم المواقع، وإن حصل فيتناول الشكل الفني في الغالب.

لكن أتيح لنا عبر الإنترنت أن نلحظ انكشاف بعض المؤشرات التي تبدو مهمة في هذا السياق، لعل أبرزها كثافة حضور المواقع السلفية مقابل هامشية المواقع الصوفية، وربما يمكن عزو الأمر إلى أن "الصوفية" خطابها تربوي سلوكي روحاني، فهو خطاب عرفاني وليس معلوماتيَّا، والمعلوماتية هي السمة الأساسية في خطاب المواقع الإسلامية. ثم إن الدخول في عالم الإنترنت من شأنه أن يُؤدي بكل أدبيات الشيخ والمريد ليجعل المريد معرضاً لاستقطاب معلوماتي يهدد معتقد شيخه بـ "وحدانية مصدر التلقي"! والأمر الأهم هو عزلة الخطاب الصوفي عن الظروف الحالية.

أما كثافة المواقع السلفية فيمكن عزوها إلى المستوى الاقتصادي وحركية الفكر السلفي (المعاصر)، وتزامن هذا الحضور مع استفحال الأزمات وازدياد حالة العجز السياسي، فضلاً عن شدة حضور الواجب الدعوي لديه.

إن التعامل مع الشبكة وكفاءة العيش في عالمها مع الاحتفاظ بكفاءة العيش في الواقع الحقيقي كل ذلك يفرض على المواقع الإسلامية تجديد النظر إلى الإنترنت، وتجاوز الرؤية الفقهية والتراثية، التي تقف عند حدود اعتبارها مجرد "وسيلة"، ومحاولة بناء رؤية مركبة تتجاوز هذا التبسيط المخلّ الذي يجعل منها مجرد "مكتسب إنساني" يجب الحرص على نقلها والتعاطي معها، في الوقت الذي يتم الإصرار فيه على رفض الفكر الغربي مع التمادي في الدخول إلى عوالم منجزاته.

ويحتاج هذا الموقف "الحيادي" من التقنية إلى مساءلة جديدة على المستوى الفلسفي والعملي، فالتقنية غدت شكلاً من أشكال الحقيقة وكيفية من كيفيات الوجود، مما يعني أنها تحولت إلى موقف أنطولوجي يمس هوية الكائن وعلاقته بنفسه وبغيره، ولذلك نصفها بـ "العالم الموازي" الذي يتداخل مع مناحي النشاط الإنساني المعرفي والإخباري والعلمي والاجتماعي والاتصالي والعاطفي والجنسي؛ مما ينذر بتحوله إلى بديل عن العالم الحقيقي.

"عالمية" المجال الافتراضي، دفعت إلى ظهور مفاهيم جديدة يتداخل فيها التقني مع الإنساني (الحب الإلكتروني، إمبريالية الإنترنت، إدمان الإنترنت ...) مما يضغط باتجاه إعادة تعريف الذات والعلاقة مع الآخر، واكتشاف الهوية في عالم تمتزج فيه الهويات، كما تدفع إلى تجديد "عالمية الإسلام" فهماً وتطبيقاً، مما يوجب البحث في اتجاه بلورة خطاب جديد عبر الإنترنت رؤيةً ومنطلقاتٍ ولغةً، فقد باتت الرسالة الاتصالية عبر الإنترنت شبكةً من الاتصالات (الشبكة العنكبوتية)، مما يفرض تعدد مستويات الخطاب بما يواكب تنوع وتركيب الجمهور.

الأهم أن المتلقي لم يعد كذلك مجرد متلقٍ سلبي؛ فالتفاعلية والحرية والتشابك كل ذلك ساهم في تغيير عقلية المخاطبين الذين شبوا عن طوق الوصاية، وهذا - لا شك - له انعكاساته على حِرَاك المؤسسة الدينية (الرسمية والأهلية) كما سيسهم في تَشَظّي فكرة "مركزية المعرفة الشرعية" والرسالة الدينية، ولا أَدلّ على ذلك من حال الفتوى والمفتي عبر الإنترنت، وهي نموذج آخر يمكن من خلاله إدراك ثبات الخطاب، لأن "الوعي" بهذه التقنية لا يزال هشًّا، ولم يطاول موضوعات المفتي وانشغالاته، ولا حتى مفردات خطابه، مما يعكس عزلة المفتي عن الواقع الجديد ورهاناته وإكراهاته.

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=881&idC=2&idSC=6

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك