الإصلاح المتصل: جدل صورة العمران ومادته في المنظور الخلدوني

أبو يعرب المرزوقي

 

تمهيد:

بلغ الكلام على الإصلاح- الذي يظنه أغلب نخبنا وليد القرنين الأخيرين- ذروته منذ أن أصبح مطلبا لا يقتصر على المسلمين بل يتعداهم إلى كل أمم العالم التي أدركت نخبها امتناع تنظيم المعمورة من دون علاج منزلة المسلمين فيها. وإذا كان من اليسير تعليل هذا الاهتمام الكوني بالإصلاح الإسلامي فنرجعه إلى أهمية ما حققته الحضارة الإسلامية من شروط كونيتها الموضوعية التي أبرز عصر العولمة منزلتها المحددة لمصير التاريخ الكوني فإن المطلوب في هذا البحث تحديد علاقة هذه الكونية بضرورة تلازمها مع مبدأي الإصلاح الدائم اللذين يمثلان جوهر الإسلام الحنيف. والمعلوم أن هذين هما مبدأ الاجتهاد فرض عين بديلا من السلطة الروحية المعصومة في الفكر النظري والعملي(1) و مبدأ الجهاد فرض عين بديلا من السلطة الزمانية المعصومة في تطبيقاتهما الطبيعية والتاريخية(2) المحققة لشروط الحيوية الدائمة التي يقتضيها التلاؤم مع التغير في المكان والزمان.

فأما شروط الكونية الموضوعية التي حققها المسلمون فهي:

1- منزلتهم في جغرافية المعمورة وفي مقومات القيام المادي للبشرية (ملتقى القارات الثلاث بمدلولها الاستراتيجي والطاقة والبحار الدافئة مثلا).

2- منزلتهم في تاريخ المعمورة وفي مقومات القيام الروحي للبشرية (مشاعر الأديان العالمية العالمية منزلها وطبيعيها والوصل بين الحضارتين القديمة والحديثة من خلال العلاقة بينهم وبين اليونان ثم بينهم وبين اللاتين ) .

3- استئناف المسلمين طموحهم إلى تحديد آفاق البشرية الروحية مستقبلا لشعورهم بامتلاك شروط هذا الطموح (التدافع الثقافي لأن الحضارة الإسلامية تبدو الوحيدة التي ما تزال صامدة أمام تغريب العالم )(3)

4- استئناف المسلمين طموحهم إلى تحديد آفاق البشرية المادية مستقبلا لشعورهم بامتلاك شروط هذا الطموح (التدافع الاقتصادي لأن الأمة الاسلامية تبدو الوحيدة التي لم يبتلعها الاقتصاد الرأسمالي بعد على الأقل سلبا بسبب الفشل الاقتصادي(4) )

5- وأخيرا المنزلة التي تستند إليها كل تلك المنازل أعني كيفية التعامل مع أصلي الحصانة الروحية للأمة قصدت القرآن الكريم والسنة الشريفة: فالقرآن الكريم حدد ثوابت بعد التاريخ وما بعد الطبيعة الإسلاميين في جزئه المكي وحدد وصلهما بالتاريخ والطبيعة في جزئه المدني والحديث الشريف حدد مناهج فهم هذين البعدين وطرق تحقيقهما في الحدث التاريخي (الحديث العادي) وفي المعنى التاريخي (الحديث القدسي).

وأما ضرورة التلازم بين هذه الشروط والإصلاح المتصل فبيانه يقتضي التمييز بين المنزلتين الأوليين والمنزلتين الثانيتين من حيث البداهة وعدمها. فبين أن المنزلتين الأوليين لا يدور حولهما جدال لانهما منزلتان موضوعيتان وجودهما وحده كاف للدلالة على صدق القول بهما وضرورة اعتماد تواصلهما على الإصلاح الدائم للبقاء فضلا عن النماء: فدار الإسلام في قلب المعمورة وتاريخ الإسلام يصل بين ماضي الإنسانية كلها ببعديه التاريخي وما قبل التاريخي ومستقبل الإنسانية كلها ببعديه الحديث وما بعد الحديث. ولولا هذين الشرطين لما كان للصراع معنى بل ولما كان كلام المتصدين لصحوتنا في مسائل صلاح شؤوننا وفسادها فائدة(5) .

لكن المنزلتين الأخريين وصلتهما بالأصل وصلا به أو فصلا معه هما جوهر الإشكال في الكلام على الإصلاح إيجابا وعلى الفساد سلبا في كل الجدل الدائر بطوريه لأن استئناف الطموح التاريخي ببعديه الروحي والمادي ينتج عنه استئناف الدور الإيجابي في التدافع والحوار العالميين حول أهداف العمران البشري وأدواته: الطور المقصور على النخب الإسلامية ثم الطور الذي باتت فيه كل نخب العالم لا تتصور بقاءهما السوي ممكنا من دون المشاركة في إصلاح حال المسلمين سلما أو حربا. لذلك فسنحاول في هذا البحث علاج مسألة الإصلاح ونظيرها السلبي(6) أو الفساد من منظور هاتين المنزلتين الأخيرتين في حالتي الوصل والفصل بالأصل لاستخراج شروط العلاج كما حددتها نظريات ابن خلدون بوصفها زبدة عقول المسلمين في سعيها إلى استخراج فلسفة العمران البشري المطابقة لفلسفة التاريخ القرآنية.

وتعالج هذه الفلسفة وجهين مضاعفين من العمران البشري والاجتماع الإنساني بمصطلح ابن خلدون لم يغفل عما يقرب من معناهما أي فيلسوف جدير بهذه الصفة رغم أنهما لم يصغهما صياغة صريحة في التاريخ الإنساني إلا فيلسوفان مسلمان أحدهما (ابن تيمية) جددهما ذهابا من نظرية النظر إلى نظرية العمل فلسفيا ومن العقيدة إلى الشريعة دينيا والثاني (ابن خلدون) حددهما في الإتجاه المقابل ذهابا من نظرية العمل إلى نظرية النظر ومن الشريعة إلى العقيدة.

فأما الوجه الأول فهو صورة العمران ببعديها اللذين يعرض لهما الفساد الطبيعي أو الثقافي (أي الدولة والتربية ومجموعها هو المجتمع السياسي الذي يمثل صورة العمران) ومطلوب البحث تحديد أصل إصلاحهما المتصل من المنظور الخلدوني

وأما الوجه الثاني فهو مادة العمران ببعديها اللذين يعرض لهما الفساد الطبيعي أو الثقافي (أي الاقتصاد والثقافة ومجموعهما المجتمع المدني الذي يمثل مادة العمران). ومطلوب البحث تحديد أصل اصلاحهما المتصل من المنظور الخلدوني.

ولا يكون أصلا الإصلاح هذان مؤثرين إلا إذا تحقق شرط شروطهما قصدت تناسق العلاج الخاص ببعدي صورة العمران (السياسة والتربية) والعلاج الخاص ببعدي مادته (الاقتصاد والثقافة) تناسقا يستمد من التطابق مع أصل الوجود العمراني السوي الذي هو عين فطرة الله التي فطرت البشرية عليها حيث تتطابق حقوق الإنسان الطبيعية و حقوقه الشرعية على الأقل في المفهوم القرآني. لذلك فهذان الإصلاحان لا يمكن تصورهما فعلين تاريخيين للإرادة الإنسانية يكون فيهما المؤثر والفاعل مؤثرا وفاعلا قصديا من دون إصلاحين متلازمين في ما بينهما وملازمين لهما يسددان فعاليات العقل الإنساني العملية وأخلاق الأمة بمقتضى هذين الإصلاحين: إصلاح فعالية العقل النظري المجرد والمطبق وفعالية العقل العملي المجرد والمطبق. ولما كان إصلاح هذين النوعين من العقل متلازمين وملازمين لإصلاح صورة العمران ومادته بات الفصل بينهما ممتنعا عقلا ونقلا ومن ثم فمن الواجب أن تكون الخطة مؤلفة من ثلاث مسائل هي:

المسألة الأولى: إصلاح العقلين النظري والعملي جمعا لإصلاح فلسفة الدين وفلسفة التاريخ

المسألة الثانية: إصلاح مادة العمران شرطا عمليا وثمرة لإصلاح العقل النظري وفلسفة التاريخ.

المسألة الثالثة: إصلاح صورة العمران شرطا عمليا وثمرة لإصلاح العقل العملي وفلسفة الدين.

 

 

المسألة الأولى

إصلاح فلسفة الدين وفلسفة التاريخ

 

نسبت في كل محاولاتي السابقة إصلاح العقل النظري بداية من أجل إصلاح العقل العملي غاية إلى شيخ الإسلام ابن تيمية. وفسرت ذلك بميل ابن تيمية إلى اعتبار فساد العقل العملي نتيجة لفساد العقل النظري تسليما صريحا منه بأن فساد العمل وتحريف الشرع ناتجان ضرورة عن فساد النظر وتحريف العقد. لذلك فهو قد حاول تخليص العقل الإنساني من ما بعد الطبيعة اليونانية عامة و الأرسطية خاصة لاعتباره إياها علة القول بالضرورة والجبرية الحائلة دون حرية الفعل الإنساني والمؤدية من ثم إلى عقيدة وحدة الوجود النافية لكل القيم.كما نسبت إصلاح العقل العملي بداية من أجل إصلاح العقل النظري غاية إلى ابن خلدون. وفسرت ذلك بميل ابن خلدون إلى اعتبار فساد العقل النظري نتيجة لفساد العقل العمل تسليما صريحا بأن فساد النظر وتحريف العقد ناتج ضرورة عن فساد العمل وتحريف الشرع. فهو قد حاول تخليص العقل الإنساني من ما بعد التاريخ اليوناني عامة والأفلاطوني خاصة لاعتباره إياه علة القول باليتوبيا الحائلة دون عمل التاريخ وعلمه.

لكني في الحالتين(7) لم أربط ذلك بمسألتي الإصلاح الشامل الذي يعالج فساد صورة العمران ومادته إلا ربطا سريعا لم يبرز بوضوح العلاقة الوطيدة بين فساد العقلين وفساد ما يناظرهما في كيان العمران البشري والاجتماع الإنساني من المؤسسات والفعاليات العلاقة التي تتضح عند فهم العلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ. لذلك فقد بقي الكلام على فلسفة الدين وفلسفة التاريخ أصلا ضمنيا في الحالتين دون بيان علل كونهما أصلا لهذين التوجهين في الإصلاح الذي عرفته حضارتنا. ونحن نزعم أن هذا الضمير عند كلا الفيلسوفين هو سبب إخفاق محاولات الإصلاح المبنية على نظرتيهما إلى حد الآن. مطلبنا في هذه المسألة الأولى هو إذن بيان دلالة الوصل بين الإصلاح الشامل للشأن الإنساني وفلسفتي الدين والتاريخ مركزين على الحل الخلدوني في هذه الورقة رغم التناظر العكسي التام بينه وبين حل شيخ الإسلام.

فإذا فهمنا علة التناظر العكسي بين فكر الرجلين فهمنا علة الميل إلى حصر فكر الأول في فلسفة الدين وحصر فكر الثاني في فلسفة التاريخ عند جل القارئين لأعمالهما. وينبغي أن نتجاوز هذين الحصرين لأن ما غلب على فكر أحدهما هو ضمير فكر الثاني: فضمير فكر ابن تيمية فلسفة تاريخ مسكوت عنها وضمير فكر ابن خلدون فلسفة دين مسكون عنها. وعلة الفشل الإصلاحي في النهضة (التي يمكن اعتبار ابن خلدون معينها الأول) وفي الصحوة (التي يمكن اعتبار ابن تيمية معينها الأول) هو عدم إدراك التلازم بين الفلسفتين الدينية والتاريخية عند الفيلسوفين. أما علامة هذا الفشل التي لا تكذب فهي الحرب الأهلية بين ممثلي النهضة (العلمانيين) وممثلي الصحوة (الأصلانيين) لأن الأولين ينطلقون من فلسفة تاريخ تنفي فلسفة الدين أو هي بالأولى تعتمد على فلسفة دين سلبية ولأن الثانين ينطلقون من فلسفة دين تنفي فلسفة التاريخ أو هي بالأولى تعتمد على فلسفة تاريخ سلبية.

وبين أن فلسفة الدين السلبية التي تغلب على فكر النهضة العلماني تحصر أمر الإصلاح الشامل في العلاقة بين العقل النظري والعقل العملي من دون فهم لعلاقة الأول بالعقد وعلاقة الثاني بالشريعة وأن فلسفة التاريخ السلبية التي تغلب على فكر الصحوة الأصلاني تحصر أمر الإصلاح الشامل في العقد والشرع من دون فهم لعلاقة الأول بالعقل النظري وعلاقة الثاني بالعقل العملي. لكن ابن خلدون وابن تيمية بريئان من هذا الخطأ القاتل: ذلك أن ابن خلدون يصل فلسفته التاريخية بفلسفة دينية صريحة كما بينا في غير موضع وابن تيمية يصل فلسفته الدينية بفلسفة تاريخية صريحة كما بينا كذلك.

ورغم أن المناسبة تقتصر على الاحتفال بابن خلدون فإن عملنا لا يمكن أن يهمل هذا التناظر بينه وبين ابن تيمية لأن ذلك يفسد العلاج الفلسفي الدقيق الذي يستمده لفهم أساس الوحدة الناتجة عن التعاكس بين المدخلين والتطابق بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ في فكرهما الممثل جيد التمثيل لأعماق الفكر الإسلامي الأكثر إيغالا: فهذا التطابق في الفكر الإسلامي علته ما صار يعبر عنه عاميا ودون فهم عميق بعدم الفصل بين الدين والدنيا في الإسلام. فسواء انطلقنا من إصلاح تحريف العقد لإصلاح تحريف الشرع أو من إصلاح تحريف الشرع لإصلاح تحريف العقد فإن النتيجة واحدة في نفس الأمر لأن القضية كلها تتمثل في التلازم بين الإصلاحين ولا يقع الاختلاف إلا في التقديم والتأخير: بأيهما نبدأ؟ هل بإصلاح تصورات الإنسان وفكره أم بإصلاح سلوكات الإنسان ومجتمعه؟ أم بهما معا وبالتلازم؟

إن البحث عن تعليل التقديم والتأخير أو الجمع ليس بحثا عقديا ولا هو شرعي بل هو بحث نظري وعملي يؤدي فيه العقد والشرع وظيفة دافع البحث وموجهه لا غير. ففي حال تقديم التصورات والفكر على السلوكات والمجتمع يكون العلاج منتسبا إلى الفلسفة النظرية أما في حال تقديم السلوكات والمجتمع على التصورات والفكر فالعلاج يكون منتسبا إلى الفلسفة العملية. لكنه في الحالتين يدرك ضرورة الجمع بين المدخلين فيفهم طبيعة الثورة الإسلامية التي جعلت قيم ما بعد التاريخ (فلسفة الدين) لا تتعين فهما وتحقيقا إلا بآليات التاريخ (فلسفة التاريخ). ذلك أن الإصلاح في الحالتين ينبغي أن يتلازم مع ثورة روحية تعالج أصل الفعاليتين في مستوييهما الفردي والجمعي أعني إصلاح العقل النظري والعقل العملي الإصلاح الذي يعتبر شرطا ونتيجة لإصلاح صورة العمران ومادته(8) :

إصلاح فعالية العقل النظري: ويتعلق بشروط إبداع العلوم الأدوات لصنع التاريخ ونقد علمه الذي هو بدوره علم أداة في العلوم النقلية ولعله أداتها الأساسية. والمعلوم أن ابن خلدون يعرف بعدي العقل النظري بعديه المجرد والمطبق بالوظيفة الذريعية الخالصة وينفي عنه كل إمكانية في مجال المعرفة ما بعد الطبيعية. وتنقسم هذه العلوم إلى علوم الأدوات الصورية بصنفيها أعني إلى علوم الإنسان الطبيعية (علم الإحياء والنفس) وعلوم الإنسان التاريخية (علم السياسة أو علم فعل قيم العمل وعلم التربية أو علم فعل قيم الوجود(9) ) وعلوم الأدوات المادية بصنفيها أعني علوم الطبيعة (كل علوم الطبيعة المجرد منها والمطبق) وعلوم أدوات العمران المادية (علم الاقتصاد أو علم فعل قيم الرزق(10) وعلم الثقافة أو علم فعل قيم الذوق(11) ). والأصل في ذلك كله هو علم التاريخ الطبيعي والثقافي في وظيفته النقدية والعقدية: فلسفة التاريخ وفلسفة الدين الخلدونيين ترجمة فلسفية لفلسفة الدين والتاريخ القرآنيين.

إصلاح فعالية العقل العملي ويتعلق بشروط إبداع الأعمال الأدوات لصنع التاريخ وعلمه الذي هو بدوره عمل أداة ولعله العمل الأداة الأساسية في العمران البشري. والمعلوم أن ابن خلدون يعرف بعدي العقل العملي بعديه المجرد والمطبق بالوظيفة "التجريبية"(129 وينفي عنه كل امكانية في مجال المعرفة ما بعد التاريخية (نفي التحسين والتقبيح العقليين). وتنقسم هذه الأعمال إلى عمل أدوات العمران الصورية بصنفيها الطبيعي (تقسيم العمل بمقتضى مصادر الرزق) والتاريخي (السياسة أي فعل قيم العمل ذاتها لا علمها(13) والتربية أي فعل قيم الوجود ذاتها لا علمها(14) ) وعمل أدوات العمران المادية بصنفيها الطبيعي (التقنيات والصناعات) والتاريخي (الإقتصاد أي فعل للرزق ذاتها لا علمها(15) والثقافة أي فعل الذوق ذاتها لا علمها(16) ). والأصل هو عمل التاريخ الطبيعي والثقافي في وظيفته الإبداعية الرمزية والإبداعية الفعلية.

إصلاح علاقة الأصلين: ويجمع بين الإصلاحين السابقين إصلاح علاقة فعالية العقل العملي فعاليته الطبيعية والتاريخية بفعالية العقل النظري فعاليته الطبيعية والتاريخية من حيث تحديد غايات الوجود الإنساني أعني جوهر فلسفة الدين وإصلاح علاقة فعالية العقل النظري وبفعالية العقل العملي من حيث تحديد أدوات الوجود الإنساني أعني جوهر فلسفة التاريخ حيث يكون الإبداعان التاريخيان الرمزي والفعلي متطابقين في الفعل الإنساني من حيث هو تطابق بين حدوث الوجود الإنساني الذي هو فعل عقل نظري فني وجمالي وفعل عقل عملي سياسي وخلقي مطبقين Geshehen وحديث الوجود الإنساني الذي هو فعل عقل نظري وفعل عملي مجردين Verstehen.

والتلازم بين الحدوث (ذروة البعد الفعلي) والحديث (ذروة البعد الرمزي) في الحدث التاريخي الذي يكون في الحال أمرا واحدا بعداه الفعلي والرمزي الأسميان ليسا إلا وجهي تحقق وحدة تاريخي الإنسان الطبيعي والثقافي هذا التلازم هو مفهوم السنة الحية أو فعل السن الجامع في الحضارات المبدعة. و السن الجامع المبدع عندما يموت بتوقف الإصلاح الدائم لعلاج ما يصيب العمران البشري من فساد طبيعي أو ثقافي يصبح سنة جماعة مقلدة تنكمش على نفسها في سبات شتوي شبيه بالموت الجماعي إلى أن يصطدم أصحابها بالتاريخ الحي المتجاوز لهم في الحضارات الأخرى فتحصل الأزمات التاريخية التي من جنس ما يعاني منه المسلمون منذ قرنين.

كيف شخص ابن خلدون(17) الفساد الذي أراد إصلاحه حتى نفهم لم كان إصلاحه كما وصفنا أعني إصلاحا منطلقا من ثورة في الفلسفة العملية (=هي عنده فلسفة تاريخ) لتأسيس فلسفة نظرية جديدة (=هي عنده فلسفة دين) ؟ قل أن يجهل أحد كيف ميز ابن خلدون موضوع علمه الجديد عن العلمين النظيرين في الفكرين الفلسفي والديني السائدين في عصره: فلا هو موضوع الأحكام السلطانية(18) ولا هو موضوع السياسة المدنية(19) بل هو تاريخ الإنسان بمقتضى طبائع العمران. لكن القليل يربط ذلك بأمرين مناظرين لهما في المقدمة هما فشل العلماء في السياسة(20) وفشل الثورات الدينية(21) . لكن الترابط بين وجهي الحل المرفوض لا يفهم إلا عند وصله بترابط ثان بين مرضي الحالة المشخصة في الحل المرفوض: فساد صورة العمران ومادته فسادهما الذي يريد ابن خلدون إصلاحه.

فما العلة في فشل الفكرين النظريين الديني والفلسفي في المجال العملي فشلا حال دونهما والتصدي الرمزي لفساد صورة العمران ومادته تصديا مجردا بحيث يحتاج ابن خلدون إلى وضع نظرية في علم التاريخ جديدة تحقق ما عجز عنه الفكران الفلسفي والديني نظريا ؟ وما العلة في فشل الفكرين الديني والفلسفي فشلا نظريا وعمليا حال دونهما والتصدي الفعلي لفساد صورة العمران ومادته تصديا فعليا بحيث يحتاج ابن خلدون إلى وضع نظرية في عمل التاريخ جديدة تحقق ما عجز عنه الفكران عمليا؟ ولم كان اجتماع الفشلين آيلا إلى الفشل الشامل الذي جعل الحضارة العربية الإسلامية تفقد كل قدرة على الحوار والتدافع الحضاريين داخليا فتتردى إلى الحرب الأهلية الدائمة سواء كانت حامية أو باردة وتصبح عاجزة عن الاستعداد للحوار والتدافع مع الخارج؟ لن نطيل القول في الفشلين الأولين لأننا سنعود إليهما في المسألتين المواليتين بل سنعمق النظر في مسألة الفشل الشامل. سنكتفي فيهما بإشارات وجيزة تعد للبحث في الفشل الذي جعل إصلاح شؤون الأمة تصبح مسألة التاريخ العالمي الحالي.

فشل النظر الفلسفي والديني في العمل: داء نخب الخاصة من المتكلمين والفلاسفة

علة فشل الفكرين الفلسفي والديني في نظرية العمل علته جهل طبيعة العلم المطلوب وطبيعة موضوعه: نخب الخاصة من الفلاسفة والمتكلمين ليس لهم علم حقيقي بالتطابق بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ. ذلك هو جوابنا عن سؤال:كيف يثبت ابن خلدون فشل الفلاسفة والمتكلمين في نظرية العمل ؟ يمكن تعليل هذا الفشل بجهل نوعي العلماء بفلسفة الدين التي تستند إليها فلسفة التاريخ المطابقة لعلمه أي إن ابن خلدون يعتبر عدم اكتشاف العلم الجديد دالا على هذا الفشل. فعندما يقول ابن خلدون إن التاريخ ينبغي أن يكون منتسبا إلى الحكمة يظن الكثير من الناس أنه يقول بما يقول به الفلاسفة(229 . لكنهم ينسون أن الفكر الفلسفي ظل على رأي أرسطو الذي يعتبر التاريخ دون الأدب قربا من الفلسفة(23) . وعندما يقول ابن خلدون إن الوجود التاريخي قل أن يخالف الوجود الشرعي يتصور الكثير أنه يقول بما يقول به المتكلمون(24) . لكنهم ينسون أن علم الكلام آل بالتاريخ إلى أدب السير ومن ثم فهو قد جعله مقتصرا على أدب المسامرات والمواعظ(25) .

لذلك فإنه من المفروض أن نفهم أن ابن خلدون في استثنائه العلماء بصنفيهم من السياسة لا يعني العلماء بعلمه الجديد بل العلماء بما كان يقوم مقامه من دون حقيقته أعني أصحاب الفكر الفلسفي والكلامي في ما كان يظن شبيها بموضوع ثورته. وترجع علة الجهل الذي ينسبه إلى العلماء بالمعنى الفلسفي إلى تجاهلهم دور الغائب وراء التدافع الذي أرادوا أن يخلصوا منه السياسة المدنية (اللامعقول فلسفيا) لاقتصارهم على العلم بالكليات الطبعية الحائل دون البلوغ إلى أعيان الموجودات التاريخية في وجهها اللامعقول الذي استثنوه من التاريخ وعلمه تحت مسمى المدن غير الفاضلة: فهم جميعا يعتبرون المدينة نظاما يسود فيه العقل على الغضب وبه يسود على الشوق لصنع التاريخ. أما علة الجهل الذي ينسبه إلى علماء الدين أي المتكلمين خاصة فهو تجاهلهم دور الشاهد وراء الحوار الذي أرادوا أن يخلصوا منه السياسة الشرعية (المعقول فلسفيا) لاقتصارهم على العلم بالجزئيات الشرعية الحائل دون البلوغ إلى سنن الظاهرات التاريخية في وجهها المعقول الذي استثنوه من التاريخ وعلمه تحت مسمى المدن غير المؤمنة: فهم جميعا يعتبرون المدينة نظاما يسود فيه الشرع على الطبع وبه يسود على الشوق لصنع التاريخ.

لكن ابن خلدون وضع نظرية سياسية يتحدد بها التاريخ الفعلي للنوع البشري هي بكامل الدقة العكس التام لما يقول به الفلاسفة والمتكلمون. فالأصل في التاريخ الإنساني كله تدافع طبيعي ينتظم بحسب منطق يكون فيه "المعقول" معلول "اللامعقول" أو الأسمى معلول الأدنى وليس علته لكونه غاية وليس بداية إذ إن المحدد في التاريخ الكوني هو الظرف المحيط وخصائص الإنسان الطبيعية أو التناغم بين الفطرتين الطبيعيتين الداخلية والخارجية خلافا لما يتصور الفلاسفة والمتكلمون. وهذا المنطق مخمس الدرجات المتداخلة: 1- منطق حساب القوى 2- ومنطق حساب المصالح 3-ومنطق حساب الأدلة أو الحجج 4- ومنطق حساب الضمائر أو الخلق 5- والمنطق الجامع بينها جمع المعلوم من فواعل التاريخ وهو الغالب على موضوع فلسفة التاريخ عندما تنفصل عن فلسفة الدين وجمع المكمل للمعلوم بالمتجاوز له أو منطق الإيمان بالغيب استكمالا لفلسفة التاريخ بفلسفة الدين وذلك هو الغالب على موضوع فلسفة الدين التي تعتبر التاريخ خاضعا في الغاية لما بعده أعني للعناية الإلهية.

وكل هذه المحددات هي التي يتقوم بها العمران من حيث هو "المن حيث العمران" الذي يحدد فاعلية الخاصيات الإنسانية الخمس التي أحصاها ابن خلدون بوصفها مسائل علمه الجديد. فقد عينها بدءا بالغاية وختما بالظرف المحدد فقال:" لما كان الإنسان متميزا عن سائر الحيوانات بخواص اختص بها: 1- فمنها العلوم والصنائع التي هي نتيجة الفكر الذي تميز به عن الحيوانات (=أساس فلسفة التاريخ الطبيعي) وشرف بوصفه على المخلوقات (=أساس فلسفة الدين الربوبي) 2- ومنها الحاجة الحكم الوازع (=صلة بالحكم الديني) والسلطان القاهر(=صلة بالحكم الطبيعي) إذ لا يمكن وجوده دون ذلك من بين الحيوانات كلها إلا ما يقال عن النحل والجراد وهذه وإن كان لها مثل ذلك فبطريق إلهامي لا بفكر وروية (=الحوار الطبيعي المصاحب للتدافع الطبيعي) 3-ومنها السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه (=العقلي الذريعي) لما جعل الله فيه من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه وهداه إلى التماسه وطلبه قال تعالي "أعطى كل شيء خلقه ثم هدى" 4 -ومنها العمران وهو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش (=الظرف المحدد والمتقدم على كل محدد) كما سنبينه (..) 5- وله في كل ذلك أمور تعرض من حيث الاجتماع (= مبدأ التفسير الأساسي في فلسفة التاريخ والدين) عروضا ذاتيا له (=للإنسان من حيث هو كائن اجتماعي أو حضاري وليس من حيث هو كائن منفرد أو طبيعي) "(26) .

فشل العمل الفلسفي والديني في العمل: داء نخب العامة من الفقهاء والمتصوفة

علة فشل العملين الفقهي والصوفي هو الجهل بطبيعة العمل المطلوب وشروطه كما يحددها العلم الجديد الذي اكتشفه ابن خلدون: جهل نخب العامة من المتصوفة والفقهاء بعلاقة فلسفة الدين بفلسفة التاريخ. ذلك هو جوابنا عن سؤال: كيف يثبت ابن خلدون فشل عمل الفكر الفلسفي وعمل الفكر الديني في المجال العملي ؟ يتبين ذلك من خلال الفصل الذي ينفي قدرة العلماء على ممارسة السياسة والفصول التي خصصها ابن خلدون للثورات الدينية الجاهلة بشروط الفعل السياسي وقوانينه العمرانية سواء حصلت هذه الثورات بقيادة الفقهاء أو بقيادة المتصوفة.

وحصيلة النظرية الخلدونية في تفسير العمل الفقهي والصوفي تعود إلى عدم الجمع بين شرطي الفعل السياسي المؤثر في التاريخ الإنساني: شرط القوة التي يمكن أن نعتبرها المبدأ الغالب على فلسفة التاريخ عندما تكون منفصلة عن فلسفة الدين وشرط الشرعية التي يمكن أن نعتبرها المبدأ الغالب على فلسفة الدين عندما تكون منفصلة عن فلسفة التاريخ. ويمكن أن نكتفي بعنوانين بليغين من فصل المقدمة الثالث يكفيان لإثبات المسألتين اللتين سنركز عليهما في تحليل شروط إصلاح صورة العمران أعني القوة والشرعية: "في أن الدعوة الدينية من دون عصبية لا تتم" و "في أن الدعوة الدينية تزيد العصبية قوة".

الفشل الشامل أو علل انحطاط الحضارة الإسلامية:

يمكن أن نرجع الفشل الشامل أو انحطاط الأمة الإسلامية إلى عدم فهم المنطق المتحكم في التاريخ وفي علاقته بما بعده سواء من منظور الفكر الديني (فلسفة الدين) أو منظور الفكر الفلسفي (فلسفة التاريخ): تعطيل آليات الحوار والتدافع بين المسلمين التعطيل المؤدي إلى فشلهم المطلق في الحوار والتدافع العالميين. فالتدافع الذي تعد أنواعه محرك التاريخ بمقتضى مابعده تجري بحسب منطق التنافس على أصناف القيم (التدافع الذوقي والتدافع الرزقي والتدافع النظري والتدافع العملي والتدافع الوجودي) داخل نفس الحضارة أو بين الحضارات المختلفة مع تقديم أثر التاريخ الإنساني الكلي على أثر التاريخ الجزئي في مصير تاريخ الأمم وفي مصير التاريخ الكوني أي إن تاريخ المعمورة متقدم الفاعلية والتأثير على تاريخ أي أمة.

ومعنى ذلك أن التاريخ الدولي محدد للتاريخ الوطني دائما حتى عندما كانت البشرية مقتصرا تاريخها على صراع القبائل المتجاورة: فالمحدد هو صراع القبائل الذي يسيطر على الصراع في القبائل بمقتضى كونها لا تنجح في الأول إلا بتأسيس قواعد الحوار والتدافع السلميين في الثاني. لكأن العالم مجال قوى عام مؤلف من مجالات قوى محلية بقاؤها الداخلي ببقاء حيوية صراعيها الداخلي والخارجي. وقد شبه ابن خلدون ذلك في التعريف بحركة الأمواج التي تحصل في بركة ماء عندما نلقي الحصى فيها فتتقاطع الدوائر وتتنافى وتتلاغى وتتراكب فيكون المجال الكلي محددا للمجالات الجزئية.

فيكون تاريخ الإنسان العالمي متقدما على تاريخه القومي لكون الأقوام نفسها نشأت بحسب المنطق الذي أشرنا إليه أعني منطق تحقيق شروط التدافع الخارجي الذي يغلب عليه منطق التاريخ الطبيعي بشروط الحوار الداخلي تغليبا لمنطق التاريخ الحضاري. والجديد في ما يسمى بالعولمة ليس هذا القانون الذي هو ملازم لتاريخ البشرية بل هو صيرورة المعمور المتواصل من المعمورة كل المعمورة بعد أن تقاربت حدود الأمم بمقتضى التكاثر البشري وبمقتضى التقدم التقني في المواصلات والتواصلات. وقد نضيف إلى ذلك أمرين آخرين كانا دائما موجودين لكن الإنسان لم يكن واعيا بأثرهما:

1- الأول هو عدم تأثير الحدود السياسية والحضارية في كونية فاعلية العوامل الطبيعية في الوجود

الإنساني كما يمكن أن يثبت ذلك انتقال الأمراض والتحولات المناخية مثلا.

2- والثاني هو عدم تأثير تلك الحدود في كونية فاعلية العوامل الثقافية كذلك كما يمكن أن يثبت

ذلك انتقال الفنون والمؤسسات والتحولات الخلقية مثلا.

ويمكن أن نجمع الأمرين في ثالث مؤلف منهما ويجمع بين الثقافي والطبيعي أعني أمرا ثقافيا صار مفعوله طبيعيا لاختلاطه به. فالتلوث مثلا ظاهرة ثقافية من حيث المصدر لكنه طبيعي الفاعلية لأنه يصبح جزءا من المناخ فيؤثر وكأنه ظاهرة طبيعية. وهو إذن تحول مناخي طبيعي رغم كونه من صنع الإنسان. لذلك فإنه يمكن اعتباره قنبلة ذرية ذات تأثير بطيء من جنس الفواعل لامتناهية الصغر التي تخضع لمنطق كرة الثلج. ولعل المثال الثاني هو تأثير التغييرات الناتجة عن الهندسة الحيوية بصورة غير مباشرة من خلال العقاقير والأدوية التي تغير الظاهرات الحية كما في ظاهرة الصمود الجرثومي للأدوية وبصورة مباشرة كما في محاولات التدخل في آليات عمل الوراثة.

وقد يجادل البعض في كلية المسألتين الناتجتين عن الأمرين الأولين. فأما المسألة الأولى فالجدل فيها يكون بالتشكيك في كلية التأثير الطبيعي في المستقبل من خلال الإفراط في الإيمان بقدرات التقدم العلمي والزعم بأن العناية الصحية مثلا قد تحقق المناعة لبعض الشعوب الغنية فلا تهتم بالأمراض في الشعوب الفقيرة وتتركها تنقرض فيكون التقدم العلمي مسهما في الانتخاب الطبيعي بالقضاء على غير المتكيف من البشر. وأما الثانية فالجدل فيها يكون بالتشكيك في كلية التأثير الحضاري في الماضي ظنا أن التأثير الثقافي الكوني أمر جديد علته التقدم التقني في المواصلات والتواصلات. لكن البحث الآثاري يثبت أن انتقال الفنون والمؤسسات بين الشعوب أمر ملازم للتاريخ البشري حتى وإن كان ذلك بمنطق البطء الذي كان يقاس به التاريخ القديم.

فالتاريخ البشري كله خاضع لمنطق واحد هو السنن الكونية والتاريخية التي لن تجد لها تبديلا أو تحويلا: إنه جدل الغدو والرواح بين حدين حد البداية الفاصلة مع التاريخ الطبيعي الذي هو معين البداية رغم كون التجديد فيه خاضعا لمنطق تداول الأجيال الطبيعي لا الثقافي وحد الغاية الواصلة مع التاريخ الثقافي الذي هو معين الغاية الذي يصبح حيا إذا صار التجديد فيه خاضعا لمنطق تداول المؤسسات والمعايير الثقافي لا الطبيعي. ويمكن للتيسير أن نرمز إلى أساس هذه الجدلية التي تحدد علاقة فلسفة الدين بفلسفة التاريخ بالعلاقة بين المنطق المتحكم في تجدد قيم الحياة حد بداية والمنطق المتحكم في تجدد قيم العقل حد غاية. فيكون الذهاب والإياب بين قيم الحياة وقيم العقل مجال قيم الصفات الثلاث الباقية إذا اعتمدنا الصفات التي يتألف منها معنى الاستخلاف أو الإنسانية بالمعنى الخلدوني الوارد في تحديده مفهوم الرئاسة الإنسانية رمزا إلى حب التأله عند الإنسان من حيث هو إنسان.

فحب التأله عند الإنسان هو الآصرة بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين. إنه أساس السعي إلى تحقيق ما يمكن للإنسان أن يحقق به ذاته تخلقا بما هو في مستطاعه من صفات الذات الإلهية النفسية كما يحددها القرآن الكريم وكما تقول بها فلسفة الدين التي تعد غاية علم الكلام الإسلامي: الوجود والحياة والعلم والقدرة والإرادة (27) . فمن قيم الحياة إلى قيم العقل نجد قيم القدرة ومن قيم العقل إلى قيم الحياة نجد قيم الإرادة وأصل القيم جميعها هو قيم الوجود الذي تتفرع عنه الحياة والقدرة والعقل والإرادة صفات ذاتية لله جل وعلا يسعى الإنسان إلى الاتصاف بنزر منها هو علة منزلته الوجودية أو تكريم الله له بالاستخلاف(28) .

 

المسألة الثانية

إصلاح مادة العمران أو المجتمع المدني

راوحت التأويلات الحديثة لفلسفة ابن خلدون التاريخية(29) بين التركيز على دور العصبية(30) والتركيز على دور الاقتصاد(31) دون الانتباه إلى التلازم بين وجهيهما الإيجابي والسلبي وإلى العلاقة بين العاملين وعودة الأمرين مع تفاعلهما في الاتجاهين (أثر العصبية في الاقتصاد وأثر الاقتصاد في العصبية) إلى أصل أعمق متقدم عليهما هو ما يرمز إليه ابن خلدون بعبارة حب التألهه عند الإنسان من حيث هو إنسان أو الرئاسة الإنسانية الفطرية أو معاني الإنسانية التي يفسدها العسف والقهر: وجميع هذه الصيغ كنايات على موضوع فلسفة الدين التي تستند إليها فلسفته التاريخية. غلب على بعض التأويلات الكلام على ضرورة العصبية دون قصورها وغلب على البعض الآخر الكلام على قصورها دون ضرورتها. ونفس الأمر يمكن أن يقال عن الاقتصاد ضرورة وقصورا. وفي كلتا الحالتين وقع الإخلال بفهم النظرية الخلدونية فلم يعد بالوسع الاستفادة منها في فهم العمران أو في إصلاحه(32) .

فالعصبية ضرورية بمقتضى حاجة السياسة إلى الشوكة التي هي ثمرة العصبية وليست هي إياها(33) . وتعد الشوكة الشرط الأداتي للسياسي. وهي تتألف من ضربين يعتبران حدين ومن ضربين وسطين بينهما ويجمع بين الضروب الأربعة أصلها الواحد(34) . فحدا الشوكة هما:

1- القوة العلمية التقنية

2- والقوة الاقتصادية ووسطاها هما التأثير المتبادل بينهما أي:

3- أثر القوة العلمية التقنية في القوة الاقتصادية (دور القوة المادية غير المباشرة في القوة المادية المباشرة)

4- وأثر القوة الاقتصادية في القوة العلمية التقنية (دور القوة المادية غير المباشرة في القوة المادية المباشرة)

5- والأصل هو الشوق الحيوي أو إرادة الفعل التاريخي أو حب التملك (من المِلكية إلى المَلََكية)(35) .

والعصبية قاصرة بمقتضى حاجة السياسة إلى الشرعية إذ هي من دونها تفضي إلى الهرج. وتعد الشرعية الشرط الغائي للسياسي (عندما يكون سويا لانها قد تنقلب إلى غاية وخاصة في أواخر العهود ). وهي تتألف من ضربين حدين وضربين وسطين بينهما ويجمع بين الحدين والوسطين أصلهما الواحد(36) . فحدا الشرعية هما:

1- السياسة العقلية

2- والسياسة الدينية. ووسطاها هما التأثير المتبادل بينهما أي:

3- أثر السياسة العقلية في السياسة الدينية (تقديم مقصد العقل:أو الفوز في الحياة الدنيا)

4- وأثر السياسة الدينية في السياسة العقلية (تقديم مقصد الدين(37) : الفوز في الحياة الآخرة).

5- والأصل هو الرئاسة الإنسانية (تقديم مقصد النفس الجامعة للمقاصد كلها: من حيث هي حرة قادرة على حمل الأمانة).

والاقتصاد ضروري بمقتضى حاجة السياسة للثروة التي هي ثمرة الاقتصاد وليست هي إياه. وتعد الثروة الشرط الأداتي للسياسي (عندما يكون سويا وقد تنقلب إلى غاية في نفس الشروط التي رأينا بالنسبة إلى العصبية). وهي تتألف من ضربين حدين وسطين بينهما وأصل الكل. فأما الحدان فهما:

1- الثروة المادية

2- والثروة الرمزية أو الفكرية. وأما الوسطان فهما التأثير المتبادل بينهما أي:

3- أثر الأولى في الثانية (الثروة تؤدي إلى التفرغ إلى جوهر الإنسان الذي هو عند ابن خلدون المعرفة والفن أي مضمون الباب السادس)

4- وأثر الثانية في الأولى (المعرفة تساعد على تنمية وسائل الإنتاج والنمط الحضري بدل النمط البدوي أي مضمون الباب الخامس).

5- أما الأصل فهو دور الرزق المادي والرزق الرمزي: فوظيفة الرزق المادي هي قيام الحياة كما ورد في سورة النساء ووظيفة الرزق الرمزي هي الجاه والوجود أو الاستغناء عن الحاجة ومن ثم فهو رمز الحرية الناتجة عن القدرة الفعلية.

وبذلك يتبين أن العصبية والاقتصاد لا يهمان ابن خلدون من حيث هما ظاهرتان طبيعيتان ومبدآن في فلسفة التاريخ المبتورة بل هما لا يصبحان عنده منتسبين إلى السياسة إلا بسبب عمقهما الوجودي أو دلالتهما في فلسفة الدين عندما يتحولان إلى أداة معبرة عن القيم العملية (البعد الفعلي والرمزي في السيادة) وعن القيم الوجودية (البعد الفعلي والرمزي في الرئاسة) فيكون لكل منهما قانونان ضابطان يحولان دون فسادهما الطبيعي وإفسادهما الثقافي:

فقانونا العصبية الضابطان هما:

القانون الأول: قانون يحافظ عليها من منطلق ضرورتها لحاجة الدولة إلى القوة المحافظة عليها(39) . ويمكن أن تكون هذه القوة قوة عصبية(40) صلة رحم أو قوة عصبية صلة ولاء مباشرتين أو غير مباشرتين بفضل الولاء لعصبية الرحم الحقيقي أو الرمزي أو لعصبية الولاء المصلحي أو الولاء العقدي (سواء كانت العقيدة عقيدة جماعة جزئية أو جماعةكونية)(41) . والأحزاب عصبية ولاء مترددة بين النوعين الأولين وبين النوعين الثانيين: حزب عصبية الرحم الحقيقي وحزب عصبية الولاء المصلحي وحزب الولاء العقدي. وشرط بقاء القوة التي تستمد من صمود عصبية الولاء المصلحة أو العقيدة التي يجدها الموالون في نظام السلطة والجاه.

القانون الثاني: قانون يحد منها من منطلق عدم كفايتها لحاجة الدولة للشرعية المحافظة على فاعلية القوة. وقد حصر ابن خلدون مصدر الشرعية في مفهوم واحد يقبل التسمية بالعقد الاجتماعي مادته تنظيم مصالح العباد تنظيما تخضع له الدولة ويمكن أن يكون أصلا لسياسة عقلية (طاعة المطاع مشروطة برعاية مصالح المطيع الدنيوية) أو لسياسة دينية (طاعة المطيع فيها وسيط هي طاعة الله التي أمرت بطاعة ولي الأمر ذي الولاية الشرعية). لكن الشرعية تشترط عند ابن خلدون السياستين كلتاهما في الواقع الفعلي مع مبدأين حدين قل أن ينتبه إليهما الناس وهما علة فاعلية المبدأين الحاصلين في الفعل قصدت الخوف من القوة المادية العنيفة المطلقة في حال الفوضى عند غياب الدولة (ما يجعل القبول بالظلم أقل الشرين) والخوف من القوة الروحية المطلقة أو حال الحساب يوم الدين (ما يجعل رفض الظلم الدنيوي وتحمله نابعين من نفس المصدر لكون العدل السماوي يمكن أن يكون دافعا للثورة أو معزيا عن الواقع). وشرط بقاء الشرعية التي تستمد من صمود عصبية الولاء انتفاء المضرة التي يجدها الموالون في التلاعب بالحقوق كما حددها الشرع سواء تعلقت بالملكية أو بالمنازل المعنوية في السلم الاجتماعي. لذلك كان الأصل في الحقيقة فلسفة دينية ضمنية كما أسلفنا.

وقانونا الاقتصاد الضابطان هما:

القانون الأول قانون اقتصادي يشترط لتحقيق العدل الحقوقي حرية السوق واستقلال العملة لتكون قيم التعاوض في التبادل عادلة. وكلا الوجهين يتعلق بأمر متناقض في جوهره لأن أحدهما يبدو مناقيا لتدخل الدولة والثاني مقتضيا إياه:

1- فلا بد من الحد من تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية حتى يتحقق شرط التحديد الموضوعي للقيم المادية

(السوق) ولحاملها الرمزي (العملة).

2- ولا بد من إطلاق تدخل الدولة في رعاية المعايير الموضوعية للحفاظ على صدقية قيم التعاوض: حماية

المكاييل والموازين وشروط التعاقد الخ....

القانون الثاني قانون حقوقي شارط للفعالية الاقتصادية قانون حماية الحقوق أو استقلال القضاء. وفيه كذلك توجهان متعارضان لأن أحدهما يبدو معارضا لتدخل الدولة والثاني مؤد إليه.

1- فالوجه الأول يتعلق بالحد من تدخل الدولة في الحياة التشريعية تشريعا وتنفيذا للقوانين المحددة للحقوق

والحامية لها.

2- والوجه الثاني يتعلق بضرورة رعاية الدولة لشروط حرية التشريع ونزاهة التنفيذ فضلا عن حرية المعاملات

بين المواطنين.

وبذلك ينحصر مشكل العلاقة بين العصبية والاقتصاد كله في مسألتين وكلتاهما تتعلق بالحل الأسلم للتوازن بين قوة الجذب وقوة الدفع في مبدئي وجود العمران السياسي والمدني أعني السلطة والثروة المحددين لمحركات التاريخ وضابطيهما الرابطين إياهما بفلسفة الدين:

1- كيف نحدد نظام اقتسام السلطة والجاه أو ما هو أفضل نظام سياسي يمكن استعماله في إقامة مجتمع سياسي يحقق شروط عصبية ولاء للوطن والأمة يعلو على كل ولاء؟ ذلك هو دور ضابطي العصبية اللذين يؤول إليهما جوهر البعد الأول من الإصلاح الذي يدعو إليه ابن خلدون ويؤسسه على فلسفة دين تحدد طبيعة الصلة الغائية بين الحاكميتين الإلهية والإنسانية.

2- كيف نحدد نظام اقتسام الملكية والحقوق أو ما هو أفضل نظام قانوني يمكن استعماله في إقامة مجتمع مدني يحقق التضامن الجماعي بين فئات المجتمع بحيث يكون الجميع مفضلا بقاء الجماعة ومن ثم عاملا على نمائها بدل السعي إلى فضها وانفراط عقدها. وذلك هو دور ضابطي الاقتصاد اللذين يؤول إليهما جوهر البعد الثاني من الإصلاح الذي يدعو إليه ابن خلدون ويؤسسه على فلسفة دين ضمنية تحدد طبيعة الصلة الأداتية بين الحاكميتين الإلهية والإنسانية.

وبتحقيق هذه الشروط يكون العمران البشري قد حقق شروط الإصلاح المتصل أو شروط الاستخلاف الذي هو رعاية الكون أو استعماره بلغة القرآن الكريم استعماره بمن يسأهلون وراثة الأرض. وعندئذ تصدق على العمران مقومات الاستخلاف الخمسة التالية كما عرفها ابن خلدون بوصفها الجسر الرابط بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ في المقدمة لأن الإصلاح رهين تحقيق شروط الاستخلاف أو تأهيل الإنسان للقيام بالأمانة. وتدور هذه التعريفات كلها حول شروط تحقق معاني الإنسانية في العمران البشري: إنه جماع الشروط (فلسفة تاريخ) التي تحقق مفهوم الاستخلاف (فلسفة دين) الذي اعتبره علة اتصاف الإنسان بالعقلين العملي والنظري ومن ثم استئهاله الرئاسة الكونية في عالم المخلوقات.

1- فهو أولا يعرف معنى الإنسانية العملي الخالص منذ بداية الباب الثاني من المقدمة في عرضه لنظرية العمران البدوي وتكوينية الدولة خلال تعليله انقراض الأمم المغلوبة فيقول:" وفيه (أي في إسراع الفناء إلى الأمم المغلوبة) والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له, والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده. وهذا موجود في أخلاق الأناسي"(42) .

2- وهو يعرف ثانيا معنى الإنسانية العملي المطبق في القسم الثاني من الباب السادس من المقدمة عند الحديث عن التربية المستندة إلى القهر والعسف فيقول:" ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين والمماليك أو الخدم سطا عليه القهر وضيق على النفس انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا لامن انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك. وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهو الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها وعاد أسفل سافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف"(43) .

3- كما يعرف ثالثا معنى الإنسانية النظري الخالص في بداية الباب السادس من المقدمة عند الحديث عن مفهوم العقل الإنساني في عرضه التاريخي الابستمولوجي للعلوم العقلية والنقلية فيقول: "واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه. فكان كله في طاعته وتسخره. وهذا معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة. فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر من غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته"(44) .

4- كما يعرف رابعا معنى الإنسانية النظري المطبق في الباب الخامس من المقدمة عند الحديث عن نظرية العمل قائلا:" ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف"(45) .

5- ويجمع بين كل هذه المعاني مفهوم حب التأله في الإنسان أصلا لكل محاولات الاتصاف بالصفات الذاتية للذات العلية ليس في الخلافة بمعناها السياسي (الحاكم) الذي هو فرض كفاية فحسب بل في الخلافة بمعناها الوجودي (منزلة الإنسان من حيث هو إنسان) الذي هو فرض عين: الوجود والحياة والعلم والقدرة والإرادة.

فتكون النتيجة الحتمية للأمم التي أدت سياستها وتربيتها إلى إفقاد الإنسان هذه المعاني ما نراه في حال المسلمين من الانحطاط والفساد الشامل لشؤونهم في مجالات التنافس القيمي بمعانيه الخمسة: التنافس على قيم الرزق والتنافس على قيم الذوق والتنافس على قيم النظر والتنافس على قيم العمل والتنافس على قيم الوجود. ففيها جميعا بتنا تابعين إما لماض أهلي لم يعد مؤثرا إلا تأثير آليات الدفاع المرضية أو لماض أجنبي تأثيره سلبي بالضرورة لأنه يجعلنا دائما في عربة القطار الأخيرة نقلد إبداعات الآخرين بعد أن تموت عند أهلها فتتحول إلى علة التبعية الدائمة.

 

المسألة الثالثة

إصلاح صورة العمران أو المجتمع السياسي

(وفيها علاج سريع لوضعية المسلمين الحالية)

 

بينا فلسفتي الدين والتاريخ الضمنيتين في صورة العمران أي في السياسة والتربية وفي مادة العمران أي في الاقتصاد والثقافة ما هما وكيف تتدخل جميعها في نظرية الإصلاح المتصل الخلدونية تدخلا سنده صلة فلسفة التاريخ (منظور أدوات تحقيق الوجود الإنساني خاصة) بفلسفة الدين (منظور غايات نحقيق الوجود الإنساني). ولما كانت الصورة والمادة متوالجتين في الأعيان رغم قابلية الفصل بينهما في الأذهان وكانتا متبادلتي التأثير فإن الفصل بينهما في عملية الإصلاح المتصل أمر ممتنع. لذلك فعلاج إصلاحهما المتصل لا يكون إلا من خلال إصلاح تفاعلاتهما المحددة بتواصلها حيوية العمران التي تقوى بالتناغم بين صورته ومادته وتضعف بالنشاز بينهما النشار الناتج عن استبداد عاملي الصورة بالمادة أو استبداد عاملي المادة بالصورة. ويصل الفساد غايته عندما يحصل الاستبدادان كما هي حال المسلمين اليوم: فاستبداد صورة العمران سياسة وتربية بمادته هو مفهوم سرطان الدولة البوليسية واستبداد مادة العمران اقتصادا وثقافة بصورته هو مفهوم سرطان الفساد العام في المجتمع . وبذلك تنحصر مسائل الإصلاح الشامل كله في قضيتين جامعتين لوجهي الصورة (السياسة والتربية نظرا وعملا) والمادة (الاقتصاد والثقافة نظرا وعملا) لأن علاجهما يحقق شروط إصلاح شأن المسلمين ما دامت ثمرته هي تحقيق الصلح بين فكر النهضة وفكر الصحوة الفكرين اللذين عادا بالأمة إلى الحرب الأهلية خاصة منذ أن صار شأن الإصلاح شأنا دوليا:

1- القضية الأولى هي كيف نحقق شروط القوة الشرعية: كيف نحقق وحدة التنوع الإنساني في المجتمع المسلم بالتغلب على القوة الطاردة تحقيقا يغنينا عن الحاجة إلى الدولة البوليسية والخداع العام بعضنا للبعض: ذلك هو مجال التصرف الراشد في الحقوق المعنوية والتربية. وبصورة سلبية كيف نتغلب عن الطائفية والعرقية اللتين استعرتا في كل أقطار الأمة بسبب فساد النظام السياسي والتربوي ؟ طبيعة الحل السياسي تكمن في ضرورة أن يكون رعاة أمر الأمة ممن ترضى عنهم الأمة فتختارهم لهذه الرعاية وفي طبيعة الحل التربوي التحررية والنقدية.

2- القضية الثانية هي كيف نحقق شروط الشرعية القوية: كيف نحقق وحدة التنوع الإنساني في الجماعة المسلمة بتقوية القوة الجاذبة تحقيقا يغنينا عن الحاجة إلى آليات الفساد في التعامل والتعاوض والنفاق العام: وذلك هو مجال التصرف الراشد في الحقوق المادية والثقافية. وبصورة سلبية كيف نتغلب على الصراع الفئوي والظلم اللذين استعرا في كل أقطار الأمة بسبب فساد النظام الحقوقي والنظام الإعلامي؟ طبيعة الحل القانوني الحقوقي تكمن في ضرورة أن يكون الشرع مستندا إلى الأخلاق الإسلامية لا إلى الفقه بمعناه الذي قضى على خاصية فرض العين في التشريع فحوله إلى فرض كفاية يقوم بها الفقهاء(47) دون فكر عميق حول مبادئ الأخلاق الإسلامية (لا نصوص الأحكام الفقهية) التي يستند إليها التشريع مبادئها العامة في القرآن الكريم وسنة الرسول الكريم وفي طبيعة الحل الإعلامي التحرري والنقدي خضوعا لمبدأ التواصي بالحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(48) .

والقضيتان متلازمتان. فلا يمكن حل احداهما من دون حل الأخرى أي إن التغلب على القوة الطاردة سلبا وتقوية القوة الجاذبة إيجابا هدفهما واحد هو: تحقيق وحدة المتنوع والمتعدد بالطبع في كل جماعة بشرية تتألف منها أمة شاملة أو أحد شعوبها دون حاجة إلى الخداع والنفاق العامين. فيصبح المشكل كله شروط تحقيق شروط الرعاية الصالحة لشؤون الأمة وحقوقها تشريعا وتنفيذا ورقابة ومن ثم كيفية اختيار رعاة الأمر وشروط العدل في توزيع السلطة الزمانية والروحية والثروة المادية والرمزية. والقضية الأولى تتعلق بكيفية التغلب على الصراع الطائفي (بعد أن أحياه فكر الصحوة ) والعرقي ( بعد أن أحياه فكر النهضة ) في الأمة وكيفية حسم المقابلة الزائفة بين التشريع الديني والتشريع الوضعي.

الحكم الراشد

ذلك هو رهان النظام العادل من المنظور الإسلامي الذي ينبغي ألا يكون مثاله الأعلى النظام الديموقراطي الحالي بل نظام أفضل منه نقدمه للإنسانية بعد استخراجه من مبادئ رعاية الأمر كما حددها القرآن الكريم. فمن الأخطاء الفلسفية الشائعة تجاهل التناقض الجوهري بين نظرية الديموقراطية وتبنيها العملي بحجة أنها أقل الموجود سوءا. فليس من الصدفة أن النظرية الفلسفية تعتبر الديموقراطية أسوأ الأنظمة السياسية. إنها تنبني على أصلين سلبيين لا ينكرهما أحد:

الأول هو: نفي سلطان الحقيقة والعقل وتعويضهما بسلطان لعبة الحظ الانتخابية بكل ما يعتريها من تلاعب وغش.

والثاني هو: التسليم بامتناع تحقيق شروط النزاهة الأفضل للعبة الحظ الانتخابية والاستعاضة عنها بفنيات الخدع التي تضفي عليها ظاهرا من المشروعية.

لذلك فكل نظام يتحدد فلسفيا بهاتين الخاصيتين يمكن أن يتصف بصفات النظام الديموقراطي من حيث هو شكل مؤسسي يعالج قضايا المجتمع المدني والسياسي لينقلهما من الحرب الأهلية الحارة (الصراع الدامي العلني على الحكم بوصفه وسيلة الحصول على القيم والتغير الانقلابي) إلى الحرب الأهلية الباردة (الصراع الدامي غير العلن على الحكم لنفس الغايات). فيكون الفرق بين السرطان الذي نعاني منه وهذا النظام هو الفرق بين الحرب الباردة في الداخل من أجل الحرب الحارة في الخارج لا غير إي إننا لن نصلح شأننا من منطلق القيم القرآنية بالحل الديموقراطي بل نقبل بمنطق التاريخ الطبيعي الذي تطبقه الديموقراطية الغربية. فهي تطبق السلم الداخلية من أجل الحرب الخارجية الدائمة. ليست هي إذن إلا حربا أهلية كونية تشمل المعمورة خاصة منذ أن أصبحت قرية بفضل التكاثر والتواصل البشريين وتناقص الموارد ومن ثم تزايد التنافس عليها تزايد قد يؤول بالبشرية إلى حروب القبائل على الماء والكلأ. فهل نريد أن تكون حياة البشرية خاضعة لمنطق التاريخ الطبيعي فتبقى في الحرب الأهلية الدائمة أم إن الرسالة الإسلامية تطالبنا بأن نكون شاهدين على العالمين فنقدم لهم السلم الأهلية الكونية من منطلق الأخوة البشرية ؟ ما العلة في فقداننا الطموح إلى استئناف دورنا في التشريع الكوني بصوغ رسالتنا التي حددها لنا القرآن الكريم ؟

لا شك أن التفاوض وتقاسم المصالح هما سبيل التعايش بين الأفراد والفئات داخليا. لكنهما لم يبقيا كافيين منذ أن أصبح من الواجب تعميمهما على المعمورة ما يوجب التخلص من الحل الديموقراطي الغربي الحل الذي يجعل السلم الداخلية أداة لتحقيق القوة الداخلية التي تمكن من الحرب الخارجية: وذلك هو جوهر الحل الديموقراطي الغربي الذي توسع الآن ليشمل كل الغرب كما يرمز إلى ذلك توسيع دائرة عمل الحلف الأطسي. أما ما نريده بديلا من تعميم منطق التاريخ الطبيعي أعني منطق الصراع والبقاء للأقوى فهو الحل الديموقراطي الإسلامي الذي يعالج:

1- قضايا المجتمع المدني وتتعلق بالسلطة الروحية في مجال الغايات تحديدا لقيم الذوق والرزق في

صلتهما بالواجب والمثال من القيم المعرفية والوجودية دون أن نقصر ذلك على الداخل بل نعممه على المعمورة

2- قضايا المجتمع السياسي وتتعلق بالسلطة المادية في مجال الأدوات تحديدا للمتصرفين النافذين إيجابا

(حكما) وسلبا (ومعارضة) في قيم الذوق والرزق في صلتهما بالحاصل والواقع من القيم المعرفية والوجودية دون أن نحصر ذلك في الداخل بل نعممه على المعمورة.

ويمكن أن نحدد أفضل الحلول من منطلق فلسفة الإسلام لو تخلصنا من توثين الموجود للبحث على أفضل تعيين للمنشود. فالرهان الحالي في لعبة الحظ الديموقراطية الغربية هو تعيين الأغلبية التي تتولى تصريف قيم الرزق والذوق والنظر والعمل والوجود في مستويي التصرف التشريعي والتنفيذي بحسب بعدي التمثيل المدني (المجتمع المدني) والسياسي (المجتمع السياسي) في الداخل والعمل بعكسها في الخارج. ويمكن أن نقول إن هذه الآليات الديموقراطية تناوس بين حدين مطلقين هما النسبية المطلقة (تفسد بسرعة لأنها تعطل القرار التنفيذي) والأغلبية المطلقة (تفسد بسرعة لأنها تعطل الروية التشريعية) مع وسيطين يمزجان بينهما في التشريع والتنفيذ (النظم البرلمانية الخالصة) معا أو في التشريع دون التنفيذ (النظم الرئاسية الخالصة) وتأليفات لا متناهية بين الوسيطين جمعا بين البرلماني والرئاسي بغلبة هذا أو ذاك.

فيتبين من ذلك أن النجاح الحقيقي في المؤسسات الديموقراطية التي وصفنا(49) معياره ليس آلية اختيار المتصرف في الشأن العام بل تعيين كيفيات تقاسم السلطة في مستوياتها كلها أو في بعضها تقاسما بالقوة وليس بالفعل فيجعل أمل الوصول إليها عند الجميع رغم علم الجميع أن الوصول إليها يخضع لآليات ثابتة في كل عمران: هي آليات تدافع القوى المنظمة. ومن ثم فكل نظام يمكن من تقاسم السلطة في المستويين المدني والسياسي تشريعا وتنفيدا يتجاوز الديموقراطية الغربية فيشمل كل الإنسانية ويمكن الجميع بالقوة إن ليس بالفعل (وليس ضرورة بالفعل لاستحالة ذلك) من الحقوق والواجبات في القيم الذوقية والرزقية والنظرية والعلمية والوجودية يعد أفضل نظام مهما كانت التسمية لأن العبرة هي بالتوفيق بين التعدد والوحدة ومن ثم بالعدل والمساواة بين المقومات في الأذهان وقدر المستطاع في الأعيان.

لذلك فنحن نقترح نظاما جديدا يعتمد على القانون القرآني الذي يعتبر الوجود كله قائما على النسب العددية او القدر الذي خلق بمقتضاه كل شيء. فيكفي أن يحدد هذا النظام نسب تقاسم السلطة في الداخل والخارج أو النسب التمثيلية بحسب نظام الرتب الاجتماعية المرن (أي النظام المفتوح وغير الثابت ومن ثم الذي يصاغ بعد فترات منتظمة وصفا لحال المنازل لئلا تثبت فتموت الحركية العمرانية) جمعا بين التعدد الناتج عن الأدوات الغالبة على نظام القيم في الحضارة الغربية والتعدد الناتج عن الغايات الغالبة على نظام القيم في الحضارة الإسلامية ليكون البديل الأصلح لرعاية الشأن البشري في المعمورة التي صارت قرية فنتخلص من منطق التاريخ الطبيعي لنستعيض عنه بمنطق التاريخ الخلقي. وتسند سلطة التنفيد في هذا النظام إلى من يحصل الإجماع على تعاليهم على المقابلات التي يتحدد بها التعدد ليكون في خدمة القيم المشتركة للجميع فنخلص العمران البشري من منطق التقابل والتنافي الجدلي ونستعيض عنه بمنطق التآخي والتراحم كما بينا في هذه المحاولة(50) .

شروط نجاح الحل الديموقراطي الإسلامي:

ذلك هو الحل الذي سيمكن بالعدل بين القوميات والشعوب من تحقيق الوحدة الإسلامية (نموذجا لتحقيق الوحدة البشرية) وتهميش دعاة الانفصال مثلا فيجعل قومياته النموذج الحي للنظرية الإسلامية التي تعتبر التعارف بين الشعوب والقبائل شرط الحياة الإسلامية التي نقدمها نموذجا اختياريا للبشرية. وإذا كان يحق لنا أن نضرب مثالا حيا عن مجال ساخن لتطبيق هذه القاعدة فإن العراق يعد أفضل الأمثلة السلبية وماليزيا أفضل الأمثلة الايجابية من علاج القضية. فالعراق يمكن أن يسترد عافيته إذا اعترفت نخبه السياسية بحقائق التأليف المذهبي والعرقي مثل اعتراف النخب الماليزية بهما. ذلك هو الحل الوحيد الذي ينقلها من وضعها الحالي النافي لوحدة العراق بالمحاصصة الطائفية والعرقية كما يريد العدو إلى التطبيق الحي للمبدأ الإسلامي الذي يعتبر الوحدة الحية تأليفا عادلا بين عناصر المعادلة الفعلية للشعوب والقبائل التي يتألف منها مواطنو دولة من الدول.

فالمهم اكتشاف المعادلة التي تمكن من اقتسام الرزق والذوق ورمزيهما أي السلطة الزمانية (السياسة) والسلطة الروحية (الدين) بالعدل في الأمة الواحدة وفي المعمورة بين الأمم. عندئذ سيعترف الجميع بالنخب المتعالية على هذه الفروق إذا كانت ممثلة بحق للعدل بين الفئات والأعراق. ولا معنى لاعتبار الدولة الحديثة المبنية على القوى السياسية والقوى المدنية بالمعنى الحديث معيارا للوجود العمراني السوي إلا إذا بنينا ذلك على تطوير البنى الفعلية للمجتمع المعين. لا ينبغي أن نتجاهل أن مجتمعاتنا لا يزال فيها للعشيرة والقبيلة والطائفة والعرق الدور الحيوي الذي لها في جل أقطارنا: ما يهم في التوافق بين البشر ليس الأسماء بل المسميات لأن لحمة النسيج العمراني أهم من الشعارات.

فالمجتمعات المزعومة متقدمة نفسها لا تستمد تماسكها من التنظيمات المدنية السطحية بل هي تستمده من الروابط العميقة المستندة إلى مقومات الالتحام الأصلي في العمران البشري: أعني تقاسم الدور في عنصري صورة العمران (السياسة والتربية) وفي عنصري مادته (الاقتصاد والثقافة). لذلك فلحمة العمران في العراق ليست عينة ممثلة للنسيج الاجتماعي في كل أقطار الوطن العربي ودار الإسلام بحسب بل هي ممثلة للحمته في كل عمران سوي بخلاف مظاهر السطح التي يتصورها التحديثيون شرطا في التحديث. ولعل أفضل لحظات بروز هذه الحقيقة هي اللحظات التي تتعرض فيها الأمم للأزمات: عندئذ لا تصمد إلا اللحمات ذات القيام الفعلي في الترابط الاجتماعي.

يمكن للدولة أن تكون أحدث ما يكون وأكثر ديموقراطية من الديموقراطيات الحديثة إذا هي فهمت حقيقة المعنى الإسلامي لنسيج الشعوب والقبائل النسيج الذي نرى رؤية العين في العراق الحالي صورته المنحطة نكوصا إلى الجاهلية بسبب نسيان قيم القرآن الكريم في التعامل مع السياسة والتربية والاقتصاد والثقافة. فالنسيج الاجتماعي هو أساس حماية الفرد من استغلال قوة الدولة ضد الأفراد أو المجموعات وهو أساس حماية الدولة الوطنية من العدوان الأجنبي والاحتلال بخلاف مفهوم الفرد المجرد من هذه الروابط والمقتصر وجوده المدني على الروابط الاصطناعية للعمران الحديث. ويكفي أن نعترف بمقومات النسيج العمراني ومكوناته وأن نعاملهما بمبدأ التعارف بين الشعوب والقبائل في نفس الدولة أو في الدول المختلفة وبالعدل بينها كما يوجب ذلك الإسلام حتى تعود الأمة إلى سر قوتها المادية والروحية فتستأنف دورها التاريخي في التدافع والحوار الأمميين.

التشريع الراشد

كيف يمكن تجاوز المشكل الزائف الناتج عن المقابلة بين التشريع المنزل والتشريع الوضعي في بلاد الإسلام؟ كل الفرق الإسلامية وكل المذاهب الفقهية تتفق على مبدأيين يلغيان القضية من أساسها.

1- فالجميع يؤمن بأن الرسالة خاتمة ومن ثم فالشرع المنزل مقصور على ما يوجد في القرآن والسنة

وهو مجموعة منغلقة وغير قابلة للزيادة. وكل محاولات القياس حتى بعد أن بلغت الذروة في نظرية المقاصد لن تحل هذا المشكل إلا بالحل الزائف الذي يبرر استبداد الفقهاء بسلطة التشريع ومنع الأمة من القيام بفرض العين في التشريع المنوط بها مباشرة أو بتوسط من توكله للقيام بالمهمة.

2- والجميع يسلم بأن النصوص المحدودة لا تحيط بالنوازل اللامحدودة ومن ثم فلا بد من تشريع

تكميلي من وضع الأمة إما مباشرة بالعرف أو بصورة غير مباشرة بتوسط السلطة التشريعية. ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بإبداع مؤسسة التواصي بالحق طلبا للحقيقة والحق للعمل بهما فتكون الأمة المشرع الفعلي في ما ليس فيه نص خاص بمجالات التقويم الخمسة: التقويم الذوقي (قيم الجمال ) والتقويم الرزقي (قيم الاقتصاد) والتقويم النظري (قيم المعرفة) والتقويم العملي(قيم السياسة) والتقويم الوجودي ( قيم ما بعد التاريخ الدينية وما بعد الطبيعة الفلسفية).

لذلك كان الحل مترددا بين حدين أدنى وأعلى ووسطين وأصل كل هذه الحلول التي تحكم هذه المعادلة. فأما الحد الأدنى بمقياس الاعتماد على التشريع الوضعي فهو القائل بوجوب استعمال القياس واستقصاء جمع السنن النبوية حتى يتحقق ما أمكن من التناظر بين النصوص والنوازل والقبول بالعرف والمصالح المرسلة في ما عدا ذلك. وأما الحد الأقصى بنفس المقياس فهو القائل بوجوب حصر النصوص في ظاهرها وتجنب القياس واعتبار ما لم يرد فيها من المباح الذي علينا علاجه بحسب أخلاق التشريع الإسلامي وقيمه إما سلبا بالمصالح المرسلة والعرف أو إيجابا بالتشريع الوضعي المستجيب للمصلحة. والوسطان طبعا هما حل المقاصد وحل التوفيق بين المذاهب.

لكن ما غاب عن الجميع هو أن كل هذه المواقف تشترك في أصل واحد لو انتبه إليه الفقهاء لزال المشكل من أصله. فكل هذه الحلول تستمد شرعيتها في الغاية من إرادة الأمة بمعنيي الإرادة أي الكراهة أو القبول والرفض لشريعة ما كلها أو بعضها. و رغم عدم وجود الآلية التي تعبر بها لأمة عن القبول أو الرفض إذا ما استثنينا الأعراض الفوضوية التي من جنس الحمى في الجسد الفاقد للمناعة فإن تاريخ التشريع في كل الحضارات يثبت صحة هذا المبدأ. لذلك فإنه يكفي أن نعالج هذا المرض بإيجاد آليات تعبر بها الأمة عن إرادتها التشريعية لتعود كل هذه الحلول إلى الوضع بهذا المعنى المتقدم على تصنيف التشريعات إلى دينية منزلة وعقلية موضوعة.

وسواء كان قبول الأمة ضميرا كما كان عليه الشأن قبل إثارة المشكل وطلب حله أو صريحا من إثارته إلى علاجه الصريح الذي نقترحه فإن الوضع المتقدم على التصنيف هو الذي يجعل التشريع الوحيد الذي يقول به الإسلام هو التشريع الذي تضعه الأمة مباشرة أو بتوسط الولي الذي تنوبه باختيار حر لكون الإسلام حصر العصمة في إجماع الأمة. فالتشريع المنزل نفسه لا يكون نافذا إلا لكون الأمة تواضعت على ضرورة تطبيقة وآمنت بقدسيته إذ لا معنى لقدسية لا يؤمن بها من سيخضع لها خضوعا طوعيا من أغلبية الأمة فيوجب خضوع الأقلية له كرها بحسب الضرورات التي يقتضيها النظام العام الشرعي. ولما كان الرسول الكريم قد اعتبر الأمة معصومة فإن تشريعها لا يصبح وضعيا بالمعنى المنافي للأخلاق والقيم الإسلامية إلا إذا نفت المبادئ العامة لهذه الأخلاق والقيم ومن ثم إلا إذا بات تشريعا دكتاتوريا وليس تشريعا ديموقراطيا.

وبذلك ينحصر الخلاف في موقف لا يمكن للعلماني أن يدافع عنه(51) . فما لم تؤمن الأمة بقدسية القيم التي يستند إليها التشريع الوضعي (بمعنى التشريع القسيم للتشريع المنزل وليس بمعنى الإرادة العامة التي تختار صنف التشريع الذي تريد أن تحيا عليه وبه) أعني أخلاق الأمة وقيمها فإنه لن يبقى تشريعا من وضع الأمة مباشرة أو بتوسط سلطها الشرعية بل هو عين الدكتاتورية حتى ولو كسته الشكليات الديموقراطية كما هو الشأن في كل محاولات التحديث الحقوقي الاستبدادي المستورد والذي طبقته النخب العربية والإسلامية من فوق فآلت بالأمة إلى الاستسلام لفقهاء الوضع استسلامها السابق لفقهاء الشرع مع فارق عدم الإيمان بقدسية ما يمثله أولئك(52) .

لذلك فالخلاف بين الوضعيين والتنزيليين خلاف لفظي اللهم إلا بالنسبة إلى بعض الوضعيين الذي ينفون أن يكون التشريع خاضعا لأخلاق الأمة وقيمها فلا يكون شرعا أهليا عندئذ بل حكم استعماري مفروض بالقوة على الأمة إذ إن من شروط الشرع الوضعي أن يكون من وضع الأمة أو على الأقل من وضع أغلبيتها التي صارت لها أهلية التشريع باسمها في النظام الديموقراطي الذي يتكلمون عليه.

الخاتمة

الخاتمة عود على بدء. لكن العود يكون من منطلق الغاية. وهي هنا فلسفة الدين القرآنية المطابقة لفلسفة التاريخ الخلدونية. فكيف نفهم اصطدام منطق الكونية الإسلامية بمنطق العولمة البربرية ؟ نعود إذن إلى الطابع الكوني للأزمة التي تمر بها الأمة الإسلامية و العلل التي لأجلها بات إصلاح شأن المسلمين أمرا جوهريا في السياسة الدولية بكل معانيها. ولما كانت هذه المسألة تمثل جوهر المسألة التي تتكرر في شكل خيار بين حوار الحضارات وصدامها فإننا نعالجها من مدخل التلازم بين التدافع والحوار في التاريخ الإنساني كما يمكن استشفافه من المنظور الخلدوني تأويلا للمنظور القرآني. فما الحوارات الملازمة للتدافع والتي تحصل سواء أردنا أو لم نرد لملازمتها أنواع التنافس القيمي بين البشر عندما يكون الحوار ذا فاعلية حقيقية وليس مجرد ثرثرة عديمة التأثير أعني ما الحوار المضطر بين البشر حوارهم الذي لا يخلو منه عمران بشري ؟

في القلب يوجد حوار دائم بين ممثلي قيم الرزق وممثلي قيم الذوق مباشرة أي أصحاب التجربة المباشرة ثم بين ممثلي قيم رمز الرزق (السلطة الزمانية) وقيم رمز الذوق (السلطة الروحية) أي أصحاب التجربة غير المباشرة. إنه الحوار الذي لا مفر منه بين ممثلي قيم الحقيقة الحيوية ذاتها وممثلي معناها الرمزي في الحضارات أولا ثم يبين الحضارات المتساوقة أو المتوالية في التدافع الكوني الدائم. وفي الحد البدائي الأقصى أعني بداية الخروج من تاريخ الإنسان الطبيعي إلى تاريخه الحضاري تدافع مادي خالص بين البشر على قيم الرزق وقيم الذوق الخالصين. وفي الحد الغائي الأقصى أعني نهاية هذا الخروج تدافع روحي خالص بينهم على رمز الرزق ورمز الذوق الخالصين.

لكن فلسفة الإسلام الدينية المطابقة لفلسفته التاريخية تجاوزت هذه المقابلة لتطابق بين الأمرين مطابقة مطلقة في المثال الأعلى الذي لا يتحقق إلا في ما ترمز إليها حياة الجنة الخالدة بعد البعث حيث يزول الفرق بين تاريخ الإنسان الطبيعي وتاريخه الحضاري في اللاتاريخي الوجودي أو الخلود السعيد أو ليفصل بينهما فصلا مطلقا في رمز نقيض خلود الجنان أي خلود العذاب في اللاتاريخي العدمي أو الخلود الشقي. أما في الحدين النسبيين أو ما بين القلب والحد الأول وبينه والحد الأخير فإننا نجد ضربين من الحوار الملازمين للتدافع:

1- فالأول هو حوار سعي أصحاب الرزق والذوق إلى السمو إلى رمز الرزق ورمز الذوق أو مرحلة إبداع سلم المنازل وإبداع الفنون أو توق البدوي إلى قيم الحياة الحضارية. ويمثل هذا الحوار حركة التاريخ من الطبيعي إلى الثقافي أو حركتة من شباب الإنسانية إلى شيخوختها.

2- والثاني هو حوار سعي أصحاب رمز الرزق ورمز الذوق إلى العودة إلى الرزق والذوق أو مرحلة طلب المعنى وراء السلم والفنون أي توق المتحضر إلى قيم الحياة الطبيعية. ويمثل هذا الحوار حركة التاريخ من الثقافي إلى الطبيعي أو حركته من شيخوخة الإنسانية إلى شبابها.

لذلك فابن خلدون يتكلم على ضربين من الغلبة. فالبداوة تابعة دائما للحضارة في قيم الحياة الحضرية التي هي غاية تسعى إليها طلبا للدعة والراحة وسد الحاجات. لكن الحضارة تابعة دائما للبداوة في قيم الحياة الطبيعية التي هي بداية تحن إليها طلبا للفتوة والقوة الحيوية. لكن الطلب والحنين في الاتجاهين يتخذان أبعادا وجودية عميقة يمكن الرمز إليها بطبيعة التحيز الذي يعبر عنهما.

فقيم الحياة الطبيعية يمكن بمنطق الفلسفة الدينية والتاريخية أن نرمز إليها بكيفيات ترجمة الحيزين الطبيعيين (=المكان والزمان) إلى ضروب وجودية لتعين الحياة البشرية فيكون التدافع والحوار مدارهما حول مسألة تقاسم المكان والزمان والتنافس على الحصص فيهما: فالوجود الإنساني يتعين في الإمتداد (الحصة من المكان) والمدة (الحصة من الزمان) الفعليين ويرمز إليهما الدور في الثروة الفعلية والثروة الرمزية للأمم أي مادة العمران التي تتألف من الاقتصاد والثقافة. والحصة من المكان يمكن أن تكون ملكا لقطعة منه أو سلطانا على المكان دون ملكية قطعة منه كما هو شأن الشركان العالمية التي تسيطر على المكان بالسيطرة على الأسواق. كما أن الحصة من الزمان يمكن أن تكون قياما في قطعة منه هي المدة أو سلطانا عليه دون قيام كما هو شأن المبدعات الفكرية التي تبقى بعد زوال أصحابها.

وقيم الحياة الحضرية يمكن الرمز إليها بكيفيات ترجمة الحيزين الثقافيين (=سلم المنازل الاجتماعية والدورة الوجودية) إلى ضروب وجودية لتعين الحياة البشرية فيكون التدافع والحوار مدارهما حول مسألة تقاسم المنزلة في السلم الاجتماعي وفي الدورة الوجودية والتنافس على الحصص فيهما: الوجود الإنساني يتعين في الامتداد الرمزي (المنزلة في السلم الاجتماعي أو الوجاهة الزمانية بلغة ابن خلدون) والمدة الرمزية (النزلة في المنظور الوجودي أو في وحدة تحول الموجودات بعضها إلى بعض في أصلها أو الوجاهة الروحية بلغة دينية) ويرمز إلى أولهما الدور في السلطة الزمانية وإلى الثاني منهما الدور في السلطة الرمزية للأمم أي في صورة العمران التي تتألف من الدولة والتربية.

ويجتمع الأمران في التدافع والحوار الجاريين في التعبيرات الحضارية الشاملة لوجود الأمم الرمزي لصياغة مسألة الوجود الإنساني في علاقته بالوجود المطلق وذلك هو المعنى العميق لفلسفة الدين المطابقة لفلسفة التاريخ من المنظور القرآني كما فهمه ابن خلدون: فيكون التعبير على التعينات السابقة في التعين الرمزي الرئيس بأشكاله الأدبية والأسطورية والدينية والفلسفية أشكاله الممكنة من التعالي على المحايث بفضل فلسفة الدين وفلسفة التاريخ. ويكون مدار الحوار الإنساني الشامل حول غايات الوجود ورؤى العالم في الأساطير والفلسفات والآداب (فلسفة الدين) وأدواته (فلسفة التاريخ) لتكتمل في خاتم الأديان الذي يتبين معنى الختم فيه عندما يصبح مصير البشرية واحدا ليس في مستوى التمني فحسب بل في الواقع التاريخي الفعلي كما نعيشه الآن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)وهذا المبدأ الأول انحرف عن مدلوله الإسلامي العميق فأصبح المصدر الثاني لاهتمام العالم بإشكالية الإصلاح الإسلامي. فالاجتهاد قد انحصر في مدلوله الفقهي بسبب الانحطاط الذي كان غاية الانحراف. وما كان بديلا من السلطة الروحية الداعية لاستقلال عقل المؤمنين السلطة التي نقدها القرآن الكريم في الأديان المحرفة بات أصلا لها عند المسلمين. ذلك أن الفقهاء جعلوا الاجتهاد الفقهي مقصورا على القياس الفقهي الذي هو وسيلة لاستبداد السلطة القضائية والإفتائية بالسلطة التشريعية بحيلة نقل قدسية الأصل المقيس عليه إلى الفرع المقيس وباتت كل اجتهادات الفقهاء مقدسات وهو ما يسمى بضرورة تطبيق الشريعة أعني السبب الأول للتدخل الدولي في الإصلاح الإسلامي. وليس هذا هو المهم في المسألة بل المهم هو قتل مدلول الاجتهاد في معناه القرآني أعني التواصي بالحق طلبا للحقيقة في العلم وللحق في العمل وليس مجرد شرح نصوص الأحكام بقواعد أصول الفقه. لكن هذا الشرح رغم كونه جزءا ضئيلا من طلب الحقيقة والحق تضخم إلى حد قتل هذا الطلب الذي هو فرض عين فمات الفكر العلمي والعملي وأصبحنا حضارة سلطتين مستبدتين: استبد العلماء بالتشريع واستبد الأمراء بالتنفيذ واستقالت الأمة تشريعا وتنفيذا فبات فكرها طائرا مهيضا.

(2)وهذا المبدأ الثاني انحرف عن مدلوله الإسلامي العميق فأصبح المصدر الأول لاهتمام العالم بإشكالية الإصلاح الإسلامي. فالجهاد قد انحصر في مدلوله القتالي في شكله الخوارجي بسبب الانحطاط الذي كان غاية الانحراف كذلك. وما كان بديلا من السلطة الزمانية الداعية لاستقالة إرادة المؤمنين السلطة التي نقدها القرآن الكريم في السياسات المنحرفة بات أصلا لها عند المسلمين. ذلك أن الأمراء جعلوا الجهاد الشرعي مقصورا على فعل القتال الذي كان ساتبدت به سلطة المرتزقة التي صارت السلطة التنفيذية المهيمنة على السلطة التشريعية ومن ثم بات كل إصلاح سياسي لا يتم إلا بالخروج العنيف على من استولى على الحكم بنفس المنطق وانقرضت سلطة الخلافة الشرعية. فكل الإمارات والسلطنات في العالم الإسلامي نتجت عن استبداد المرتزقة أو القبائل بقطر من أقطار دار الإسلام أو الثائرين على الخلافة في ناحية من نواحيها. وبذلك دنست قدسية الجهاد الذي صار مرادفا للخروج على الشرعية فأصبح التدخل الأجنبي يوظف هذا الانحراف في ما يسميه بالفوضى الخلاقة توسلا لها للتدخل في إصلاح شأن المسلمين. ذلك أن الخروج في ظرف العولمة بات يوظف لإحداث الفوضى ووللتدخل للرد عليه تحت مسمى الإرهاب في عالم مترابط في كل شيء. وليس هذا هو الأهم بل الأهم هو أن انحطاط هذا المبدأ قتل مفهوم الاجتهاد القرآني أعني التواصي بالصبر في طلب الحقيقة علما وإحقاق الحق عملا وليس مجرد قتال أو زعم خروج على الظلم. ورغم أن القتال جزء ضئيل من الجهاد فإنه قد تضخم إلى حد قتل الأبعاد الأخرى التي أشارت إلى بعضها آية الردع استعدادا لأعداء الله والمسلمين بأسباب القوة غير المباشرة أعني العلم والتقنية والاقتصاد التي تمتنع في حالة الخروج الدائم الذي يلغي وظائف الدولة الحديثة الخمس (وظيفة الأمن بمعناه العام ثم الأمن الغذائي والأمن الصحي والأمن التربوي وشرطها جميعا قصدت البنية التحتية للمواصلات والتواصلات الشارطة لكل الوظائف) وبأسباب القوة المباشرة أعني أدوات الدفاع بحسب العصر رمزا إليها برباط الخيل (وهي مشروطة بالنظام التربوي عالي الاختصاص فضلا عن أصناف الأمن التي ذكرنا لأن الجيش الحديث لا يكون في مجتمع متخلف أصلا). كل أمة جاهلة وغير منضبطة يصبح الجهاد فيها مجرد فزات بدوية خارج الشروط المعرفية والتقنية والاقتصادية والنظامية السياسية والعسكرية. لذلك فليس من الغريب أن توصف بالإرهاب.

(3)وهذا العامل هو في الحقيقة أثر العامل الأول في العامل الثاني. لأن الحصة من المكان ترمز إلى الملكية التي هي فاعلية الإنسان المكثفة في الأدوات ومن ثم فهي تذكير دائم لصاحبها بما يمكن أن يكون قد نسي من فاعليات الزمان الروحية فتكون الجغرافيا بحضورها المادي المنبه الدائم للأمم ببطولاتها التاريخية للتلازم بين المكان والزمان كما هو بين من تذكر المعارك الحاسمة تذكرها بساحاتها وبالإنجازات الكبرى التي تصمد في الباقي من الآثار (كالأهرامات مثلا).

(4)وهذا العامل هو في الحقيقة أثر العامل الثاني في العامل الأول. لأن الحصة من الزمان ترمز إلى فاعلية الإنسان المكثفة في الذوات ومن ثم فهي تذكير دائم لصاحبها بما يستطيع مستقبلا قياسا على ما استطاع في الماضي فيكون التاريخ بمآثره الروحية المنبه الدائم للأمم بإنجازاتها المادية التي تبرز بقيامها في المكان للتلازم بين الزمان والمكان كما هو بين من تذكر تاريخ الإنجازات التي حققتها الأمة في مجال الحضارة المادية. فأي مسلم يزور الأندلس مثلا يعود إليه الطموح التاريخي في الإنجاز الحضاري.

(5)والمتصدون لصحوتنا نوعان كلاهما دال بدعواه على طبيعة منزلتنا الكونية الروحية والمادية منزلتنا التي هي ليست دعوى ما دامت هي ما اضطر العدو لادعائه حتى يرد عليها من حيث هي واقعة لا مفر من إزاحتها حتى تصح دعواه. فأولهما يدعي باطلا تمثيل ذروة القوة الروحانية الغربية (اسرائيل) والثاني باطلا يدعي تمثيل ذروة القوة المادية الغربية (الولايات المتحدة). والغريب أن الباطل الأول متحكم في الباطل الثاني فصارت الباطلان متعاونان على حرب الحق. وقد يشك البعض في زعمنا أن دعوى أمريكا باطلة بطلان دعوى اسرائيل: فأمريكا لم يبق منها حاليا إلى ما تستمده من امتصاص قوة العالم المادية لأن القوة فيها سواء كانت ممثلة بالبشر علما وفنونا أو بالتراث المادي ثورة ومآثر ليست إلا مصب خيرة ما في غيرها من الأمم التي لم ينتظم بعد شأنها ومنها أمم الغرب لكي تحمي ثرواتها البشرية والمادية. ولما كان الباطل زهوقا عندما يصطدم بالقوة الروحية الحقيقية قصدت الإسلام فإن مآل المعركة معلوم. مصير أعداء الإسلام هو مصير الباطل: اسرائيل وأمريكا. سينتهي استبدادهما بالعالم الغربي روحيا وماديا بفضل ثورتنا التي بدأت تحرر العالم كله لأن سلطانهما على الحضارة الغربية والنخب المتغربة من العالم غير الغربي هو الذي يمكن لهما في العالم. وخطة العمل لتحقيق ذلك تبدأ بتحرير أمريكا من إسرائيل لأن أداة إرجاع إسرائيل إلى حجمها الطبيعي-مجرد ملجأ لأقلية دينية منكمشة على نفسها لجأت إلينا هروبا من الوحشية الأوروبية ونحن نقبلها بهذا المفهوم كما فعلنا دائما في تاريخنا المزدهر- والقضاء على سلطانها العالمي لا يكون إلا فيها ثم تحرير العالم الغربي والنخب المتغربة من أمريكا لأن أداة تحجيم أمريكا تبدأ بأوروبا ثم تحرير العالم من هيمنة الحضارة الغربية بعالم متوازن يكون لنا فيه دور الشاهدين على العالمين إن كنا فعلنا صادقين في الزعم أننا مسلمون.

(6)ليس الإصلاح أمرا يطرأ في الشأن الإنساني بعد أن لم يكن بل هو ملازم له للتلازم بين الصلاح والفساد في التاريخ الثقافي التلازم الذي هو من جنس تلازم الحياة والموت في التاريخ الطبيعي. ومثلما أن الحياة في التاريخ الطبيعي اكتشفت حلا للتغلب على الموت أو الفساد الطبيعي في تجديد الأجيال الطبيعي فإن العمران في التاريخ الثقافي اكتشف تجديد المؤسسات والأحكام للتغلب على الفساد أو الموت الحضاري. ومشكل التجديد في العمران بخلاف مشكله في الحياة هو أنه يبدو اختياريا وليس اضطراريا أي من جنس العمل الطوعي لا الكرهي. لذلك فإن الأمم التي تتبناه يصبح تاريخها الحضاري إصلاحا متواصلا لتحقيق التجديد المتغلب على الفساد المتواصل في حين أن الأمم التي تعرض عنه تترهل مؤسساتها وتجمد فتصبح الأجيال الموالية في التجديد الطبيعي حبيسة جيل ميت من المؤسسات التي لم تعد مؤثرة. وبذلك يصبح التداول الحضاري فيها من جنس التداول الحيوي: لا يحصل تغيير إلا بالموت الطبيعي أو العنيف للأجيال وللمؤسسات.

(7)أنظر أبو يعرب المرزوقي إصلاح العقل في الفلسفة العربية مركز دراسات الوحدة العربية سلسلة الرسائل الطبعة الثالثة بيروت 2003.

(8)أهم مشكل في إصلاح الشأن الإنساني هو هذا الدور الذي يشبه في الفعل الإنساني دور التأويل في الفهم الإنساني أو ما يسمى بالدور الهرمينوطيقي. فلكي تفهم ينبغي أن تنطلق من فهم ولكي تفعل ينبغي أن تنطلق من فعل. لكن الدور ظاهري. ذلك أن الفهم والفعل اللذين تنطلق منهما إلى الفهم والفعل اللذين تسعى إليهما من طبيعتين مختلفتين. فأنت تنطلق من فعل في ذاتك لتفعل في العالم وأنت تنطلق من فهم توجهك إلى ما تريد فهمه لتفهمه. فيكون الفهم والفعل الشارطين غير الفهم والفعل المشروطين ومن ثم فالجمع بينهما ممكن بل هو ضروري: وكل تعمق في أحدهما توسيع لمجال الرؤية في الثاني لكأن الثاني يتعلق بأفق الرؤية والأول يتعلق بحال الروية بالمعنى الصوفي للكلمة. وفي حالة فعل الإصلاح فإن القرآن الكريم جعل تغيير النفس شارطا لتغيير الأحوال لكن تغيير النفس تغيير أحوال ذاتية لتغيير الأحوال الموضوعية من منظور النفس المتغيرة . لكن النفوس الأخرى تراها من خارج فيكون تغييرها من الأحوال الموضوعية. وبذلك يتلازم الفعلان في الأمم الفتية. والغرب اليوم أمم قد شاخت حيويا حتى وإن كانت ما تزال شابة حضاريا وذلك بسبب ما أشرنا إليه من امتصاص نخب الأخرى وبفتح الباب للمهاجرين القادرين على تعويض الأجيال شبه المفقود فيه. فإذا حققنا الجمع بين التشبيب الحضاري والشباب الحيوي الحاصل عندنا صرنا قوة لا تقهر.

(9)وتدور نظرية التربية التحررية الخلدونية حول النظرية التعليمية في حدها الأدنى وحول التنشئة الاجتماعية في حدها الأقصى. والأولى يحدد فيها ابن خلدون كيفية التعامل مع المتعلم والموضوع والمنهج والوسيط الناقل بين المعلم والمتعلم والاتصال الشامل بين الجماعة العلمية والجماعة ككل. والثانية يحدد فيها دور الأسرة بالكلام في سلطة الأب ودور المنشأة بالكلام في سلطة المال ودور الدولة بالكلام في سلطة القوة ودور المجتمع بالكلام في سلطة الثقافة وخاصة الثقافة الدينية (مثال تحول رجال الدين إلى موظفين عند الدولة) والأدبية (مثال ما طرأ على خلق الشعراء من انحطاط لما انتقل من وظيفة المعبر عن تاريخ الأمة إلى وظيفة التكدي).

(10)من النظريات الثورية في مقدمة ابن خلدون نظرية القيمة ونظرية أنماط العيش ونظرية الجاه (استغلال القرابة من السلطة السياسية لتحصيل الثروة بدون عمل) وجملة القوانين المتعلقة بالمالية العامة والجباية وبحرية المبادرة واستقلال العملة عن السلطة التنفيذية للسلطان ووضعها تحت السلطة الروحية للخليفة. وستكون جل إحالاتنا لنص المقدمة معتمدة إما على النشرة المشتركة بين المركز الوطني للكتاب الجزائر والدار التونسية للنشر الصادرة في تونس أو على نشرة دار الكتب العلمية الصادرة بيروت لبنان.

(11)من أهم موضوعات القسم الأخير من الباب السادس من المقدمة نظرية الذوق واللغة والفنون وخاصة الأدب والأسلوب.

(12)العقل التجريبي بالمعنى الخلدوني لا يعني العقل المجرب في العلم فالتجربة بهذا المعنى هي ما يسميه ابن الهيثم في كتاب المناظر بالاعتبار بل هو يعني المعنى الخلقي أو العملي من العقل بما فيه من القيم الخلقية والقواعد السلوكية التي لا يتعلمها المرء إلا بالحياة في الجماعة وبالممارسة.

(13) فعل السياسة أو سياسة القوى وكيفية التعامل مع أداتي الفعل السياسي أي القوة العامة والمالية العامة بكل أبعادهما. والمعلوم أن ابن خلدون يكني بالأولى على أصلها أعني العصبية وبالثانية على أصلها أعني الاقتصاد.

(14)فعل التربية أي سياسة البحث والتعليم والتطبيقات الصناعية كما هو بين من البابين الخامس والسادس من المقدمة.

(15)فعل الاقتصاد يقتضي حرية الملكية والسياسة الجبائية التحررية واستقلال العملة عن السلطة التنفيذية واستقلال القضاء لحماية الحقوق المادية المعنوية. وكل ذلك يعتبره ابن خلدون

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=296&idC=2&idSC=5

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك