أسس الحوار الإسلاميّ المسيحيّ

*أسس الحوار الإسلاميّ المسيحيّ
الأب صلاح أبوجوده اليسوعيّ
أودّ ، في البداية ، أن أشكر لكم حضوركم وتجاوبكم مع اقتراح معهد الدراسات الإسلاميّة المسيحيّة لإلقاء محاضرتين عن الحوار الإسلاميّ المسيحيّ . والأمل كبير أن نتمكّن معًا من أن نتابع هذا النشاط الضروريّ لتكويننا الإنسانيّ ولحياتنا الاجتماعيّة والوطنيّة .
وقبل أن أبدأ الموضوع ، أشير إلى أنّ معهد الدراسات الإسلاميّة المسيحيّة ، منذ تأسيسه عام 1977 ، اعتاد على معالجة الموضوعات المشتركة الإسلاميّة المسيحيّة ، عن طريق الإصغاء إلى مختصّين من الديانتين . وقد أصبح ذلك تقليدًا لا يزال متّبعًا إلى الآن في المعهد . فكلّ موضوع يُطرح ، أكان سلسلة دروس أو حلقة دراسيّة أو مشغل ، يُعطيه أستاذان ، مسلم ومسيحيّ . والهدف من ذلك ليس احترام التوازن الطائفيّ ، بل الحرص على الموضوعيّة : فكلّ اختصاصيّ يعرض وجهة نظره انطلاقًا من إيمانه . ولا يتكلّم أحدًا بدلاً عن الآخر . وكلّ ذلك يجري في جوّ علميّ ، يسوده الاحترام والصداقة التي تنمو بين الأساتذة والطلاّب على السواء .
أتى تأسيس المعهد نتيجة حاجة وطنيّة ملحّة وتطوّر على مستوى علاقة الكنيسة الكاثوليكيّة بالأديان الأخرى . فعلى المستوى الوطنيّ ، اتّخذت الأحداث التي بدأت عام 1975 ، بعدًا طائفيًّا ، وأدّت إلى عزل اللبنانيّين بعضهم عن بعض . والانقطاع عن لقاء الآخر ، كما نعلم ، يزيد من الأحكام السابقة والمفاهيم الخاطئة ، فالإنسان عدوّ ما يجهل . فكان المعهد فسحة تلاقٍ حرّ ومسؤول بين مسلمين ومسيحيّين أرادوا أن يؤمّنوا تواصل التفكير المشترك في قضايا تهمّ الجميع وتخدم المصلحة العامّة . أمّا على صعيد الكنيسة ككلّ ، فقد حدث تغيير كبير مع المجمع الفاتيكاني الثاني (1961-1963) ، أدّى إلى تمهيد الطريق لعلاقات جديدة مع الأديان الأخرى ، ولا سيّما الإسلام ، كما سيتوضّح بعد قليل .
ما هي أسس الحوار ، من وجهة نظر مسيحيّة ، التي تبلورت منذ المجمع الفاتيكاني الثاني ؟ أشير هنا إلى أنّني سأتكلّم على مستوى عامّ ، ولا أعني الإطار اللبنانيّ .
أوّلاً : دوافع الحوار
1ً . بحسب تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني ، تكمن دوافع الحوار في صميم رسالة المسيح . فالحوار ليس مطلوبًا فقط لأنّه مجرّد ضرورة لكي يعيش الناس بعضهم مع بعض بسلام ، بل لأنّ المسيح يريد أن يجمع البشريّة كلّها في عائلة واحدة . ودور الكنيسة ، وبالتالي دور كلّ مؤمن ملتزم بمتطلّبات معموديّته ، أن يتابع عمل المسيح ، الذي ، كما قال القدّيس بولس « جعل من الجماعتين جماعة واحدة ، وهدم في جسده الحاجز الذي يفصل بينهما ، أي العداوة » . فليس هنالك إلاّ إنسانيّة واحدة أصلها الله .
إنّ المسيحيّ ، الذي يفهم إيمانه التزامًا مع المسيح ، لا مجرّد انتماء طائفيّ أو اجتماعيّ ، يعرف أنّ دعوته في العمق هي العمل من أجل المصالحة. أستشهد ثانيةً بالقدّيس بولس : « قد زالت الأشياءُ القديمة وها قد جاءت أشياء جديدة . وهذا كلُّه من الله الذي صالحنا بالمسيح وأعطانا خدمة المصالحة » ( 2 قورنتس 5/17ب-18) . ولكن لا يمكن المسيحيّ أن يعيش دعوته هذه إلاّ عن طريق حوار حقيقيّ مع أخوته في الإنسانيّة . وبالتالي ، أصبح واضحًا أنّ الحوار ليس اختياريًّا ، بل واجب على المؤمن .
2ً . إضافة إلى هذا ، هنالك دافع إضافيّ للحوار يتكلّم عليه آباء المجمع هو واجب الإنسان أن يبحث عن الحقيقة ، وأن يعتنقها عندما يجدها . لا يعني هذا الموقف مساومة المتحاورين على معتقداتهم ، بل اعتبار أنّ حقيقة الله وحقيقة الوجود وحقيقة الإنسان تبقى سرًّا ، ولا يمكن أحدًا أن يدّعي أنّه يملك كلّ الحقيقة في شأنها .
3ً . إلى هذين الدافعين الأساسيّين ، يمكن أن نضيف دافعًا آخر هو التبادل المتزايد بين الشعوب ، نتيجة تطوّر وسائل الاتّصالات . فقد أصبح تعدّد الديانات حقيقة تفرض نفسها ، وبات الانغلاق على الذات أو الاكتفاء الذاتيّ شبه مستحيل . ولا شكّ أنّ حالة «التعدّديّة» الراهنة لا تكتفي « بالتسامح » ، فهذا كان في زمن كانت فيه الديانات والثقافات مكتفية ذاتيًّا ، بسبب تجمّعها في مناطق جغرافيّة معيّنة ، في حين أنّ شرائح كبرى من الشعوب تعي بتزايد الغنى الموجود في جميع الحضارات والأديان . وكذلك ، ما عاد « التعايش » كافيًا ، بل لا بدّ من التفاعل والعمل المشترك في سبيل الخير العامّ ، ولا سيّما السلام والعدالة .
ثانيًا : المواقف المطلوبة من المسيحيّ في الحوار
ولكن ما هي المواقف المطلوبة من أطراف الحوار ؟ بحسب تعاليم الكنيسة، إنّ حوارًا حقيقيًّا لا يقوم إلاّ على مبادئ الاحترام المتبادل والتقدير وكرامة الشخص البشريّ ، وعلى الحريّة ، التي هي شرط أساسيّ لكلّ حوار موضوعيّ وجدّيّ . لذا ، فلا بدّ من الحريّة الدينيّة . غير أنّ ثمّة مواقف مطلوبة من المسيحيّين أنفسهم .
ثمّة وثيقة صدرت عام 1969 ، عن « أمانة سرّ الفاتيكان للعلاقات بغير المسيحيّين» (التي أصبح اسمها عام 1989 "المجلس البابويّ للحوار بين الأديان") ، بعنوان « توجيهات في سبيل الحوار بين المسيحيّين والمسلمين » ، تتضمّن وصفًا للمواقف المطلوبة من المسيحيّين . نلاحظ في الوثيقة تشديدًا على أنّه في الوقت الذي يجب على المسيحيّين فيه أن يتّخذوا الخطوة نحو الحوار ، وهم مفعمين رجاءً بفضل إيمانهم ، عليهم أن يدركوا أنّ الدخول في الحوار لا يتمّ عن طريق الضغط النفسيّ على الطرف الآخر . ذلك بأنّ الحوار مثل الصداقة ، لا يقوم إلاّ نتيجة الحريّة والصداقة . غير أنّ الملفت للنظر هو تشديد الوثيقة على ضرورة أن يغيّر المسيحيّون أنفسهم أوّلاً ذهنيّتهم . ما هو المقصود ؟
1ً . يفترض الحوار تضامنًا مع الطرف الآخر ، والابتعاد عن موقف الشكّ أو رفض ما يأتي من الآخر أو ما يُطالب به الآخر . إنّ الحوار يبدأ بنظرة حقّ إلى مطالب الآخرين ، وبشعور حقيقيّ مع همومهم وأوضاعهم .
2ً . ولا بدّ للمحاور أن ينظر إلى الآخر نظرة احترام كاملة ، فلا يعتبره تلميذًا عليه أن يعلّمه ، ولا طريدة يجب أن يصطادها ، بل أخ له في الإنسانيّة الواحدة .
3ً . يترتّب على المحاور أن يتحرّر من ثقل الأحكام السابقة أو التصوّرات عن الآخرين، التي يتناقلها الرأي الشعبيّ بطريقة غير واعية من جيل إلى جيل ، وأن يسعى لأن يفهم نفسه والآخرين كأشخاصٍ لهم خبراتهم الشخصيّة ، ولهم قدراتهم ليتّخذوا مواقفهم النابعة من قناعاتهم ، لا من تأثير « الموقف العامّ » .
وفي الواقع ، يجب التفكير مليًّا في « بُعد الموقف العامّ » وتأثيره على موقف الشخص . ذلك بأنّ ارتباط الشخص بالمجموعة هو من أشدّ العوامل التي تمنعه من الانتباه إلى الآخر ، وتمنعه من لقاء حقيقيّ به . هنالك رباط مستمرّ وغير شعوريّ يقيّد الإنسان برأي المجموعة العامّ على نحوٍ يعتاد عليه ، حتّى إنّه يصبح في لاوعيه . فيصبح لدى الشخص انطباع بأنّه غير قادر أبدًا على أن يُكوّن من تلقاء نفسه أيّ حكم أو قرار . إنّ المجموعة توفّر له ما يحتاج إليه من أحكام ومواقف تفرض نفسها بقوّة من دون أن تفسح في المجال لأيّ نقاش . ولا ريب أنّ الموقف العامّ ينطوي على عمليّة « تعميم » هي في الغالب خاطئة أو مبالغ بها ، فيصبح الحكم أو النظرة شاملة « الآخرين » ، جميع الآخرين ، من دون تمييز .
4ً . ثمّ هنالك ضرورة قبول المحاور أن يتعلّم من الآخر . عندما نلتقي إنسانًا آخر ، علينا أن نعتبر أنّه يملك شيئًا يعلّمنا إيّاه ويغني خبراتنا الشخصيّة .
5ً . لقد أصبح من الواضح أنّ هدف الحوار ليس أن نجعل الآخر المختلف يعتنق إيماننا ، ولا أن نشكّكه فيما يؤمن به ، بل أن ننمّي لقاءً روحيًّا عميقًا يحثّ كلّ طرف على أن يتقدّم في فهم إيمانه وفي ترجمته في حياته اليوميّة . بالطبع ، لا يُلغي هذا الموقف أمنية كلّ مؤمن ملتزم أن يعتنق محاوره إيمانه ، فهذا أعمق ما يرغب فيه وأثمن ما يقدّمه إلى الآخر . ولكنّ هذه الرغبة لا يُعبّر عنها بنوايا خفيّة أو طرق خبيثة ، ولا تحرّك روح الحوار الذي يتطلّب الشفافيّة .
6ً . بناء على ما تقدّم ، ينفي الحوار كلّ توفيقيّة (خلق عقيدة هي مزيج من عقائد الديانتين) (syncrétisme) ، وكلّ نسبيّة (المساومة على بعض الحقائق الإيمانيّة) (relativisme) ، بل يفترض إبراز حقائق إيمان المتحاورين على المستوى المعاش أكثر منه على المستوى النظريّ . فإنّ الحوار الحقيقيّ يتحوّل مناسبة ليتعمّق المتحاورون في معنى إيمانهم وفي إخلاصهم له .
ثالثًا : أشكال الحوار
بعد أن عرضت ، إذًا ، المواقف المطلوبة من المسيحيّ في الحوار ، أعرض الآن أشكال الحوار ، التي استنتجها ملتزمون مسيحيّون في الحوار الإسلاميّ المسيحيّ ، مع التذكير ، مرّة ثانية ، أنّني لا أحصر الموضوع في الواقع اللبنانيّ ، بل أتكلّم بشكل عامّ . هنالك أربعة أشكال أساسيّة :
1ً . حوار الحياة ، وهو شكل يصحّ في المجتمعات ذات الديانات المتعدّدة مثل لبنان . قد يعني هذا الحوار ، في أوضاع نـزاع وتوتّر ، الإبقاء على خطوط الاتّصال مفتوحة بين الأطراف ، والسعي لمناقشة الاختلافات بعقلانيّة وموضوعيّة ، والعمل لتوطيد السلم الأهليّ . أمّا في أوقات السلام ، فهو يفيد تعايش الناس وعملهم المشترك في حقول السياسة والاقتصاد والثقافة وغير ذلك، من دون أن يدخلوا بالضرورة في نقاش رسميّ حول معتقداتهم .
2ً . حوار الالتزام الاجتماعيّ ، والمقصود به تعاون المؤمنين من مختلف الديانات لكي يطّوروا مشاريع أو يخدموا مؤسّسات تهدف إلى خدمة المجتمع خدمة متجرّدة ، على مثال الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر أو الدفاع المدنيّ ، ويسعوا لحماية البيئة والأخلاق وحقوق العمّال .
3ً . المشاركة في الخبرات الروحيّة . يمكن بعض المجموعات والأشخاص ، من مسلمين ومسيحيّين ، الذين يعيشون حياة روحيّة جدّية ، أن يتشاركوا حول دور الصلاة في حياتهم ، وطرق جمعهم بين الصلاة والعمل ، وطرق الصلاة نفسها .
4ً . الحوار اللاّهوتيّ ، وهو يجب أن يتمّ ، تبعًا لنصائح الملتزمين في الحوار ، بين أصحاب اختصاص فقط . لا يهدف هذا الحوار إلى التوصّل إلى توحيد الديانتين في ديانة واحدة ، ولا إلى المساومة على العقائد ، التي تبقى مختلفة حول نقاط عديدة ، بل يمكن ، عن طريق دراسات جديّة لنشأة التراثين في الأطر التاريخيّة والثقافيّة ، إلى تبديد الكثير من سؤ التفاهم ، والتشديد على ما يجمع ، لا على ما يفرّق . على سبيل المثال ، التعاون في المجال الأخلاقيّ ، الذي يطرح تحدّيات في وجه الديانتين ، والتعاون في مجال العدالة الاجتماعيّة . ذلك بأنّ تعليم الديانتين يركّز على الرابط القائم بين الأمانة لله والسعي للعيش بحسب مقتضيات العدالة (الدفاع عن الضعفاء والمظلومين والمهانين والعمّال ) ، واحترام الحياة البشريّة .
في نظر المسلمين ، كما المسيحيّين ، إنّ الإيمان بالله لا يُغرّب الإنسان عن نفسه وواقعه ، بل يسمح له بأن يحقّق شخصيّته الحقيقيّة عن طريق الاهتمام بالآخرين وخدمة الخير العامّ . ويكتسب هذا البعد أهميّة بالغة في عصر الاستهلاك ، الذي يتحوّل فيه الإنسان إلى سلعة ، بسبب قوّة الدعايات . يصبح الإنسان أنانيًّا ، لا ينظر إلاّ إلى مصلحته ورغابته ، ويميل إلى تسخير كلّ شيء في سبيل تحقيقها ، الأمر الذي يؤدّي إلى فقدان الضمير المهنيّ والشعور بالمسؤوليّة تجاه الآخرين . والإيمان ، في هذا المضمار ، يبرز كمحرّر للإنسان .
رابعًا : التطوّر التاريخيّ
من المفيد ، هنا ، أن أذكّر بأنّّ الأسس والمبادىء التي ذكرتها جاءت نتيجة جهود جبّارة من أصحاب النوايا الحسنة ، طوال قرون ، وافترضت تخطّي رثًا تاريخيًّا ثقيلاً وعقبات كثيرة . وإذا كنت سأذكر بعضها بإيجاز ، فلكي نكون مفعمين بالرجاء ، ونتشجّع لمتابعة المسيرة ، لا لإعادة جراح الماضي أو إثارة نقاط تمّ تجاوزها :
تبعًا للأب كريستيان ترول ، أحد الاختصاصيّين المعروفين في العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة ، حصلت تغييرات أساسيّة في الموقف الكاثوليكيّ من الإسلام، في السنوات العشر التي سبقت المجمع الفاتيكاني الثاني . فقبل ذلك التاريخ ، بدا مسار التاريخ مطبوع بمواجهات أحيانًا عنيفة بين عالم الإسلام والعالم المسيحيّ : أوّلاً ، الفتوحات الإسلاميّة ، التي أخضعت مناطق كانت ذات لون مسيحيّ لسلطة الإسلام ، ومن ثمّ أتت الحملات الصليبيّة ، التي بقيت ذكراها حيّة في ذاكرة العديد من المسلمين حتّى اليوم . بعد ذلك جاءت الإمبراطوريّة العثمانيّة ، التي هدّدت الغرب المسيحيّ في عمقه . وأخيرًا كان زمن الاستعمار ، الذي شهد مأساة فلسطين وتأسيس دولة إسرائيل . ولقد عُدّت المغامرة الاستعماريّة ، من قبل شريحة مهمّة من المسلمين ، أنّها امتداد للروح الصليبيّة ، ورُبط بها نهضة الإرساليّات الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة على السواء .
إضافة إلى هذه المحطّات والأحداث التاريخيّة ، كانت العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة ، على المستوى الفكريّ ، متأثّرة ببعض المواقف الأساسيّة ، التي لخّصها المحاورون المسيحيّون بالتالي :
1 . بدا الحوار الإسلاميّ المسيحيّ متأثّرًّا بنظرة المسلمين إلى الإسلام بصفته الدين الكامل الوحيد ، على نحو أعطى المحاورون المسيحيّون الانطباع بأنّ المسلم مكتفي ذاتيًّا جذريًّا . وبكلام آخر ، بدا المحاورون المسلمون لوهلة غير محتاجين إلى أن يتعلّموا من الآخرين أيّ شيء يتّصل بموضوعات إيمانيّة . وثانيًا، هنالك فكرة سادت أيضًا أفادت أنّ المسلمين يعرفون المسيحيّين أفضل ممّا يعرف المسيحيّون أنفسهم . وثالثًا ، لوحظت نـزعة في الإسلام إلى التمييز بين يسوع التاريخيّ ، عيسى ابن مريم ، الذي هو نبيّ مثل سائر الأنبياء ، ويسوع المسيح الذي يؤمن به المسيحيّون . ورابعًا ، إنّ دور المسيحيّ الحقيقيّ هو أن يثبت صحّة الإسلام .
2 . تكلّم بعض الخبراء المسيحيّون على لقاء تاريخيّ مبتور بين نبيّ الإسلام والمسيحيّة ، أثّرت في العلاقات المتبادلة . فبالرغم من أنّ القرآن يشيد في بعض آياته بتواضع بعض المسيحيّين ، يبدو أنّ نبيّ الإسلام قد التقى مسيحيّة قليلة الشفافيّة ، أعطته انطباعًا أنّها خانت يسوع وحرّفت الأسفار ، وعبدت ثلاثة آلهة ، وتضمّنت رجال دين مهيمنين وبخلاء ، وأنّ المسيحيّين منقسمون على نحو لا يمكن علاجه أبدًا . ولا شكّ أنّه بسبب هذا اللقاء «المبتور » ، بقيت العلاقة مليئة بالالتباس .
أمّا المبادرات الإيجابيّة ، فترتقي ، في الواقع ، إلى زمن الحملات الصليبيّة . فكتب البابا ألكسندر الثالث رسائل إلى زعماء مسلمين ، محاولاً أن يرتقي بلقاء الإسلام من المواجهة إلى المستوى الروحيّ . وتبعه في السياسة عينها المرسلون الدومينيكان والفرنسيسكان . فالقدّيس توما الأكوينيّ شدّد على ضرورة السعي لإيجاد نقاط مشتركة بين المسيحيّين والمسلمين ، ولغةً مشتركة ، والتفكير في الخبرات التي يتّفق في شأنها الجميع ، وهي أنّهم جميعًا خلائق وبشر . أمّا القدّيس فرنسيس ، فقد اقترح نمطَين من حضور المرسلين بين المسلمين : شهادة حياتيّة من خلال الأمور المعتادة ، والتبشير علانية ، وهذا ما يحتاج إلى تمييز روحيّ .
ثمّ أتت التطوّرات التي حصلت في الكنيسة الكاثوليكيّة في هذا الحقل ، ومهّدت لنصوص المجمع الفاتيكاني ، التي نقلت اللقاء مع الإسلام من المواجهة إلى الإخاء ، وكان لأساقفة الشرق الكاثوليك دورًا رائدًا في إصدارها .
بعض ما جاء في تعاليم المجمع :
- « بيد أنّ تدبير الخلاص يشمل أيضًا أولئك الذين يؤمنون بالخالق ، وأوّلهم المسلمون الذين يعلنون أنّهم على إيمان إبراهيم ، ويعبدون معنا الله الواحد ، الرحمان الرحيم ، الذي يدين الناس في اليوم الآخر » « دستور عقائديّ في الكنيسة» ، رقم 16 .
- « وتنظر الكنيسة أيضًا بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد ، الحيَّ القيّوم ، الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض ، وكلّم الناس . إنّهم يسعون بكلّ نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله وإن خفيت مقاصده ، كما سلّم الله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلاميّ بالانتساب إليه. وإنّهم، على كونهم لا يعترفون بيسوع إلهًا ، يُكرمونه نبيًّا، ويكرمون أمّه العذراء مريم ، مُبتهلين إليها أحيانًا بإيمان . ثمّ إنّهم ينتظرون يوم الدين الذي يُجازي اللهُ فيه جميع الناس بعد ما يُبعثون أحياء . من أجل هذا يقدرون الحياة الأدبيّة ، ويعبدون اللهَ بالصلاة والصدقة والصوم ، خصوصًا . ولئن كان قد وقع ، في غضون الزمن ، كثيرٌ من المنازعات والعداوات بين المسيحيّين والمسلمين ، فإنّ المجمع يحرّضهم جميعًا على نسيان الماضي ، والعمل باجتهادٍ صادقٍ في سبيل التفاهم في ما بينهم، وأن يَحموا ويعزّزوا كلّهم معًا ، من أجل جميع الناس ، العدالةَ الاجتماعيّة ، والقيم الروحيّة، والسلام والحريّة » « بيان في علاقات الكنيسة بالأديان غير المسيحيّة »، (رقم 3) .
تبعت المجمع مبادرات كثيرة لا مجال هنا إلى تعدادها . ولكن أشير إلى أنّ بطاركة الشرق الكاثوليك ، في الرسائل العامّة التي وجّهوها إلى المؤمنين ، اتّخذوا مواقف واضحة من العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة تندرج في خطّ المجمع الفاتيكاني الثاني ، والمواقف التي تكلّمت عليها في البداية . كما كان لمجلس الكنائس العالميّ مبادرات لإطلاق الحوار.
خامسًا : تحدّيات الحوار
أوّلاً : على المستوى العامّ
إنّ لقاءات الحوار التي تمّت بين ممثّلين عن الفاتيكان وبعض المؤسّسات الدينيّة الحكوميّة والأكاديميّة الإسلاميّة العربيّة ، أظهرت جميعها ، على وجه التقريب ، تمسّك المسلمين بربط الموضوعات الدينيّة والسياسيّة . فلا تغيب عن المناقشات ، على سبيل المثال ، مسائل محاولة الغرب الهيمنة على البلدان الإسلاميّة وإضعاف أسسها الأخلاقيّة والدينيّة ، وموضوع القُدْس وإسرائيل والصهيونيّة ، إضافة إلى انتقادات وُجّهت إلى نشاطات المرسلين المسيحيّين الساعين إلى «تنصير» المسلمين . ومنهم مَن يرى في مبادرة الحوار نفسها طريقة مسيحيّة للتبشير بعد أن انقضى زمن الاستعمار ، الذي وفّر حريّة عمل كبيرة للمرسلين. غير أنّ ثمّة إرادة تترسّخ بتزايد عند الكثير من المسلمين للانفتاح على المسيحيّين والحوار معهم .
من جهة أخرى ، ثمّة صعوبات يعانيها الإسلام داخليًّا ، وفي طليعتها صعود الحركات الأصوليّة . ولكن في ما يختصّ بالحوار ، يجب التمييز بين تلك الحركات ، فمنها مَن يرفض الحوار ، ومنها مَن يظهر مرونة واضحة لتقبّله (يميّز الاختصاصيّون ، مثل الدكتور أحمد موصلّلي ، بين التيّارات الأصوليّة التي تستمدّ تعاليمها من سيّد قطب وتمتاز بالتطرّف الكامل ، والتيّارات الأصوليّة المعتدلة ، التي يمثّل حسن البنّا أحد رموزها ، وهي تظهر استعدادًا للتسامح والتعدّديّة إلى حدّ كبير) . وأخيرًا ، يفتقر الحوار في الشرق ، كما تطالب به الكنيسة الكاثوليكيّة ، إلى أحد شروطه الأساسيّة وهو « الحريّة الدينيّة » ، فهي غير متوفّرة في ظلّ الأنظمة التي تحرص على رفض العلمانيّة وعلى إضفاء الطابع الإسلاميّ على نفسها .
ثانيًا : على المستوى المحلّي
إحدى التحدّيات الكبرى التي نعيشها الآن في لبنان ، هي ضعف التواصل الحقيقيّ والفعّال بين مسلمين ومسيحيّين ، خارج الأطر التقليديّة (الزعامات التقليديّة والتيّارات الحزبيّة المسيطرة) . الحاجة الملحّة هي لتحرير الفرد من « توارثه » أفكار سابقة أو تبنّيه مواقف « جاهزة » ، ليتّصل بالآخر بنفسه، ويبني ، انطلاقًا من خبرته ، رأيه الموضوعيّ ، ويختار ما هو لخير الجميع .
لا شكّ أنّ مجتمع لبنان معقّد لجهة تركيبته ، الأمر الذي يوحي بضعفه. ولكنّ التعايش الإسلاميّ المسيحيّ ، منذ تأسيس دولة لبنان عام 1920 ، أرسى قيمًا مشتركة ، يجب إبرازها بتزايد ، والتمسّك بها : (1) رفض الانغلاق المناطقيّ أو المذهبيّ أو الطائفيّ ، (2) الحرص على الديمقراطيّة وحريّة التعبير عن الرأي ، (3) الحرص على الانفتاح على الشرق والغرب علميًّا ، بشجاعة ومن دون تحفّظ . (4) التمسّك بالتعدّديّة في لبنان ، ورفض كلّ شكل من أشكال الآحديّة ، أكان ذلك لنظام الحكم أو لنظام التعليم أو لشكل المجتمع . وكلّ هذه الأمور تؤلّف نموذجًا حقيقيًّا للغرب كما للشرق .
غير أنّ الحاجة ماسّة إلى تطوير حوار بين نخبة مفكّرة واعية ، انطلاقًا من هذه القيم ، للتفكير في « الخير العامّ » . أي بلورة فلسفة للصالح العامّ ، متحرّرة من توارث الأفكار السابقة أو تأثير الموقف الجاهز ، اللذان ذكرتهما . وأظنّ أنّ هذا يبقى ، في الدرجة الأولى ، مهمّة طلاّب وطالبات الجامعات ، بفضل استعدادهم أكثر من غيرهم للموضوعيّة وللتفكير الشخصيّ بمسؤوليّة وهدوء . فأملنا أن نتمكّن معًا من إقامة هذه الورشة الوطنيّة ، بدءًا من جامعتنا، وصولاً إلى بنيان مجتمع يليق بالإنسان .
* نص المحاضرة التي ألقيت في جامعة القديس يوسف -فرع طرابلس في 5/12/2003 ، ضمن ورشة الحوار الاسلامي المسيحي التي أطلقها معهد الدراسات الاسلامية المسيحية -جامعة القديس يوسف ، بيروت .

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك