كيف نفهم إشكالية الثبات والتغير في مقرر العلوم الاسلامية ومناهجها
أبو يعرب المرزوقي
تمهيد:
قصدنا في هذه المحاولة أن نعالج اشكالية التعليم الاسلامي ومناهجه بأسلوب فلسفة التربية وعلم التدريس وبموقف مستقل عن المحددات العرضية التي تجعل العلاج مجرد رد فعل في الصراع الايديولوجي سواء كان هذا الصراع محليا بين فئات الامة (الاصلاني والعلماني منها على وجه الخصوص)(1) أو دوليا بين الامة وأعدائها (فرض تصورات امريكا على الثقافة الاسلامية)(2) أو جامعا للوجهين كما هي الحال في ظرفنا الراهن بعد أن تبنى الفريق العلماني برامج الاستعمار الامريكاني. وبذلك نعود إلى منبع الاشكالية البنيوي لان كل الأنظمة التربوية تحتاج إلى المراجعة الدائمة والظرفي لان المراجعة تصبح أحيانا أكثر الحاحا عندما يجمد نظام ما لأسباب خاصة بحضارة بعينها فيؤدي إلى عواقب وخيمة عليها كما حصل في عصر انحطاط الحضارة الاسلامية الذي كانت حركتا النهضة والصحوة ردة فعل صحية عليه قبل سقوهما في الحرب الاهلية التي واكبت الحرب الباردة.
لذلك فالحاجة إلى هذا العلاج يقتضيها أمران احدهما عام تشترك فيه كل أنظمة التربية في العمران البشري والثاني خاص بوضعية الثقافة الاسلامية التي لا تزال تراوح مكانها منذ قرنين إن لم تكن قد نكصت إلى حال أشبه بما كان عليه الشأن قبل الشروع في النهضة. فالتعليم بصورة عامة والتعليم الديني بصورة خاصة نبضه مساوق لنبض الحياة الانسانية في كل عمران بشري سوي. لذلك فهو يتبدل ويتحول بتبدل وجوه الحياة وتحولها في كلتا وظيفتيه: النظرية (فهما لهذه الوجوه) والعملية (تحقيقا لعلاجاتها).
فتبدو الاشكالية الأساسية متعلقة بالتمييز بين الثابت والمتغير في أنظمة التعليم أو بين التواصل الضروري للحفاظ على وحدة الامة في الزمان والتفاصل الضروري لتوفير شروط التجديد على الدوام. والتعليم الاسلامي بصورة خاصة يعاني من ثنائية وصراع شبه مرضي بين حديها ثنائية عطلت كلا مقوميه الديني والدنيوي. لذلك فقد بات من الضرورى أن نضيف إلى اشكالية التجديد الدائم لنظام التعليم التي هي اشكالة تعم كل انظمته في العالم اشكالية الفصام المرضي بين مقوميه في الحضارة الاسلامية: تعليم علوم الدين التي تكاد تستحوذ على نظام التعليم الديني فتلغي علوم الدنيا وتعليم علوم الدنيا التي تكاد تستحوذ علة نظام التعليم الدنيوي فتلغي علوم الدين.
ولعل الجمع المتنافر بين نوعي العلوم والمستند إلى مفاضلة قيمية بين النوعين(3) أخطر على أزمة الفكر والتربية الاسلاميين من التعطيل المتبادل بينهما لأن الفصام في هذه الحالية يصبح البنية الذاتية للروح الاسلامية فيصبح المسلم وكأنه ذو شخصيتين تريان العالم والوجود رؤية الاعور المضاعف مرة بيسرى عينية واليمنى لا ترى ومرة بيمناهما واليسرى لا ترى. والمعلوم أن العور المضاعف في تربية الامم اخطر عليها من العمى: لأنه يولد عالمين وهميين فيكون العمران مصابا الفصام المضاعف بمنظور العين اليمنى ثم بمنظور العين اليسرى. وبذلك تكون القضايا التي ينبغي علاجها في هذا البحث ناتجة عن هاتين الصفتين العامة والخاصة وعن تفاعلهما. وبوسعنا أن نحصي هذه القضايا بصورة مستقصية فنردها إلى:
1- مسألتين رئيسيتين متلازمتين احداهما ناتجة عن صفة التعليم الكونية أعني التكيف الدائم الذي يتميز به كل نظام تعليم من حيث هو هو لطبيعة العلاقة بينه وبين حياة العمران (وذلك هو الوجه البنيوي من اشكالية نظام مراجعة التعليم) والثانية ناتجة عن صفة التعليم الخاصة أعني الفصام الدائم الذي اتصف به نظام التعليم الاسلامي الفصام الموروث عن محاولة التوفيق التلفيقي بين السنتين المضاعفتين اليونانية اللاتينية واليهودية المسيحية وعدم التوصل إلى نظام نابع أصيل من نسق قيم الاسلام (وذلك هو الوجه الظرفي من اشكالية مراجعة نظام التعليم).
2- ومسألتين فرعيتين متلازمتين أولاهما هي أثر المسألة الاولى في المسألة الثانية أعني التكيف الفصامي المؤدي إلى الحرب الاهلية لكأن المجتمع أصبح ذا شخصيتين متوازيتين واحدة للعلوم الدينية تتنافى مع العلوم الدنيوية والثانية للعلوم الدنيوية تتنافى مع العلوم الدينية فتدخلان في حرب أهلية دائمة لا تبقي ولا تذر والثانية هي أثر المسألة الثانية في المسألة الاولى أي فشل التكيفين بسبب الفصام الذي يفقد كلا النوعين ما يمكن ان يستمده من الثاني من أسباب الحيوية الحقيقية لأن كلا النوعين من العلوم أصبح تغلب عليه السلبية هدفه الأول والاخير تهديم النوع الثاني لا بناء نفسه.
ويقبل كلا النوعين من المسائل (المسألتين الاصليتين والمسألتين الفرعيتين) الرؤية والتأويل بمنظور تاريخي وبمنظور تصوري متفاعلين في الاتجاهين. لذلك فالعلاج الأجدى يقتضى أن نجمع بينهما من المنظور الذي يوحد بين ضروب العلاج لنتخلص من هذه المسائل فنبدأ بموقف نصدر به البحث هدفه تحرير فكرنا من المقابلة الزائفة بين الثابت والمتحول في الحضارات عامة وفيها من حيث هي أحد الموضوعات الأساسية في أنظمة التعليم خاصة وهو المنظور الذي يحدد الحل المقترح باستخراج نظام التعليم من القرآن ذاته كما نحاول هنا. فتكون مسائل بحثنا بذلك كما نبين في الخطة التالية:
الفصل الاول: تصدير: الموقف المحرر من المقابلة الزائفة بين الثابت والمتحول.
الفصل الثاني: تشخيص أزمة النظام التربوي الاسلامي.
الفصل الثالث: منظور التربية الاسلامية الشامل: نظرية "المعرفة-التربية".
الفصل الأخير: الشجرة القرآنية للتحرر من أزمة المقرر في النظام التربوي الاسلامي.
الفصل الاول
تصدير: الموقف المحرر من المقابلة الزائفة بين الثابت والمتحول
فقدت المقابلة التقليدية بين الثابت والمتحول في الحضارة الاسلامية عامة وفي رسالتها خاصة كل جدوى منهجية لفرط استعمالها من أجل تبرير السعي الدائب لقتل السؤال الفلسفي حول المبادئ والاصول نفسها: كل الاصول التي لا يكون الاحياء ممكنا من دون سؤالها تعتبر من الثوابت. واعتبارها من الثوابت يستثنيها من التحليل الفكري واعادة التأويل الذي يمد الحضارة بالدفق الحي الدائم. وحتى نتجنب هذا الاستثناء القاتل علينا أن نتحرر من هذه المقابلة نفسها فنستبدلها بمقابلة أكثر جدوى منهجية وثراء احيائي. تلك هي الطريق الوحيدة لتدقيق المميزات الجوهرية التي تمتاز بها خصائص وجهي تعاليم الرسالة الاسلامية. فكل ثاتب فيها خاصة وفي الظاهرات العمرانية عامة يمكن ان يعتبر من بعض الوجوه متحولا إلا إذا حصرناه في العين المادية التي أجمعت عليها الامة (كنص القرآن بعد أن اجمعوا على نص المصحف العثماني). لكن ذلك ليس هو قصد أصحاب المقابلة بين الثابت والمتحول بل هم يرفعون بعض الفهوم التي يجمدونها إلى منزلة الثوابت بمجرد أن يصفوها بكونها من القطعيات.
كما أن كل متغير يمكن ان يعتبر من بعض الوجوه ثابتا إلا إذا حصرناه في المضمونات العينية التي ينزل عليها (كأعيان النوازل الفقهية). لكن شكل التنزيل بخلاف مضمونه يمكن من بعض الوجوه أن يعد من ثوابت التشريع بحديه وبالوصل بين الحدين. فحداه هما حكم النص و وصفة النازلة والوصل بينهما يكون بعملية مزدوجة تجمع بين النزول من الأول إلى الثاني بالتأويل (بحث عقلي بدايته استنباط لساني منطقي ستخرج مناط الحكم في الحكم ليطبقه على المحكوم الذي يتصف بذلك الوصف) والصعود من الثاني إلى الأول بالوصف التعريفي أو التكييف الشرعي (بحث عقلي بدايته استقراء حسي وجودي يستخرج مناط الحكم من المحكوم ليخضعه للحكم). والمقابلة التي نقترحها أكثر نجاعة منهجية لانها تميز بين دال الرسالة و مدلول الرسالة بوجهيهما الثابتين والمتغيرين كليهما.
فأما وجها دال الرسالة فليس فيهما ثابت إلا العين المادية: الكتاب والسنة والبعض القليل من اجماعات الامة المعتبرة بصنفيها أي ما تعلق منها بالعين المادية للأصلين الأولين وحدة الكل التي هي قيام الدال الرمزي لقيام الأمة الفعلي بوحدتيه التاريخية والجغرافية. أما معانيهما فهي في صيرورة دائمة وكل اجماع حول بعضها مؤقت ويقبل المراجعة التي لا تتوقف. وهذه الصيروة الدائمة هي جوهر قيام الامة الحي أو إن شئنا هي الذات التاريخية موضوعَ وعي تاريخي ووعياً تاريخيا وكلاهما في سيلان أبدي. ويقبل دال الرسالة التحليل إلى وجهين مؤلفين من العناصر التالية:
الوجه الاول: الدال المضموني أو عين وجود الأمة الرمزي والمادي: 1-متن القرآن 2- ما وقع اجماع على صحته من متن السنة 3- القيام الرمزي لتاريخ التجربة الاسلامية في تحقيق قيم الاسلام (التراث الرمزي الاسلامي) 4- القيام المادي من جغرافية الامة الاسلامية (التراث المادي الاسلامي) 5- الاجماع على هذه الاصول في الفكر عامة وفي الشعائر خاصة (الحضارة الاسلامية).
الوجه الثاني: الدال المنظوري أو عين وعي الامة بوجودها الرمزي والمادي: أو منظور العلاج الذي تحدد خلال تاريخ الاسلام في التعامل مع الوجه الاول. إنهما قطبا المنظور النظري (الكلام والفلسفة) وقطبا المنطور العملي (الفقه والتصوف) ومنطق علاقاتها أو جدلها المحدد لكل أشكال الفكر الاسلامي الذي هو مادة التدريس: 1- "كلام-فلسفة" 2- "فقه-تصوف" 3 "كلام-فقه" 4- "كلام-تصوف" 5- "فلسفة-فقه" 6- "فلسفة-تصوف" 7- "كلام فلسفة-فقه تصوف". وتلك هي العلاقة النظرية بالدال "كلام فلسفة" حيث يكون الدال أمرا يفسر بما بعد له هو ما بعد الطبيعة ثم يستثمر في المعرفة النظرية والتشريع العلمي في مقابل العلاقة العملية بالدال "فقه تصوف" حيث يكون الدال أمرا يفسر بما بعد له هو ما بعد التاريخ ثم يستثمر في المعرفة العملية والتشريع القيمي 8- "كلام فقه-فلسفة تصوف": وتلك هي العلاقة السلطوية بالدال: فالكلام والفقه بيدهما سلطة الظاهر والفلسفة والتصوف بيدهما سلطة الباطن. 9-"كلام فلسفة فقه تصوف" من حيث هي جدل مجرى الفعل الرمزي الشامل لكل أوجه الحياة العمرانية في علاقته بمجرى الفعل التاريخي للعمران الاسلامي 10- وحدة الكل أو فلسفة التاريخ وما بعده أعني مبدأ حيوية نظام التعليم الاسلامي الذي هو في نفس الوقت مبدأ حيوية العمران الاسلامي(4) .
وأما وجها مدلول الرسالة فهما:
الوجه الاول: المدلول المضموني: أو الثمرات المستمدة من الدال المادي
ا-مدونات المذاهب الفقهية وثابتها هو النسبة إلى وجهي الدال أما متغيرها فهو كل ما عدا.
ب- مدونات الطرق الصوفية نفس الملاحظة حول الثبات والتغير.
ج- مدونات المذاهب الكلامية وما يتبعها من علوم كونية وانسانية نفس الملاحظة حول الثبات
والتغير.
د-مدونات المدارس الفلسفية وما يتبعها من علوم كونية وانسانية نفس الملاحظة حول الثبات والتغير مع أضافة العامل الطبيعي أو الخلق مجردا من منظور الدال.
ه- القيام الرمزي للذات عند المسلمين أو مدونات موسوعة المعارف الاسلامية التي تستمد حياتها من الجدل الدائم بين ممثلي المدونات الاربعة السابقة وخصوماتهم حول معاني وجهي الدال ودلالاتها.نفس الملاحظة حول الثبات والتغير.
الوجه الثاني: المدلول المنظوري: المناهج المستمدة من الدال المنظوري
ا- علاج الدال ماديا ببعديه
ب- علاج الدال تحليليا وتأويليا
ج- علاج المدلول ماديا: المقابلة بين حصيلة الافعال والافعال نفسها.
د- علاج المدلول تحليليا وتأويليا: مستويا المنظور في تجربة السنة.
ه- طبيعة الوعي النظري بالذات أو فلسفة الامة التاريخية: ما يوحد قيام الامة الرمزي من حيث هو مطابق لقيامها الفعلي مطابقة مساوقة للحاضر وتفاعلاته التي تؤولها في ضوء معاني الماضي ومثل المستقبل ف وبحسب مقتضياتهما في نفس الوقت الذي تؤلهما بها. وتلك هي حيوية التاريخ الذي يصنعه أصحابه رمزيا وفعليا.
وقد بدأنا هذه التواليف من الابسط الذي هو الحد الادنى وهو التوليف الزوجي إلى الاقصى الذي هو التوليف بين الفنون الاربعة توليفا يكون غير أي منها لان الكل ليس مجرد المجموع بل هو أمر متعال على الجملة لانه عين الوحدة الحية للجدل الشامل الذي أشرنا إليه. لذلك كان هذا الاصل قائما في كل فن منها أربعتها إذا اخذ على حياله فيكون كل منها متضمنا للفنون الثلاثة الاخرى تضمنا يجعله يبرز على أصلها الموحد لها بوصفه أحد المناظير التي ينظر من خلاله للموضوعات الواحدة في ذاتها والمختلفة بنوع ترائيها في هذه الفنون. والتوليف الثنائي هو ادنى التواليف تركيبا أدناها القابل حقا للتمييز الدقيق للتناظر البين بين الزوجين في كل الحالات التي ذكرنا. فمثلا لو اخذنا العلاقة الزوجية بين الكلام والفسلفة فإن المباحث واحدة ولا يختلف المنظور إلا بالقيد المنظوري: فإما أن نذهب إليها من علم الطبائع والمقولات أي من الطبيعة وما بعدها ( الفلسفة) أو من علم الشرائع والآيات أي من التاريخ وما بعده (الكلام). الأول يعتبر الموضوعات أشياء والثاني يعتبرها رموزا لأن الأول ينطلق مما يتصوره وقائع غير مصوغة بالقول والثاني ينطلق من قول وينفي أن تكون الوقائع في ذاتها خارج القول قابلة للادراك مميزا بين قولين احدهما ينسب إليه المنزلة الالهية والثاني يعتبره مجرد تقاليد وسنن بشرية.
لكن لو لم يكن ضمير الكلام الفلسفي أن الطبيعة ذات قوانين لكان البحث الفلسفي عديم المعنى. وكونها ذات قوانين هو عينه المقصود بكونها رموزا أو آيات لأنها تصبح دوال لمدلولات هي القوانين فتقرأ على هذا المعنى ولم تعد ماديات غير رمزية بل أعيان دالة على معاني كلية هي منها عينات متعينة في ما يسمى بالموجود المشار إليه والذي يعد موضوع التجربة الحسية. ومن ثم فالطبيعة لا تعلم إلا بفرضها نصا رموزه الرسمية أو دواله هي موضوعات الادراك الحسي ومدلولاته هي تصوراتها العقلية والقوانين الواصلة بينها. كما أن المتكلم يقرأ النص الديني ليطلب من ورائه ما يفيده ذلك النص فيعود منه إلى حقائق مدلوله ذات وجود موضوعي يتعامل معها تعامل الفيلسوف مع الطبائع وراء الاعيان المشار إليها في المدارك الحسية. فيكون الفرق الوحيد أن المتكلم أكثر وعيا من الفيلسوف بأن علمنا مهما تجرد يبقى رهين معتقداتنا العامة سواء كانت حصيلة التجربة الحسية التي يقدمها الفلاسفة أو حصيلة التجربة الروحية التي يقدمها المتكلم.
وليكن مثالنا الثاني العلاقة بين الفقيه والمتصوف. فالأول يهتم بثمرة النص من حيث هو قانون لسياسة ظاهر السلوك الفردي أو البعد العام منه والثاني يهتم به لسياسة باطن السلوك الفردي أو البعد الخاص منه في علاقة مباشرة بالمشرع علاقة ذات حميمية هي ما يمكن ان يوصف الحال النفسية التي يتميز بها الادراك الصوفي. وهما يشتركان في الطابع التعبدي للعمل الذي يعد النظر أحد أبعاده لان الايمان جزء عملي من النظر. وهنا أيضا نجد أن الفقيه الذي يقدم الحكم بالظاهر تاركا السرائر لله لا يستثنيها في فهمه لأنه يسلم بأن الأعمال بالنيات فيكون تقديم الظاهر لعلة عملية هي تنظيم المعاملات في الحياة العامة حتى يستقيم التعايش والتآنس وخاصة في مجال التنافس على القيم بأصنافها الخمسة (الذوقية والرزقية والنظرية والعملية والوجودية). كما أن المتصوف الذي يقدم الباطن لا يستثنيه لأن غاية المجاهدة هي محاولة اخضاعه للباطن ومن ثم فإن القصد من التقديم هو السعي لجعل استقامة التعايش صادقة وأولها التعايش مع الذات: فمراقبة النفس لذاتها من أهم أغراض الطريقة. يشتركان في غاية واحدة هي تحقيق التوافق بين السنن Die Sittlichkeit والاخلاق Die Moralitaet.
ويمكن أن ننظر في العلاقة بين المؤلف الزوجي من الكلام والفقه والمؤلف الزوجي من الفلسفة والتصوف. ذلك أن ما حصل في التاريخ الفعلي لمنظومات السلطان الرمزي في العمران البشري جعل الكلام والفقه يسيطران على الدولة الحاكمة والفلسفة والتصوف يسيطران على الدولة المعارضة في كلتا الحضارتين الوسيطتين العربية الاسلامية واللاتينية المسيحية. ولا يمكن ان يكون ذلك قد كان كذلك بالصدفة. فالكلام والفقه استتبعا النفعي والمباشر من الفلسفة والتصوف لخدمة السلطان الزماني فأصبحا ممثلين لكل السلطان الروحاني في نظام الحكم المستند إلى الواقعي والمتداني. والفلسفة التصوف استتبعا اللانفعي وغير المباشر في الكلام والفقه لخدمة السلطان الروحاني في نظام المعارضة المستند إلى المثالي والمتعالي. وتلك هي بنية الصراع الحي والمحيي للحياة الفكرية والثقافية للامم في جميع العصور أيا كانت الموضعات العينية التي يدور عليها القول في هذه الفنون.
لكن هذه المقابلة تجعل الزوج الأول أي الكلام والفقه ممثلين لظاهر العقيدة والشريعة في صلتهما بظاهر الطبيعة والتاريخ ويجعل الزوج الثاني أي الفلسفة والتصوف ممثلين لباطن العقيدة والشريعة في صلتهما بباطن الطبيعة والتاريخ أي بما بعدهما فيتكامل الظاهر الذي هو ضروري لعلاج العاجل مع الباطن الذي هو ضروري لعلاج الآجل: وذلكما هما شرطا حياة العقل والتاريخ في كل الامم المبدعة. فكيف نعيد إلى الأمة هذه الحركية الحية والمحيية ذلك هو مطلوب هذا البحث وشرط اصلاح التعليم الاسلامي ؟
ولا يمكن لنا أن نحدد منظور المعرفة الدينية في علاقتها بالمعرفة الفلسفية من دون شرح مفهوم النقلي من المعرفة لنحرر الفكر الاسلامي دينيا كان أو فلسفيا من سخف المقابلة بين مصادر المعرفة عند الاطلاق وبعلل ليس لها علاقة بالعلم ولا بالعمل بل مصدرها الحقيقي هو إعادة تأسيس السلط الوسيطة التي نفاها الاسلام. فلا معنى لنقلي ( هو دائما من جنس المضمون المعرفي سواء كان مستمدا من الادراك الحسي أصل كل معرفة وضعية أو من الادراك الحدسي أصل كل معرفة دينية) من دون صورة عقلية ولا لصورة عقلية من دون مضمون نقلي سواء تكلمنا عن المعرفة الدينية أو عن المعرفة الفلسفية. فنلزد الأمر توضيحا حتى لا يتصور القاريء اننا نعني بالبعد النقلي في المعرفة الانسانية المعرفة الدينية. فالمعرفة الدينية ليست معرفة إلا إذا أضافت إلى المضمون النقلي الصورة العقلية مثلها مثل المعرفة الفلسفية سواء بسواء.
ومن ثم فهي ليست نقلية إلا بالوجه الذي تكون به كل معرفة عامة والمعرفة الفلسفية خاصة نقلية: أي ما تعتبره كلتاهما أمرا معطى أو متلقى وليس للعقل فيه دور لكونه من جنس الواقعات ننفعل بأمر فيها لا يمكن أن يكون من فعلنا سواء كان ذلك حقا أو فرضا. وهو أمر لا بد منه حتى نميز بين فعلنا النظري وموضوع فعلنا النظري سواء تعلق الكلام بالعلوم الدينية او بالعلوم الفلسفية. والفرق بين المعطى أو النقلي الفلسفي والمعطى أو النقلي الديني ليس في القول بوجوده إذ لا بد من مادة في كلتا الحالتين هي موضوع المعرفة بل في طبيعة المصدر المنقول عنه وفي خاصية العموم أو الخصوص التي يتصف بها المعطى المنقول.
وقد مر تصور النقلي في معناه العام الذي نحاول تبيينه بمرحلتين اولاهما دامت إلى ما قبل الدين الخاتم والثانية بدأت بفضل الثورة التي احدثها الدين الخاتم في النقل والعقل على حد سواء. ففي المرحلة الاولى كان المعطى الفلسفي هو ما يستخرجه من مادة المعرفة الحسية عقل بعض المصطفين طبيعيا (نظرية المعادن النفسية عند افلاطون ونظرية الخاصة عند فلاسفتنا ): إنه علاقة بين الادراكات الحسية العامة وملكات عقلية مخصوصة. وكان المعطى الديني هو ما يتلقاه من مادة المعرفة الحدسية حدس بعض المصطفين الاهيا (نظرية الاصطفاء الالهي ): إنه علاقة بين الادراكات الخلقية العامة وملكات حدسية مخصوصة. وبذلك فكلا الادراكين ليس بالأمر الكلي بل هو للمصطفين من البشر طبيعيا كان هذا الاصطفاء (المعادن النفسية في الفلسفة) أو إلاهيا (المصطفين من البشر). ومثلما حاول أصحاب نظرية الاكتساب العقلي نقض النظرية الاولى القائلة بالانتخاب الطبيعي للفلاسفة حاول أصحاب نظرية الاكتساب الصوفي مناقضة النظرية الثانية القائلة بالانتخاب الربوبي للانبياء.
لكن تجاوز النظريتين لم يتحقق إلا بفضل ثورة الوحي الخاتم الذي ينتج عنه ضرورة أن الاجتهاد المعرفي والجهاد العملي أصبحا فرضي عين على كل إنسان من حيث هو إنسان شرطا في أهلية الاستخلاف وإرث الارض. ورغم أن النظرتين المتقدمتين على هذه الثورة الاسلامية لم ينقطع القول بهما فإنهما باتتا أقليتين. ذلك أن التصور الذي أصبح سائدا بعد نظرية ختم النبوة وتحريم السلطة الروحية أو كنيسة الوسطاء بين الله وعبيده هو القول بالفطرة الكلية في المعرفتين الفلسفية والدينية. منذئذ بات الأمر مختلفا تمام الاختلاف.
ولنبدأ بالمعرفة من مدخل وظيفتها الدينية. فما هو المعطى للجميع أو ما هي مادة التأمل أو التفكر الذي يدعو إليه القرآن الكريم بمقتضى الفطرة ؟ إن مادة المعرفة المطلوب تدبرها والتفكر فيها هي التجربة الخلقية والروحية شرعيا والتحربة الطبيعية والمادية كونيا. وكلتاهما مشاعة للجميع ما يغني عن الوسطاء الروحيين أو العقليين إلا إذا اقتصر دورهم على دور الباحثين المختصين والمعلمين كما في كل خبرة أخرى: " ...بل كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب ( تعليم مستند إلى بحث علم في الكتاب ) وبما كنتم تدرسون ( تعليم مستند إلى بحث علمي في الكون )"(5) . وصورة المعرفة المطلوب استعمالها في الحالتين هي ملكات العقل التي تمكن الإنسان من التأمل والتدبر والتحليل والتأويل: وتلك هي وظيفة الحكم الذي أشارت إليه نفس الآية بعد ختم النبوة ( الكتاب والحكم والنبوة). لذلك كان القرآن دعوة للجميع من أجل استعمال مداركهم حتى إن أكبر أمر يعاب على الناس هو عدم الاستفادة من مداركهم والعيش كالأنعام. وحتى يتحقق ذلك بات الأمر مرهونا بمنظومة تربوية مناسبة لظرف المخاطب يتقدم فيها بعد الطريقة والتأويل على بعد المنهج والتحليل ووظيفتها تحقيق شروط الاجتهاد والجهاد: ولنسم ذلك بالطريقة أو الشرعة عملا بنص الاية 48 من المائدة.
ولننظر الآن في المعرفة من مدخل وظيفتها الفلسفية. فما هو المعطى للجميع بمقتضى الفطرة ؟ إن المعطى من حيث المادة هو التجربة الحسية والمادية التي هي مشاعة للجميع. لذلك بات الفكر الفلسفي دعوة للجميع لاستعمال مداركهم لمعرفة ما يحيط بهم من موجودات. ومن حيث الصورة المعطى هو ملكات العقل التي تمكنه من التأمل والتدبر والتأويل والتحليل. وحتى يتحقق ذلك بات الامر مرهونا بمنظومة تربوية مناسبة لظرف المخاطب يتقدم فيها بعد المنهج والتحليل على بعد الطريقة والتأويل بنفس المعنى. ومن ثم فإن صورة المعرفة واحدة في الحالتين والفرق الوحيد هو تقديم الطريقة والتأويل على المنهج والتحليل أو العكس بسبب تقديم المعطى التاريخي وما بعده على المعطى الطبيعي وما بعده أو العكس.
وبذلك فلا يكون المضمون مختلفا إلا اذا عتبرنا الفكر الديني مقصورا على أحد قسمي التجربة البشرية والفكر الفلسفي على القسم الآخر. لكن إذا فكر الفيلسوف في ما يفكر فيه الديني وفكر الديني في ما يفكر فيه الفيلسوف أصبح المضمون المضاعف موجودا عندهما بالتساوي ولم يبق الفرق إلا في التقديم والتأخير ومن ثم في المنظور المقدم للطريقة والعلم العملي على المنهج والعلم النظري أو العكس. الفيلسوف ينطلق من التجربة الحسية والمادية ويصعد إلى التجربة الخلقية والروحية. والديني يعكس فينطلق من التجربة الخلقية والروحية لينزل إلى التجربة الحسية والمادية.
ويبدو أن عصري الفكر البشري الأخيرين ميالان إلى هذا الخيار الثاني لذلك فهما قد ألحقا الفلسفة بالدين في تقديم العمل على النظر والتاريخ وما بعده على الطبيعة وما بعدها. فيبدو الفكر الديني قد أصبح الطابع السائد على كل الفكر البشري من حيث المضمون والمنظور العملي والفكر الفلسفي هو السائد من حيث الصورة والمنظور النظري. وذلك هو الأمر الذي أصبح واحدا معبرا عن وحدة الفطرة بعد ختم الوحي: التأمل والتدبر لاستخراج القوانين علميا والعبر خلقيا بكلا الترتيبين الاجتهادي في النظر وذلك هو التواصي بالحق والجهادي في العمل وذلك هو التواصي بالصبر. والتواصيان هما شرطا الاستثناء من الخسر.
الفصل الثاني
تشخيص أزمة النظام التربوي الاسلامي
كيف نفهم اشكالية التعليم الاسلامي التاريخية وما أدى إليه من حرب أهلية بين المتكلمين باسم العلوم الدينية والمتكلمين باسم العلوم الفلسفية بعلل زائفة ما أتى الله بها من سلطان ؟ لم أصبحت العلوم الدينية وكأنها مادة نقلية بغير صورة عقلية (مناهجها ونظرياتها وعلوم الادوات فيها) وأصبحت العلوم الفلسفية وكأنها صورة عقلية بغير مادة نقلية (موضوعاتها ومعطياتها التجربية والحسية)؟ ولم أدى ذلك إلى الحيلولة دون وجود نظام التعليم الذي يجمع جمعا حيا ومحييا بين موسوعة العلوم الدينية وموسوعة العلوم الفلسفية إلى أن انحطت الامة انحطاطا يكاد المرء ييأس من زواله ؟ وكيف حصل العلاج بعد الصحوة والنهضة بالجمع المتنافر بين نظامين متوازيين وكأنهما لا يشتركان في شيء في حين أن حياة الموسوعتين تستمد من الأصل الواحد لكل معرفة بشرية: ما به يمكن للعقل البشري أن يدرك بوجدانه المؤول وفرقانه المحلل قوانين الوجود سواء كان طبيعيا أو تاريخيا أو مابعد طبيعي أو مابعد تاريخي.
لا أحد ينكر الدور الثوري الذي أدته نخب الصحوة في التصدي للاستعمار وقيادة حرب التحرير بالاستناد إلى العقيدة الإسلامية كما يرمز إلى ذلك ثورة الأمير عبد القادر ودور الزيتونة والأزهر وكل الحركات الدينية في السودان وليبيا والسعودية والشام وختما بحركات التحرير المقاتلة حاليا في الوطن العربي اساسا (فلسطين والعراق) وفي كل دار الإسلام عامة من الشيشان إلى الفيليبين. ولا يمكن للمرء إلا أن يعبر عن العرفان لهذه النخب التي من دونها كانت الحضارة العربية الإسلامية ستمحى من التاريخ كما محيت عدة حضارات أمام الغزو الغربي. لكن هذا الدور صحبه أمر مخاطره على مستقبل الإسلام والحضارة العربية الإسلامية يصعب تقديرها. فهو قد كاد يحصر الثقافة الدينية وفكرها في ثقافة التصدي والتحرير من الغزاة الخارجيين لما نتج عنه من اهمال لأبعاد الدين المتعالية ولحصره إياه في العبادات الخارجية التي تكاد تقضي على روحانية الاسلام الثرية بالتجارب التي تجلي أعماق النفس البشرية وعلاقبتها بأسرار الوجود.
ولم تكن هذه الظاهرة بنت دور التصدي للعدو الخارجي فحسب بل هي رد فعل على ما اتصفت به حركات التحديث وفكرها من فجاجة وغلو حصرا التحديث والفكر الفلسفي في محاولات تهديم الثقافة الدينية والفكر الديني تمهيدا للبديل العلماني السطحي الذي لفرط وهائه يحتاج إلى ضمانة العسكر في كل البلاد التي جربته. لذلك فعلاقة الفكر الديني والفكر الفلسفي تبدو قد تحددت في نهضتنا الحالية بنفس الصفات التي تحددت بها في نهضتنا الوسيطة. فهي علاقة غير سوية بين الفرقان والوجدان آلت إلى الحرب الأهلية الدائمة الناتجة عن العداء بين المتكلمين باسميهما للدفاع عن الدور والسلطة دون أن يكون لذلك صلة بالدين ولا بالفلسفة ولا حتى بالفكر عامة. فكلاهما لم يبق منه إلا الايديولوجيا وعقلية الحرب الدينية. ناهيك أن الفكر العلماني نفسه أصبح دينيا بهذا المعنى غير السوي للفرق الدينية المتناحره وهو صار كذلك بالسلب لأنه جعل المعركة النهضوية كلها مقصورة على حربه على الدين بدل السعي إلى فهم الأبعاد المشتركة بين وجدان الدين وفرقان الفلسفة. كما كان الفكر الأصلاني أصبح فلسفيا وإن بالسلب إذ هو قد جعل المعركة الصحووية منحصرة كلها في حربه على الفكر الفلسفي بدل السعي إلى فهم أبعاده الدينية.
شروط الختم والكونية
لكن رسالة الإسلام لا يمكن أن تكون رسالة خاتمة ولا رسالة كونية إذا اقتصر دورها على تأسيس سلطان رجال الدين لتحريك العاطفة الدينية في التجييش الدفاعي والتسييس الانتفاعي إلى درجة تحول الآخرة إلى مطية للدنيا بدل العكس. والفلسفة لا يمكن أن تكون فكرا إذا اقتصر دورها على الدين السلبي المتمثل في محاربة الثقافة الدينية بدل البحث عن الحقيقة بحثا يكون فيه منطلق العاطفة الدينية معين المضمون المتعالي لكل فكر يتصل بالجوهري من مقومات الوجود الإنساني ومنطلق العقل الفلسفي معين الشكل المتعالي لكل فكر له بها نفس الصلة. والواقع أن الحصر في الحالتين الدينية والفلسفية ليس هو في الحقيقة إلا تسليما ضمنيا بالموقف الماركسي من الدين والفلسفة: اعتبارهما مجرد إيديولوجيا. فسواء عندي استعمل الدين والفلسفة للتحرير أو للتخدير تبقى الصحوة نكوصا بالدين والنهضة نكوصا بالفلسفة إلى هذا التصور التوظيفي الذي كانت سورة آل عمران كلها دحضا نسقيا له.
فالصحوة مثلها مثل النهضة تكاد تصبح صحوة مغشوشة: 1- في مستواها النظري, 2- وفي مستواها العملي, 3- وفي حصيلة المستويين على الذوق, 4- وفي حصيلتهما على الرزق, 5- ثم في المستوى الجامع الذي أصبح معين الفساد الذي بدأ يتسرب إلى دلالة العلاقة الجديدة التي حددتها الثورة الإسلامية بين الدين ممثلا لما هو ما بعد تاريخي من الوجود الإنساني والسياسة ممثلة لما هو تاريخي منه.
وما أسميه صحوة مغشوشة قياسا على النهضة المغشوشة هو حصر الفكر الديني في تأسيس سلطان رجال الدين وتوظيفه في التحريك الجمهوري لأغراض تجعل الآخرة أو المتعالي من الوجود الإنساني مطية للدنيا أو المتداني منه. وتلك هي النظرة الباطنية التي جعلت الغزالي يؤلف فضائح الباطنية. ثم توظيفه في اضفاء القدسية على هذا السلطان الوهمي بحصر حياة المؤمن كلها في ممارسات لا يمكن القيام بها من دون فتواهم: وتلك هي النظرة الظاهرية التي جعلت الغزالي يؤلف احياء علوم الدين أو ما سنصطلح على تسميته كما هو حقا فضائح الظاهرية. فقد انجر عن التأسيس والتوظيف في المجالات الخمسة فقر روحي يكاد يلغي كل حياة في المجالات الخمسة التي أشرنا إليها:
1- مجال النظر: لا وجود لعلم عند رجال الدين الحاليين رغم كثرة ترديدهم لهذا الوصف تزكية لأنفسهم. كل ما عندهم لا يتجاوز تاريخ لفظي للعلم الذي ابدعه علماؤنا القدامى ومن ثم فهو محفوظات لبعض المتون وأبيات من الشعر الجاهلي والملح والنماذج التاريخية مع اسلوب الخطب الوعضية بصفاته الممجوجة. لذلك فإنه يمكن لأي انسان أن يصبح عالما بهدا المعنى بعد سنة أو سنتين على أقصى تقدير مهما كان بليدا.
2- مجال العمل: لا وجود لعمل روحي حقيقي بل مجرد شكليات ظاهرية لا تتجاوز الزي والهيأة الخارجية وترديد بعض التعاويذ التي يشعر المرء بفقدانها للجذوة الحية لمجرد نبسهم بها. وبالمناسبة فإن الإسلام ليس له قسس ولا رجال دين. والزي لم يكن في الأصل زيا دينيا بل كان لباسا مخصوصا للمعلمين ودالا على رتب جامعية. فلم أصبح لباسا لمن صار يسمى رجال دين؟ كل مسلم ومسلمة يحق له-لها أن "ي(ت) ؤم" الصلاة التي هي الركن الركين في الإسلام(6) . والاختصاص في العلوم الدينية مجرد وظيفة علمية وتعليمية وليست وظيفة أو منزلة دينية بل هي ليست دالة حتى على رتبة في التدين.
والخلط بين الجوهري من الثورة الإسلامية وهذه الشكليات هو الذي كان علة أزمة الغزالي الروحية وسبب خروجه من هذه الأزمة بعلاج مضاعف لداء الفكر الفلسفي المغشوش في التهافت ولداء الفكر الديني المغشوش في الإحياء. وهذا الكتاب أولى به أن يسمى فضائح الظاهرية نظير فضائح الباطنية. فكلا نوعي الفضائح يقبل الانطباق على من صار يسمى رجال الدين رغم احترامنا لبعض الأفاضل منهم لأنهم حصروا الدين في فنيات التسييس الباطنية وفنيات التديين الظاهرية. وكلاهما منافيان لجوهر الثورة الإسلامية لأنهما مشروطان في السر أو في العلن بنفي الروحانية وبالنظرة الفولترية للدين: مجرد حيل للسلطان على العامة.
3- مجال الذوق: كل الفنون الجميلة صارت خارج دائرة الثقافة الدينية بل وتعد شرا ينبغي التوبة منه والاعتزال حتى إن أحد المفكرين استدل في حوار معه نشرته الشرق الأوسط على اهتزاز فكر طه حسين بما قاله لما رأى راقصة في الأوبرا ظنا منه أن رأي طه حسين مناف لحضارتنا. وطبعا فهو يمكن أن ينافيها إذا حصرناها في تصور طالبان لها. والمعلوم أن الفكر الديني عامة والفكر الإسلامي خاصة يوجد اليوم أمام خيار لا محيد عنه: فإما أن يغير موقفه من الفنون الجميلة ليضفي عليها ما هي أهل له من قدسية أو أن يغادر ركح الحياة الروحية للشعوب التي تتعين روحانياتها في التعابير الفنية قبل اي تعين آخر ليصبح مجرد مرحلة بدائية من مراحل التعبير الروحاني. وإنه لمن العجائب أن يصبح الدين الذي أعاد للحياة كل معانيها بدءا بتبرئة الجنس واللذة والنصيب من الدنيا إلى حد الجمع بين حب الصلاة وحب النساء عند الرسول الكريم إنه لمن الغرائب أن يصبح الجمال عامة والجمال الأنثوي خاصة من العوارت!
4- مجال الرزق: لم تعد النظريات الاقتصادية الاسلامية تدور إلا حول تخرصات بعض الدجالين حول البنوك الإسلامية والحيل الفقيهة التي تتصور تغيير الأسماء كافيا لتغيير المسميات كما يفعل رجل الدين المسيحي الذي يريد أن يأكل اللحم يوم الجمعة فيسميه سمكا ما دام هو الذي يسمى تماما كما يحق لمن صار يسمى عندنا رجل دين أن يسمى ما يشاء كما يشاء ليحدد مناط الحكم ويؤسس قياسه الفاسد الذي يطلق سلطانه بآلية سد الذرائع.
5- مجال القيم الوجودية: فهذه القيم لا بد منها في الفكر من حيث هو فكر سواء كان دينيا أو فلسفيا أعني طبيعة العلاقة بين المحايث والمتعالي من الوجود الإنساني. بات التصور الخاطئ لثورة الإسلام الذي لم يفصل بين الديني والسياسي حصرا للاول في الثاني بحيل نيل السلطان وفنياته وحصرا للثاني في الأول بحيل فرضه على العامة التي تقاد كالأنعام وفنياته باضفاء القدسية عليه. فعدم الفصل يعني أن السياسي وسيلة لتحقيق القيم محكوم استعمالها بقيم الدين دون أن تتحول إلى دين. وفي كل الأحوال فهو لا يعني العكس بحيث يصبح الدين وسيلة السياسة كما أصبح إيجابا عند الأصلانيين لحصرهم الدين في خدمة السياسة وسلبا عند العلمانيين لجعلهم السياسة حربا على الدين.
وفي الجملة فإن فكرنا الديني رغم الشروع في الصحوة منذ أكثر من قرنين (مثله مثل فكرنا الفلسفي رغم حصول النهضة في نفس التاريخ ) لم يضف شيئا يذكر للتجربة الروحية الإسلامية خاصة والإنسانية عامة في هذه المجالات كما تبين هذه الورقة باقتضاب في المجالين الأولين لما يقتضيه المقام ولأن الخطب كله هما مصدراه.
المستوى النظري
هل كان الزاد المعرفي الوسيط في مجالي العقائد والشرائع وفي مناهج دراستها يصبح علما مطلقا لا يمكن تجاوزه حتى إن أعلم علمائنا الدينيين اليوم هو بمقادير لا تقدر دون المتوسطين من علمائنا في العصور الوسطى لو كان علماؤنا الحاليين علماء بحق لا يقتصر علمهم على حفظ ما وضعه القدامى الذين أصبح ما توصلوا إليه حقائق نهائية؟ لماذا يجيبك الواحد من رجال الدين الحاليين كلما ناقشت معه شيئا بأن هذا من القطعيات ؟
وحتى نشفي الغليل سنحاول في هذه الورقة فقع الدمل لئلا يبقى فكر الصحوة في الأضغاث نتصوره منتصرا في المعارك العرضية في حين أننا نزج به في معارك جانبية تجلعه بصدد خسران الحرب الجوهرية التي هي تحقيق شروط الصحوة الحضارية الإسلامية تحقيقا يجعل فكرنا قادرا من جديد على الإبداع في كل المجالات التي ذكرنا. من دون ذلك ستبقى ثقافتنا ثقافة مبتورة: كيف نقول إن الإسلام هو دين الفطرة والدين الذي لا يقابل بين الدنيا والدين ثم ننفي كل مقومات الوجود الفطري والدنيوي لأن بعض العجائز ممن يسمى علماء الدين باتوا يتصورون أبعاد الحياة السوية من المنكرات؟ لأجل ذلك سنفحص الأمور التي طرأت في المجالين الأولين مجالي النظر والعمل فأفسدتهما بعد أن كانا واعدين في العصور الأولى من حضارتنا. وقد نعود فنفحص المجالات الثلاثة الأخرى علما وأننا نظرنا فيها جميعا في غير موضع. فالمعلوم أن العلوم الدينية الإسلامية التقليدية تعود كلها إلى نوعين كلاهما مضاعف:
النوع الأول: علوم الشجرة ( الأصل المادي للرسالة ونرمز إليه بالشجرة لأن كل ما عداه يتفرع عنه بوصفه ثمرة من ثمراته ):
1- علوم القيام المادي لدوال الرسالة: علوم تحقيق نص القرآن وعلوم تحقيق نص الحديث وعلوم أحداث نزول الأول وعلوم أحداث وقوع الثاني وعلم وحدة ذلك كله في تاريخ اللحظة الرسولية ببعديها السالب ( نقد التجارب السابقة كما في القصص القرآني ) والموجب ( تحقيق التجربة الخالية مما نقده البعد السالب أعني من التحريف بمعنييه ومن الجاهلية بمعنييها كما حددتهما سورة آل عمران التي درستهما نسقيا):
2- وعلوم أدوات تحقيق القيام المادي: علوم اللسان وعلم الأدب والأدب المقارن وعلم التاريخ والتاريخ المقارن.
النوع الثاني: علوم الثمرة (علوم فهم النصين ثم علوم تنظيم الحياة الدنيوية والأخروية من منطلقهما):
1- علوم القيام الرمزي لمدلولات الرسالة: العقيدة عقائد (مؤلفات العقائد) وتأسيسا (أصول الدين أو علم الكلام) والشريعة أحكاما (الفقه) وتأسيسا (أصول الفقه) والتفسير (فهم القرآن للعلم والتعبد) والتصوف (التجربة الروحية).
2- علوم أدوات استثمار القيام الرمزي لمدلولات الرسالة وهي فرعان: الفرع الأول يتعلق باستثمار الشجرة من حيث إن المدلولات ظاهرة تتعين في الأقوال ( علوم اللسان من المستوى الثاني أعني العلوم التي ابتدعها العرب لجعل التأويل والتفسير علمين لا يتخرص أصحابهما تحكميا على الله ورسوله أما المستوى الأول من علوم اللسان فهي التي تسهم في تحقيق النص وضبطه). كما أن المدلولات ظاهرة تتعين في الأفعال (علم التاريخ الذي يتعلق بالمدلولات من حيث هي أحداث تاريخية وصلاتها بعضها بالبعض مثل النسخ الذي يقتضي العلم بالتوالي وأسباب النزول التي تقتضي العلم الدقيق بالوجه السببي من الحدث وليس بالحدث نفسه ) ومن حيث هي ظاهرة تتعلق بالوقائع التاريخية الاجتماعية (علوم الإنسان) والطبيعية (علوم الطبيعة) عامة وبالتجربة الروحية في علاقتها بهما خاصة (دلالات الظاهرات الإنسانية والكونية في فهم صلة الله بربه ).
وليكن مثالنا علم التفسير. فكيف تم بناؤه المتدرج من حيث البعدين الاستثماريين؟ لم يكتف علماؤنا القدامى برفض الدخيل من علوم الفلسفة بل جعلوا من الرفض مناسبة لإبداع الحلول العلمية التي أثرت الدخيل وتجاوزته لكون مناهج التأويل الفلسفي لم تصل إلى ما وصلت إليه محاولات علمائنا إلا في القرون المتأخرة سواء في العلوم الأدوات كما في محاولات الباحثين في النقد الأدبي والاعجاز أو في العلوم الغايات كما في قراءة النصوص بمحدداتها التاريخية الخارجية وبمحدداتها البنيوية الداخلية لسانية أسلوبية كانت أو دلالية مرجعية بالقياس إلى المتلكم والمخاطب أو بالقياس إلى موضوع الخطاب وأحوال الخطاب.
لكن الأهم من ذلك كله هو الدور الذي أداه الجدل الفلسفي في الثورة التأويلية التي حققتها علوم القرآن. فنقد التحليل الفلسفي الذي تتأسست عليه ما بعد الطبيعة أو الإلهيات الفلسفية جعل الغزالي يضع نظرية جديدة في التحليل لا تسلم بصورة غفلة بالتطابق بين العلية الطبيعية والعلية المنطقية. وذلك هو النجاح الأول الذي حققه الغزالي في تهافت الفلاسة حيث لا يعني نفي الضرورة السببية في الطبيعة نفي الانتظام القانوني ومن ثم معرفتها العلمية النسبية (وكل علمي نسبي وليس فيه قطعيات) بمجرى العادات أو القوانين الاحصائية. كما أن نقد التأويل الفلسفي الذي يتأسس عليه ما بعد التاريخ أو السياسيات الفلسفية أدى إلى نظرية جديدة في التأويل لا تسلم بالتطابق بين العلم الخيالي ( ونموذجه استعمال الأساطير الفيثاغورية عند الباطنيين) والخيال العلمي (كل فرض علمي قابل للتحقق منه إيجابا أوسلبا ).
فليس كل تأويل مقبولا بل لا بد فيه من شروط تحددها علوم الدال ( علوم الرمز ماديا ومنطقيا ) وعلوم المدلول ( علوم الرمز اسلوبيا وبلاغيا ) ثم علم مرجع الدال ( الدراسة التداولية ) وعلم مرجع المدلول ( الدراسة الدلالية ) لنختم بعلم وحدة هذه العلوم أو علم التأويل الدي كانت معركه معياره كما وضعه الغزالي وصاغة الرازي منطلق نظرية ابن تيمية في تجاوز الفصام بين النقلي والعقلي من ثقافتنا بمعيار التطابق بين صحيح المنقول وصريح المعقول بين معايير النقد التاريخي والنقد المنطقي. وذلك هو النجاح الثاني الذي حققه الغزالي في كتاب فضائح الباطنية حيث لا يعني نفي التأويل الباطني نفي علم التأويل بمجرى العادات الترميزية أو القوانين اللسانية الاحصائية. هذا فضلا عن كون الغزالي قد قدم في هذا العلم المحاولة الصريحة الأولى لحل مشكل المشاكل في الفلسفة السياسية الإسلامية لكونه كان مصدر الحرب الأهلية الإسلامية: التلازم بين مبدأ الاختيار ومبدأ استثناء السياسي من العقيدة في نظرية الخلافة السنية والتلازم بين مبدأ الوصية ودخول الإمامة في العقيدة عند الشيعية.
وقد ظل هذا الفهم ملازما لعلم الكلام السني إلى أن صاغه ابن خلدون صياغة نسقية في المقدمة: مبدأ الحكم ديموقراطي في الواجب رغم كونه ألغارشي في الواقع وهو علماني بالمعنى السوي للكلمة ( المعنى السوي للكلمة هو المعنى الذي يجعل الحكم ليس جزءا من عقيدة بعينها وليس مقصورا على شريعة بعينها بل هو حكم بينها بتحقيق شروط ممارستها كما هو الشأن في أول دستور وضعه الرسول الكريم نفسه في المدينة ) لعلتين:
1- فهو ليس جزءا من العقائد من حيث السلطة التنفيذية حتى وإن كان شرعيا من حيث السلطة التشريعية ( على الأقل من حيث روح القانون وأخلاقه والقوانين العامة للاجراءات )
2- وهو مطالب بمقتضى الشرع الإسلامي نفسه بتطبيق عدة شرائع ما يعني أنه محايد رغم نسبته إلى أحدها نسبة يعتبرها هذا الشرع أحد أهم مقوماته ( شرائع كل الممل التي اعترف بها القرآن الكريم وخاصة شرائع أهل الذمة من اليهود والنصارى والصابئة ثم شرائع كل الأمم التي يكون للمسلمين معهم معاهدات عندما يوجد البعض من أهلها في دار الإسلام ).
وما كان ذلك ليحصل لو لم يتلازم مع ابداع علوم أدوات النوعين العلوم التي وضعت وضعا علميا متخلصا من التوظيف الإيديولوجي ومخلصا منه. فلو لم يكن المسلمون قد وضعوا علوم اللسان بدرجتيها ( علوم الدال وعلوم المدلول ) وشروط تحقيق النصوص ونقدها دون مقابلة سخيفة بين الادبي والمقدس بحجة كون هذا إلهي وذاك انساني ( لأن شروط التواصل واحدة وإلا لما كان للخطاب معنى ) ومناهج استثمارها تحليلا وتأويلا لما أمكن لمثل هذين الحلين الفلسفيين ان يتحققا. فبعد تحقيق نص القرآن والسنة وضبطهما ماديا أصبح بالوسع استثمارهما في الحياة العملية ( الشريعة وأصوله ) والنظرية ( العقيدة وأصولها ).
سنكتفي هنا بمثال التفسير. فمحاولات التفسير الأولى متوجهة إلى النص نفسه حتى تضيف إلى تحقيقه المادي الذي جعله واحدا ماديا ( جمع المصحف واعجامه وضبط قراءاته ) تحقيقه المعنوي لجعله وحدا معنويا ( محاولة ادراك نسقه وفهم التناقضات الظاهرية في النص). كان لا بد من فهم التناقض الظاهري بين الآيات والقراءات فكان أهم الكتابات يدور حول الحلول الأسلوبية والمنطقية والتاريخية لفهم التناقضات الظاهرية ( مثل المجاز في القرآن أو غريب القرآن الخ..). ولما بدأ التفسير الشامل المستند إلى تحقيق الوحدتين المادية والمعنوية لنص القرآن كان أول المناهج ايسرها أعني منهج التفسير بالأثر والاسرائليات ( الطبري مثلا) تم نقد ذلك لجعل التفسير بالاثر يعتمد على الاثر المنقود وهو ما يفيد بأن أول خطى النقد العلمي للخبر بدأ منذ تلك اللحظة ( ابن عطية والقرطبي مثلا).
ثم ولاه التفسير بعلوم اللغة بعد ان اكتملت نظرية النقد الادبي والاعجاز (الرمجشري مثلا ) تلاه نقد التوظيف العقدي لهذا المنهج وبيان دور عقائد المفسر في التفسير وهو ما يمكن أن يعد أول مراحل النقد الايديولوجي ( شرف الدين الطيبي مثلا ). ثم تلا ذلك التفسير الفلسفي الذي لم يكن شاملا ولا عاما لكنه ينقسم إلى ضربين التفسير الفلسفي الباطني (بعض محاولات اخوان الصفاء ) والتفسير الفلسفي المشائي ( بعض محاولات ابن سينا). وتلا ذلك نقد التفسير الفلسفي لبيان الفرق بين علم الكلام العقلي والميتافيزيقا لكون الأول يحتاج إلى علم الكلام التاريخي مادة لاستعمال العقل إي إن له مضمونا معينا أو معطى عليه أن يتعامل معه تعامل العلوم التجريبية مع المعطى الحسي وليس هو مجرد فرضيات كما هو شأن الألهيات الفلسفية ( الغزالي مثلا ). ثم تلا ذلك التفسير الصوفي (ابن عربي مثلا) ثم تلاه نقد التفسير الصوفي والفلسفي واللساني والأثري (ابن تيمية خاصة ).
لكن النقد الشامل لكل هذه الضروب من التفسير بضرب من النقد البنيوي لم يكن مصدره الفكر الديني وحده بل وكذلك الفكر الفلسفي. فما حاوله ابن رشد في ردوده الفلسفية على تأويلات المتكلمين نجد له نظيرا أتم وأشمل في ما حاوله ابن تيمية في ردوده على المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة مع صياغة صريحة لضرورة أن يكون التفسير نسقيا وبنيويا وخاضعا لنقده لمعيار التأويل من خلال وضع معيار مطابقة صحيح المنقول لصريح المعقول. فالنقد التيمي البنيوي وبهذا المعيار الجديد يمكن أن يفهم سلبا (النقد بالمعاني الخمسة التي أشرنا إليها) وإيجابا (استثمار النص). فهو يريد أن يفسر القرآن بنظام القرآن نفسه وبكل العلوم التي يكون موضوعها القرآن من حيث هو نص ( التفسير البنيوي الداخلي ) ومن حيث هو حدث في تاريخ الدين الإسلامي ( التفسير البنيوي الخارجي ) بحيث تكون كل الآيات ما في ضوئه تفسر كل آية وكل الأحداث ما في ضوئه يفسر الحدث القرآني. وهنا اكتمل البحث العلمي ولم يخط خطوة واحدة بعد ذلك. وكل الذين يزعمون تطبيق المناهج الحديثة لم يصلوا بعد إلى هذا المستوى لا من حيث الجرأة على دراسة النصوص المقدسة ولا من حيث المنهج العلمي. فأغلبهم أجهل من العامة بالحدث القرآني فضلا عن جهلهم بأساليب البيان الفرقاني.
أما الجهل بالمناهج الحديثة فأكبر علاماته الكلام عنها وكأنها قرآن منزل لا يقبل المراجعة في ضوء تطبيقه. يتصورون الكلام عن المناهج الحديثة كافيا لجعل كلامهم حديثا دون علم. إيديولوجا الحداثة قدامة وليست حداثة. علماؤنا السابقون وضعوا العلوم الأدوات بصنفيها لدراسة النص والحدث القرآنيين. وأدعياء العلم الحاليين لم يضعوا علما بل لم يستوعبوا حتى العلم الموجود بل اكتفوا بالحديث عنه والوعد بتطبيقه مفترضين أنه يشترط عدم الإيمان بالهية النص والحدث. لم يفهم صعفاء العقل أن المسيحي عندما يقول إن النص المقدس إنساني لا يتناقض. فالإنسان الذي ينسب إليه النص المقدس هو إما ابن الرب مباشرة ( المسيح ) أو من تلبس به روح المسيح من الناطقين باسمه.
لكن ضعفاء العقل من أدعياء العلم يزعمون القرآن بشريا بالمعنى العادي من البشرية, إي إن محمدا عندهم مجرد أديب ألف نصا بحيث إنهم من حيث لا يشعرون يفترضون تطبيق المنهج الحديث على ما عدى النص المقدس المسيحي بحاجة إلى تصديق التكذيب المسيحي بنبوة محمد: لا يمكن أن يتكلم الله على لسان من ليس هو ابنه ولا ناطقا بلسان ابنه. وقد صادف أن جادلني أحد كبار رجال الدين المسيحي من المصريين الذين لهم رتبة كبيرة في القاهرة في استحالة أن يكون القرآن كلام الله بل هو كلام محمد دون أن ينفي أن المعاني يمكن أن تكون إلهية بحجة أن الله لا يمكن أن يتجاوز دوره مستوى المعاني. فسألته: هل تتصور الله أبا لفكرة المسيح لا للمسيح الكائن الحي ؟ وهل توقف عمل الله في خلق العالم على مثل الأشياء العقلية دون أعيانها المادية ؟ فبهت الرجل.
لا يمكن للصحوة أن تبدع ما لم تعتبر عمل علمائنا القدامي اجتهادا انسانيا يحتاج إلى المراجعة الدائمة والتجاوز المحيي في مستويي العلوم الغايات والعلوم الادوات. فمن دون هذه المراجعة المحيية يصبح العلم مجرد تاريخ لوثائق ميتة. والأليم أنه لا أحد ممن يدعي العلم في الدين من رجال الصحوة وضع اليوم شيئا يثمر هذين المستويين ويحييها. فأقصى ما توصلوا إليه سطحيات حول ما يسمى بالتفسير الموضوعي لا يكاد يساوي الفهم العامي الذي يستحي منه أي دارس للمناهج التقليدية فضلا عن المناهج الحديثة. تفرغ أدعياء العلم في الدين من الصحويين للحركيات وتركوا العلم لأعداء الإسلام وخاصة لأعدائه الداخليين لأن العدو الجاهل أخطر من العدو العالم . فهم يوظفون الأدوات الحديثة توظيفا مشوها. والصديق الجاهل أخطر من نوعي الأعداء اللذين ذكرنا. ذلك أن أدعياء العلم في الدين من الصحويين تصوورا الأدوات المنهجية هي كما ما يزعمها عليه موظفوها من أنصاف العلماء سواء كانوا من الأعداء الأجانب أو العرب فكان موقفهم منها موقف الرافض دون فهم. فهل لنا من غزالي يقنع رجال الدين بأن الرد على الأعداء يقتضي التفوق عليهم في العلم المردود عليهم فيه؟
لست أفهم العلة التي تجعل أنصاف العلماء يستنتجون من تطبيق المناهج الحديثة عامة ومنهج الهرمينوطيقا خاصة على القرآن الكريم ضرورة الاعتقاد بأن القرآن من تأليف بشري؟ يكفي أن نسلم بما يعرف القرآن به نفسه: بيان للعالمين. فإذا كان استعمال علوم اللسان لفهم القرآن لا يعني أنه نص أدبي فحسب فإن استعمال الهرمينوطيقا يمكن أن يكون له نفس الدلالة لأن الاعتقاد في قدسية القرآن وعدم الاعتقاد لا علاقة له بهذا العمل. الاعتقاد في القدسية ليس مقدمة ولا نتيجة لاستعمال المنهج العلمي: إذا كان القرآن خطابا موجها للإنسان فإنه لا يمكن أن يفهم إلا بما تفهم به خطابات الإنسان حتى عندما يكون المرسل إلها وإلا فإن الرسالة تصبح عديمة المعنى.
كل علماء الإسلام بحثوا مسألة الاعجاز بفنيات العلوم اللسانية والأدبية دون أن يعني ذلك أنهم لا يؤمنون بقدسية القرآن. بل بالعكس: هم استعملوا هذه الفنون ليثبتوا بها ما به يتجاوز القرآن الكريم كل ما يمكن أن يكون أدبيا فحسب. ونفس الأمر يمكن الوصول إليه بفنون التأويل الحديثة إذا كان الإنسان مؤمنا حقا. أما إذا لم يكن مؤمنا فإن نهيه عن هذه الفنون لن يجعله مؤمنا. لذلك قال الغزالي رضى الله عنه في احدى مقدمات التهافت ما معناه: لا شيء يفرح أعداء الإسلام أكثر من نفي العلم باسم الدفاع عنه.
المستوى العملي
والسبب في هذا العقم النظري ليس خارجيا بل هو ذاتي لما أصاب هذه العلوم من بتر مباشرة بعد وضعها فقتلها. ذلك أن سوء فهم العلاقة بين الأدوات والغايات وسوء تقدير ضرورة التلازم بين ضربي الأدوات وضربي الغايات وبين الأدوات والغايات آلا بالثقافة العربية الإسلامية إلى الجمود والموت. فمجرد حصرالعلوم التي أشرنا إليها في الوظيفة التي لها في العلوم الدينية الغايات وحصر الغايات في الغايات الدينية بالمعنى الضيق (اي ما ينتسب إلى الشريعية انتسابا مباشرا) جعلا هذه العلوم غير مطلوبة لذاتها. وكونها غير مطلوبة لذاتها يجعل مستعلميها يتصورونها قد تمت لمجرد إيفائها بغرض المستثمرين للنص استثمارا عقديا (العقائد وأصولها) أو استثمارا شرعيا (الفقه وأصوله). لذلك فإن كل أمراض الحضارة الإسلامية مصدرها هذا الموقف المرضي الذي لا يعتبر علم الحقيقة مطلوبا لذاته بل يعتبره مجرد أداة لغرض عملي مباشر هو استثمار النصوص ليس فقط في المشروع من الاستثمارات أعني ما هي لأجله بالطبع (الاستثمار الفقهي والاستثمار العقدي والاستثمار الخلقي) بل في الاستثمارات غير المشروعة وخاصة في النوعين اللذين أنهيا دور الحضارة العربية الكوني باسم الحفاظ على خصوصيتها.
فالاستثمار الفقهي بات استثمارا لتأسيس سلطان الفقهاء الذين باتوا سلطة تشريعية وروحية.
والاستثمار العقدي بات استثمارا لتأسيس سلطان المتكلمين الذين أصبحوا سلطة فكرية وروحية.
لذلك فإن كل علماء الصحوة لا يخرجون عن هذين الصنفين. والأدهى أن البتر القاتل لم يتوقف على العلوم الأدوات لوضع العلوم الشرعية بل هو قضى كذلك على العلوم الموضوعات التي لا معنى لطلب أحكامها الشرعية من دون علم قوانينها الطبيعية. فالتشريع الرزقي مثلا تشريع للمعاملات الاقتصادية ولعلاقة الإنسان بالطبيعة من حيث هي مورد كل رزق. لكن الفقهاء أغنونا عن علوم الطبيعة وعن علوم الاقتصاد لتصورهم علم أحكام الأفعال يغني عن علم طبائعها علمها الذي صار في عرفهم طلب ما لا ينفع في الدنيا ولا في الدين. وبذلك صارت المدرسة الإسلامية لا تخرج إلا الفقهاء والمتكلمين الذين يتكلمون في ما لايعلمون لأن العلم منعدم ( علوم الطبيعة وعلوم الإنسان ) ويشرعون لما لا يفقهون.
أما ما يسمونه فقه الواقع هو فقه الواقع العامي أعني مبتذلات الممارسة السياسية التي تبقي على سلطانهم بالحفاظ على شعرة معاوية مع السلط الحاكمة. إنه ليس فقه قوانين الواقع الطبيعي والتاريخي اللذين لا يمكن للمرء أن يتصور نفسه عالما بهما بمجرد قراءة بعض الملخصات العامية. وكلتا السطلتين الفقهية والكلامية سلطتها سلطة اغتصاب ليس فقط في المجالات التي ليس لها حق التشريع فيها بل وحتى في مجالات اختصاصها لأن علمها زائف كما أسلفنا إذ هو يخلط بين تاريخ المعارف التي تنتسب إلى اختصاصهم والعلم الحي الذي هو فعل المعارف التي يتألف منها ذلك الاختصاص خلال التاريخ البشري.
ولعل أفضل الأمثلة ما نجده عند بعض الدحالين الذين يخوضون في اعجاز القرآن العلمي. لا أحد منهم سأل نفسه مرة واحدة: لماذا لا يكتشف لنا الاعجاز إلا بعديا أي بعد أن يكون أحد العلماء الغربيين قد اكتشف حقيقة علمية ثم هو يأتي بتأويل يرجحه على أنه مقصود الآية مقصودها الذي لم يره قبل حصول الاكتشاف؟ كيف يدعي ان القرآن سبق إليها: بأي معنى ؟ بمعناه الذي في اللوح المحفوظ؟ لكن أليس هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله؟ إذا صح دعواهم فلم لا يستخرجون هذه المعجزات قبل علماء الغرب فيمكنونا من التقدم عليهم ويصبحون هم المتعلمين علينا مع فضل الاستغناء عن البحث العلمي وتكاليفه الباهضة وتكوين الجامعات ومعاهد البحوث ما دام هؤلاء الدجالون يكفوننا هذه المؤونة! يكفي سخفا وتلاعبا بعقول المسلمين. دعوا الشباب يفرغ للبحث العلمي الجدي الذي دعا إليه القرآن عندما وجهنا إلى آيات الله الكونية والشرعية ولم يقل إننا قادرون على اكتشافها من النصوص التي وظيفتها الهداية والتربية الخلقية التي تحض على النظر والعمل ولا تقدم نفسها بديلا منهما. يكفي مواصلة للكلام الفارغ الذي جعل النهضة والصحوة مغشوشتين للحفاظ على سلطانين غير شرعيين.
ولنأت الآن إلى عدم الشرعية المطلقة لأنها في خارج اختصاص علماء الدين. فالمعلوم أن عالم الفقه الإسلامي أو فقه إي دين يمكن أن يكون أي انسان قرر الاختصاص فيه وفرغ له المدة الكافية لاستيعاب مسائله ومناهجه ومسارب بحثه ومطالبه. وذلك لا يشترط في هذا المختص أن يكون مسلما أو تابعا للدين الذي ينتسب إليه الفقه الذي اختص فيه. فكم من مستشرق يهودي أو مسيحي أو بوذي يعلم الفقه الإسلامي علما يفوق فيه كل المتشدقين بالتفاقه. ولكن هل يحق له من حيث هو عالم بالفقه أن يكون عضوا في سلطة تشريعية للمسلمين؟ والأمر لا يختلف بالنسبة إلى عالم الفقه المسلم. فكونه عالما بالفقه لا يخوله حق التشريع فضلا عن حق الاستفراد بالتشريع بحيل أفسدت الدين والحياة حيل تعود كلها إلى نوعين لا ثالث لهما:
1- سد الذرائع للتضييق على المحكومين أو بتر السلوك الإنساني السوي بالأقيسة غير السوية لتمكين الفقيه من سحب علمه المبتور على ما لا يعلم أصلا لمجرد وجوه شبه سطحيه يسميها مناط الحكم ويعلل بها قياسه. وتلك هي علة ثورة ابن حزم على القياس والقول بالظاهر. وكل الردود عليه قاصرة لأنها تفترض أنه يلغي امكانية التشريع لما ليس وارد فيه نص ظاهر. إنما هو يضعه في خانة المباح ويتركه للتشريع الوضعي الدي يحترم روح الشريعة وأخلاق الحق والعدل. وليست نظرية المقاصد إلا تتمة لهذا الموقف: ذلك أن مجال المباح سيكون مادة لتشريع بشري وضعي بقيم وأخلاق وروح غير وضعية هي قيم الإسلام وأخلاقة وروحه وتلك هي المقاصد.
2- وفتح الذرائع للتوسيع على الحكام (وهم من المنتفعين بفضلهم) أو تسليط الطاغوت على المؤمنين بتضخيم السلوك غير السوي بنفس الأقيسة غير السوية. وتلك هي علة ثورة ابن تيمية على كل المذاهب التي تحولت إلى سلط تشريعية بديلة من القرآن والسنة بدعوى تعميم احدى قراءتهما المبتورة.
ومن ثم يمكن القول إن هذا السلطان سلطان أمر واقع وليس سلطانا شرعيا بل هو سلطان مغتصب ولا فرق بينه وبين سلطان الأمراء والمرتزقة الذين استحوذوا على السلطة التنفيذية بحد السيف. وقد اعتبر ابن تيمية سلطان العلماء والفقهاء البديل من القرآن والسنة واجتهاد الأمة اجتهادا يكون فرض عين من نفس جنس سلطان الحكام الظالمين بحيث تكون الدولة الإسلامية قد نكصت إلى الثنائي التقليدي: فرعون وهامان. لذلك فلا عجب أن تجد الحلف بينهم معقودا في أغلب الأحيان صراحة أو ضمنا. والأدهى أن ذلك لا يصح على فقهاء الشرع وحدهم. فمن سميناهم بفقهاء الوضع لهم نفس السلوك: الفرق الوحيد هو أن الأولين تابعون للصحوة أو للإسلام التقليدي والثانين تابعون للنهضة وللتحديث القليدي كما أسلفنا.
إن المشرع في كل نظام دينيا كان أو مدنيا ليس الفقيه الشرعي أو الفقيه الوضعي من حيث هو عالم بالفقه شرعيا كان أو وضعيا بل هو الشخص الذي اختارته الأمة بآليات ينبغي تحديدها لكي يكون له حق التشريع باسمها إلى حين. الفقهاء بنوعيهم لا يتجاوز دورهم دور الاستشارة الفنية تماما كما يحصل بالنسبة إلى أساتذة القانون الذين يشيرون على المشرعين في مجالس النواب في كل بقاع الدنيا. كذلك كان سلوك الخلفاء الراشدين. فقد كانت شرعية التشريع لهم بمقتضى كونهم خلفاء إما بالبيعة أو بالتعيين. وهم يستمدون حق التشريع من هذا الأمر وليس من العلم بالفقه. ويستشيرون كل من عرف عنه فقه في مجال ما عند الحاجة إليه. لست أدري كيف انتقل دور الفقيه من السلطة القضائية تطبيقا للقانون أو اجتهادا في نظرياته إلى السلطة التشريعية وضعا للقانون وفرضا للخضوع إليه ؟
وطبعا فالعلم بالفقه من حيث هو اختصاص مشروط في التشريع. لكن مشروطيته تنتسب إلى الاستشارة لا إلى التقرير كما هو الشأن في كل ممارسة انسانية صارت اختصاصا له أهله الذين يستشارون دون أن يكون لهم حق التقرير أعني اختيار احدى الامكانات التي تصل إليها الروية وهي دائما متعددة وتلك هي علة الحاجة إلى السلطة الشرعية للقيام بهذا الدور.
ونفس ما قلناه عن الفقهاء نقوله عن المتكلمين. كيف يحق للمتكلم أن يصبح سلطانا روحيا في دين ينفي هذا السلطان ويجعل السلطان الروحي الوحيد بيد الإنسان من حيث هو شخص معين لكونه بهذه الصفة استخلفه الله؟ العلم بالعقائد من حيث هو علم بها تاريخ عقائد. وبمجرد أن يصبح تحديدا معياريا لما ينبغي أن يعتقد أو لا يعتقد ينتقل الكلام من علم العقائد إلى عملها. ولا يحق لأي إنسان بعد الرسول الكريم أن يعمل العقائد إذ حتى الرسول نفسه فإنه كان مبلغا للعقائد ولم يكن شارعا لها. فكيف صار كل مذهب يفرض عقيدة ويعتبرها عقيدة الفرقة الناجية الوحيدة؟ أليس ذلك هو مصدر كل الحروب الدينية بين المسلمين بل وبين البشر كلهم؟ لكن الأخطر هو أن علم الكلام بهذا المعنى تحول إلى علم الدفاع عن عقيدة وليس علم البحث عن الحقيقة الدينية.
ولما كانت فنيات الدفاع محصورة وتعود في الأغلب إلى نوعين ( العنف الرمزي بالجدل والعنف المادي بالسيف) بات من الواضح أن الفكر الديني سينقلب بالضرورة إلى مجرد تابع لفنيات توطيد السلطان السياسي بالارهاب الفكري والمادي. من هنا ضرورة تعريف مفهوم الاجتهاد و الجهاد كما كان ينبغي أن يفهما لئلا يتحول تاريخ الاسلام إلى ما آل إليه من ضعف ومهانة.
فالاجتهاد ليس مقصورا على فن استخراج الاحكام من النص بل هو استعمال الحكم الذي يرد ذكره دائما مع الكتاب في تعريف النبوة من اجل علاج عقلي مجرد لما يعترض الامة من قضايا نظرية وعملية على النحو التالي: 1- الاجتهاد الأصغر (والعلم بأحكام الدين في العبادات والمعاملات) 2- الاجتهاد الاكبر (أو العلم بكيفيات مجاهدة النفس للتخلق بالاخلاق القرآنية: المعنى السوي للتصوف النظري) 3- الاجتهاد الصغير أو ما يجعل علم احكام الدين تكون علم علم بمجالات انطباقها (علوم الكون) 4- الاجتهاد الكبير أو ما يجعل علم احكام الدين يكون على علم بالمكلفين بها (علوم الانسان). 5- وآخر معاني الاجتهاد أصلها الواحد أو علم شروط الحرية العقلية المبدعة لان العقل هو شرط التكليف وأداء الامانة على علم.
والجهاد ليس مقصورا على فن القتال بحسب أحكام الجهاد بل هو استعمال عزم الامور الذي يمدح به المؤمن من أجل علاج خلقي حقيقي لما يعترض الامة من معارك نظرية وعلمية على النحو التالي: 1- الجهاد الاصغر أو القتال في سبيل الله ولا يكون إلا عند الضرورة لرد الاذى في حالتي منع الحرية الدينية أو الفساد في الارض 2- الجهاد الاكبر (تطبيق العلم بأحكام مجاهدة النفس: أو المعنى الحقيقي للتصوف العملي) 3- تطبيق علوم الكون لتحقيق شروط ارث الارض أو الاستخلاف التقنية 4- تطبيق علوم الانسان لتحقيق شروط ارث الارض أو الاستخلاف الخلقية 5- أصلها جميعا أو عزم الامور أو الارادة التي هي شرط تحقيق التكليف أو الايمان الصادق.
والجمع بين هذه الابعاد الخمسة المضاعفة هو عين الاستثناء من الخسر: فالخمسة الاولى هي عين التواصي بالحق أو هي ثمراته والخمسة الثانية هي عين التواصي بالصبر أو هي ثمراته.
الفصل الثالث
منظور التربية الاسلامية الشامل: نظرية المعرفة-التربية
يمكن أن نحلل المنظور التربوي الاسلامي فنبين أنه يجمع بين بعدي العملية التربوية أعني نظرية المعرفة ونظرية التربية في آن. فنظرية "المعرفة-التربية" القرآنية شاملة وتقبل الدراسة من حيث هي فن قائم الذات على مرحلتين: أولاهما تدرس مقومات نظرية المعرفة الشاملة والثانية تحدد دلالة التطابق بينها وبين نظرية التربية الشاملة:
فأولاهما ندرس فيها هذه النظرية من خلال مفهومين يستعملان عادة بمعنى الترادف وهما مختلفان تمام الاختلاف: الطريقة والمنهج في فعل الإنسان وانفعاله خلال التعلقات الانسانية الخمسة بالوجود عامة التعلقات التي هي عين أصناف القيم الخمسة وموضوع التنافس بين البشر ومن ثم فهي لحمة العمران وسداه. ونعين دلالاتها الفلسفية من خلال تحليل سريع للمآزق التي آل إليها الحل النقدي الكنطي.
والثانية نبين فيها التطابق بين نظرية المعرفة الشاملة ونظرية التربية الشاملة في القرآن الكريم وعلاقة ذلك بما في النص من خصائص حددت المواصفات التي ينبغي أن تتحقق في منهج فهمه وقراءته. وهي عينها أدوات التعليم عامة والتعليم الاسمى او التعليم الديني خاصة.
وبذلك يتبين أن اكتشاف كل مناهج القراءة والفهم الضرورية للعلوم الدينية المناهج التي تقبل الجمع تحت اسم واحد هو الهرمينوطيقا عامة بمعانيها اللسانية والتاريخية (شكلا) والفلسفية والدينية (مضمونا) في الفكر الديني عامة وفي التعليم الديني خاصة لم يكن مجرد صدفة بل هو ضرورة لا تخلو منها تجربة تاريخية بشرية سواء كان نص دينها منزلا أو طبيعيا لصلته الحتمية بالآداب والتاريخ جمعا لأصناف القيم الخمسة إما لذاتها أو لتعلقه بأحكامها الدينية والخلقية: الذوقية والرزقية والنظرية والعملية والوجودية.
المرحلة الأولى مقومات نظرية المعرفة وعلاقتها بالطريقة والمنهج:
فالطريقة هي المميز الاساسي للصلة بين فعل المعرفة وفاعلها (الطريقة) والمنهج هو المميز الاساسي بين فعل المعرفة وموضوعها (المنهج) في كل ضروب التعلق القيمي بين الانسان من حيث هو مستخلف وأي موجود من الموجودات من حيث هي مجال ممارسة الاستخلاف: طريقة التعلق الذوقي ومنهجه فعلا وانفعالا وطريقة التعلق الرزقي ومنهجه فعلا وانفعالا وطريقة التعلق النظري ومنهجه فعلا وانفعالا وطريقة التعلق العملي ومنهجه فعلا وانفعالا وطريقة التعلق الوجودي ومنهجه فعلا وانفعالا من منظور الوعي بهذه التعلقات التي هي بدورها موجودات يتألف منها مفهوم الاستخلاف عندما تكون الطريقة والمنهج في الفعل والانفعال جاريين بحسب الاحكام الشرعية وهما مصدر مفهوم الطاغوت في حالة جريانهما بغير هذه الأحكام ناهيك عن جريانهما بالتعارض معها.
لكن القرآن الكريم استعمل مصطلحين شبيهين بمصطلحي الطريقة و المنهج هما مصطلح الشرعة و المنهاج (المائدة 48) لوصف العلاقة بين الدين الكلي في تعاليه وتعينات فعل تحقيقه في التاريخ الفعلي بفضل التنافس المشار إليه في نفس الآية. ما المقصود؟ فلنحاول فهم الفرق بين الطريقة والمنهج أو بين الشرعة والمنهاج من خلال التمييز بين علاقة فعل المعرفة بفاعله وعلاقته بمفعوله. فعلاقته بفاعله يمكن تسميتها الطريقة التي يفعل بها الفاعل فعله: وغالبا ما تكون صفات هذه العلاقة من جنس خلق التعامل. وعلاقته بمفعوله يمكن تسمتيها المنهج الذي يحقق انفعال الموضوع بالفعل: وغالبا ما تكون صفات هذه العلاقة من جنس النجاعة التقنية.
فيتبين من ذلك أن الطريقة أقرب إلى أخلاق الفعل ليكون على أحسن وجوهه قيميا وأن المنهج أقرب إلى تقنيات الفعل ليكون على أحسن وجوهه تقنيا. فيكون معيار المنهج الحذق التقني ومعيار الطريقة السمو الخلقي. ومعنى ذلك أن الإنسان يمكن أن يحقق فعلا بحذق تقني مقتصرا على النجاعة التقنية مع المواد أو مع البشر فيكون ذا حذق تقني وقد يكون مع ذلك فظا وغليظا. فإذا أضفت إليه الطريقة في فعل العلم التقني كان ذلك سياسة الفعل وليس تقنية الفعل فيكون سمحا ولطيفا. ومن الأمثلة على ذلك ما يقوله القرآن للنبي في طريقة سياسته الجماعة: "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك". فهذا وصف للطريقة. أما منهج التربية مثلا أو تقنياتها فهي واحدة في كل التجارب إذا كانت فعلا تربية: إذ هي حذق المادة المعلمة وحذق فنيات التبليغ التقنية.
لكن كيفية استعمال التقنيات التربوية هي الطريقة التي تحقق المطلوب أو تحول دون تحقيقه. وأول قواعد الطريقة جعل المربى هو نفسه مشاركا في فعل تربيته بالتزام ذاتي كما يبين ذلك ابن خلدون في كلامه عن اخطار التربية التعسفية. وإذا كان سقراط قد طبق ذلك في التكوين المعرفي فإن الرسل تتجاوز ذلك إلى ما هو أعم قصدت التربية التي هي تكوين شامل وبصورة أدق فإن الاسلام قد جعل التربية تحقيقا لكل أبعاد الانسانية ومقوماتها نقلا إياها من الفطرة الغفلة إلى الفطرة الواعية بنفسها في مجالات القيم الخمس: الذوق (تربية ذوقية) والرزق (تربية اقتصادية) والنظر (تربية معرفية) والعمل (تربية سياسية) والوجود (تربية وجدانية روحية).
وكل من قرأ القرآن الكريم بتمعن يعلم أن كل الآيات المسددة لخطى النبي في السياسة والتربية تتضمن الكلام على الطريقة خاصة لان المنهج يمكن ان يعد من شؤون الدنيا وهو كما أسلفنا شبه متفق عليه بسبب استناده إلى علوم وضعيه بالأساس تتعلق بتقنيات التبليغ وأولها تمكن المعلم من الاختصاص الذي يبلغ مضمونه للمتعلم. لكن الصعب هو التعامل مع المخاطب بالبلاغ. ففضلا عن الاية التي قدمنا يمكن ذكر الايات التي تشير إلى الاقتصار على التذكير والاقناع دون التشهير والفرض من أمثال العبارات: لست عليهم بمسيطر أو أفأنت تكره إلخ... وكلها تتعلق بالطريقة. لكن الطريقة التي تعتبر بديلا من تربية الرسول المسددة بالتوجيهات الالهية هي الطريقة التي وصفت في القرآن بمفهومين هما: مفهوم التواصي بالحق في الاجتهاد ومفهوم التواصي بالصبر في الجهاد. لذلك اعتبرهما الله مرادفين للايمان والعمل الصالح وشارطين للاستثناء من الخسر.
فالتواصي بالحق يجعل الحق حصيلة عمل مشترك بين طلابه فيصبح أصل الاخوة المتعالية على العرق وعلى كل أسباب التمييز بين البشر. والتواصي بالصبر يجعل العمل به خاضعا لنفس المعيار وبنفس التعالي. فلا بد أن يكون العمل مشتركا بين القائمين به حتى يكون عملا حقا. لذلك اعتبرنا هذين المفهومين مصدر المؤسسات البديل من المؤسسات الوصية التي نفاها القرآن لكونها مصدر الطاغوت. فلا وجود لكنيسة روحية (النخب الدينية) ولا لكنيسة عقلية (النخب العلمانية) بل مؤسسة التواصي بالحق ومؤسسة التواصي بالصبر هما اللتان تشرفان على الاجتهاد منهجا للنظر بطريقة التواصي بالحق والجهاد منهجا للعمل بطريقة التواصي بالصبر. الاجتهاد منهج يطوع الموضوع النظري بشرط أن يكون بطريقة التواصي بالحق والجهاد منهج يطوع الموضوع العملي بشرط ان يكون بطريقة التواصي بالصبر(8) .
وحتى نتمكن من إيضاح هذه المسألة العويصة سنصوغها بلغة الفلسفة المعاصرة وسننطلق من الوظيفة التي ينسبها البعض إلى نقد كنط الثالث(9) : نقد ملكة الحكم. فالموضوع الثالث الذي تصوره البعض جسرا يصل بين العلمين النظري والعملي لنا فيه رأي مختلف تماما عن الرأي السائد قد يستعصي على الكثير فهمه. ونصدر في رأينا عن هذا التصور الاسلامي العميق لنظرية المعرفة الشاملة التي هي عين منزلة الانسان المستخلف في العالم. لذلك فسنحاول شرح هذا الرأي بأقصى ما يمكن من الوضوح عملا بالإحكام الشكلي الذي هو عين البيان الذي يتصوره ذوي الفكر النعسان منزلة دون العرفان فضلا عن البرهان!
إن موضوع نقد ملكة الحكم فاقد للوحدة التي تبدو موجودة في موضوعي النقدين الآخرين. فهو يجمع بين موضوعين مختلفين تمام الاختلاف. والابقاء على النقد الثالث منفصلا عن النقدين الاول والثاني يفيد أنهما هما بدورهما فاقدان للوحدة بالنقص الذي ألغى ما بدا لصاحبهما فيهما من فضل على فعلهما. فالقسم المتعلق بالجميل والجليل من نقد ملكة الحكم غير لأنه تابع للنظر كما سنرى. وكان من المفروض أن يتبع نقد العقل الخالص. والقسم المتعلق بالغائي العضوي والغائي الكوني من نقد ملكة الحكم غير لانه تابع للعمل كما سنرى كذلك. وكان من المفروض أن يتبع نقد العقل العلمي. فيتبين عندئذ أن كلا النقدين متداخلان بغير التقابل الكنطي بل بروابط لا تنفصم هي منطلقنا إلى ما ورائهما من مقوم موحد هو عينه الأصل الذي تناسبه نظرية"المعرفة-التربية" من المنظور القرآني: الوحدة بين الوجدان والفرقان في كل مدارك الانسان.
وهبنا اقتصرنا على الفهم الكنطي لملكات الفكر الانساني. فيمكن أولا أن نعتبر القسم الاول من موضوع نقد ملكة الحكم البعد الانفعالي من النظر الذي لم يدرس منه كنط في نقد العقل الخالص إلا البعد الفاعل الذي ينسب إليه الفاعلية في النظر. فكلا البعدين من مفاعيل ملكة الحكم فاعلة بصورة الادراك في نقد العقل الخالص ومنفعلة بمادته في نقد ملكة الحكم. فالحكم في النظر فاعل وهو الذي يصوغ المادة: وهو ما يعنيه كنط بالتعالي أو قبلية التصوير العقلي لمادة الحدس شرطا للتجربة ولموضوعها وللخاصيتين الضامنتين لموضوعيتها ( الكلية والضرورة).
لكنه في ادراك الجميل والجليل منفعل إذ يبدو دور الصوغ المؤثر في ملكة الحكم ناتجا عن المادة نفسها (وهي مضمون الخيال المبدع ) والفكر يتلقاها أو هو ينفعل بها. ومثلما يبلغ فعل العقل حدود الوظيفة التحديدية فيضطر إلى الوظيفة التوجيهية حيث تتجاوز قدرته التصويرية المادة التجريبية من تصوير فتتولد المثل في نقد العقل الخالص فكذلك يبلغ الانفعال أقصاه في ادراك الجليل حيث تبلغ قدرة المادة اللاتصويرية ما يحتمله فعل ملكة الحكم: فيكون التجازو الميتافيزيقي في فعل النظر الذي يدرسه نقد العقل الخالص مناظرا للجليل الذي يدرسه نقد ملكة الحكم في انفعاله بحيث يكون ما لايقبل التصوير من المادة عين الجليل مثلما كان ما لا يقبل التمديد من الصورة عين المثال !
ويمكن ثانيا أن نعتبر الحكم الغائي في نقد ملكة الحكم ممثلا للبعد الانفعالي من فعل العقل العملي الفاعل في نقد العقل العملي. ذلك أنه يوجد نفس التناسب بين بعديهما التناسب الذي وجدناه بين بعدي النظر وبعدي الحكم الجمالي والجلالي. فالغائية العضوية من نقد ملكة الحكم تناسب الاخلاق من نقد العقل العملي والغائية الكونية من الأول تناسب الدين من الثاني: فتكون الميتافيزيقا العملية(10) في فعل العمل من نقد العقل العملي مناظرة للدين في انفعاله من نقد ملكة الحكم !
لكن التحليل العميق في بداية تخلصه من تصور كنط لملكات الفكر يبين أنه ينبغي أن نعكس التوصيف في كل هذه الحالات. ذلك أن بداية النفاذ إلى حقيقة الامر في العمق هي ما نصفه هاهنا. فالعقل ليس فاعلا في نقد العقل الخالص إلا وهما لأن كل تصوير يفترضه العقل في فعل التصوير المشرع للطبيعة لا بد أن يعيد فيه النظر بلا توقف ولا غاية. ومن ثم فما ظنه كنط فعلا ليس فعلا في الموضوع بل انفعال به لكون فعل التصوير العقلي يفعل في ذاته أكثر مما يفعل في المادة وذلك بتغيير فعل التصوير إلى ما لانهاية: وتلك هي علة تطور المعرفة العلمية المتواصل. إنه في الغاية منفعل بالمؤثرات التي تفرض عليه تغيير ذاته لكون تاريخ النظر هو التخلي المتوالي إلى غير غاية عن كل أفعال العقل السابقة من أجل فعل فرضي للتلاؤم مع فعل المادة المعرفية التي يشبه تأثيرها التطويع المستمر لما يسدله عليها العقل من شبكات نظرية:ليس هو خائط مسبق يفرض مقاسا على لابس مخيطاته إن صح التعبير بل هو خائط على القياس اللابس هو المحدد فيه للمقاييس.
وبالمقابل فإن العقل في القسم الاول من نقد ملكة الحكم ليس منفعلا إلا وهما لان التصوير الذي يتحقق في الاثر الفني تصوير خالد فلا يحتاج العقل إلى تغييره بل إن الحياة الانسانية كلها هي التي تتغير بمقتضى تذوقها لذلك الاثر. فيكون العقل في هذه الحالة هو الفاعل والمادة هي المنفعلة. وبذلك تم العكس في قضية العلاقة بين الامرين النظري وما يناسبه من نقد ملكة الحكم.
كما أن العقل العملي ليس فاعلا في نقد العقل العملي إلا وهما لان كل تحصيل عيني لطاعة الانسان الامر الخلقي الجازم يشترط التخلي عن كليته الصورية ليتأثر بالدوافع العينية فيكون الفعل الخلقي فعلا حقيقيا ذا قيام فعلي في الوجود المشار إليه لئلا يبقى مقصورا على الوجود الذهني. فيكون العقل هنا كذلك منفعلا لا فاعلا بحيث تصبح أوامر العقل العملي الجازمة من جنس الفرضيات النظرية تتغير بلا غاية اللهم إلا إذا كان قصد كنط بالمثل العملية مجرد أسمائها لا حقائقها التي هي فاعليتها بتعيناتها التاريخية. وطبعا فهي لا تتغير في ضوء التجربة النظرية (في المعرفة العلمية الطبيعية) في المقام الاول بل في ضوء التجربة العملية (المعرفة العلمية الخلقية) أساسا: ولولا ذلك لما كان للتاريخ البشري معنى ولكان التقدم الخلقي مجرد وهم.
لذلك فالقسم الغائي العضوي والغائي الكوني من نقد ملكة الحكم فعل حقيقي لأنهما لا يتغيران بل إن كل الاعمال البشرية لا تكتسب معناها إلا بفضل ثبات هذين التصورين. فمن دون تصور الإنسان عمل الارادة ونظر العقل متناسقين وغائيين لعناصرهما وحدة حية ومن دون تصور موضوع العمل ومجاله وموضوع النظر ومجاله متناسقين يستحيل على الإنسان أن ينظر أو أن يعمل فضلا عن أن يسكن العالم ويصنع التاريخ: لأن ذلك هو عينه جوهر الانسان من حيث هو بالفطرة مستخلف. فالوحي الخاتم يعلمنا أنه لا وجود لمعرفة غير هاتين ولا يمكن للعمل أن يكون عملا مشروعا إلا إذا كان على علم: معرفة الخلق ومعرفة الأمر بوجهي التفاعل معهما فعلا وانفعالا.
وحاصل القول إنه يمكن أن نجمل تحليلنا من منطلق تعديل الحلول الكنطية في منتصف طريق التخلص منها فنقول إن ملكة الحكم هي تفاعل المادة النظرية والعملية والصورة النظرية والعملية تفاعلهما الذي يبرز التفاضل بينهما المتعاكس بحسب المستويين اللذين أشرنا إليهما. ومن ثم فالمفروض أن يوضع القسم الجمالي والجلالي منها في نقد العقل النظري ويوضع القسم العضوي والكوني في نقد العقل العملي. أما غاية التخلص فتكون بأن نجمع الكل في التحرر من الميتافيزيقا التي تقابل بين الصورة والمادة معرفيا وبين الماهية والانية وجوديا لنبين تداولهما على دور الفاعلية والانفعالية المعرفيتين والوجوديتين إذ إن ما هو فاعل في المستوى الأول يصبح منفعلا في المستوى الثاني والعكس بالعكس: ففضل صورة المعرفة على مادتها في العقل الخالص يعدله فضل المادة على الصورة في القسم الجمالي والجلالي من ملكة الحكم وفضل صورة العمل على المادة في العقل العملي يعدله فضل المادة على الصورة في القسم الغائي العضوي والغائي الكوني في ملكة الحكم فيزول التفاضل بين مقومي العلم ومقومي العمل وبين العلم والعمل وتحصل الوحدة في الحكم الذي يلغي التقابل في حقيقة الوجود ولا يبقي عليه إلا في نسبته إلينا.
فنعود بذلك إلى فصل ابن سينا بين الهوية والانية بشروطه. فكل الفلسفة الحديثة انبنت على هذا الفصل بعد أن جعلته فصاميا لالغائها هذه المعاني التي أشرنا إليها المعاني التي تحقق وحدة الوظيفة النظرية والعملية والذوقية للعقل الانساني عندما لا يغفل عن شرط صحة الفصل بين الصورة والمادة معرفيا والماهية والوجود وجوديا: وهذا الشرط هو عقيدة الموجود الذي تتحد فيه الهوية والانية أو واجب الوجود بحيث إن القبول بالفصل بينهما علته القول بالدليل الوجودي الدي مفاده أن ماهية الله بمجردها تقتضي وجوده.
وهذا التلاحم بين وجهي النظر ووجهي العمل يجعلان الامرين لا يقبلان التحديد إلا بالمعنى الاجتهادي والجهادي تواصيا بالحق للاول وتواصيا بالصبر للثاني. فالتعاكس بين بعدي النظر وبعدي العمل عندما نذهب بالتصور السطحي الذي قدمه كنط إلى غايته كما بينا في تحليل العلاقات بين الابعاد يعيد التلاحم بين الملكات ويوحد مفاعليها فيلغي كل وهم للايديوجيات النظرية والعملية وما أدت إليه من شموليات. ثم هو يرجعنا إلى الموقف الذي يتقدم فيه حدود التصوير النظري على التصوير الجمالي والجلالي وحدود التصوير العملي على التصوير الغائي العضوي والغائي الكوني فيصبح الجمال والجلال والوحدة الحية والوحدة الكونية كما تتعين في مثل العقل والدين اللذين يشرئب إليهما العقل الانساني اجتهادا والارادة الانسانية جهادا لتأصيل الوجود الانساني في حياة يتكامل فيها البعدان الدنيوي والاخروي فنتحرر من الثنائية المرضية التي أسس لها النقد الكنطي ولم يتمكن الجسر الذي ينسب إلى نقد ملكة الحكم من جسره لبقاء الجرف الهاري بينهما.
تلك هي العلاقات الدقيقة والعميقة التي تتألف منها نظرية "المعرفة-التربية" القرآنية التي يتأسس عليها منهج الفهم والقراءة لكل آيات الوجود نصيها وطبيعيها. وقد غفل عنها الفكر البشري قبل الاسلام ثم عاد إلى الغفلة عنها منذ أن توقف اجتهاد المسلمين وجهادهم لتحقيق شروط الرسالة. ثم تدعم النسيان منذ أن جعل الفكر الحديث تحليلات كنط علما نهائيا فبقي الفكر مترددا بين رد النظر إلى العمل في الفشتية وما تلاها من رومانسية وإيديولوجيات عملية شمولية إلى نهاية القرن المنصرم ورد العمل إلى النظر في الوضعية وما تلاها من علموية وإيديولوجيات نظرية شمولية إلى نفس الغاية. فكانت نخب المسلمين مثلها مثل جل نخب العالم ضحية هذه العودة للفصام المرضي وتأليه النسبي.
ولما كانت هذه الوحدة التي أرجعناها لبعدي النظر وبعدي العمل وأصل الكل هي عينها وحدة فعل الحكم التزاما وجدانيا وفرقانيا في نفس الوقت بات دوران المعرفة والتربية كله حول تكوين هذا الفعل المضاعف من حيث هو ادراك الحق علما (صدق معرفي شرطه التواصي بالحق) وعملا (صدق خلقي شرطه التواصي بالصبر). ومن ثم فادراك الحق يمكن تقريب معناه بالاشارة إلى معنيي الصدق المقابلين لمعنيي الكذب (أو لمفهومي الحق المقابل لمفهومي الباطل قرآنيا)(11) :
فهو فعل مشروط بالصدق المعرفي لكونه ادراكا يطابق المدرك بحسب معايير المطابقة الصورية لا المضمونية كما تتحدد في العلم الاجتهادي بعد امتناع القول بالعمل المطلق المحيط بالبعد الغيبي من كل معلوم.
وهو فعل مشروط بالصدق الخلقي لاشتراطه التعبير الصادق عن الادراك وليس التعبير الكاذب عن الايهام بغير ما في الوعي المدرك حتى ينطبق معيار التواصي بالحق.
ذلك أن الوصل بين الموضوع والمحمول ليس فعلا قوليا فحسب بل هو فعل وجودي يتجاوز انفصالهما المفترض في الوصل الحكمي بين التصورين (تصور الموضوع وتصور المحمول) إلى تواصلهما في وحدة القيام الفعلي لتصورات الادراك في ذهن المدرك (وإلا لما التقيا فترابطا برباط النسبة الحكمية) ولمتعلقاتها في عين المدرَك (وإلا لكان الحكم كاذبا لعدم تصديق علاقة