الجاسوس البريطاني الذي حج ثلاث مرات

عبد الله عمر

 

لن ينتهي عجبك حين تطالع سيرة الحاج عبدالله بن فضل المسلماني، وهو الاسم الجديد لـ”ويليام ريتشارد ويليامسون” الذي عاش حياةً قلّ أن تتكرر، فهي ملأى بالمنعطفات المفاجئة، والتناقضات المدهشة، والتجارب العريضة في زمن قصير.

منذ طفولته المبكرة كان ويليام صبياً عنيداً كثير الحركة ميالاً للمشاغبة والمغامرة، شقي أبواه في محاولة ضبطه دون جدوى، وحين يئس الوالد من صلاح حال الفتى، وبعد مشاورات عائلية، اقتنع الجميع بأن هذا الصبي لن يتغير حاله إلا إذا تغير مكانه وتعرّض لظروف قاسية، ويبدو أن الأب سمع بالتعبير العابر للثقافات الذي يقول: إن من لم يفلح والداه في تربيته سيربيه الزمان!

كان ويليام ضحية قرار أشار به عمّه على والده، بإرساله ضمن سفينة شراعية متجهة صوب الغرب، في رحلة شاقة طويلة، وقد أوصى الأبُ الحازم ربان السفينة بأن يكون شديد القسوة على الصبي، لعل تلك القسوة تجعل منه إنساناً مختلفاً.

ودّع الصبي والديه للمرة الأولى والأخيرة، وركب تلك السفينة الشراعية ليكون ضمن طاقمها، بل ليكون أصغر أعضاء طاقمها، مع ربانٍ فظ غليظ، يكلفه بأشق الأعمال دون رأفة، وليعاقبه بأكثر العقوبات كسراً للإرادة وتبكيتاً للنفس، لكن أين المفر؟ فالسفينة في عرض البحر، لا مهرب منها إلا الموت أو التعرض للمجهول، ولا سبيل بالتالي لهذا الفتى الذي لا يتجاوز الثانية عشرة إلا أن يصبر على ما يلقى على أمل أن تتاح له فرصة الهرب.

كانت السفينةُ تقف بين الحين والحين في بعض الموانئ، للتزود بالمؤونة أو تكميل البضائع وتنزيلها، ولما توقفت السفينة في ميناء سان دييغو، جنوب غرب الولايات المتحدة، هرب الصبي ويليام، ليعيش حياةً عجائبيةً جعلته صاحب سيرة ذاتية حافلة بخبرات يندر أن تجتمع لدى شخص واحد. فخلال السنوات السبع الآتية عمل ويليام في تقليم الأشجار، وترويض الخيول، والتنقيب عن الذهب، قبل أن يطرق سمعَه نبأ مشروع قناة بنما، ذهب الفتى إلى هناك، وأهلته شخصيته القيادية للعمل رغم صغر سنه مشرفاً على العمال، قبل أن يعود للولايات المتحدة مجدداً ويعمل في مزرعة فواكه، وبعد انقضاء موسم الحصاد اتجه للعمل المسرحي، فأسس فرقة مع بعض رفاقه قادته إلى خوض مجال الملاكمة الذي برع فيه على نحو جعله من مشاهير هذه الرياضة في الغرب الأمريكي.

ويبدو أن ويليام من النوع الذي تبحث عنه المغامرة لو لم يبادر هو إلى البحث عنها، فقد اختطف ذات مرةٍ ليجد نفسه عاملاً في سفينة صيدٍ متجهة إلى نهاية العالم من جهة الجنوب، ولم يكن أمامه خيارٌ آخر، فجد واجتهد في عمله اجتهاداً عظيماً، حتى عادت السفينة إلى الولايات المتحدة ونال ويليام حينها مكافأة ماليةً وحريةً ستسلمه بعد قليل إلى لون جديد من المغامرة!

ومرةً أخرى، وكالعادة، تبحث المتاعب عن ويليام، الذي قرر الهجرة إلى جزر كارولينا في جنوب القارة الأمريكية، ولسوء حظه، اشتعلت الثورة قي وسط السكان ضد الاستعمار الإسباني، وارتاب الإسبان في ويليام فاعتقلوه بتهمة بيع السلاح للثوار، وحملوه إلى الفلبين في أقصى شرق الكرة الأرضية ليقضي ما شاء الله له أن يقضي من عمره في أحد سجون مانديلا.

ولا يطيب المقام لويليام وراء القضبان، فيرشي أحد السجانين ويفر من سجنه في الفلبين إلى الهند، ويبدأ فصلاً جديداً من حياته، شرطياً في مومباي التي كانت تابعةً حينذاك للتاج البريطاني، وبعد مدةٍ يجري نقل ويليام إلى عدن، وفي الطريق يقرأ ويليام كتاباً عن الدين الإسلامي، فينجذب إلى هذا الدين الذي يشاهد صلواته تؤدى في السفينة، ويسمع أذانه يُرفع.

تبلغ السفينةُ عدن، ويبلغ ويليام العشرين من عمره، ليعيش مخاضاً مدته عامٌ كامل قبل أن يقرر اعتناق الإسلام، وينطق بالشهادتين أمام قاضي لحج: الفضل بن علي!

هنا بدأ فصل جديد في حياة ويليام، الذي غيّر اسمه إلى “عبدالله بن فضل”، تيمناً باسم القاضي الذي أعلن بين يديه دخوله في الإسلام.

أثار اعتناق ويليام للإسلام مشاعر السلطات البريطانية، فقامت بنقله إلى مومباي وفصلته من عمله في الشرطة، فخاض تجربة جديدة هي العمل في التجارة التي تعرف من خلالها إلى واحد من أعيان الكويت، يدعى الشيخ “يوسف الإبراهيم” الذي قام بتهريبه من الهند إلى العراق في مغامرة تم كشفها من قبل السلطات البريطانية التي وضعته في رحلة العودة على نفس السفينة.. وبطريقة ما، استطاع “عبدالله بن الفضل” أن يهرب من السفينة متنكراً في زي سائس خيل، وعاش في الكويت مدةً من الزمان في رفقة الشيخ يوسف الإبراهيم

لكن المتاعب قررت البحث عنه من جديد، إذ نشب خلاف بين أعيان الكويت فغادر على إثره الشيخ يوسف إلى البصرة، ولحق به “عبدالله بن الفضل”، واشتغل في العراق بتجارة الخيل. كان حينها قد بلغ الرابعة والعشرين من العمر! وصدق من قال إن الحياة ليست تقاس بطول العمر بل بعرض التجربة!

في تلك السنة حج “عبدالله بن الفضل”، وكرر الحج بعد ذلك مرتين، فصار يلقب بالحاج عبدالله.

مر الزمان، وعاد الحاج عبدالله إلى الكويت، ليعمل في تجارة اللؤلؤ وتهريب السلاح، قبل أن تندلع الحرب العالمية الأولى، فيذهب إلى العراق ليعمل لصالح بريطانيا: جاسوساً ضد العثمانيين، ثم موظفاً رفيع المستوى في القطاع النفطي في العراق وإيران والخليج.

وبعد تقاعده عاش “الحاج عبدالله بن الفضل” شيخوخة هادئةً في جنوب العراق، حتى أدركته المنية عام ١٩٥٨ للميلاد.. مسدلاً الستار على حياةٍ ملأى بالمغامرة، حافلة بالمتاعب، زاخرة بالمشاق والمصاعب.

المصدر: https://islamonline.net/23925

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك