ضد الانغلاق الفكري .. ضد الهرطقة النقدية!!

نبيل عودة

 

لفتت انتباهي جملة في مراجعة لديوان شاعر عربي من فلسطين 48، كتبها ناقد سأرمز اليه باسم “الناقد سعيد”، يصف الديوان بقوله: ” فيه خروج عن المألوف وتطور للأفضل فيما يسمّى باسم شعر الحداثة modernism.”. ثم يقول: ” يدعي الكثيرون أنهم وحدهم يعرفون ما هو شعر الحداثة؛ وكنا أنا ومجموعة من الزملاء قد عقدنا مهرجاناً كبيراً حول شعر الحداثة”.

لست في باب تقييم الديوان أو “الحداثة ” في شعر الديوان … وليس هذا دافعي للكتابة!!

جملة الدكتور “الناقد سعيد” تشير الى عدم فهم رهيب لموضوع الحداثة في الأدب والفكر والفلسفة والعلوم والاقتصاد والمجتمع والفكر والتقنيات .. الخ. وكيف له ذلك والثقافة العربية، في كل الوطن العربي، لم تنجز استحقاقات الحداثة بعد، وتبدو الحداثة موضوعا للترف الفكري في الثقافة العربية، لأن الثقافة العربية تفكر وتنتج نفسها في واقع عربي اجتماعي واقتصادي وثقافي هو أصلا ما قبل الحداثة بمئات السنين .. لكن المشكلة أيضا ان “الناقد سعيد” وآخرين واهمون انهم سادة الفكر وأساتذة النقد، وهم لا يفقهون جذور الفكر النقدي وفلسفته!!

يستطيع “الناقد سعيد” ان يدمج كلمات لاتينية بعد كل جملة. هل سيتغير الحال مع مضمون الحداثة الأدبية؟ وهل أضحت الحداثة معلما ابداعيا .. بدونه لا قيمة للعمل الأدبي؟

أقدر تقديرا كبيرا جهود “الناقد سعيد” في مراجعاته الأدبية، أو النقدية كما يصر ان يسميها، رغم ان النقد غير قائم في نصه، بل المدائح التي لا قرار لها، والمضرة بالمبدعين الناشئين وانتج وضعا يستحق ان يلحق باسمه بانه “قبلة الأدباء العرب في إسرائيل”.. السبب: جميع القاصرين والفارغين أدبا وثقافية يريدون المديح والتصفيق. آمل ان يتحرك نقاد الأدب، لإعادة التوازن الثقافي النقدي، واعادة ضبط الاصطلاحات التي يستعملها نقاد أدب يفتقدون لمعرفة فكرية وتاريخية دقيقة لنشوء الاصطلاحات التي يقحموها في نقدهم، وهم بالكاد يدركون أسباب نشوئها في الآداب الأجنبية، والأدب الأوروبي على وجه التحديد، وهل يمكن نقل اصطلاحات حضارة تجاوزتنا بمئات السنين بكل مجالات الفكر والإنتاج والرقي الحضاري والادعاء اننا نحث الخطى بموازاتها، بينما واقعنا يزداد ابتعادا عن التنوير والتصاقا بالفكر السلفي الإرهابي؟

يقول “الناقد سعيد”: ” يدعي الكثيرون انهم وحدهم يعرفون ما هو شعر الحداثة؟”

أولا الحداثة لم تولد للشعر .. انما لمجمل الثقافة الروحية والمادية من ابداع ونقد وفكر وفلسفة وعلوم ومجتمع وعلمانية وانتاج اقتصادي مادي (الخيرات المادية)، وكل ما يخص الحياة الإنسانية بأبعادها المادية والروحية، وهي نقض كامل لكل ما سبقها من فكر واتجاهات ثقافية وفلسفة وايمان مغلق.

الحداثة ترتبط جذورها تاريخيا بعصر اسمه عصر التنوير الأوروبي الأول وثم عصر التنوير الثاني .. وصولا الى عصر النهضة الأوروبية، ويعتبر رسميا الأديب الفرنسي شارل بودلير 1821-1867 المؤسس الرسمي لتيار الحداثة. كذلك نجد من أوائل الحداثيين الاديب الفرنسي غوستاف فلوبير 1821-1880 والشاعر الفرنسي مالارامية 1842-1898 وهو من أبرز شعراء مدرسة “المذهب الرمزي”. والشاعر الروسي الشيوعي الشهير مايكوفوسكي ، الذي نادى بنبذ الماضي والاندفاع نحو المستقبل ، وعندما تعثر حلمه الحداثي ، بسب بيروقراطية النظام الجديد ، انتحر. وهل نستطيع ان نضع آباء الماركسية (ماركس وإنجلز) خارج نهج الحداثة؟

نجد في الثقافة العربية الى جانب أدونيس الأبرز حداثيا في فكره ، الكاتب والشاعر اليمني عبد العزيز المقالح والمفكر المغربي عبدالله العاروري والشاعر عبد الوهاب البياتي المرحوم محمود درويش  ومن الجزائر الفيلسوف محمد أراغون والكاتب كاتب ياسين والشاعر المصري صلاح عبد الصبور ، والمفكر السوري المقيم في فرنسا  د. هاشم صالح والباحثة والكاتبة التونسية د. رجاء بن سلامة والمفكر التونسي الكبير المرحوم العفيف الأخضر (الملقب  بفولتير العرب)، كذلك نجد المفكر الفلسطيني الكبير المرحوم د. ادوارد سعيد ، مؤلف “الثقافة والامبريالية” و”الاستشراق” و “وصور المثقف” ، حيث يطرح رؤية حداثية انقلابية في المفاهيم الثقافية والتاريخية . ولا بد من اعتبار المفكر الماركسي الايطالي الكبير انطونيو غرامشي ضمن تيار الحداثة الفكرية والفلسفية والاجتماعية والثقافية الى جانب تيار “الماركسية الغربية”، من أبرز ممثلي المدرسة الماركسية الغربية جيورغ لوكاتش (هنغاري) وكارل كورش (ألماني) وارنست بلوخ ( ألماني) وروجي غاروديه (فرنسي) وغيرهم.. لعلي بذلك اساعد، من يريد التوسع، للتعرف التطبيقي والعملي لمفهوم الحداثة في شموليته الثقافية والفكرية والفلسفية والدينية والاجتماعية والإنتاجية.

طبعا هناك اختلافات بين الحداثيين أنفسهم، وتعدد رؤاهم واختلافها، بل وتناقضاتها الكبيرة وهو امر صحي وطبيعي.  وكما أسلفت مفهوم الحداثة يعاني من التباسات واتجاهات كثيرة متناقضة، وهي غير ميسرة وواضحة الا في فكر “الناقد سعيد”..

واود أن أضيف، بأن الفكر أو العقل الغربي قد تجاوز الحداثة التي ما زلنا نلعب بقشورها، نحو تأسيس المنظومة المعرفية، أو ما يعرف ب ” فلسفة العلوم والتكنومعلوماتية”، وهي مرحلة “ما بعد الحداثة” كما يطرحها بعض الفلاسفة الاوروبيين. لعل “الناقد سعيد” يقرأ مقالي ويكتشف ان بعض شعرنا يتبع “فلسفة العلوم والتكنومعلوماتية” وسيستعمل الاصطلاح كأنه أنتج فلسفة التكنومعلوماتية، فهي أرقى من حداثته الشعرية، وقد ترضي الكتاب أكثر من صيغة “الحداثة” الأوروبية العجوز.

استعمال اصطلاح الحداثة بحالتنا، مصدره عدم معرفة فلسفية وفكرية وثقافية كاملة، وهي مشكلة ثقافية عربية عامة، تفتقد لآليات فكرية للتمييز ين مصطلح الحداثة (modernism) والمعاصرة (modernity)، والتحديث (modernization)، وهي اصطلاحات تختلف معانيها ومضامينها وقاعدتها الفلسفية. وكثيرا ما نستعمل مفهوم الحداثة في الأدبيات العربية بنفس المعنى، أي خلط بين الحداثة والمعاصرة والتحديث.

ليت “الناقد سعيد” يقبل نصيحتي بأن يبتعد عن هذه الحسناء المشاكسة التي اسمها “الحداثة” إذا لم يكن قادرا على ترويضها. وليعرف ان جمالية النص لا يقرره ربطه الميكانيكي بالحداثة، بل قدرة المبدع على التواصل مع المتلقي. والأهم أن الحداثة لم تتطور فقط كنزعة أدبية جمالية.

ان الحداثة هي مصطلح لا يتعلق بالأدب والنقد الأدبي فقط، او بالشعر والنثر تحديدا، بل بالثورة على الواقع الاجتماعي كله، بكل جوانبه السياسية والاجتماعية والفكرية والأدبية من أجل تغييره .. وكل نص أدبي تقليدي مسالم، غير ثائر، غير رافض للواقع، لا يدعو لنبذ كل المسلمات الاجتماعية المتخلفة، وتنمية المعرفة الانسانية، وانعتاق الفكر، ولا يربطه رابط بجذوة الانقلاب الثقافي والفكري .. ولا يرتبط بفلسفة ثورية .. هو تقليدي، بمعنى عدم تجديد في المضامين، وهذا لا ينفي قيمة العمل الأدبية، الحداثة لا تعني الابداع الأدبي -نقطة.

في كل الأدب العربي بالكاد نجد عددا صغيرا من الأدباء والمفكرين على فهم فكري وقناعة حضارية بمضمون الحداثة، وتبرز الحداثة في فكرهم المتجدد الرافض للتفكير الماضوي، ولتحرير الانسان المطلق وانعتاق المرأة ومساواتها.

قد نقبل، كمثقفين، وعلى المستوى الشخصي (الانديفدوالي) جوانب مختلفة من الحداثة. وهذا ليس سهلا. الحداثة هي غابة متصارعة من الأفكار الانقلابية والثورية والتجديدية والهرطقية أيضا، وليس كل ما يطرحه نهج الحداثة مقبول على كل مفكر حداثي. انا حداثي في حدود معينة وأرفض الكثير من طروحات الحداثة الأوروبية مثلا. لكني أقول ان الحداثة لم تولد للأدب نثرا وشعرا. الأدب البارز هو انعكاس للنهضة الحداثية ومعبرا عنها.

الشاعر الكبير أدونيس يعتبر من رواد الحداثة العربية ومفكريها، تعالوا نراجع فهمه الثوري للحداثة. يقول أدونيس: ” إن الإنسان حين يحرق المحرم (أي النهج التقليدي) يتساوى بالله “. ويضيف: ” إن التساوي بالله يقود إلى نفيه وقتله، فهذا التساوي يتضمن رفض العالم كما هو، أو رفضه كما نظمه الله، والرفض هنا يقف عند حدود هدمه، ولا يتجاوزها إلى إعادة بنائه، ومن هنا كان بناء عالم جديد يقتضي قتل الله نفسه (كمبدأ العالم القديم) وبتعبير آخر لا يمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأن يهدم صورة العالم الراهن وقتل الله نفسه “.

ترى هل يقبل مجتمعنا هذه الطروحات؟ هل يتحملها حتى في إطار نقاش فلسفي؟

هذه هي الحداثة بكلمات لا غبار عليها .. وهو أفضل تعبير عربي وجدته لهذا المفهوم الذي يحبه “الناقد سعيد” ويستعمله بغير معناه، بجرأة يحسد عليها. لا تأخذ النص المباشر حول الله .. يجب فهمه مضمونه الفلسفي، مثلا نسف كل النهج السائد، الذي بات يشكل عقبة امام الانطلاق الفكري والثقافي والفلسفي والانتاجي المادي.

أنت وقعت في مصيدة ادعائك .. وتكاد تقول انك الوحيد الذي يفهم “شعر الحداثة”؟ هل تعرف ان الحداثة أيضا تهدف الى نسف اللغة من جذورها؟ انا أيضا أستصعب فهم الموضوع .. ماذا سيحل مكان اللغة؟ هل من لغة أخرى تبشرنا بها الحداثة؟ ربما تتحفنا بحل لمعضلة اللغة التي ينشدها الحداثيون؟

ليس العيب ان لا يعرف المثقف مفهوم الحداثة، خاصة المثقف الشرقي الذي نشا في مجتمع تقليدي محافظ، ويواصل التقدم الى الخلف، وهو تطور أيضا، حسب تعريف فريدريك انجلز، حيث قال ان: ” التطور شكلان، واحد الى الامام وآخر الى الخلف …”

المثقف الذي لا يجرؤ على طرح التحدي .. وعلى التمرد .. لا علاقة له بالحداثة، أو ببعض متطلباتها، ولا يضر المبدع ان يعطينا أدبا انسانيا راقيا بدون الملعونة التي اسمها حداثة…

هل تظن عزيزي ان مجتمعاتنا المشرذمة طائفيا واثنيا وقبليا، ولا يستطيع الكثيرون من الأفراد فهم المقروء، حتى بلغة عربية بسيطة مثل لغة الصحافة، هل يستطيع ان يكون مجتمعا حداثيا، وان يقبل الحداثيين بفكرهم العلماني بل والالحادي الى حد بعيد  فكرا ونهجا وابداعا؟

نحن نعرف ما واجهه ويواجهه أدونيس في العالم العربي من تكفير واتهام بالزندقة ، لدرجة طرد كاتب معروف هو الدكتور أمين الزاوي،  مدير المكتبة الوطنية في الجزائر، لتجرؤه على دعوة أدونيس (قبل سنوات) لإلقاء محاضرة ، الذي اعتبرته حتى دولة المليون شهيد من أجل التحرر الوطني  من الاستعمار الفرنسي ،   كافرا وملحدا  ، وجريمة أدونيس انه طرح رؤيته بأن هناك : “مشكلة كبرى في المجتمعات الإسلامية تتعلق بـ”إخضاع الوحي للتأويلات السياسية والمذهبية بدوافع قبلية، ومذهبية، وأيديولوجية، وسياسية بدافع البحث عن السلطة”. . .ووصل الأمر الى مسائلة وزيرة الثقافة آنذاك في البرلمان الجزائري ، وسارعت وزيرة الثقافة في الجزائر خليدة تومي، الى رفع   تقرير بمدير المكتبة الوطنية الدكتور أمين الزاوي، إلى الرئيس بوتفليقة تتبرأ فيه من مسؤولية “الانزلاق الفكري الذي حدث أثناء محاضرة الشاعر السوري أدونيس” . هل ترى أيها “الناقد سعيد” ما تفعل الحداثة في مجتمعاتنا العربية، حتى المتأثرة حتى النخاع بالفكر الفلسفي الفرنسي الحداثي الأرقى في العالم؟

لا أكتب دفاعا فقط عن مواقف أدونيس، وهو أقرب الي من خربشات “الناقد سعيد “.. لكني مع حرية الرأي الكاملة وحق الحوار والنقد، وضد كل محاولة لمنع مثقف، كبير مثل أدونيس أو غيره من ابداء رأيهم ومناقشته.

انا ضد الانغلاق الفكري.

المصدر: http://arabvoice.com/81005/%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%BA%D...

الحوار الداخلي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك