أخطر فتوى دينية: تجهيل الشعب العربي أربعة قرون

عصام سليمان الموسى

 

خضعت البلاد العربية لحكم العثمانيين مدة أربعمائة عام (1516- 1918)، وبينما كانت أوروبا ترتدي أثواب المعرفة التي جاءت بها المطابع وزاد عددها في أرجاء مدنها عن 2500 مطبعة قبل نهاية القرن الخامس عشر، تنشر في أنحائها حركات التنوير والإصلاح الديني والنهضة العلمية والصناعية والفكرية؛ نجد في المقابل السلطة العثمانية، ممثلة بشيخ الإسلام، تصدر فتوى خطيرة تكرس الجهل. وقد عزا العثمانيون صدور الفتوى إلى سببين: الأول، تمثل بموقف رجال الدين وخشيتهم من حدوث اضطرابات في الدولة العثمانية، والثاني، بسبب الضغوط التي مارستها فئة الوراقين العاملين بالنسخ والخط الذين أشاعوا "أن طبع الكتب يتناقض مع الدين".

انتشر استعمالُ المطبعة على نطاق واسع في أوروبا بعد اختراعها في ألمانيا عام 1439م، لكنها تأخرت في الدخول إلى الدولة العثمانية حتى الثلث الأول من القرن الثامن عشر، وذلك بسبب القوى الدينية التي اتخذت موقفاً معارضاً لها.

يذكر أديب مروة في كتابه (الصحافة العربية: نشأتها وتطورها)، أن رجال الدين أفتوا بأن المطبعة "رجس من أعمال الشيطان" (ص 139)، لكن من منظور الاتصال يمكن أن يعزى صدور مثل هذه الفتوى إلى رغبة السلطة ممارسة احتكار المعرفة، والسيطرة على العقول؛ فالمعرفة بحد ذاتها قوة يمكن أن تتحدى السلطة لأنها تبدد الجهل وتعرّف الناس بحقوقهم ليطالبوا بها. وهذا ما حصل مع العرب، فحين طالب مفكروهم وصحفيوهم بالاستقلال ونيل حقوقهم، أقدم جمال باشا السفاح حاكم سوريا التركي في أيار (مايو) عام 1916 على إعدام ثلاثة وثلاثين رجلاً، لا فرق بين مسلم ومسيحي، وعلقهم على أعواد المشانق في ساحتي الشهداء في دمشق وبيروت، وكان من بينهم ستة عشر صحفياً، الأمر الذي عجل في إعلان الثورة العربية الكبرى مباشرة بعد شهر واحد، إثر تلك الحادثة الأليمة التي كشفت عن نوايا الأتراك الحقيقية.

لقد خضعت البلاد العربية لحكم العثمانيين مدة أربعمائة عام (1516-1918)، وبينما كانت أوروبا ترتدي أثواب المعرفة التي جاءت بها المطابع وزاد عددها في أرجاء مدنها عن 2500 مطبعة قبل نهاية القرن الخامس عشر، تنشر في أنحائها حركات التنوير والإصلاح الديني والنهضة العلمية والصناعية والفكرية؛ نجد في المقابل السلطة العثمانية، ممثلة بشيخ الإسلام، تصدر فتوى خطيرة تكرس الجهل. وقد عزا العثمانيون صدور الفتوى إلى سببين: الأول، تمثل بموقف رجال الدين وخشيتهم من حدوث اضطرابات "في الدولة العثمانية...لأنهم كانوا يعتقدون أن أمن الدولة العام ربما يضطرب"؛ والثاني، بسبب الضغوط التي مارستها فئة الوراقين العاملين بالنسخ والخط الذين "أشاعوا أن طبع الكتب يتناقض مع الدين" (شقيرات: 634)، وذلك للحفاظ على مصدر رزقهم.

ويُظهر تاريخ الاتصال والمعلوماتية، وعبر أربع ثورات اتصال معرفية، أن الجهات التقليدية والمحافظة كانت تقف سداً منيعاً يحول دون انتشار المعرفة بين الناس للحفاظ على مصالح تلك الجهات ومكتسباتها؛ بل عمدت تلك القوى، بعد اختراع المطبعة في أوروبا، وخاصة الكنيسة هناك، إلى ممارسة الرقابة على المطبوعات والكتب، إلا أن قوى الإصلاح بقيادة المفكرين والفلاسفة والأدباء عملت على محاربة هذا التوجه بشراسة، مما أوصل أوروبا الغربية في نهاية القرن الثامن عشر إلى نظام ليبرالي علماني يقبل النقد والشك الديكارتي العقلاني، ويشجع الحوار، وتقديم وجهات النظر المتباينة.

ثورات الاتصال الأربع

يعترف الباحثون نظريا بأن التاريخ الإنساني شهد "أربع ثورات" في الإعلام والاتصال، أحدثت تغييرات جسيمة في حياة البشر، وقادت كل واحدة إلى توسيع دائرة المعرفة. هناك ثورة الاتصال الأولى التي تمثلت في اختراع الأبجدية (أو الألفباء The Alphabet- كما يسميها الغربيون) التي أوجدها أجدادنا الكنعانيون حوالى عام 1500 ق.م، حين طوروا الحروف التي نستعملها حاليا في البلاد العربية والغربية. وأشار (مارشال مكلوهان) إلى حجم الأثر الذي خلفه اختراع هذه الأبجدية الصوتية، فهو يعدها "تكنولوجيا فريدة من نوعها"، ويضيف: أن استعمالها كان يعني "القوة والسلطة والسيطرة على المواقع العسكرية من بعيد"؛ وأصبحت الكتابة، الوسيلة التي حددت التحول النفسي والاجتماعي في جميع المجتمعات التي مارستها. وتبنت أوروبا الحرف اللاتيني المأخوذ من الحرف الكنعاني، وبهذا نكون أفضلنا على العالم الغربي وعلمناه القراءة والكتابة.

وأسهم قدوم الثورة الثانية للاتصال، التي جاءت بالمطبعة، في نقل أوروبا من نظام سلطوي مطلق إلى مجتمع علماني تم فيه فصل الدين عن السياسة، مجتمع يوقر النقد ويجعل من الصحافة سلطة رابعة رقابية، بل إن فيلسوفاً مرموقاً، هو برتراند راسل، اعترف بأن اختراع المطبعة كان من العوامل التي حددت الانتقال من "العصور الوسطى حتى القفزة الكبرى إلى الأمام في القرن السابع عشر"؛ فبظهورها "اتسع نطاق تداول الأفكار الجديدة إلى حد هائل، وهذا هو الذي ساعد في النهاية على هدم السلطات القديمة".

وأعقب اختراع المطبعة ثورة الاتصال الإلكتروني التي جاءت في أعقاب الكهرباء بالراديو والتلفاز، فازداد انتشار المعرفة ليشمل الذين لا يقرؤون ويكتبون (أي الأميون).

لكن قدوم الإنترنت، أدخل الناس في عصر جديد هو عصر الاتصال الرقمي الذي قاد إلى ثورة اتصالية رابعة عملت على تمكين الإنسان العادي وتقوية مركزه من خلال استخدام قنوات اتصال تبادلية، لا تخضع لرقابة السلطة. وهكذا، بدأت صفحة جديدة في تاريخ الإنسانية قادت في جوانب منها إلى ظهور الربيع العربي، بما عناه ذلك من هدم للسلطات القديمة البالية. ولأول مرة في تاريخه يصبح الإنسان العربي مشاركاً نشطاً تسمع السلطات رأيه وتتوقف عندها. وانتشرت الصحافة والمواقع الإلكترونية حاملة على صفحاتها فكراً انتقادياً وربما هجومي، مؤذنة بقدوم نظام اتصال عربي شبه ليبرالي. ومثلما كان لهذه الثورة الرقمية نتائج إيجابية، أهمها ظهور الصحفي المواطن، وتقديم وجهة نظر شعبية، كان للرقمنة جوانب سلبية، أهمها انتشار الأخبار التي تفتقر إلى المصداقية، وانتشار الشائعات.

المطبعة العربية في أوروبا

قبل صدور الفتوى الدينية التي حالت دون استخدام المطبعةَ في الدولة العثمانية، بيعت كتب مطبوعة في أوروبا في البلاد العثمانية، وتم هذا الإجراء بموجب فرمان أصدره السلطان مراد الثالث في العام 1588، وسمح فيه للتجار الأوروبيين ببيعها. وقد طُبع القرآن الكريم في البندقية للمرة الأولى في العام 1537، وذلك بعد أن أجازت طباعته محكمة التفتيش الكنسية. ومن أهم الكتب العربية التي نشرتها المطابع الأوروبية أيضاً: "الإنجيل المقدس"، وكتاب "القانون الثاني" لابن سينا، و"نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والأقطار" للجغرافي الإدريسي.

المطبعة: للأقليات العثمانية

سمح السلاطين للأقليات الدينية في الدولة العثمانية بإدخال المطبعة واستخدامها بعد نصف قرن تقريباً من زمن اختراعها في ألمانيا، فرخص السلطان بايزيد الثاني لليهود إقامة مطبعة خاصة بهم منذ العام 1494، على ألاّ يُصدروا كتباً بالحروف العربية، والاقتصار على الحروف العبرانية واللاتينية، وأقاموا نتيجة ذلك مطبعتين في سالونيك وإسطنبول.

وأقام الأرمن مطبعة في مدينة سيفا عام 1567، واليونانيون في إسطنبول عام 1627. أما بالنسبة إلى العرب المسيحيين، فقد سمحت السلطة العثمانية لهم - بوصفهم أقلية طائفية- باستخدام المطبعة منذ العام 1610، وكان ذلك من حسن الطالع، لأن المسيحيين العرب وظفوا المطبعة للحفاظ على جذوة الثقافة العربية فقدموا بذلك خدمة جليلة لأمتهم العربية.

مطابع العرب المسيحيين

شكّل العام 1610 بدايات الطباعة عند المسيحيين العرب، وعملت مطابع حلب والشوير وبيروت، على تعزيز نزعة المسيحيين العرب للحفاظ على شخصية مستقلة. وكما استخدمت هذه المطابع في طباعة الكتب الدينية، استخدمت أيضاً في طباعة الكتب المدرسية التابعة للكنائس، والتراثية، مما أسهم في إيجاد جيل عربي متمكن من لغته. وكانت نظرة القائمين على هذه المطابع قومية. وظهرت بعض المطابع الخاصة منذ العام 1641، وأنشأ بلفنطي واحدة في حلب، وقامت بطباعة ديوان ابن الفارض، ثم كتاب "المزامير". وابن الفارض شاعر صوفي له مكانته في الأدب العربي، وقد عاش في القرن الثاني عشر، ومن شعره الصوفي قصيدته التي يتغنى فيها بالذات الإلهية:

قلبي يُحدثُني بأنك مُتلفي

روحي فِداك، عرَفت أم لم تعرفِ

لكن المطابع ذات الأثر الأكبر، ظهرت منذ مطلع القرن الثامن عشر، وكان لها دور مؤثر في النهضة في المشرق العربي، ومن أبرز هذه المطابع: مطابع حلب، ومطابع الموارنة في جبل لبنان.

مطبعة حلب للأرثوذكس الملكيين

تأسست أول مطبعة بالحرف العربي في مدينة حلب عام 1706 م، عند مسيحيي الطائفة الأرثوذكسية الملكية. وتخصصت هذه بطباعة كتب الدين المسيحي، وقدمتها بأعداد وفيرة وبنصوص عربية فصيحة مترجمة عن السريانية واليونانية. وقد عمل بطريرك أنطاكية اثناسيوس الثالث دباس، الذي اشترى المطبعة من بوخارست، على طباعة الإنجيل باللغة العربية، ذاكراً في المقدمة التي وضعها أنه شرع بطبعه وتنقيحه كلمة كلمة. وقد استعانت المطبعة بالمنح والهبات، فمثلاً مول طبعة الإنجيل عام 1807 جان مازبا، قائد جيش الانكشارية في بلاد الفلاخ. وتوقفت مطبعة حلب عن العمل عام 1866، وهو الوقت الذي بدأت تظهر فيه المطابع الخاصة في لبنان، مثل مطبعة خليل خوري صاحب جريدة (حديقة الأخبار)، التي تعتبر بداية الصحافة الحقيقية في المشرق العربي (مروة).

مطابع الموارنة

بعد دير قزحيا وحلب، دخلت المطبعة إلى جبل لبنان عند مسيحيي منطقة الشوير ابتداء من عام 1733 (صابات، 1966: 18). وكان الموارنة قد تعرفوا على الطباعة من قبل حين طبعت لهم روما مخطوطاتهم.

كان من نتائج دخول الكتب المطبوعة بالعربية أن حدث تحول سياسي اجتماعي مهم عند الموارنة. لقد رأوا أن الكتب المطبوعة ستسهم في توحيد نصوصهم الدينية بعد أن تعددت في الأديرة المختلفة. وسياسياً، تعززت نزعتهم الاستقلالية بعد تحالفهم مع الأمير الدرزي فخر الدين المعني الثاني في القرن السابع عشر، الذي قاد حركة استقلال جبل لبنان عن الباب العالي. وهكذا رأى الموارنة في "الكتاب المطبوع وسيلة ناجعة لتكريس هويتهم إزاء الطوائف المسيحية [الأخرى] وبصفة عامة للحفاظ على شخصيتهم واستقلالهم عن المسلمين" (قدورة: 70) وعن روما. وهكذا عززت الطباعة عند الموارنة استقلاليتهم الدينية والسياسية والثقافية على حد سواء.

وعلى الرغم من أن هذه المطابع أسهمت في الجدل الديني الطائفي بين الروم الأرثوذكس والملكيين الكاثوليك، لكنها "كانت متفقة على هدف واحد، وهو مقاومة الضلالات الدينية والانحرافات"، ونشر كتب تنطوي على تقديم نصوص "دينية سليمة من الأخطاء" (قدورة: 237). واستخدمت هذه المطابع في طباعة الكتب المدرسية التابعة لهذه الكنائس، ما أسهم في إيجاد جيل عربي متمكن من لغته. وأصدر العرب المسيحيين الصحف وعملوا على حفظ التراث واعتنوا باللغة العربية وكانوا من رواد النهضة. وفي هذا تقول الباحثة فدوى نصيرات: "من المسلم به أن الصحافة العربية قامت على أكتاف المسيحيين العرب في بلاد الشام ومصر...  الأمر الذي حقق أكبر الأثر في نشر الوعي القومي"، ثم تعدد الباحثة نصيرات الموضوعات التي ركزت عليها صحفهم، وهي: "اللغة العربية وضرورة التمسك بها، والفخر بالجنس العربي والتغني بأمجاده وأخلاقه، والدعوة إلى الألفة والتضامن، ورفع شعار: حب الوطن من الإيمان، وتعليم المرأة العربية ودورها في تنمية الوعي القومي، والدعوة إلى الأخذ بأسباب تقدم الأمم المتمدنة والأخذ بالتربية القومية" (ص 68).

فتوى تسمح

مع مطلع القرن الثامن عشر، أدرك المتنورون العثمانيون أهمية الطباعة ودورها في نشر المعرفة، وذلك حين لاحظوا نهضة أوروبا وتقدمها في جميع المجالات، فصدرت فتوى ألغت الأولى، وأفتى شيخ الإسلام يكيشهر لي عبدالله أفندي أثناء مشيخته (1718-1730) بجواز افتتاح مطبعة تطبع بالحرف العربي في إسطنبول. وجاءت الفتوى نتيجة ضغوط من الصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي كان راغباً مع السلطان أحمد الثالث (1717-1730) في إدخال إصلاحات للبلاد.

أجازت الفتوى طباعة الكتب، ما عدا تلك المتعلقة بالشريعة والفقه الإسلامي. بعد ذلك قام الصدر الأعظم، الذي كان متحمساً للمشروع، بإقناع السلطان أحمد الثالث الذي وافق بدوره على إصدار فرمان (خط همايون) يسمح بإنشاء المطبعة في تموز 1727.

وصدر ترخيص المطبعة باسم إبراهيم متفرقة وسعيد شلبي قبل أن يستقل متفرقة بها. وهكذا عُدّ متفرقة، وهو مجري الأصل، مؤسس أول مطبعة عربية في إسطنبول.

ثورة باترونا وإحراق المطبعة

تضمّن أول كتاب طبعه إبراهيم متفرقة وشريكه، نشْر الفرمان السلطاني ورسالة وسيلة الطباعة التي واكبت صدور الفتوى الدينية وتقريظ علماء الدين لها، حتى لا يتركا مجالاً لمتقول بعدم شرعية ما أقدما عليه. وتم تأسيس مطبعة (دار الطباعة العامرة) في منزل متفرقة. وكان أول كتاب طُبع على هذه المطبعة كتاب الصحاح للجواهري مع ترجمته للتركية في العام 1728. وواصلت المطبعة طباعة الكتب حتى العام 1730، حين قامت ثورة بقيادة ضابط البحرية خليل باترونالي (الذي عُرفت الثورة باسمه) وشارك فيها المتشددون الذين لم ترق لهم التجديدات على الطريقة الأوروبية، وكذلك الخطاطون والعاطلون عن العمل. وكان من نتائج الثورة: عزل السلطان أحمد الثالث، وقتل الصدر الأعظم إبراهيم باشا، وعزل شيخ الإسلام عبد الله، وتدمير المطبعة.

وهكذا، دفع الذين كانوا وراء الفتوى ثمناً باهظاً. لكن من يستطيع وقف حركة التاريخ؟ فبعد عقد من الزمان، أعيد بناء المطبعة، وبقيت تعمل بصورة متقطعة حتى العام 1783. ولم يزد عدد الكتب التي طبعت، وحتى العام 1828، أي بعد مرور قرن على صدور الفتوى، عن 98 كتاباً؛ أي بمعدل كتاب واحد في السنة، وهذا من أوضح الأدلة على تخلف الإمبراطورية العثمانية وعدم مسايرتها للنهضة الحديثة (سليمان الموسى). وفي العام 1831 قامت الدولة العثمانية بتأسيس مطبعة رسمية تابعة لوزارة المعارف باسم (المطبعة العامرة) استمرت في العمل حتى سقوط الدولة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى.

الصحافة العربية

بدأ تأثير الصحافة العربية يظهر للعيان اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر، بعد أن ظهرت صحف شعبية –غير رسمية تماماً- ذات تأثير، مثل صحيفة (حديقة الأخبار) في بيروت لصاحبها خليل خوري، وصحيفة (الوقائع المصرية) في القاهرة، و(الرائد) التونسية، هذه الصحف التي أشرف عليها بعض قادة الفكر من مثل؛ أحمد فارس الشدياق ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده. وكان من آثارها الجليلة أنها دعت إلى الاستقلال والحرية والنهوض.

وتكشفت نوايا السلطة العثمانية حين وقفت تلك الصحافة سداً منيعاً في وجه عملية التتريك، مما حدا بجمال باشا السفاح، حاكم سوريا التركي، إلى الانتقام من قادة الفكر الصحفيين الشاميين، فعلقهم على أعواد المشانق في 5 أيار عام 1916، وبقيت صرخاتهم ديناً على الصحفي العربي أينما كان. وهزمت جحافل جيش الثورة العربية، التي بلغ عدد محاربيها حوالي المئة ألف، الأتراك وأخرجتهم من المشرق العربي بالتعاون مع حلفاء بريطانيين وفرنسيين، تنكروا لوعودهم للشريف الحسين بن علي قائد الثورة، وعقدوا سراً اتفاقية سايكس بيكو، وأعطوا وعد بلفور.

يوجز أديب مروة أثر الصحافة العربية حتى الحرب العالمية الأولى، بقوله إنها عملت على "تحرير الأمة من السلطنة العثمانية...وإيقاظ الهمم...وحاربت الجهل والفقر والحجاب، ثم ناضلت لتحرير الأم والأمة، وكافحت لإصلاح اللغة وقد أدركتها الركاكة، ثم حاربت الطغيان والعدوان والإقطاعية والحكام الطغاة..." (ص 143).

إعلام القرن العشرين

استطاعت الأنظمة العربية أن تحتوي الصحافة العربية بعد الاستقلال من خلال قوانين المطبوعات والنشر، ومارس وزراء الإعلام العرب الرقابة المشددة عليها، إلا من جيوب هنا وهناك، طيلة القرن الماضي. وبرز دور الإعلام المؤثر، الإذاعي ثم التلفازي، المسيطر عليه من الحكومات، على المواطنين العرب، بسبب ارتفاع نسبة الأمية، مما أغرق العرب في شفاهية الفعل ورد الفعل (عصام الموسى، 2114، ص)، فقاد ذلك، خاصة بعد هزيمة عام 1967، إلى ظهور مواطن مقهور سلبي غير مشارك وضعيف الانتماء. وتحركت الدول الخليجية لملء الفراغ، فأنشأت محطات ركزت على الترفيه، بما يعنيه ذلك من تخدير لعقل المتلقي. وفي هذه المرحلة، حين كان الإعلام مسيطراً عليه من الدولة، كثرت البرامج الترفيهية والدينية، وقلت برامج الحوار السياسي والفكرية.

وقد فشلت غالبية الأنظمة الإعلامية العربية حتى التسعينيات من القرن الماضي من استيعاب الآثار المتوقعة للثورة الرابعة في الاتصال، فوقع بعضها فريسة سهلة أمام قوة الإعلام الرقمي، الذي عمل على تسليح المتلقي العربي بأمرين: أولا، التعرض لأفكار جديدة ناقدة للوضع القائم تحمل وجهات نظر ناقدة بقوة. وثانيا، توفير أجهزة متطورة (كالهاتف الذكي) مكنت المواطن العادي من التواصل والتنظيم عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

وبهذا هيأت الثورة الرقمية Digitalism لقدوم ربيع عربي عاصف، لم تتنبه إليه معظم الأنظمة، فسقطت. قلة فقط من الأنظمة العربية، ومنها الأردن، استوعبت الأمر في وقت مبكر (منذ عام 1989)، فحررت إعلامها مما جنبها عصف الربيع. وصار لزاماً على جميع الأنظمة أن تعيد حساباتها، وتنحني أمام تطلعات المواطن. وهكذا، لعبت تكنولوجيا الاتصال الرقمية، في توعية المواطن بحقوقه، فساعد ذلك تدريجياً على إيجاد مواطن عربي مشارك، ينفض السلبية عنه، ويطالب بحقوقه حتى الموت في سبيلها.

فوضوية الإعلام الرقمي

وكما كان للإعلام الرقمي آثار إيجابية، فهناك آثار سلبية أيضاً. لقد وفرت تكنولوجيا الاتصال الرقمي الفرصة أمام كل فرد أن يصبح مراسلاً إعلاميا: يلتقط صورة حدث ما بهاتفه ويبعث به لوسائل الإعلام، فيصبح خبراً. وظهرت مواقع إلكترونية عديدة، إضافة إلى قنوات تلفزية قاربت الألف محطة، بعضها خاضع للحكومات، وبعضها مستقل أو شبه مستقل، إضافة إلى قنوات إعلام دولية كثيرة. ودخل على خط الصحفيين المدربين تدريباً اكاديمياً مهنياً يطبقون قواعد المصداقية والموضوعية، صحفيون من نوع جديد، أي "الصحفيون المواطنون"، وخاصيتهم أنهم لا يأبهون بقواعد العمل الصحفي، فامتلأت الأجواء بالأخبار الخفيفة السطحية. وكان من بينهم من استغل الوضع لتقديم أجندات خاصة، سياسية أو دينية أو اجتماعية، واختلط الحابل بالنابل. وأسهمت هذه الصحافة في بلبلة المتلقي، وصارت الأجواء تمور بالشائعات وأخبار النجوم والمناكفات، وأيضا الفتاوى.

الخاتمة

كان من أخطر نتائج فتوى شيخ الإسلام العثماني حدوث فجوة ثقافية بين العرب والغرب الأوروبي تقدر بأربعة قرون، جمد فيها الفكر والثقافة والإبداع، مما انعكس سلباً على المواطن العربي. وقاد الجهل إلى التخلف في جميع المجالات السياسية والثقافية والفكرية. وتواصلت المواجهة بين الفكر القديم الذي تبنته الدولة العثمانية، وبين دعاة التحرر والقومية. لكن مما يبعث على التفاؤل، أن إرهاصات الربيع العربي، بدأت غبارها ينجلي عن عقلانية تغلب في جوانب كثيرة المنطق على العاطفة، وتقود لقلب صفحة جديدة، تكون مشرقة حقاً، تعيد للعرب ألقهم التاريخي كشعب عريق له حضارة رائدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-          شقيرات، أحمد صدقي. تاريخ مؤسسة شيوخ الإسلام في العهد العثماني (1425-1922). المجلد الأول، إربد، الأردن، 2002

-          صابات، خليل. تاريخ الطباعة في الشرق العربي. القاهرة: دار المعارف، 1966

-      قدورة، وحيد. بداية الطباعة العربية في إسطنبول وبلاد الشام: تطور المحيط الثقافي (1706-1787). الرياض- تونس: مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنية/مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية والتوثيق والمعلومات، 1993

-          محافظة، علي. الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة (1798-1914). بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، 1984

-          مروة، أديب. الصحافة العربية: نشأتها وتطورها. بيروت: منشورات عويدات، 1970

-          الموسى، سليمان. الحركة العربية: المرحلة الأولى للنهضة العربية الحديثة (1908-1924). بيروت، دار النهار للنشر، 1977

-          الموسى، عصام سليمان. "الرقمنة والربيع العربي في الأردن: دراسة حالة". مجلة المستقبل العربي، العدد 410، تموز/يوليو، 2012

-          الموسى، عصام سليمان. الإعلام العربي الرقمي والتحديات الراهنة. عمان: منشورات نقابة الصحفيين الأردنيين، 2014

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A3%D8%AE%D8%B7%D8%B1-%D9%81%D8%AA%D...

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك