عام مخاض الصحوة الاسلامية لدخول عالم العصر

رضوان السيد

 

في مجال الاحداث والتطورات الثقافية والسياسية الكبرى، لا يمكن التحديد – ولو من أجل الدراسة – بعامٍ أو عامين. وبهذا المنظار، يصعب التمييز في الأفق الاسلامي بين العامين 2004 و2005. فالتطورات التي بلغت ذروتها بهجمات 11/9/2001 لا تزال تداعياتها مالئة للدنيا وشاغلة للناس. لقد حوّلت الاحداث التي خلفتها الاصولية المتطرفة الاسلام الى مشكلة عالمية. وأمكن للقوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة اختزال الأمر كله في الارهاب والحرب عليه. بيد ان التركيز على المشكلة ما ادى الى ايجاد حلول لها، بل اتسع المسرح فتجاوز أفغانستان والعراق، الى دول عدة عربية واسلامية، وأوروبية، لتصبح مكافحة الارهاب هماً من همومها. وبهذا المعنى، كما صارت مواجهة العنف الاسلامي سياسة عالمية، نجحت الاصولية المتشددة في فرض نفسها ظاهرة وعنواناً لافكار وممارسات تعتبر أحد أكبر التحديات للعولمة الهاجمة. ولذلك فقد لجأ بعض الباحثين والمراقبين الى اعتبار تلك الافكار والممارسات احدى ظواهر العولمة ذاتها، ودليلاً آخر على ان عالم اليوم لا يعرف ظواهر محلية بالمعاني التي عرفها العالم قبل القرن العشرين المنقضي. ويضرب المراقبون أمثلة اخرى على ذلك من اوروبا واليابان والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية – في ما بين الستينات والثمانينات، حين ظهر اليسار الجديد والمتطرف، والألوية الحمر، والطليعة الثورية، والمقاتلة، والدرب المضيء... الخ، وهي عناوين لتنظيمات وايديولوجيات وممارسات، ما فرّقت بين عوالم الاغنياء والفقراء، ولا بين فئات السيطرة والاخرى المسيطر عليها. وهكذا فكما كان اليسار العنيف وغير العنيف معولماً على حواشي الاتحاد السوفياتي والصين، فإن الاصولية الاسلامية فعل ورد فعل على العولمة الحاضرة التي تهيمن فيها وعليها الولايات المتحدة. وبذلك يبقى عالم القرن العشرين عالماً أميركياً بامتياز، باعتبار الولايات المتحدة هي الظاهرة الأبرز لجهات الايجاب والسلب. فقد اقتحمت الولايات المتحدة عالم القرن العشرين في الحرب الاولى (1914-1918)، وما خرجت منه او انعزل عن تأثيراتها منذ ذلك الحين. وما كانت الحركات اليسارية الشابة أبرز مواجهي الولايات المتحدة، بل كان عالم الدول الشيوعية هو الواقف بالمواجهة عبر الاتحاد السوفياتي والصين وحلفائهما. والأمر نفسه يمكن قوله عن الاسلام الاصولي اليوم. اذ أعمت احداث 11/9/2001 الأميركيين بحيث اندفعوا لتوحيد العالم تحت قيادتهم في مواجهة القاعدة وارهابها. لكن الاميركيين وغيرهم يعرفون اليوم ان هيمنتهم التي لم تزحزحها حركات اليسار الدولية او غير الدولية، لن تزعزعها الاصولية الاسلامية، بل التحدي الاكبر للولايات المتحدة وأوروبا هو عالم الآسيويين الكبار: اليابان والصين والهند، وسائر النمور. وهذا البروز الهائل للمنافسين، لا تكمن خطورته في الاقتران بالسلاح النووي، بل في التقدم التكنولوجي، والانتاج السلعي، والمناطحة في الاسواق. وهذه أمور لا تنفع فيها الجيوش الجرارة، والاسلحة الفتاكة، بل تتضافر فيها او تتساوق المنافسات السلمية الحادة، وقضايا الاعتماد المتبادل، في الوقت نفسه. ولذلك، فعلى رغم استمرار العنف باسم الاسلام داخل العالم الاسلامي وخارجه، بل وتصاعده في بعض النواحي بفعل الهجمات الاميركية الصاعقة، وعلى رغم نفخ وسائل الاعلام العالمية في بوقه، واعتباره خطراً ماحقاً، حري بأن تتضاءل وقائعه وتأثيراته في الاعوام المقبلة، فتستعيد الصراعات في المدى العالمي اسماءها الحقيقية وعناوينها، ويصبح العنف باسم الاسلام احدى الذكريات السيئة مثلما كان عليه الامر بالنسبة لليسار العنيف.

ويختلف الامر اختلافاً كبيراً بالنسبة لنا في المجالين العربي والاسلامي. فالظواهر العنيفة مستمرة طبعاً حتى الآن. لكنها – شأنها في سائر الانحاء – ستتراجع تدريجاً، في حين تبقى «الصحوة الاسلامية» قضية ومشكلة في مجالنا، تتعدد ظواهرها ومظاهرها، ويكون علينا ان نتلاءم ونتشاكل معها على انحاء مختلفة. فالصحوة الاسلامية تملك طابعاً اساسياً هو «فكر الهوية»، وتملك عالماً من التصورات والنماذج والرموز، بعضها عنيف وبعضها غير عنيف، لكن تلك التصورات يشارك فيها الجميع وهي مختلفة اختلافاً كبيراً عما تعودنا عليه حتى اواسط القرن العشرين. فقد تسارعت التطورات ووجوه التوتر والتوتير، وحدث التغيير الاختزالي والعنيف على مستوى الوعي قبل الواقع. ولا شك في ان الغالبية العظمى من الصحويين غير عنيفة، لكن تصوراتها الاساسية واحدة، وهي باقية ومتطورة الى آمادٍ وآماد، ولا عودة على أي حال لعهود الهدوء الجميل سواء أكان حقيقياً أم متخيلاً. فالصحوية الاصولية والهادئة لكن المصممة – وليس المسالمة اذ لا مسالمة ولا تسامح لدى العقائديين – هي ظاهرة اكثرية منذ عقدين على الاقل، وقد ركبت مركب الانتخابات والحرية، وستحتل به الشواطئ المسكونة والمهجورة على حد سواء. والانتخابات في الاصل خيار او طريقة في اختيار الذين يوكل اليهم ادارته شأننا العام، ونخضعهم للمراقبة والمحاسبة من خلال مؤسسات قائمة، ومن خلال الانتخابات الدورية المنتظمة. بيد ان الديموقراطية تحتاج لكي يُقبل الناس على صناديق الاقتراع الى دوافع وحواث تتجاوز مسألة الحرية ومسألة الارادة او انهما لا تكفيان في الدفع اليها. ولذلك كانت هناك الاحزاب التي تحشد وتجمع من اجل ذلك، ومن اجل الوصول للسلطة او ادارة الشأن العام. والاحزاب الاسلامية احزاب عقائدية قادرة اكثر من غيرها على التحشيد، وعلى الاستمرار، وعلى اعتبار اختيارها تكليفاً شرعياً. ولا أعني انها ستتحول الى ديكتاتوريات، كما يخشى كثيرون، بل ما أعنيه ان الفشل او عدم الكفاءة لن يؤثر في الانصار، لأن كثرة منهم تعتبر ذلك ديناً من الدين، بعد هذه العقود الطويلة من الفرص المتضائلة، والضغوط المتناطحة. وبذلك فغننا سنشهد في الانتخابات (الحرة) مظهراً آخر من مظاهر الصحوية الجديدة، وهي حق الناس طبعاً، وحياتهم طبعاً، وإرادتهم طبعاً، لكن كما لم تكن الانظمة رؤوفة بهم، فلن يكونوا رؤوفين قادة وجمهوراً بالآخرين، ليس بسبب الدين، بل لأنهم حزبيون فعلاً، ومصممون فعلاً، تصميماً لا نستطيع بلوغه حتى لو أردنا، ولا نملك غير الاعجاب به والتعجب منه.

وقد كان جزء من مشكلاتنا ناجماً عن عدم القدرة على التداخل السلس بالعالم. بيد ان ذلك في قسم منه كان ناتجاً من طرائق تعامل الانظمة مع القوى الكبرى، وفي قسم منه نتيجة افكار ومصالح وممارسات الهيمنة، بينما الجديد في مخاضنا الاسلامي ان النفور من العالم او التوجس منه يتخذ طابعاً عقدياً لا يسهل تخطيه. فالصحوية في أكثرها هادئة، لكنها ليست بشوشة ولا تقصد الى التعارف والاعتراف. وهناك من يراهن على ان الوصول للسلطة سيغير من المزاج وبالتالي من الوعي. وقد يكون ذلك صحيحاً، لكن لنتأمل ماذا حدث في ايران وفي السودان. وليس بالوسع تعليل العلاقة بالعالم بالهيمنة ومحاولاتها وحسب، بل هناك سلوكات سياسية ناجمة عن وعي معين يقول بالتحدي لبلوغ الاهداف، او بالقدرة العقائدية العجائبية. وكلا الامرين لا يجعل المسائل أسأل.

العامان 2004 و2005 عاما مخاض سيطول أمده. وسيكون عنوانه التلاؤم مع الصحوية الاسلامية، وهي وعد كبير للجمهور، يحتضن امكانيات ومشكلات. والأمل ان يصح تخمين إرنست غلنر، أي ان تكون الصحوية الاحيائية طريقاً اسلامياً الى التقدم والحداثة ودخول عالم العصر، إنما كيف؟!

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=316&idC=2&idSC=6

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك