تــــطرّف العجزة : مخيــــال العنف في تقاليد دينية ثلاثة

تــــطرّف العجزة : مخيــــال العنف في تقاليد دينية ثلاثة

توماس شيفلر* ، ترجمة: حسن شقير**

أحـقًّا تقوم بعض الديانات أكثر من غيرها بتعزيز أنساق العنف في العلاقات الإنسانية؟ ثمة طرق كثيرة للإلـمام بجوانـب هـذا السـؤال. وإحدى هذه الطرق واكثرها أهميّة وأوسـعها انتشارا، بين اللاهوتيّين ومؤرخي الأفكـار على الأقل، تتمثّل في مراجعة النصوص الأصليّة للطوائف الدينيّة ذات العـلاقة.

وقـد زعـم عالم الاجتماع باول هونيجس هايم (1885-1963) اعتماداً على مقارنة الأفكار الدينيّة عبر قوميّات مختلفة، أن الديانات المتشائمة، أي الديانات التي تتصوّر العالم شرّاً متعذّراً إصلاحه أو فاسداً، تميل إلى الإحجام عن العنف. أمّا الديانات المتفائلة، أي التي ترى الصلاح جوهر الكون أو تراه قابلاً للإصلاح، فهي تميل إلى تبنّي الحروب الدينيّة من أجل نشر بركات الديانة الحقّة(1). وفي نفس الاتجاه فقد حـدّد المحلل النفسي وعالم اللاهوت الكاثوليكي يوجين دريورمن العلاقة بين المواقف السلميّة للديانات البوذيّة والطاويّة من جهة وبين الطبيعة العدوانية للديانات "الساميّة"(اليهوديّة والنصرا نيّة والإسلام) من جهة أخرى(2). ولقد ميّز باحث السلام النرويجي جون جالتونج بين الأبعاد "الصلبة" الرؤية والأبعاد "الناعمة" للرؤية الكونيّة للديانات(3). واتّجه كذلك إلى محاولة إيجاد المزايا الأكثر تفاؤلا التي تروّج للسلام في الديانات البوذيّة والطاويّة(4).

إن هناك الكثير مِـمَّا يقال ضد ما ينطوي عليه هذا المدخل من قيم تجريديّة وتنبئيّة. وفي تقييم كمّي للعنف المحلي الذي قامت به دول العالم بين عامي 1900 و 1987 وجد رودولف روميل أنَّ معدل العنف القاتل في كل نظام حكم، قياسا إلى عدد الأشخاص المقتولين، لا يرتبط كثيرا بمعايير دينيّة أو إثنيّة أو اجتماعيّة أو جغرافيّة معيّنة، وإنما يعود إلى فرص القتل دونما رادع من الضوابط المؤسسيّة، حيث وجد أنّه كلما كان نظام الحكم أكثر فاشيّة أو استبداديّة ارتفع معدّل القتل في ذلك النظام، وكما يقول روميل: "إنّ السلطة تقتل، ولكن السلطة المطلقة تقتل على نحو مطلق"(5).

ويؤكّد ماثيو كرين، تعديلا لمدخل روميل، أن وقوع حالات الإبادة الجماعيّة والإبادة السياسيّة التي ترعاها الدول هي أقلّ ارتباطا بالمركزيّة المطلقة للسلطة بحد ذاتها، منها بحدوث ثغرات في بناء الفرص السياسيّة، ويحدث ذلك بشكل أكبر في أعقاب الحروب الأهليّة، أو الحروب الكونيـة، أو زوال الاستعمار(6). واتباعا للخط نفسه من التفكير الميّال لفرص القتل يعتقد بول كوليير -مدير مجموعة أبحاث التنمية في البنك الدولي- بأن "المعايير الموضوعية للمظالم الاجتماعية مثل: اللامساواة وغياب الديمقراطيّة والانقسامات العرقية والدينيّة ليس لها آثار منتظمة ومنهجيّة على مخاطر حدوث وقوع حرب أهليّة، حيث ترتبط مثل هذه الحرب بشكل منهجي ومنتظم ببعض الأحوال الاقتصادية، مثل الاعتماد على صادرات السلع الرئيسيّة وانخفاض الدخل القومي"(7).

ومع ذلك فإن الكتب المقدسة، في إطار توحيدي على الأقل، هي حافظ رمزي للذاكرة الجماعيّة، وبالتالي فهي رمز الهوية للجماعة. وتنتقل هذه الكتب السماويّة من جيل إلى جيل، وتعدّ دائما جزءا رئيسا من التعليم ولغة الخطاب العام، ولذلك فإن هناك فرصا قويّة لأن يتم الاقتباس من هذه الكتب السماوية والإشارة إليها بين الجماعات التي تؤمن بها أكثر من أي نـوع من أنواع النصوص الأخرى(8). إلاّ أن ذلك لايعني أن كل أجزاء الكتب المقدسة تتمتع بالأهميّة نفسها عند اتباعها. فمن المؤكد بأن النصـوص التي تستعمل في الطقوس الدينية والرسمية والشعائر الدينية والصلوات تتلى وتقتبس أكثر من غيرها، إلا أن كل نصوص تلك الكتب المقدسة تتمتع بتلك الهالة من القداسة والتقدير والاحترام التي تـنبع من كـونها نصوصا من الكتاب المقدس، بمعنى أنها مثل أدوات في صندوق "معدّات مقدس" جاهزة للاستعمال القويم وغير القويم بين المؤمنين بها، إذا دعت الظروف التاريخية أو الحاجات أو الفرص لذلك أ و سمحت به.

ما هي إذا العلاقة بين مسـوغات العنف العدواني في بعض النصوص المقدسة، وبين السلوك الفعلي للأشخاص الذين يكتبونها وينقحونها ويقتبسونها؟، وهل ترتبط النصوص المقدسة ذات الطابع العنيف بكتّاب (منقّحين وناقلين) معينين؟ إذ كلما كانت النصوص المقدسة أكثر عنفا زاد عنف المؤمنين بها. إن الإجابة على هذا السؤال هي: ليس بالضرورة. وسـنحاول في هذا البحث أن نبيِّن أن العنف العدواني في الكتب المقدسة يمكن قراءته على أنَّه تعويض عن الشعور بالعجز واليأس بين الذين سجّلوها أو نقـلوها.

الغزو الإقليمي والتطهير العرقي والديني

فرّقت قوانين الحرب في إسرائيل القديمة كما ورد في كتاب سفر التثنية الإصحاح 20 بين فئتين من أعداء إسرائيل من الشعوب غير العبرانيين (ليسوا من بني عابر): أولئك الذين يقيمون خارج أرض الميعاد، وأولئك الذين تصادف وجودهم داخل حدودها (أي أرض الميعاد).

أمّا بخصوص الفئة الأولى فيطلب يهوه من شعبه أن يعرضوا عليهم شروطاً للسلام (سفر التثنية: إصحاح 20: 10)، فإذا قبلوا واستسلموا فعليهم أن يكونوا عبيدا لإسرائيل بالسخرة (التثنية: 20: 11). أمّا إذا لم يستسلموا لكم سلميّا وحاربوكم، وبعد ذلك انتصرتم عليهم فاقتلوا كل رجالـهم بحـد السيف (التثنية:20: 13) أمّا "النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها" يأخذها المنتصر غنيمة (التثنية20: 14).

إلاّ أن هذا الاستعمال المصنّف والمدرّج للعنف لا ينطبق على الشعوب غير العبرانية المقيمة داخل أرض الميعاد. فهؤلاء تحلّ عليهم اللعنة وهي مصطلح غالبا ما يترجم "بالحرمان" أو "الدمار المقدّس" أو " لعنة الدمار"(9). وفي سياق لاهوت سفر التثنية فإن إحلال اللعنة على جماعة ما هو صنو للإبادة الكاملة لحياتهم الشخصيّة والاجتماعية والروحيّة.

"وأمّا مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك يهوه نصيبًا فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرّمها تحريماً: الحثييّن والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحيويين واليبوسـيين، كما أمرك الرب إلهك، لكي لا يعلّموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتكم، فتخطئوا إلى الرب إلهكم"(التثنية:20: 16-18).

هذه اللعنة لا تحلّ بالرجال وحدهم بل بالنساء والأطفال أيضا (التثنية: 2: 34-35؛ 3: 6-7، يشوع 8: 26-29)، وفي بعض الحالات تحلّ على دوابّهم (التثنية 20: 16-17؛ يشوع 6: 21؛ صموئيل 15: 3؛ 22: 19) وحتى الآثار الرمزية التي تدل على وجودهم لن تسلم أيضا: "تخرّبون جميع الأماكن حيث عبدت الأمم التي ترثونها آلهتها على الجبال الشامخة، وعلى التلال, وتحت كل شجرة خضراء. وتهدمون مذابحهم وتكسّرون أنصابهم، وتحرقون سواريهم بالنار، وتقطعون تماثيل آلهتهم، وتمحون اسمهم من ذلك المكان"(التثنية: 12: 2-3)(10).

ولو أخذنا هذه الوصايا على ظاهرها فسيبدو لنا أنها أول تعليمات مقدسة للتطهير العرقي والديني، إلاّ أنه عندما ظهر كتاب التثنية، وبدأ ت رواية تاريخ إسرائيل تتشكل في هذا الكتاب(11) لم يكن أبناء إسرائيل في وضع يمكِّنهم من إبادة الشعوب الأخرى. ويعتقد العلماء بأن بعض الأجزاء الأساسيّة في سفر التثنية، ككتاب الأحكام (التثنية: الإصحاحات: 12-26) ربما تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، عندما ألقت دوائر المعارضة في إسرائيل باللائمة على فساد ملوكهم، وسياسة التسامح (الديني) التي اتخذوها نحو المشركين، والانحلال الاجتماعي، والاضمحـلال السياسي، والاستيلاء الآشوري الأخير على المملكة الشماليّة سنة 722 قبل الميلاد. وعندما جلا الآشوريون عن المنطقة بين عامي 626 و623 قبل الميلاد، تم اكتشاف نسخة مفصّلة في معبد القدس حوالي سنة 622 قبل الميلاد، وقد أ صبحت هذه النسخة حجر الزاوية للإصلاحات التي قام بها الملك إشعيا بن يهوذا (640-609 قبل الميلاد). وقد حدّدت تلك الإصلاحات قوة الملك بإنشائها علاقة مباشرة (ميثاق) بين الرب (الله) وشعبه عن طريق موسى رسوله، أي سلطة أسطوريّة سابقة للملكية في الماضي السحيق [البعيد](12). وبعد سقوط يهودا (598-587 قبل الميلاد) تم تطوير قانون التثنية وبقية المواد القديمة إلى عمل تاريخي شامل – منذ مارتن نوث (1902 – 68) عرف باسم تاريخ سفر التثنية، وربما تمّ آخر تنقيح له أثناء النفي البابلي وبعده (598/587-539 قبل الميلاد)(13).

وفي كل الأحوال فإن جمع تاريخ التثنية وتنقيحه يعكس فترة من الأزمات والآمال المتجددة والكوارث التي كان يواجهها الإسرائيليون القدماء (وعاشوها في نهاية المطاف) وفقدان ركيزتين مهمتين من أركان هويتهم الجماعية، وهما: الدولة، والأرض. ولما كان أبناء إسرائيل هم المعرضون لمخاطر ضعف غير مسبوقة، وللذوبان في المجتمعات المجاورة كانوا أكثر عرضة لخطر الإبادة من الكنعانيون الوثنيين.

لقد كُرّس سفر التثنية وتاريخ سفر التثنية لتفسير أسباب هذه الأزمة وكيفيّة الخروج منها. وقد أرجع علماء سفر التثنية سقوط المملكتين إلى انحراف الإسرائيليين عن العهد الذي أقامه الرب مع موسى في حوريب (التثنية 5 ف ف وما بعده)(14), يحتّم هذا العهد على الإسرائيليين أن لا يعبدوا إلها إلاّ يهوه، وأن يطيعوا قوانينه (أوامره)، وسيتم مكافأة بني إسرائيل على إخلاصهم لهذا العهد بمنحهم الرخاء والقوة في أرض الميعاد. أمّا عدم الطاعة فسيعاقبون عليها بكل أنواع الكوارث. وبقراءة سقوط المملكتين والنفي البابلي على أنّهما عقاب إلهي لانحراف الإسرائيليين عن الميثاق، يعني تحويل الكارثة إلى علامة على حب الرب الغيور، أي بمعنى تأكيد ضمني على قرب الإسرائيليين من الرب (الشعب المختار)، وهذا بدوره أعطى الإسرائيليين سببا للأمل بأن أبناء إسرائيل ما زال لهم الاختيار بأن يغيروا قدرهم بجهودهم الذاتية: إن الخضوع المتجدد والشديد والكامل تحت العهد سيساعد على استعادة عطف وحب الرب يهوه، واستعادة مملكة داود بكامل عظمتها السابقة.

وبينما كان تاريخ التثنية يتشكل كانت شعوب الكنعانيين الذين أمر يهوه بإبادتهم(15) قد اختفت منذ زمن بعيد، واستهدافهم كمرشحين للعنة الإلهية ليس له شأن بعلاقات الوقت الحاضر بين العبرانيين ومعاصريهم من غير العبرانيين(16). إلاّ أن سرد القصص عن الدمار المقدس للأمم التي لم تكن موجودة وقتها وإعادة سردها كانت له وظائفه(17). فمن ناحية أولى يعظّم ذلك تاريخ إسرائيل العسكري وقوة الرب يهوه. ومن ناحية أخرى فإنه يساعد على إيصال رسالة إلى الإسرائيليين بأن فرصتهم الوحيدة لاستعادة حب الرب يهوه وعطفه هي إبادة الشرك في إسرائيل. ومن الواضح، أو على الأقل هكذا يبدو أن الأجيال السابقة قد فشلت بغفلتها عن واجباتها حسب العهد بالقضاء على بذور الشرك في أرض الميعاد. ونتيجة لذلك ظل أسلافهم معرضين لإغواء الديانات الخصبة لجيرانهم.

وفي ظل هذا التناقض بين واجبات العهد المقدس وإغواءات المشركين، كانت الرغبة في إبادة النساء منطقية. فمنذ أن غوت الأفعى حواء اتّهمت المرأة دائما بأنها نقطة العبور للأفكار الدخيلة التي يمكن أن تهدم أسس النظام الأبوي، ولم يفشل علماء التثنية، ولو جزئيا على الأقل، بأن يعزو انتشار الكفر والجريمة والفساد بين أبناء إسرائيل إلى الآثار السلبية للنساء المغويات، وبخاصة نساء الملك سليمان الأجنبيات، وعابدة البعل اللبنانية الأميرة إزابيلا زوجة ملك إسرائيل آهاب(18). وبناء عليه كان ينظر في الشريعة الموسوية إلى الزواج بالمشركات على أَنَّهُ خطر مميت وهو محرّم قطعا (التثنية 7: 3-4)، أمّا تبادل الزيارات والعلاقات الجنسية فتعد مغامرة تهدد الأمان الاجتماعي (في العدد 25: 12) يكافئ الرب يهوه فـينحاس حفيد الكاهن هارون وأسلافه بعهد كهنوتي أبدي؛ لأنـه تتبع رجلا إسرائيليا، وامرأة مديانية في خيمتـهم، وبقر بطنيهما برمحـه (الأعداد 25: 1-16).

وهكذا كان المخاطبون بقصة اللعنة هم أبناء إسرائيل أنفسهم، ولم يكن مصادفة أن تستهدف أشد الوصايا قسوة في حلول اللعنة المدن الإسرائيلية التي بدا أنها تأثّرت بالشرك أو كانت متسا محة ومتساهلة معه.

"إن سمعت عن إحدى مدنك التي يعطيك الرب إلهك لتسكن فيها قولا: قد خرج أناس بنو لئيم من وسطك وطوحوا سكان مدينتهم قائلين: نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفوها. وفحصت وفتشت وسألت جيدا وإذا الأمر صحيح وأكيد، قد عُمل ذلك الرجس في وسطك، فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرّمها بكلِّ ما فيها من بهائمها بحد السيف. تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدين وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك، فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعد، ولا يلتصق بيدك شيء من المحرم، لكي يرجع الرب من حمو غضبه ويعطيك رحمة. يرحمك ويكثرك كما حلف لآبائك، إذا سمعت لصوت الرب إلهك لتحفظ جميع وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم، لتعمل الحق في عيني الرب إلهك"(التثنية: 13:13-18).

وعلى الرغم من أن هدف اللعن الظاهري – الشعوب السبعة والممالك – لم يعد موجوداً، إلاّ أن خطاب اللعنة بقي وسيلة تعزيز للوحدة والانضباط. ويعكس الاستعداد للقضاء على المنحرفين الداخليين الأمل بأن إسرائيل قد تتمكن في نهاية المطاف من استعادة حب وعطف الرب يهوه عن طريق تطهير ذاتي لا مساومة فيه، إخلاص للعهد لا تردد فيه.

وتشير الكتب اليهودية المقدسة لحقبة ما بعد النفي إلى أن جدوى عبارة "أصنع هذا من أجلكم فاصنعوا ذلك من أجلي" أخذ حضورها يتناقص. وبرغم كل الإصلاحات والصلوات الحماسية استمر الحكم الأجنبي الدخيل. فقد تعاقب على حكمـهم على التوالي الآشوريون والبابـليون والمدينيون والفرس والإغريق والرومان. فما أن تتلاشى أسرة حاكمة أجنبية استبدادية حتى تتبعها أخرى أكثر قوة على الخطا نفسها، وتبعا لذلك كانت آمال الإسرائيليين الرامية إلى التحرر تحبط مرارا وتكرارا وتتعمق الرؤيا المتشائمة للعالم. والسؤال الملح هو: لماذا يحيق الظلم بالصالحين والأبرياء بلا ذنب؟ وهو سؤال يقع في الجوهر من سفر أيّوب... ومع هذا لا يجد إجابة مقنعة هناك حيث يكون الجواب: لقد حُسمت قضية أيوب بعبارة إلهية أحادية، أن قوة الله مطلقة وغامضة (أو هكذا يريد الرب ذو القوة المطلقة والغامضة). ومن زاوية أخرى، فإن العهد القديم برؤاه الحكيمة الخاصة قد تعامل مع القضية نفسها عندما أشار إلى عدم جدوى أعمال بني البشر. ولهذا فإن من الصعب على أناس في مثل هذه الحالة من اليأس يبحثون عن اليقين تبني مثل هذه النظرة المتشائمة والمتشككة التي تنادي بها دوائر الحكماء من بني إسرائيل. وحتى بين هؤلاء الحكماء كان هناك إدراك متزايد بأن جهود البشر سواء كانت تمردا عنيفا، أو تطبيقا صارما لقوانين العهد، أو تضحيات سخية على مذبح المعبد، لم تكن كافية لتحرير إسرائيل.

الحب الكوني والدمار الكوني

"ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"(متى 6: 10).

خلافا للعهد القديم، تشتهر النصوص الأساسيّة للمسيحية بأخلاقيات الحب الكوني (الشامل) واللاعنف. وفي المفهوم العام تتلخص أخلاقيات المسيحية في مقولات سلمية مثل "أحب لأخيك ما تحب لنفسك"(19)، "أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسـيئون إليكـم"(لوقا 6: 27-36؛ متى 5: 43-48؛ قارن أيضا الرومـان 12:20)، "باركوا على الذين يضطهدونكم"(الرومـان: 12:14) "لا تقاوموا الشر"(متى 5:39) "من ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضا"، (لوقا 6: 29، متى 5: 39)، "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحبّاء"(الرومان 12: 19) "كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون"(متى 26: 52)، "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة"(الرومان 13: 1-7، تيطس 3:1، بطرس 21: 13-14)، "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، (متى 22: 21؛ مرقس 12: 17؛ لوقا 20: 25)، "أيها العبيد أطيعوا في كل شيء سادتكم حسب الجسد، لا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل ببساطة القلب، خائفين الرب"(20) (كولوسي 3: 22) "أيها النساء، اخضعن لرجالكن كما يليق في الرب"(بطرس 1: 3: 1؛ قارن أيضا كولوسي 3: 18) و"أيها الأولاد، أطيعوا والديكم في الرب لأن هذا حق"(أفسس 6: 1؛، كولوسي 3: 20)، "مملكتي ليست من هذا العالم"(يوحنا 18: 36)، "فإن سيرتنا نحن هي في السماوات"(فيلبي 3: 20)، الخ.

إِلاَّ أن صورة الحب الكوني واللاعنف تبدو نسبية نوعا ما إذا ما قورنت بحقيقة أن آخر كتاب من العهد الجديد، وهو سفر الرؤيا الموحى إلى يوحنا قد انغمس في رؤى من أقسى درجات العنف التي تتجاوز فظائع اللعنات المذكورة في سفر التثنية، فسفر الرؤيا في المجمل ليس أكثر من تصوير للنهاية العنيفة للعالم، أو بصورة أدق دمار أجزاء كبيرة من العالم صوّرت على أنها وابلا من الجحيم والنار، والدخان والكبريت والمجاعة والطاعون والوحوش والزلازل والنجوم النازلة (رؤيا: الإصحاحات 6، 11، 16، 18، 21:1). وعلى عكس اللعنات في سفر التثنية فإن الدمار الموصوف في سفر الرؤيا هو دمار كوني شامل، ولكنه لم يأت به البشر، وإنما جاءت به القوى الإلهية العظمى. وفي تصور يوحنا فإن الأقلية المختارة من الذين سيتم إنقاذهم – وهم المخلصون لله – ما هم إِلاَّ متفرجون مبتهجون.

وبنظرة أدق، إن العقلية العدوانية المصورة في سفر الرؤيا ليست استثناء في العهد الجديد. ففي الحقيقة توقعت أجزاء كبيرة من المسيحية القديمة أن نهاية العالم وشيكة(21) وافترضت بأن هذه النهاية لن تكون سلسة وسهلة بل عنيفة (متى 24: 6-8، 29، 37-41؛ مرقس 13: 7-27: 2 بطرس 3: 10). ومرة تلو الأخرى كانت صور من الانتقام والعقاب تلازم روح الحب الكوني الشامل والتسامح غير المشروط.

"من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن"(مرقس 16:16)، "هكذا يكون في انقضاء العالم: يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار، ويطرحونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان"(متى 13: 49-50). "مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله"(مرقس 10:25) ولكن ويل لكم أيها الأغنياء؛ لأنَّكم قد نلتم عزاءكم. ويل لكم أيها الشبعى لأنكم ستجوعون. ويل لكم أيها الضّاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون"(لوقا 6: 24-25). "هلم الآن أيها الأغنياء، ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة"(جيمس5: 1)، "ويل لكم أيها النّاموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة، ما دخلتم أنتم، والداخلون منعتموهم"(لوقا: 11-52)، "لأن كل من يرفع نفسه يتّضع ومن يضع نفسه يرتفع"(لوقا 14: 11)(22).

وفي بعض الأحيان فإن الرغبة في عقاب الأشرار تكون في النصوص التي تحض على اللاعنف والسلوك السلمي في هذا العالم. فالآية 19 من الإصحاح 12 من الرومان والتي تقول: "لي النقمة أنا أجازي، يقول الرب"، يمكن قراءتها على أنها دعوى صادقة إلى اللاعنف، ولكنها أيضا تمثّل مرجعا تناصيّا لسفر التثنية (32: 35، 41)، والتي لا تدع مجالا للشك بأن انتقام الرب سيكون انتقاما عنيفا جداًّ (التثنية 32: 21- 5 2 و 41-43). والرومان 12: 20 "فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه"، يمكن أن تقرأ كوصية ليحب الشخص عدوه، إلاّ أنها إذا ما أخذت مع الجملة التي تليها "لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه" فإنها تلميح للأمثال (25: 21-22)، التي تجعل مثل هذا العمل مخزيا للأعداء، أو عملا يودي بهم إلى العدالة الإلهية(23).

في إطار سفر الرؤيا إذن حلّت أزمة لاهوت عهد التثنية بطريقة متناقضة، من ناحية أولى كان المفروض بالسلوك الداخلي الدنيوي أن يتبع مثال المسيح الخاص بالحب، والتسامح غير المشروط، وحتى التضحية بالنفس. أما في العالم الآخر فستظل سلطة إله العقاب والثواب هي العليا. وحتى في هذا العالم فإن الوصية بحب الأعداء يبدو أحيانا أنها طغت عليها النشوة لرؤية هؤلاء الأعداء يعاقبون عقابا شديدا فيم بعد. فعلى سبيل المثال فإن تيرتوليان (160 –220) كان يتوق إلى ذلك اليوم، يوم الحساب، ستكون جميع عصور العالم وأجياله حطبا لنار واحدة، كم هو رهيب هذا المشهد في ذلك اليوم، ما هو المشهد الذي سيثير دهشتي؟ وأي مشهد سيثير ضحكي؟ ما الذي سيبهجني؟ أين أشمت، وأنا أرى الكثير والكثير من الملوك الأقوياء يئنّون في أعماق الظلمات؟ والحكام أيضا الذين جاروا على اسم الرب يصهرون في لهب أشد من تلك التي أضرموها أنفسهم في نار غيظهم، ضد النصارى الذين قاوموهم باحتقار. أولئك الفلاسفة الحكماء الذين تحمر وجوههم خجلا أمام أتباعهم وهم يحرقون معا...؟ أو الشعراء الذين يرتعدون ليس أمام كرسي حساب للملك رادامانتوس أومينا، بل أمام المسيح الذين لم يتوقعوا لقاءه؟ ثم هل سوف يستحق ممثلو الدراما من يستمع إليهم عندما يكون صوتهم مرتفعا وهم في كارثتهم؟ وهل سيستحق ممثلو الكوميديا المشاهدة وهم في النار؟ أي قاض أو مستشار أو مأمور مالي أو قسيس بكل ما أوتي من كرم وسخاء سوف يمنحك الفرصة لرؤية هذه المناظر والشماتة فيها؟ لكن مشاهد كهذه هي لنا نحن، وذلك لضعف إيماننا برؤية الروح"(24).

وبالنظر إلى العذاب الشديد المتوقع في نهاية الزمان، نُصح البشر بأن يتأكدوا أنهم كانوا تماما على الطريق القويم في هذا الوقت. وعلى الرغم من أن المعركة الأخيرة بين الخير والشر ستقوم بها القوى الكونية، إلاّ أن بني البشر لا يفترض فيهم أن يبقوا غير مبالين أو يبقوا سلبيين، بل على العكس من ذلك كان من المتوقع من أتباع المسيح أن يشاركوا في حرب دنيوية من أجل أرواح البشرية، وأن يقوموا باتخاذ القرارات التي تكون أحيانا مؤلمة، ولكنها ضرورية لحرب روحية ناجحة.

لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا، فإني جئت لأفرّق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنّة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته"(متى 10: 34-36). " إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وأخوتها وأخواته، حتى نفسه أيضا، فلا يقدر أن بكون لي تلميذا"(لوقا 14: 26). "لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزودة كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا؛ لأنّي أقول لكم: إنه ينبغي أن يتم فِيَّ أيضا هذا المكتوب، وأحصى مع الآثمة؛ لأنَّ ما هو من جهتي له انقضاء"(لوقا 22: 36- 37) (25).

إن لغة العهد الجديد مرصّعة باستعارات عسكرية تظهر أتباع عيسى كمحاربين روحانيين ضد قوى الشر الشيطانية.

"البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبُتوا ضد مكائد إبليس، فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماوات، من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقوموا في اليوم الشرير، وبعد أن تتموا كل شيء أن تثبتوا، فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق، ولابسين درع البر، وحاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام، حاملين فوق الكل ترس الإيمان، الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة، وخذوا خوذة الخلاص، وسيف الروح إلى هو كلمة الله"(أفسس 6: 11-17)(26).

وقد صوّر أوريجن (185-254) كلاَّ من بولس وبطرس بأنهم أبطال مسيحييون: "حاربوا كثيرا، وقهروا الكثير من الشعوب الهمجية المتوحشة، وأذلوا كثيرا من الأعداء، وغنموا الكثير من الغنائم، واحتفلوا بانتصارات كثيرة، ورجعوا بأياد ملطخة بدم من مذابح الأعداء، ومن استحمت أقدامهم وغسلت أيديهم بدم المذنبين، ولأنهم هزموا وقتلوا كتائب كاملة من الشياطين المتنوعة التي لو لم يهزموهم لم يكن بإمكانهم القبض على المساجين... هؤلاء هم جميع أصحاب الذين يؤمنون الآن بالمسيح.. إن الذي يتمكن من انتشال الناس من سيطرة الشياطين يمكن القول عنه بأنه ربح معركة حاسمة دامية من الشياطين"(27).

لقد كان الجمع بين الحب والحروب الروحية يصنع المعجزات لنشر المسيحية الأولى: وقد ساعد ذلك على تعبئة طبقات من الأصدقاء، الأعداء الذين بينهم عداوة شديدة كمصادر قوية لبناء المجتمع دون إثارة صدامات مع السلطات الحاكمة. وقد ساعد الوعظ والحض على الحب والصلح والهدوء السياسي كفضائل للحياة الدنيا على إبعاد الكثير من الصراعات الخطيرة، وهكذا سهّل ذلك في بقاء المسيحية، وفي النمو السكاني في الإمبراطورية الرومانية(28). وكان نقل مسرح الحرب إلى مجال الحرب النفسية ضد القوى الشريرة والشعوب الشيطانية خيارا جذابا لأولئك الناس الذين تجنبوا مخاطر التمرد العنيف ضد السلطات الرومانية، ولكنه أيضا يتناغم جيدا مع العواطف البطولية لمجتمعات الشرف والعار في حوض البحر المتوسط بشكل عام، والتقاليد العسكرية الرومانية بشكل خاص(29)، وعلى النقيض من مبادئ المحارب الغنوصي في التقاليد الإغريقية والرومانية ساعدت هذه الحرب النفسية ضد الشر البناء المستمر والمحافظة طويلة الأجل على التمييز المطلق بين الصديق والعدو التي بقيت في معزل عن الواقع، وعن القوى السياسية الدنيوية، وعن تكوين صداقات مع الكل بما فيهم الأعداء.

وهكذا ساعد إضفاء الروحانية على العواطف العدوانية، ليس فقط في عيش المرء بسلام في واقع تمنى دائما أن يدمّره ويقضي عليه، بل فِي توفير الإمكانية لتحويل عداء الفرد ليس فقط ضد الأفكار والرغبات الشريرة، بل ضد الرجال والنساء الذين يجسدونها. وفي الحقيقة يشير العهد الجديد إلى بضع حالات كان يعتقد فيها أن موت أعضاء الكنيسة المنحرفين المفاجئ أو مرضهم يعود إلى عقاب إلهي أفعال وأفكار آثمة(30).

وباستعادة أحداث الماضي يتضح أن فكر سفر الرؤيا (الإيحائي، الكشفي) قد تحوّل ليصبح إحدى الطرق أكثر نجاحا لإعادة تأطير الفكر الديني والسياسي في التاريخ العالمي(31)، وقد عكس هذا الفكر بين يهود ما بعد المنفى إحباط الناس الذين خسروا استقلالهم السياسي لصالح مجموعات قوى استعمارية شاملة خارجة عن سيطرتهم، ويبدو أنهم أيضا أصبحوا غير قادرين على تحسين مصيرهم بجهودهم الذاتية، أي عن طريق عمل جماعي سياسي وديني مستقل في منطقة معينة (أي المنطقة الممنوحة لهم)، ولم يكن إحلال الممالك الصغيرة المتشرذمة والمتمتعة بحكم ذاتي عن طريق منافسين من القوى العظمى المتغيرة ذات القوة التدميرية أحيانا، التي لم يكن باستطاعة تلك المجتمعات المتشرذمة من الوقوف في وجهها مناخا صالحا لاستيعاب تاريخ العالم وأزماته، والحلول الكونية لها(32)، بل أدى ذلك إلى سيادة الاعتقاد بأن الله قد نأى بنفسه بشكل مؤقت عن التاريخ البشري، تاركا المجال واسعا لانتشار الشر في هذا العالم(33).

لقد فسرت الهزائم السياسية والطاعون والكوارث الطبيعية في لاهوت سفر التثنية على أنها من علامات العقاب الإلهي، أي أنها نتائج سوء سلوك الفرد نفسه، وهي تستوجب الندم والتكفير وتجديد الإخلاص للعهد. وما استمرار الكوارث إلا دليل على عظم الذنوب التي يحملها الشخص. أما في المعتقدات التوراتية فقد صيغت المحن الحالية كأنها آلام ولادة نهاية الزمان، ومن هنا فهي نذر الخلاص الأخير والكامل.

"لقد وفر فكر سفر الرؤيا طريقا للأمل ضد الأمل، وطريقا لاحتفاظ المرء بعقيدته في وجه الأحداث الهائلة، وطريقا لتجنب العبرة الواضحة المتوقعة التي يحتمل استخلاصها من تلك الأحداث، وبعبارة أخرى فإن الله لم يحاب الفرد بعد كل هذا، ولا تسمح العقيدة التوراتية للفرد بإنكار أحداث التاريخ، ولكنها توفر له الوسيلة لإنكار أهمية هذه الأحداث ومغزاها وآثارها"(34).

ومن الأهمية بمكان التأكيد على الفرق بين مؤلفي الفكر التوراتي وأنماطه الأدبية وجمهوره الاجتماعي، حيث يعتقد كثير من العلماء بأن أدب التوراة اليهودية قد ألفه كتبة وكهنة(35). وقد استعملت الأعمال التوراتية المتعددة التي ظهرت خلال العصر الإغريقي – الروماني(36) عناصر واسعة الانتشار من أدب الصفوة الشرقي والإغريقي، مثل الكهنوتية البابلية، ودعاية الخلاص لملوك الفرس، وتنبؤات المنجمين عن حلقات التاريخ الكوني. إلاَّ أن التلقي الاجتماعي لها كان كبيرا. وقد تحدث بروس لنكولن عن ذلك قائلا: "يمكن للمرء أن يفهم الرؤيا على أنها أسلوب ديني يعبّر عن اهتمامات المطرودين والمدافعين ووعيهم الكامل"، مثل: "شرائح من المجتمع فقدت القوة والسلطة والمكانة الرفيعة والثروة والثقة في ذاكرتها التاريخية، أو الذين يشعرون فعلا بأنهم مهددون بهذا الخسران في حاضرهم، ومن الأمثلة الكثيرة يمكن للمرء أن يشير إلى النخب المشردة والمفكرين المهمّشين، وهؤلاء المحرومين من الرعاية، والأشخاص المنفيين، والطبقات الاجتماعية المهددة بزوال بنيتهم"(37).

يتسم تعريف لينكولن بالمرونة الكافية ليغطي مجموعة كبيرة من الرؤى. وقد لاقت رؤية العالم مقلوبا رأسا على عقب قبولا واسعا بين "البؤساء في الأرض"(38)، إلاّ أَنَّهُ من الخطأ الافتراض بأن المنبوذين الفاسدين اجتماعيا هم الأتباع الوحيدون للرؤى التوراتية أو الألفية، إذ أنه ليس من الضروري أن يكون الفرد فقيرا أو مظلوما حتى يشعر بالإحباط والذل والنفور والتمييز والحرمان والاضطهاد والإبعاد والتهميش. وتتوافق الفكرة القائلة بأن تاريخ العالم يتبع مسارا مقدّراً لا يمكن لأعمال البشر المستقلة والمتمردة تغييره مع الرؤيا المحافظة والنخبوية للعالم. "إن الاحتكام إلى المعرفة المقصورة على طبقة معينة، وإلى الوحي السماوي، وإلى استعمال الأساطير هو أيضا سمة من سمات الأساليب التي تتبعها السلطات الحاكمة في تسويغ منزلتها ودورها، وتمارس من خلالها السيطرة الآيديولوجية"(39). وفي الحروب الآيديولوجية تخدم فكرة وجود معركة مستمرة ونهائية بين قوى الخير والشر، والتي يظهر فيها المعارض عادة في دور الشر، سواء كان هذا "ضد المسيح"، أو "الشيطان الأكبر"، أو "إمبراطورية الشر" تخدم هذه الفكرة كلا من المتمردين والحكام مرة تلو الأخرى لحشد اتباعهم.

عنف السيطرة والقانون الإلهي

"ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"(آل عمران 139).

خلافا لليهودية وللمسيحية فقد نشأ نهج الإسلام الديني في العنف بين الناس في ظل ظروف ظهور قوة سياسية ناجحة ومنتصرة، لذا فإنها اضطرت إلى استعمال العنف بدل الحلم بالعنف، وإلى أن تضع له القوانين لتنظيم وتحديد استعماله في الحياة اليومية. وبدل الانغماس في أحلام وخيالات محبطة عن دمار الأشرار، أو تدمير العالم كان على الفاتحين المسلمين الأوائل أن يطوروا أسلوبا متدرجا للتعامل مع الكافرين.

ومن المؤكد أن صور النهاية المزلزلة للعالم كما تظهر في الآيات "كلا إذا دكّت الأرض دكّا دكّا"(89:21)؛ "يوم تكون السماء كالمهل"(70:8)؛ " إذا الشمس كوّرت"(81:1)؛ " وتكون الجبال كالعهن المنفوش"(101:5؛ قارن أيضا 70:9)- تلعب دوراً بارزا في الرؤيا القرآنية للآخرة، خاصّة في السور الأوائل التي نزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- خلال المرحلة المكية (610-622) (40). وفي ظل حالة من العجز السياسي وتزايد الاضطهاد، كانت الأوصاف الحية للثواب والعقاب في الآخرة من بين الوسائل التعليمية القليلة المتاحة للنبي ليقنع مواطنيه المتشككين باتباع الصراط المستقيم. أما بعد هجرته إلى المدينة [يثرب] (621/22) بدأت قوة إقناعه تتعزز بالبراهين الدنيوية، مثل الانتصارات العسكرية المذهلة، والتي غالبا ما كانت تتحقق على أعداء أكثر منه عددا وثروة وخبرة. وبلغة بسيطة، لغة الإنسان العادي، فإن أكثر الأدلة إقناعا بحقيقة الدين هي دائما تلك التي يكون وقوعها الأقل احتمالا، أي الأدلة الخارقة أو المعجزات. فمن كان يتوقع مثلا أن تتمكن مجموعة صغيرة من المهاجرين المكيين من فتح مكة القوية وأجزاء كبيرة من شبه الجزيرة العربية في أقل من عشر سنوات؟ ولكن هذا هو ما حدث بالذات. ومن كان يتوقع أنه بعد وفاة النبي أن يتّحد العرب الذين كانوا يتسمون بالتشرذم وسرعة الإثارة والتقلب، وأن ينجحوا في اكتساح الدولتين العظميين في ذلك الوقت، وهما روما الشرقية وبلاد الفرس. ويتمكنوا خلال أقل من قرن من غزو إمبراطورية فاق حجمها حجم إمبراطورية الإسكندر الكبير وإمبراطورية روما معا؟ ولكن هذا بالذات كان هو مسار الأحداث.

وقد كان للانتصارات الخارقة والفتوحات السريع وكثرة الغنائم دور كبير في إعطاء المسلمين الأوائل كل الأسباب لينظروا إلى العالم بمنظور أكثر تفاؤلا من منظور يهودية ما قبل النفي والنصرانية الأولى. أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم لم يترك شكّاً بأن الثواب للمؤمنين في الحياة الأخرى سيفوق كل ما يتوقعونه في هذه الحياة الدنيا، كم هو واضح في الآيات (3:157؛ 8:28؛ 9:21-22، 24، 38، 72، 111، 20:131؛ 40:39؛ 57:20؛ 61:12؛ 93:4). ولم يترك القرآن أيضا شكا في أن على المؤمنين فوق ذلك كله أن يستعدوا لذلك بتجهيز ميزان أعمالهم لليوم الآخر. ومع ذلك فإن الصعود السريع للأمة الإسلامية والسقوط المذهل لأعدائها الأقوياء يبرهنان على أن الله يريد لهذه الأمة أن تسود في الأرض.

ومما لاشك فيه أن العالم سوف ينتهي يوما ما، ولكن القرآن الكريم يؤكد أن هذا اليوم ليس معلوما للبشر، سواءً كانت " الساعة قريبة أم بعيدة"(7:187؛ 21: 109؛ 67:25-26) وأن يوما عند الله كألف سنة (5:32) بل "خمسين ألف سنة"(4:70). وعلاوة على ذلك فإن العالم سوف يأتي إلى نهايته؛ لأن الله خلقه منذ البداية لأجل معلوم (3:46؛ 30:8)، وليس لأنه شرير أو أنه خرج عن السيطرة الإلهية. إن هذا العالم عالم خيّر: خلقه الله وحفظه عليه خاليا من العيوب والأخطاء (67: 3-4). إن الإسلام لا يقر مبدأ "الذنب الأول/ الأصلي"، والله لا يعتريه ضعف في خلقه، ولا تأخذه سنة ولا نوم (2:255)، وهو القادر الموجود في كل زمان، والعالم بكل شيء وهو مطّلع عَلَى كُلّ أعمال البشر (4:135؛ 49:16؛ 58:7). لا تسقط ورقة إِلاَّ بعلمه (6:59). ولن يصيب الإنسان إِلاَّ ما كتب له (3: 11-45؛ 9:51؛ 57:22؛ 64:11). يعطي الحكمة والهداية لمن يشاء (2:269، 272؛ 49:17). أما الأفراد أو الأمم الذين لا يؤمنون ولا يتوبون فهم وحدهم الذين سيعاقبون، أو يستبدلون، وليس العالم كله. ويكرر القرآن مرة تلو أخرى أنه لا تزر وازرة وزر أخرى (6:164؛ 17:15؛ 35:18؛ 39:7؛ 53:38) مؤكداً أن الناس سيحاسبون على ذنوبهم فقط، وليس على ذنوب غيرهم (2: 286؛ 24:11).

وهكذا فإن رؤية القرآن لليوم الآخر ليست تدمير العالم الآثم والظالم، بقدر ما تسعى من أجل أن يتوافق البشر مع الناموس الإلهي. لقد خلق الله البشر ليعبدوه (51: 56) وهو دائما يذكّرهم بواجباتهم عن طريق الأنبياء والرسل والمنذرين والمبشرين المرسلين لأمم الأرض، لبيان آيات قوة الله وقدرته والكشف عن قوانينه المقدسة(41). وكل الذين يكذبون برسالته سوف يعاقبون ويدمرون أو يستبدلون بأمم أفضل منهم في الدنيا (42)، وفي الآخرة لهم عقاب شديد (2: 217؛ 3:56؛ 5:33؛ 9: 69-70؛ 79: 25). أما الذين يطيعون ويؤمنون فسيثابون في الدنيا والآخرة (3: 148؛ 40:51؛ 61: 12-13) وسينصر الله أولئك الذين ينصرون دعوته (22:40؛ 47:7). سيمنحهم النصر (5:56؛ 61:14) وسيرثون الأرض (21:105) وسيحكـمون الأرض (24: 55) وسوف يجعلهم الأعلون يوم البعث (3: 55).

وبهذا التركيز الشديد على العقاب والثواب الدنيويين، فإن القرآن الكريم يعد من نواحي عدة إعادة صياغة قوية وتفاؤلية للاهوت العهدي التثنوي في إطار عالمي/كوني شامل. وفي ضوء انتصاراتهم الصاعقة كان للمسلمين الفاتحين الأوائل كل الْـحَقّ في الإيمان بأنهم هم شعب الله المختار، والذين قُدر عليهم إقامة النظام في الأرض بمعونة إلهية، "كنتم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون"(3: 110). فهل من العدل أن يلاموا لأنهم اعتبروا نجاحهم كمكافأة من الله لهم لتقواهم، وإخلاصهم للعهد الإلهي(43) الذي رفضه أو نقضه أو شوّهه أناس قبلهم مثل اليهود والمسيحيين؟

يستطيع الإسلام أن يدّعي أنّه تفوق على اليهودية بحقيقة انتصاراته، وقد عبّر فرويد عن ذلك ساخرا بقوله: "لقد كان الله أكثر امتنانا لشعبه المختار مما كان يهوه لشعبه (...) وفيما يتعلق بالمسيحية كان من المفترض أن الاستيلاء على مدن بطريركية رئيسية مثل إنطاكية والإسكندرية لن يسمح به إله لا يعتبر المسيحية ميتة أو مهجورة.... والأكثر إثارة من كل هذا هو أن الإسلام يسيطر على القدس ذاتها الآن.... يستطيع المسلمون أن يدّعوا أن قبة الصخرة المقامة على موقع هيكل سليمان التذكاري المقدّس هي المعبد الثالث، أي "بيت العبادة لكل الأمم" التي تنبأ به مرقص. وفي حين تمثل مكة إعادة إحياء الإسلام لقصة إبراهيم تبدو القدس دليلا على تأكيد الإسلام على قصة موسى كجزء من الإسلام نفسه ودمجها في دعوته الطموحة لتشمل العالم كله(44).

يتجسد نهج الإسلام الكوني الشامل بشكل جلي في الأمر بالجهاد في سبيل الله حتى لا تكون فتنة (2: 193؛ 8: 39). والفتنة: هي مصطلح يستعمل في الغالب ليشير إلى حالة من "الفوضى" أو "النزاع أو الخلاف" أو "التحريض على الفتنة" أو "الحرب الأهلية"(45). وذهبت بعض ترجمات القرآن إلى اللغة الإنجليزية إلى ترجمة المصطلح في السور (2: 193؛ 8: 39) إلى "اضطهاد"(ترجمة بيكتال وترجمة شاكر)؛ و "اضطراب أو ظلم"(ترجمة يوسف علي) أو "وثنية"(ترجمة داود). إلاّ أنّ المعني الأصلي للفتنة كان "المحنة/ الامتحان" أو " الإغواء والإغراء" أو "التجربة " أو " الامتحان/ الاختبار"(46). فالمصطلح إذن يشير إلى أي شيء قوي أو مغو أو مغر لدرجة تؤدي بالبشر إلى الانحراف عن سبيل الله والعودة إلى الوثنية. ولذا فإن محاربة الفتنة هي جزء أساسي من رسالة هذه الأمة.

وخلافا لسفر التثنية فإن دعوة القرآن لإزالة الكفر لم تكن محصورة بأرض بعينها، بل كانت تشمل العالم كله(47). فمن المفروض أن يستمر الجهاد إلى أن يفقد الكفر قوته وإغواءه. ولم يكن العنف إلا إحدى الوسائل لتحقيق تلك الغاية. وقد كان المسلمون الفاتحون الأوائل واثقين من نصرهم في النهاية، ولذا كانوا على استعداد للإدراك بأن الكثير من خصومهم سيعتنقون الإسلام، وسيصبحون روافده في المستقبل، ولهذا بنيت الحرب في الإسلام، ولطّفت لهدفها النهائي وهو السلام. وحقيقة الإسلام أن النبي أرسل رحمة للعالمين (21:107)، ودليل ذلك أن صيغة "بسم الله الرحمن الرحيم" فِيي بدء كل سورة من سور القرآن الكريم المائة وأربع عشرة سورة، باستثناء واحدة وهي سورة 9 التوبة. والدعوة لمحاربة وقتل الكافرين محددة في عدد من الصيغ الشرطية والمعتدلة(48)، منها: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشدّ من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتـهوا فلا عدوان إلاّ على الظالـمين."(2:190 –193).

"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكـون الدين كـله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصـير"(8: 39).

"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون. وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم"(8: 60-61).

"فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروها واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا و أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم"(9: 5).

"قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(9:29).

ولم تكن الحرب ضد المشركين بحاجة إلى تسويغ(49). إلاّ أن معاملة الأعداء أثناء الحملات العسكرية وبعدها كانت تخضع لسلسلة من الأنظمة والتعليمات في الشرع الإسلامي الأصيل. وكان رأي معظم الفقهاء المسلمين الأوائل أنّه لا يجوز قتل المشركين الذين يعدون غير قادرين على الحرب، كالنساء والأطفال الصغار والرهبان وكبار السن والعميان والعجزة والمجانين الخ، إلاّ إذا حاربوا الإسلام بالقول أو بالعمل، وأنّه لا يجب المساس بسبل عيش الأعداء كأشجارهم ومواشيهم وبيوتهم إلاّ إذا استدعت الضرورات العسكرية تدميرها(50).

وقد كانت الدعوة لقتل الكفار محصورة بالمشركين والمرتدين (51). إلا أن تلك الفئتين أعطيت الفرصة للنجاة من القتل، وذلك باعتناقهم الإسلام، أو العودة إلى الإسلام في حال المرتدّين عنه. أما الغالبية العظمى من الكفّار المهزومين والذين كان على المسلمين الفاتحين الأوائل التعامل معهم، أي أتباع الديانات السماوية الأخرى السابقة للإسلام كاليهود والمسيحيين والصابئة (2: 62؛ 5:69) والديانات اللاحقة للإسلام مثل الزرادشتيين والهندوس، فقد منحوا منزلة الذميين الذين يسمح لهم بالاحتفاظ بمعتقداتهم الدينية، وممارسة أنشطتهم الاقتصادية، ولكن عليهم دفع ضريبة خاصة تدعى الجزية (52)، ولم يكن مسموحا بإجبارهم على اعتناق الإسلام بالقوة "لا إكراه في الدين"(2:256)(53).

لم يكن العنف فضيلة بحد ذاته، بل كان الإسلام بالأحرى مسخّرا لتهذيب العنف القبلي العربي بإخضاعه للقوانين الإلهية. وكما أوضح غولدتسيهر (1850- 1921) فإن مصطلح الجاهلية الذي كان يشير عادة إلى جهل مجتمع ما قبل الإسلام القبلي له في الأساس معنى أوسع من ذلك، وهو "الهمجية أي السلوك غير المتحضّر والمتهوّر والمتوحّش لأولئك الأشخاص الذين لم يتأثروا بالوحي والرحمة الإلهيتين(54).

وكما في التوراة، يقر القرآن الكريم أن حياة الإنسان هي من القيم الأساسية للمجتمع: فمن قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيـا الناس جميعـا (5: 32؛ قارن أيضا 17:33) (55). إن القتل العمد للمؤمنين جريمة بشعة عقابها النار، إنما المؤمنون أخوة (49: 10؛ قارن أيضا 3: 103) وما اختلاف أعراقهم وأجناسهم بعبء، وإنّما هو جزء مخطط إلهي لجعل البشر يعترفون ببعضهم البعض، ويعرفون بعضهم البعض، ويتنافسون في عمل الخير والصلاح (49: 13) والصدقة فيما بينهم محمودة، أمّا الربا فمحرّم وممنوع (2: 261-281؛ 4: 36؛ 5: 2؛ 9: 60؛ 74: 42-44؛ 89: 18، 30-34؛ 107: 1-3). يجب حماية الضعفاء والمضطهدين والمظلومين (4: 75). وفي حال الصراع يجب أن يكون الانتقام مخففا (5: 45؛ 16: 126)؛ والقرآن يحث على الصبر والتسامح والصلح (3: 134، 159؛ 16: 126؛ 42: 40، 43؛ 41: 34؛ 49: 9-10). وأخيرا وليس آخرا يحضّ على دفع وقبول الدية (4: 92). وفي الحياة اليومية لا يجوز للمسلمين أن يسخروا من بعضهم البعض، ولا ينادوا بعضهم البعض بالألقاب (49-11). ولا يجوز لهم أن يستغيبوا بعضهم البعض، أو أن يتجسسوا على بعضهم بعضا (49: 12). ويجب مقابلة التحية بتحية أحسن منها أو مثلها (4: 86) ويجب دفع السيئة بالحسنة لجعل الأعداء يتحولون إلى أصحاب (41: 34).

وإدراكا منها للفوائد الواضحة للوحدة والصلح، حاولت الأجيال الأولى من أمة الإسلام أن تحل خلافاتها ونزاعاتها وانشقاقاتها بتلك الروح نفسها. ففي معركة صفّين (37/657) وضع أتباع معاوية عملا بنصيحة عمرو بن العاص القرآن فوق أسنّة رماحهم، لكي يقنعوا أتباع علي بقبول التحكيم استنادا إلى القرآن الكريم. وقد بذل المؤرخون العرب في العصور الوسطى جهودهم لإزالة تلك الذكرى المحزنة لأول معركة بين المسلمين أنفسهم، وهي معركة الجمل (36/656)، وهي من أكثر القضايا المثيرة للانشقاق بين المسلمين(56). وكان المفهوم الشهير "الخلفاء الراشدون"(أي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي) يعكس أخيرا وليس آخرا جهود عامة المفكرين المسلمين لاستعادة الأرضية المشتركة بين فريقي معاوية وعلي، وتبعات كل منها التاريخية(57). وكان الفقهاء المسلمون يرون أن لا يعامل البغاة كمجرمين(58). وقد تردد الكثير منهم في اتخاذ القرار بخصوص المسلم المرتد، والتمسوا تأجيل هذا القرار إلى يوم الحساب(59). وحتى من ثبت عليهم الردة كان يمكنهم النجاة من عقاب القتل بالتوبة، وإعلان عودتهم إلى الإسلام وتجديد ولائهم له(60).

ومع مرور الزمن أصبحت معاملة الذميين والمنشقين والمرتدين أكثر قسوة (61). وكان تصعيد الصراعات والخلافات بين القوى الدينية والسياسية الداخلية المختلفة، ومن أبرزها تحديات الدعاية الإسماعيلية ما بين القرنين التاسع والثاني عشر، وظهور الشيعة الصفوية في القرن السادس عشر، مصحوبا بتمييز أكثر وضوحا وأقل تساهلا بين "المؤمن" "وغير المؤمن" وبين "الاستقامة" وبين "الهرطقة". وقد أدّت التهديدات الخارجية ومن أبرزها الاكتساح العسكري للإمبراطورية البيزنطية لسوريا، وشمال ما بين النهرين (ما بين القرنين 10 –11) والصليبيين ما بين القرنين (11-13)، وإعادة الفتح الإسباني ما بين القرنين (11-15) وغزو المغول ما بين القرنين (13-14) والاستعمار الأوروبي ما بين القرنين (19- 20)، والهيمنة الغربية في حقبة ما بعد الاستعمار أدّت كل هذه إلى إثارة دعوات متشددة للتضامن الإسلامي، وزيادة الشكوك في إخلاص الرعايا غير المسلمين. وإجمالا خلق التداخل بين التهديدات الداخلية والخارجية جوّا أصبح فيه من السهولة بمكان الحكم على المسلمين الآخرين وإدانتهم بأنهم خونة وغير مؤمنين(62)، ومن الصعوبة بمكان على المرتدين العودة إلى الإسلام(63)، وتنامي القبول للضغط على أهل الذمة.

وقد سارت الكثير من العمليات الاجتماعية طويلة الأمد في هذا الاتجاه: فقد قلب اعتناق الإسلام التوازن العددي بين المسلمين وغير المسلمين في عدة مناطق من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا(64)، مما أدّى إلى إضعاف الحوافز لاستيعاب غير المسلمين على الصعيد المحلي. ومع مرور الوقت، وخاصة أثناء الأزمات الاجتماعية أصبح توجيه غضب الجماهير المدنية المحبطة ضد الأقليات غير المسلمة أقل خطرا للزعماء السياسيين والدينيين في المنطقة، بالإضافة إلى ذلك، سهّل التنميط والمنهجية والجزم العقدي للفكر الإسلامي الذي صاحب ظهور طبقة متميزة من المختصين الدينيين الإسلاميين، أي العلماء، (سهّل هذا) تطور قواعد أقل غموضا وأشد صرامة، وأشدّ قسوة في التعامل مع الرعايا غير المسلمين.

وكما أوضح رودني ستارك، فإن المنظمات الدينية الموحدة، بزعمها احتكار الحقيقة المطلقة والتي لم تجد مقاومة تذكر، كانت دائما على استعداد للسماح "بقدر كبير من الانشقاق الديني" في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم طالما أن المنظمات الدينية القوية الأخرى لا تهدد احتكارها. إلاّ أن تلك المنظمات الدينية تقوم عادة بوقف هذا التسامح أو بسحبه خلال فترات الصراعات الدينية الكبيرة مع منافسين أقوياء، ليس فقط عن الجماعات الدينية التي تشكل تهديدا لها، وإنما عن المجموعات الدينية المسالمة والتي لا تشكل تهديدا لها (مجموعات غير مهددة وغير انشقاقية"(65). وهكذا فإنه في وقت الصراعات والأخطار الخارجية يكون التسامح مع الاختلافات الداخلية من بين أول الخسائر المصاحبة لهذا الصراع.

لم يكن التاريخ الإسلامي قط استثناءً لتلك القاعدة. إلاّ أنّه ولهذا السبب بالتحديد من الأهمية بمكان أن نعترف بأن سياسة الإسلام العقدية الأساسية تجاه غير المسلمين والمنشقين تبلورت في فترة نجاح سياسي، وليس في عصر الهزائم المحبطة أو زمن العجز. وعلينا أن نبين هنا أن النصوص والمعتقدات المقدسة عندما تقر سوف تتمتع باستقلال نسبي عن أنماط روح العصر المتغيرة والمغايرة (لطابع العصر العقلي والأخلاقي والثقافي). ومن المؤكد أنها ستكون مفتوحة لتأويلات وتفسيرات مختلفة، إلاّ أنه لا يمكن تغييرها أو تفسيرها أو تأويلها حسب مشيئة المفسرين. وفي مجتمعات الشرق الأوسط ساعد دائما تكوين موقف احترام لوحدة وحصافة ومرجعية الكتاب المقدس، وتشجيعه على إقامة توازن ضد التطوعية والتعسف والاعتباطية والانتهازية عند القادة السياسيين الاستبداديين. وقد كانت الأجيال المؤسسة للأمة في موقف يمكنها من التعامل مع كثير من أعدائها بروح من العنف المتحضّر قلّما تجدها بين معاصريهم الأقل نجاحا. وأخيرا وليس آخرا فقد تكون التراث الذي نقلوه للخلف من مجموعة من الأنماط المعتدلة والأسبقيات الأخلاقية التي لا يمكن للأجيال اللاحقة الأقل نجاحا تجاهلها والالتفاف حولها، دون تشويه خطير لها نصّا وروحا.

*******************

الهوامش

*) باحث ومستشرق ألماني. وقد أعدت الدراسة خصيصا للتسامح.

**) المترجم من قسم اللغة الإنجليزية في جامعة السلطان قابوس.

1- P. Honigsheim، art. “Krieg I. Religionsgeschichtlich”, in: Die Religion in Geschichte und Gegenwart، 3rd. ed. (RGG3)، vol. 4, Tuebingen: Mohr (Siebeck)، 1960، 362-64 (col. 364).

2- Eugen Drewermann، Die Spirale der Angst: Krieg und das Christentum (1982)، Freiburg/Br: Herder، 1991، 108-22, 185-95, 198-201, 240-42.

3- Cf. Johan Galtung، “Soziale Kosmologien und das Konzept des Friedens"(1982), In: Den Frieden denken، ed. Dieter Senghaas، Frankfurt/M.: Suhrkamp، 1995، 276-303: Idem، Peace by Peaceful Means: Peace and Conflict، Development and Civilization، London: Sage، 1996، 211- 22: idem، “Religionen، hart und sanft: wie die sanfteren Aspekte zu starken sind”، in: ders.، Die andere Globalisierung: Perspektiven der Weltgesellschaft im 21. Jahrhundert، Muenster: Agenda، 1998، 207 –22.

4- Cf. Peter Lawler، A Question of Values: Galtung’s Peace Research، Boulder، co: Lynne Riener، 1995، 191-222: see also Johan Galtung، “Constructing a Daoist Social Science Epistemology”، Center for Peace studies، University of Tromso، CPS Working Papers، no. 1, February 2002. I am indebted to Raimo Vaerynen (Notre Dame/Helsinki) for drawing my attention to these texts.

5- R.J. Rummel، “Democaracy، Power، Genocide، and Mass Murder”، Journal of Confilict Resolution 39 (1995) 1، 3-26 (P. 25). Cf. idem، Death by Government Power Kills: Democracy as a Method of nonviolence، New Brunswick، (1994): Transaction Books، NJ: Transaction، 1997. see also Rummel’s website at: WWW.hawaii.edu/powerkills/welcome.html.

6- Matthew Krain، “State-Sponsored Mass Murder: The Onest and Severity of Genocides and politicides”، Journal of Conflct Resolution 41 (1997) 3, 331-60.

7- Paul Collier، Economic causes of Civil Conflict and their Implication for Policy، World Bank Research Paper، June 15, 2000 p. 1 (WWW.worldbank.org/research/ conflict/paper/civilconflict.pdf) Cf. also: idem، “Doing Well out of War: An Economic Agendas in Civil Wars، eds. Mats Berdal and David M. Malone، Boulder، Co: Lynne Rienner، 2000، 91-111: Paul Collier and Anke Hoeffler، Greed and Grievance in Civil War، World Bank Research Paper، October 21، 2001 (www.worldbank.org/research/conflict/papers/greedgrievance-23oct.pdf).

8- See Angelika Neuwirth, “Three Religious Feasts between Narratives of Violence and Liturgies of Reconciliation"(in this volume). Cf. also Myra Blyth، “Praise, Prayer and Priaxis: Connections between Liturgy and the Decade to Overcome Violence”، The Ecumenical Review 53 (2001) 2, 206-215.

9- On the connotations of “lyrem” in the old Testament، see susan Niditch, War in the Hebrew bible: A Study in the Ethics of Violence، New York: Oxford University Press, 1993، S. 28-77: Norbert Lohfink، art I Aram، leraem” in Theologisches Worterbuch zum Alten Testament [ThWAT] vol، 4. Stuttgart: Kohlhammer, 1982, 192-213: Peter Wellen. art.. “Bann”، in: Theologische Realenzyklopadie (TRE)، vol. 5، Berlin: de Gruyter، 1980، 195- 61: Moshe Greenberg and Haim Hermann cohn، art. “lerem”، in: Encyclopaedia Judica، vol. 8، Jerusalem: Keter/Macmillan، 1971، 344-50.

10- See also Dtn 7:25-26.

11- On the provenance of Deuteronomic Law (Dtn 12-26)، see the discussion in: Eckart otto، art. “Deuteronomium”، Die Religion in Geschichte، Geschichte und Gegenwart، 4th ed. (RGG4)، vol. 2 Tubingen: Mohr Siebeck، 1999، 693-96: Rainer Albertz، Religionsgeschichte lsraels in alttestamenlicher Zeit، vol. 1، Goettinegen: Vandenhoeck & Ruprecht، 1992، 309-12: Frank crusmann، Die tora: Theologie und Sozialgeschichte des alttestamentlichen Gesetzes، Muenchen: Chr. Kaiser، 1992، 242-48: Norbert Lohfink، art. “Deuteronomium”، in: Neues Bibel-Lexikon، vol. 1, fasc. 3, Zurich: Benzinger، 1990، 414-17: Richard E. Friedman، Whi wrote the Bible ? New York: Harper & Row، 1987: Moshe Weinfeld، “The Emergence of the Deuteronomium: Entstehung، Gestalt und Botschaft، ed Norbert Lohfink, Leuven: University Press، 1985 76-98: idem، Deuteronomy and the deuteronomic School، Oxford: Clarendon Press, 1982.

12- Cf. Frank cruesemann، “Theokratie’ also ‘Demokratie’: Zur politischen Konzeption des Deuteronomiums”، in: Anfange politischen Denkens in der Antike: Die nahoestlichen Kulturen und die Griechen، eds. kurt Raaflaub Elisabeth Muller – Luchner، Muenchen: oldenbourg، 1993, 199-214 (pp.207-9): Rainer Albertz، “Die Theologisierung des Rechts im Alten Israel”، in: Kulturen des Antiken Vorderen Orients، eds. Rainer Albertz / Susanne Otto, Munster: Ugarit، 1997، 115-32 (pp. 119-30).

13- the “Deuteronomic History” includes the of Deuteronomy, Joshua, Judges، 1 and 2 Samuel، 1 and 2 Kings. On the process of its redaction see: Walter Dietrich، art. “Deuteronomistisches Geschichtswerk”، RGG4 (fn. 110، vol. 2 (1999) 688-92: Albertz، Religionsgeschichte Israels (fn. 11)، vol. 2، 397-413: Wolfgang Roth، art. “Deuteronomium ll. Deuteronomistisches Geschichtswerk/Deuteronomistische Schule”، TRE (fn. 9)، vol. 8 (1981)، 543-52.

14- On the connotations of “covenant” in the old Testament, see Steven L. McKenzie, Covenant. St. Louis: Chalice Press, 2000, chs. 1-5: Jan Christian Gertz: art. “Bund ll. Altes Testament”، RGG4 (fn. 11)، vol. 1 (1998)، 1862-65: Robert Davidson، "covenant ldeology in Ancient Israel”، in: The world of Ancient Israel، ed. R.E. Clements, Cambridge: Cambridge University Press، 1989، 323-47: Moshe Weinfeld، art. “Berix”، ThWAT (fn. 9), vol. 1 (1973), 781-808.

15- Deuteronomy mentions seven nations: the Hittites، Amorites، Canaanites، Perizzites، Hivites، Jebusites (Dtn 7:1, 20:17)، and Girgashites (Dtn 7:1). In Exodus 17: 14 and Dtn 25:19، Yahweh also commands to wipe out the memory of Amalek under heaven.

16- In medieval Judaism، the Deuteronomic Iyrem sections were even used to emphasize the rather peaceful nature of Judaism: Since the seven Nations and Amalek didn’t exist anymore، Maimonides (1135-1204) considered the case of the lyerm-wars historically closed. Cf. Daniel L. Smith-Christopher، “That was then.. ‘: Debating Nonviolence within the world Religions، eds. Joseph Runzo and Nancy M. Martin، Oxford: Oneworld، 2001، 251-69 (p. 262). – For other rabbinical perspectives، see Michael Walzer، “War and Peace: Religious and Secular Perspectives، Princeton، NJ: Princeton University Press، 95-114 (pp.105, 106-7): Aviezer Ravitzky، “Prohibited Wars in the Jewish Tradition” Ibid.، 115-27 (pp. 116-8).

17- For the Folloing، see Lohfink،:Iaram، Ieraem"(fn. 9)، 211-12.

18- Cf. 1 Kings 11: 1-13, 16:31-33, 21:3-16:2 Kings 9:7-10, 30-37.

19- Mark 12:31. Matthew 22:39, Luke 10:27-28, Romans 13:9, Galatins 5:14، see also Romans 12:10، Jemes 2:8, 1 Peter 1:m-12.

20- Ephesians 6:5-8، see also 1 Peter 2:18-23، Colcssains 3:22-25، 1 Timothy 6: 1-2، Titus 2:9-10.

21- Matthew 10:23، 16:28, 24:34, Mark 9:1، 13:30 Luke 9:27. See also Romans 13:12, Philippians 4:5, James 5:8، 1 John 2:18، 1 Peter 4:7، Revelation 1:1-3، 22:10-20.

22- Cf. Matthew 11:20-24, 13:49-50, 25:41-46, Luke 10:10-16,!!:49-52,, 14:11, 13:3-5, Jemes 5:1-6, 2 Peter 3:7. See also: Marius reiser، Jesus and Judgment: The Eschatological Proclamation in Its Jewish Context (1990)، Minneapolis: Fortress Press, 1997.

23- Cf. T.R. Hobbs، A Tims for War: A Study of Warfare in the old Testament، Wilmington، Del.: Michael Glazier، 1989 (Old Testament Studies: 3)، 232. For the Image of burning coals cf. Also Psalm 140:10, 11:6, Ezekiel 10:2.

24- Tertullian، “Spectacles"(De spectaculis)، Ch. 30:2-5.7، tr. R. Arbesmann, in: Tertullian، Disciplinary، Moral and Ascetical Works، New York: Church Fathers, 1959 (= The Fathers of the Church. A New Translation، vol. 40) 47-107 (pp. 105-07).

25- See also Matthew 10:35-37، 12:48-509، Luke 9:59-62.

26- Cf. also Matthew 6:13، 13:121، 2 Corinthians 10:3-6، Philippains 2:25، 1 Timothy 1:18, 2 Timothy 2: 3-4، Philemon 2. – For a discussion of martial metaphors in the New Testament، see Adolf von Harnack، Militia Christi: The Christian Religion and the Military in the First three Centuries (1905)، tr. David Mclnnes Gracie، Philadelphia: Fortress Press، 1981: Georg Baudeler، Toeten oder Lieben: Gewalt und Gewaltlosigkeit in Religion und Christenum، Munchen: Kosel، 1994، 345-55, Raymond Hobbs، “The Language of Warfare in the New Testament”، in: Modelling Early Christianity: Social – Scientific Studies of the New Testament in its Context, ed. Philip F. Esler، London and New York: Routledge, 1995, 259-73.

27- Origen، Homiliae in Numeros، homilia 25 t. 10، 310 ff., as quoted in Harnack، Militia Christi (fn. 26)، 50.

28- Rodney Stark، The Rise of Christianity. How the Obscure، Marginal Jesus Movement Became the Dominant Religious Force in the Western World in a Few Centuries (1996)، San Francisco: Harper، 1997، esp. Chs. 2 and 4.

29- Cf. David Mclnnes Gracie، “Translators Introduction”، in Harnak، Militia Christi، 9-22 (pp. 19-20) – For some parallels between the Christian Jesus- narrative and classical Greco – Roman hero – mythology، see Gregory J. Riley، One Jesus, Many Christs: How Jesus Inspired not One True Christianty But many (1997)، Minneapolis: Fortress Press، 2000.

30- Cf. Acts 5: 1-11 (fraud of Ananias and Sapphira)، 1 Corinthians 11:27-32 (weakness، illness، and death of Corinthian community members for participating in the Lord’s Supper without recognizing the Lord’s body).

31- For a recent general stocktaking of the development and historical ramifications of apocalypticism، eds. John J. Collins، Bernard McGinn، Stephen J. Stein، 3 vols., New York: Continuum، 1998. See also: art. “Apokalyptik/ Apokalypsen”، pt. I-VII، in: TRE (fn. 9)، vol. 3, Berlin: de Gruyter، 1978, 198-289: Hans G. Kippenberg، art. “Apokalyptik/ Messianismus/ Chiliasmus”، in: Handbuch religionswissenschaftlicher Grunbegriffe, vol. 2, Stuttgert: Kohlhammer, 1990, 9-29.

32- Both Hesiod’s myth of world ages (ca. 700 B.C) and the book of Daniel’s four-empires prophecy (2nd centry B.C) may be traced back to Aramaic، pre-lranian، prophecies that originated in the 8th century B.C. as a reaction to Assyria’s military expansion in Syria، Anatolia، and Impulse und Transformation”، in: Apocalypticism in the Mesiterranean World، ed. D. HeIIhoIm (fn. 36)، 235-54 (pp.244-51).

33- Cf. Juergen Lebram، art. “Apokayptik / Apokalypsen II. Altes Testament” TRE، vol. 3 (fn. 31)، 192-202 (p. 196): “Der Zentragedanke der Apokayptik ist die Verkuendigung einer zum mindesten voruebergehenden Distanzierung Gottes von der Geschichte، die eine freie Entfaltung des Boesen zulaesst.".

34- Fred M. Donner، “The Sources of Islamic Conceptions of War”، in: Just war and Jihad، eds. John Kelsay and James Turner Johnson، New York: Greenwood Press, 1991, 31-69 (p.45).

35- Cf. Jonathan Z. Smith, “Wisdom and Apocalyptic”، in: Religious Syncretism in Antiquity: Essays in Conversation with Geo Widengren، ed. Birger A. Pearson، Missoula، Mont: Scholars Press، 1975، 13-56: Michael Stone، Scrptures, Sects and Visions: A Profile of Judaism from Ezra to the Jewish Revolts, Oxford: Blackwell، 1980, Philip R. davies، “The Social World of Apocalyptic Writings”، in: The World of Ancient Israel، ed R.E. Clements، Cambridge: Cambridge University Press، 1989, 251-71, Lester L. Grabbe، "The Social Setting of Early Jewish Apocalypticism”، Journal for the Study of the Pseudepigrapha 4 (1989)، 27-47, Albertx، Religionsgeschichte Israels (fn. 11) vol. 2, 636-37 Stephen L. Cook، Prophcy & Apocalypticism: The Postexilic Social Setting، Minneapolis: Fortress Press, 1995.

36- For an overview., see David Hellholm، ed., Apocalypticism in the Mediterranean World and the Near East: Proceedings of International Colloquium on Apocalypticism، Uppsala August، 12-17, 1979 (1983)، 2nd. Ed., Tuebingen: Mohr (Siebeck) 1989.

37 – Bruce Lincoln, “Apocalyptic Temporality and Politics in the Ancient World”، in: The Encyclopedia of Apocalypticism (fn. 31)، vol. 1، 457-75 (p.468).

38- See, for instance, Norman Cohn، The Pursuit of the Millenium London: Secker & Warburg، 1957، Vittorio Lanternari، The Religions of the Oppressed: A Study of Modern Messianic Cults (1960)، tr L. Sergio، London: MacGibbon & Kee، 1963، Wilhelm E. Muhlmann et al., Chiliasmus und Nativismus: Studies zur Psychologie، Soziologie und historischen Kasuistik der Umsturzbewegungen، Berlin: Dietrich Reimer، 1961, pp.335 – 55, 359-71.

39- Davies، “Social World of Apocalyptic Writings"(fn. 35)، 258.

40- See، for instance، Qurpan 52:9-11, 56:4-6, 69:14, 70:8-9، 73:14, 68:20, 81:1-14, 82:1-5, 84:1-5, 89:21-23, 101:1-5.

41- See, e.g., Qurpan 2:213, 3:144, 4:79, 6:42,48، 10:47, 16:36, 21:107,

40:78, 57:25-27, 71:1-28, 73:15, 79:15-26, 87:18-19.

42- On the this worldly punishment of disobedient people of Noah، Yad, Thamud، Abraham Lot Madyan، Pharaoh، and Moses)، See، e.g., Qurpan 5:54, 7:59-186، 9:39, 69-70, 13:34, 17:5-8,16-17, 22:42-45,48, 29:31-40، 30:9, 40:21-22,82-85, 41:13-18, 47:8-11, 50:12- 14,36, 51:32-46,59, 53:50-53, 54:9-42,51, 61:14, 64:5-6, 65:5-9, 67:16-18, 69:4-121, 71:25, 73:16, 79:25-26, 89:6-14, 91:11-14.

43- On the Concept of “covenant"(Mdthaq, Yahad) in the Qurpan، see Gerhard Bowering، “Covenant”، in:Encyclopaedia of the Qurpan (EQ), vol. 1, Leiden: Brill، 2001، 464-67, C.E. Bosworth, art. “MDTHAP"(1991(، in: The Encyclopaedia of Islam. New Edition (E2)، vol. 7، Leiden: Brill, 1993, 187-88.

44- Tim Winter، “The Last Trump Card: Islam and the Super session of Other Faiths”، Studies in Interreligious Dialogue 9 (1999) 2, 133-55 (pp. 145-46) –For the refernce to Freud، see Sigmund Freud, see Sigmund Freud, “Der Mann Moses und die monothestische Religion: Drei Abhandlungen"(1973-39)، Ch. III E، in: idem، Studienausgabe، vol. 9، Frankfurt/m.: Ficher، 1974, 455 – 581 (p. 540) – On the role of Jerusalem in Muslim eschatology see Abdallah al-Khatib, “Jerusalem in the Qurpan”،. British Journal of Middle Eastern Studies 28 (2001) 1, 25-53.

45- Cf. Louis Gardet. art. “Fitna"(1964)، EI2 (fn. 43)، vol. 2, Leiden: Brill / London: Luzac، 1965، 930-31: Amy Ayalon، “From Fitna to thawra“، Studia Islamica 66 (1987)، 145-74 (pp. 149-55).

46- Cf. Gardet، “Fitna” 930، Ayalon، From Fitna to Thawra”، 150.

47- Cf. Reuven Firestone، “Conception of Holy war in Biblical and Qurpanic Tradition”، Journal of Religious Ethics 24 (1996) 1, 99-123 (pp. 114-18)

48- Cf. Hans Zirker، Islam: Theologische und gesellschaftliche Herausforderungen، Dueseldorf: Patmos، 1993, 231. – For a detailed discussion of the Qurpanic jihad verses, the historical contexts of their revelation (asbab al-nuzui)، and the abrogation (naskh) of earlier، more tolerant verses by later، more militant، ones، see Reuven Firestone، Jihad: the origin of Holy War in Islam، New York: Oxford University Press، 1999. Cf. also Yabdul IamDd Almad Abu Sulayman، Towards an Islamic Theroy of International Relations: New Direction for Methodology and Thought (1987)، Herndon، VA: International Institute of Islamic Thought، 1993، 44-45, 89-92, 116-20.

49- Cf. Albrecht Noth, “Der a priori legitime Krieg im Islam: Hauptaspekte des islamischen Rechts zum Thema” Krieg und Frieden”، in: Toten im Krieg، eds. Heinrich van Stitencron and Jorg Ruepke، Freiburg-Muenchen: Alber, 1995, 277-95.

50- For details and exceptions، see، e.g., Majid Khadduri، War and Peace in the Law of Islam، Baltimore: Johns Hopkins University Press، 1955، Abu Sulayman، Islamic Theroy (fn. 48)، Edgard Weber and Georges Reynaud, Croisade d’hier, Djhad d’aujourd’hui، Paris: Cerf, 1989, James Turner Johnson and John Kelsay، eds., Cross, Crescent، and Sword: The Justification and Limitation of Warfare in Western and Islamic Tradition، New York: Greenwood Press, 1990، John Kelsay and Jemes Tuner Johnson، eds., Just War and Jihad: Historical and Theretical Perspectives on War and Peace in Western and Islamic Traditions، New York: Greenwood Press, 1991، Alfred Morabia، Le Eihad dans I’Islamic medieval: Le “combat sacre” des origins au Xlle siecle، Paris: Albin Michel، 1993, Rudoph Peters، Jihad in Classical and Modern Islam: A Reader، Princeton, NJ: Markus Wiener، 1996، Khaled Abou El Fadi، “The Rules of Kiling at 144-57, Sohail H. Hashami، “Saving and Taking Lift in War: Three Modern Muslim Views”، The Muslim World 89 (1999) 2, 158-80.

51-The capital punishment for apostates is not explicitly stipulated in the Qurpan Which emphasizes several times that will be punished in the next world (cf. Samir Khalil Samir، “Ledebat autour du delit d’apostsie dans I’Islam contemporain”، in Faith, Power، and Violence: Muslims and Christians in a plural Society، Past and Present، eds. John J. Donohue, S.J., and Christian W. Troll، S.J, Roma: Pontifico Istituto Orientale، 1998, 115-40 (pp. 121-281). However، With reference to Qurpan 4:89 and several (disputed) ladDths، most medieval Muslim jurists Were inclined to call for the execution of unrepentant apostates (cf. Adel Khoury، Toleranz im Islam، Munchen: Kaiser / Mainz: Grunewad، 1980, 29-30, 110-15, Samir, op. citt, 132-35).

52- Cf. A(rthur) S(tanley) Tritton، The Caliphs and Their Non-Muslims Subjects: A Critical Study of the Covenant of Yumar (1930)، London: Frank Cass، 1970, Antoine Fattal، Le statut legal des non-musulmans en pays d’Islam (1958)، Beirut: Dar el-Machreq، distr. Libairie Orientale، 1995, Claude Cahen، art “Dhimma"(1961)، EI2 (fn. 45)، vol 2, 227-31, Claude Cahen، Halil Enalck, and P. Hardy، art. “Djizya"(1963)، ibid., 559-67، Rudi Paret، “Toleranz und Intoleranz im Islam”، Saeculum 21 (1970)، 344-65, Georges G corm، Contribution a l’etude des societes multi- confessionnelles: Effets socio-juridiques et politiques du pluralisme religieux، Paris: Pichond & Durand-Auzias، 1971, 129-251، Albrecht Noth، “Moglicheiten und Grenzen islamischer Toleranz”، Saeculum 29 (1978)، 190-204 (pp. 196-200)، Khoury، Toleranz im Islam (fn. 51)، C.E. Bosworth, “The Concept of Dhimma in Early Islam” in: Christians and Jews in the Ottoman Empire: The Functioning of a Plural Society، eds. Benjamin Braude and Bernard Lewis, vol. 1, London and New York: Holmes and Meier، 1982, 37-51, M.O.H. Ursinus، art. “Millet"(1991)، EI2 (fn. 43) vol. 7 (1993)، 61-64.

53- See also Qurpan 2:272, 10:99, 198, 29:18,46, 42:48, 50:45, 88:21-22, 109:6. –On the ambivalence of sUrah 2:256, see Rudi Paret، “Sure 2,256: IA ikraha fd d-dDni. Toleranz order Resignation ?” Der Islam 45 (1969)، 299-300.

54- Ignaz Goldziher، “Was ist unter، al-Eahilijja” zu verstehen?”، in idem, Muhammedanische Studien (1889)، vol. 1, Hildesheim: Olms, 1961، 219-28, see also idem، “Muruwwa und Din”، ibid., 1039.

55- Cf.Sebastian Gunther، art. “Bloodshed”، EQ (fn.43)، vol. 1,240-41.

56- Cf. Tarif Khalidi، “The Battle of the Camel: Traume، Reconciliation and Memory”، in Crisis and Memory، eds. Angelika Neuwirth and Andreas Pflitsch، Beirut/Wurzburg: Orient – Institut/Ergon, 2001, 153-63.

57- Cf. Josef van Ess، “Political Ideas in Early Islamic Religious Thought” British Journal of Middle Eastern Studies 28 (2001) 2, 151-64 (pp. 153-56).

58- Cf. Khaled Abou El fadl، “Alkam al-Bughat: lrregular Warfare and the Law of Rebellion in Islam”، in: Cross، Crescent, and Sword (fn. 50)، 149-76, idem، Rebellion and Violence in Islamic Law، Cambridge: Cambridge University Press, 2001.

59- Cf. Fazlur Rahman، Islam، Garden City، NY: Doubleday Anchor، 1966, 98-99, W. Montgomery Watt, Islamic Political Thought: The Basic Concepts، Edinburgh: Edinburgh University Press، 1968, 57-59, idem، The Formative Period of Islamic Thought، Edinburgh: Edinburgh University Press، 1973, ch. 5, see also W. Madelung، art. “Murdjipa"(1992)، EI2 (fn. 43) vol.7 (1993)، 605-07, van Ess, “Political Ideas"(fn. 57)، 154 ff.

60- Cf. Frank Griffel، “Toleration and Exclusion: al-ShAfiYD and al-GhazAID on the Treatment of Apostates”، Bulletin of School of Oriental and African Studies 64 (2001) 3, 339-54.

61- Cf. Cahen، “Dhimma"(fn. 52)، 227-30, Paret, “Toleranz und Intoleranz"(fn. 52) 356-64, Noth, “Moglichkeiten und Grenzen"(Fn. 52)، 201-04. See also: Karl Binswanger, Untersuchungen zum Status der Nichtmuslime im osmanischen Reich des 16. Jahrhunderts، Munchen: Trofenik، 1977, Bat Ye’or, The Dhimmi: Jews and Christians under Islam (1980)، London: Assciated University Presses، 1985, idem، The Decline of Eastern Christianity under Islam: From Jihad to Dhimmitude: Seventh-Twentieth Centuty (1991)، London: Associated University Presses.

62- Emmanuel Sivan، Radical Islam: Medieval Theology and Modern Politics (1985)، New Haven: Yale University Press، 1990, ch. 4.

63- Cf. Griffel، “Toleration and Exclusion"(fn. 60)، 350-53.

64- Cf. Rchard W. Builiet، Conversion to Islam in the Medieval Period: An Essy in Quantitative History، Cambridge، MA، Harvard University Press, 1979، Youssef Courbage and Philippe Fargues. Christians and Jews under.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=6

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك