منزلة العقل لدى إبراهيم النَّظّام
يقوم منهج إبراهيم النَّظَّام التأويلي على رفض كلِّ تفسير للقرآن يخالف منهجه العقلي في التفسير، وعلى البعد في التأويل عن المعنى الذي تدلُّ عليه الألفاظ بحسب عادة العرب في تعبيرهم[2]، ولعلَّ هذا ما قصده أحد الباحثين حين ذكر أنَّ النَّظَّام يطالب بشرح القرآن شرحاً حرفيَّاً[3].
والملاحظ أنَّ النَّظّام وإن آمن بأصل القرآن فإنَّه آمن أيضاً بالعقل أصلاً. والوحي في نظره وفي نظر المعتزلة لا يمكن إلا أن يؤكّد ما توصَّل إليه العقل وأقرَّه ولا يصحُّ أن يقع التناقض بينهما. وهذا التناقض إن وجد فهو ظاهريٌّ فحسب، ويمكن تلافيه بالتأويل.
ويتأسَّس نقد النَّظّام للأخبار على خلفيَّة نظريَّة رئيسة هي العقل الذي قد يكون سلطانه عليه بلغ درجة اعتباره يمكن أن ينسخ الأخبار. وهي فكرة غير مستغربة منه، لكنَّنا نقدِّمها باحتراز لأنَّها وردت على لسان خصم له هو ابن قتيبة الذي يقول: «فهذه أقاويل النَّظّام قد بيَّناها وأجبناه عنها، وله أقاويل في أحاديث يدَّعي عليها أنَّها مناقضة للكتاب وأحاديث يستبشعها من جهة حجَّة العقل، وذكر أنَّ جهة حجَّة العقل قد تنسخ الأخبار...»[4].
وإذن فالخلاف بين النَّظّام، والمعتزلة عموماً، وبين أهل السُّنَّة يتركَّز على طرق كسب المعرفة أو مصدرها، فأهل السُّنَّة يرون أنَّ مصدر المعرفة السمع والعقل، فالسمع مصدر المعرفة الشرعيَّة أي الأوامر والنواهي، أمَّا إدراك وجود الله وصفاته والبحث في مثل هذه المسائل التي عليها مدار التوحيد فمصدرها العقل.
والعقل والسمع مصدران للمعرفة لكن ليس لهما القدرة على الإدراك، فهما طريقان لا أكثر ولا أقل[5]، أمَّا المعتزلة فالعقل عندهم هو أساس كلّ معرفة، وهو الذي يدرك ويعرف وإن اتخذ الحواس طريقاً أو مصدراً للمعرفة. وبالفعل فالمعلومات عند النَّظّام ضربان: محسوس وغير محسوس، والمحسوس منها أجسام لا يصحُّ العلم بها إلا من جهة الحسّ. والحسُّ عنده لا يقع إلا على جسم، واللون والطَّعم والرائحة والصوت عنده أجسام، ولهذا أدركت بالحواس في رأيه، وأمَّا غير المحسوس فضربان قديم وعرض، وليس طريق العلم بهما الخبر، وإنَّما يعلمان بالقياس (العقلي طبعاً) والنظر دون الحسّ والخبر[6].
وفي هذا السياق يقول الجاحظ: «وللأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجَّة»[7].
وعلى أساس منزلة العقل هذه وقع تحكيمه في نقد الخبر سواء كان سنداً أو متناً، ففي مستوى السند اهتمَّ النَّظّام بمصدر الخبر ليتثبَّت منه أو يشكّ في صحَّته وينقده، أمَّا على صعيد المتن فقد رفض كثيراً من الأخبار التي يكذّبها العقل أو العيان أو التجربة، أو التي في متونها غرابة، أو التي يلوح منها تشبيه أو تجسيم أو إثبات صفات الله.
ومن تجلّيات نقد النظَّام لرواة الأخبار والمحدّثين قوله: «وكيف يجيز السامع صدق المخبر إذا كان لا يضطرّه خبره ولم يكن معه علم يدلُّ على صدق غيبه ولا شاهد قياس يصدّقه وكون الكذب غير مستحيل منه مع كثرة العلل التي يكذب النَّاس لها ودقَّة حيلهم فيها، ولو كان الصادق عند الناس لا يكذب، والأمين والثقة لا ينسى، والوفيُّ لا يغدر، لطابت المعيشة ولسلموا من سوء العاقبة. وكيف نأمن كذب الصادق وخيانة الأمين وقد ترى الفقيه يكذب في الحديث ويدلّس في الإسناد ويدَّعي لقاء من لم يبلغه ومن غريب الخبر ما لم يسمعه ثم لا يرى أن يرجع عن ذلك في مرضه قبل أن تغرغر نفسه وقد أيقن بالموت وأشفى (أشرف) على حفرته بعد طول إصراره والتمتُّع بالرياسة في حياته وأكل أموال الناس به. ولولا أنَّ الفقهاء والمحدّثين والرواة والصلحاء المرضيين يكذبون في الأخبار ويغلطون في الآثار لما تناقضت آثارهم ولا تدافعت أخبارهم، ولو وجب علينا تصديق المحدّث اليوم لظاهر عدالته لوجب علينا تصديق مثله وإن روى ضدَّ روايته وخلاف خبره، وإذاً نحن قد وجب علينا تصديق المتناقض وتصحيح الفاسد، لأنَّ الغلط في الأخبار والكذب في الآثار لم نجده خاصَّاً في بعض دون بعض»[8].
لقد أوردنا هذا النصَّ على طوله لأهمّيته من جهة ولصعوبة الاطلاع عليه من جهة أخرى، ذلك أنَّ المصدر الذي نقله غير منتشر وغير معروف عموماً. وتعزى هذه الأهميَّة إلى ما يبدو فيه من حسٍّ نقدي تاريخيّ جعل صاحبه يدرك أنَّ الكذب في الأخبار تقف وراءه أسباب كثيرة ذكر أبرزها؛ وهي التمتُّع بالسُّلطة والتقرُّب من الحكَّام وكسب المال من جرَّاء ذلك.
وعندما ننظر في موقف النَّظَّام من الإجماع نلاحظ أنَّه نهض أوَّلاً على دحض الأدلّة النقليَّة التي يؤصّل بها هذا المصدر التشريعي عادة. وقام ثانياً على حجَّة عقليَّة تتمثّل في اعتبار أنَّ الأمَّة يجوز عليها الخطأ مثل الفرد تماماً، لأنَّها تتكوَّن من أفراد[9]، وتجويز خطأ الأمَّة في نظره غير محدود بزمن معيَّن بل هو مطلق في كلّ عصر. وهذا يعني أنَّ عصر الصحابة يمكن أن يقع فيه الإجماع على الخطأ.
ومن المفيد أن نشير إلى أنَّ النَّظَّام استند في إنكاره مشروعيَّة القياس إلى العقل في مقابل استناد بعض نفاة القياس إلى أدلّة نقليَّة من القرآن والسُّنَّة وإجماع الصحابة أو إجماع أهل البيت[10]. والواضح أنَّ أهمَّ فكرة بنى عليها النَّظَّام نفيه للقياس تتمثَّل في أنَّ العقل يقتضي التسوية بين المتماثلات في أحكامها والاختلاف بين المختلفات في أحكامها والشارع (الفقهاء) قد رأيناه فرَّق بين المتماثلات وجمع بين المختلفات، وهو على خلاف قضيَّة العقل[11]، وحتى يدعم النَّظَّام أطروحته عاد إلى واقع التشريع وذكر عدداً من الأمثلة لما جمع الشارع بينها في الحكم وهي مختلفة ولما فرَّق بينها وهي مجتمعة.
والمستخلص من موقف النَّظَّام اعتماده في إنكار القياس على حجَّتين: حجَّة منطقيَّة عقليَّة يرى بموجبها أنَّ القياس لا ينسجم مع معطيات العقل، وحجَّة تاريخيَّة تبرز أنَّ القياس لم يكن متواتر الاستخدام في التاريخ الإسلامي ولدى أعلام المسلمين وقادتهم الروحيين وهم الصحابة.
وإنكاره للقياس هو في نهاية الأمر رفض للمنظومة الفقهيَّة، ذلك أنَّها لا تستند إلى العقل، وتشتمل على أحكام ذات طابع تمييزي بين الحرّ والعبد مثلاً، وتعتمد ظاهر العبادات والمعاملات مقدّمة إيَّاه على الأخلاق الفرديَّة من صدق وإخلاص وإيمان. كما أنَّ هذا الإنكار رفض لجمود الأحكام وعدم اعتراف بأنَّ هذه الأحكام البشريَّة أحكام إلهيَّة كما يريد لها الفقهاء أن تكون، ذلك أنَّه «برز في المجتمعات الإسلاميَّة صنف من المسلمين اعتبر مؤهَّلاً دون عامَّة المؤمنين للتشريع باسم الله واعتبرت الأحكام التي يصدرها شريعة إلهيَّة لا يجوز ردُّها. فكان الفقهاء والمفتون والقضاة ينتصبون لبيان الحلال والحرام وإصدار حكم الله في مختلف المسائل المعروضة عليهم من أمور الدنيا والدين على السواء، فأصبحوا بذلك يقومون بوظيفة كنسيَّة غير معترف بها في مستوى التنظير ومقبولة في مستوى الواقع والممارسة اليوميَّة»[12].
ونرى من بين الباحثين المحدثين من استغرب من نقد النَّظَّام لاستخدام العقل في الشرعيَّات، خاصَّة أنَّه معتزلي قوام مذهبه الاعتداد بالعقل إلى حدّ تأويل النصّ كي يستقيم مع العقل[13].
ولعلَّ الأمر يفسّر في نظرنا بأَنّ النَّظَّام لم ينتقد العقل بل انتقد الأحكام المترتّبة عن استخدام الفقهاء للقياس. وهي أحكام لا تنسجم مع معطيات العقل ونظامه[14]. وإذن فإنَّه ينتقد اللَّامعقول لا العقل. وهذا اللَّامعقول هو الذي يكمن على سبيل المثال في إيجاب قطع يد سارق القليل وعدم تطبيق هذا الحكم على غاصب الكثير.
وبناء على ما تقدَّم وعلى مختلف مواقف النَّظَّام يمكن أن نقرَّ مطمئنين بأنَّ رؤية هذا العالم المعتزلي تخضع أساساً للعقل، وهذا ليس غريباً عن المدرسة الاعتزاليَّة البصريَّة التي كانت مدرسة عقلانيَّة؛ بمعنى أنَّها قد ذهبت إلى أنَّ كلَّ ما هو موجود مردود إلى مبادئ عقليَّة[15]، غير أنَّ هذه النزعة العقليَّة لا تعني أنَّ النَّظَّام والمعتزلة عموماً يؤسّسون نظامهم الفكري على استخدام العقل وحده بشكل مستقلّ عن كلّ نصٍّ ديني[16].
وهذه النزعة العقليَّة التي سيطرت على النَّظَّام ظهرت في منهجه الفكري وفي النتائج التي توصَّل إليها، من ذلك اعتماده الشكّ والتجربة. يقول الجاحظ: « وقال أبو إسحاق: نازعت من الملحدين الشاك والجاحد فوجدتُ الشُّكّاك أبصر بجوهر الكلام من أصحاب الجحود. وقال أبو إسحاق: الشاك أقربُ إليك من الجاحِد ولم يكنْ يقينٌ قط حتى كان قبله شكّ ولم ينتقل أحدٌ عن اعتقادٍ إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حالُ شكّ. وقال أبو إسحاق: إذا أردت أن تعرِف مقدار الرجل العالِم وفي أيِّ طبقةٍ هو وأردت أن تدخِله الكورَ وتنفخ عليه ليظهر لك فيه الصّحَّةُ من الفساد أو مقدارُه من الصّحَّة والفساد فكن عالماً في صورة متعلِّم ثم اسأله سؤال من يطمع في بلوغ حاجتهِ منه.»[17].
كما نجده يقوم ببعض التجارب لاختبار بعض المعتقدات الرائجة أو التوصُّل إلى معرفة استجابة بعض الكائنات، من ذلك مشاركته في تجربة سقي الخمر لبعض الحيوانات، وتجربة قذف الجمر أمام الظليم، وهو نوع من النّعام، وتجربة حول التطيُّر استنتج منها بطلان الطيرة[18]، وهذا الشكُّ وهذه التجارب وشدّة غوصه على المعاني وروحه الانتقادية تخبر أنَّه يتسلَّح بالعقل في محاولة فهم قوانين الظواهر فهماً عقليَّاً لا أسطوريَّاً[19].
لهذا ولغيره عدَّ بعض الباحثين النَّظَّام أبعد المعتزلة تطرُّفاً واستقلالاً في الرأي وأقرب ممثّلي هذه الفرقة إلى الفلسفة[20]. وهذا الموقف لا يجانب الصواب، لأنَّه منذ القديم اعتبر بعض العلماء أنَّ النَّظَّام من أشدِّ خصوم التقليد[21].
[2]- عادل العوّا، المعتزلة والفكر الحر، ص 193.
[3]- فؤاد سيزكين، تاريخ التراث العربي، المجلد 1، 68-69.
[4]- ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، ص 50.
[5]- يقول الشهرستاني: «أمّا السمع والعقل فقال أهل السنّة الواجبات كلّها بالسمع والمعارف كلّها بالعقل، فالعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب والسمع لا يعرف أي لا يوجد المعرفة بل يوجب، وقال أهل العدل المعارف كلّها معقولة بالعقل واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح صفتان ذاتيتان للحسن والقبح»، الملل والنحل، ص 53.
[6]- انظر البغدادي، أصول الدين، ص ص 140-141.
[7]- الجاحظ، الحيوان، ص 207.
[8]- هذا النصّ رواه الجاحظ في كتابه "الأخبار" عن أستاذه النظَّام، وقد وصلنا من خلال أبي نشوان سعيد الحميري، رسالة الحور العين، المصدر المذكور، ص ص 284-285.
[9]- يقول السرخسي: «وقال النظَّام وقوم من الإماميَّة لا يكون الإجماع حجَّة موجبة للعلم بحال لأنَّه ليس فيه إلا اجتماع الأفراد، وإذا كان قول كلّ فرد غير موجب للعلم لكونه غير معصوم عن الخطأ فكذلك أقاويلهم بعدما اجتمعوا، لأنَّ توهّم الخطأ لا ينعدم بالاجتماع، ألا ترى أنَّ كلّ واحد منهم لما كان إنساناً قبل الاجتماع فبعد الاجتماع هم ناس، وكلُّ واحد من القادرين حالة الانفراد لا يصير عاجزاً بعد الاجتماع، وكلُّ واحد من العميان عند الانفراد لا يصير بالاجتماع ولا تصير جملتهم أيضاً بهذه الصفة بعد الاجتماع». أصول السرخسي، 1/295.
[10]- الغزالي، المستصفى، المصدر المذكور، ص ص 288-289.
[11]- الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، المصدر المذكور، 4/11-12.
[12]- عبد المجيد الشرفي، حدود الاجتهاد عند الأصوليين والفقهاء، المرجع المذكور، ص 42. وانظر المطابقة بين أحكام الإنسان وأحكام الله في هذا الخبر الذي ينقله الأستاذ الشرفي: "قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا كان الإمام قد قال "من أصاب شيئاً فهو له" فأصاب رجل جارية لا يطؤها ما كان في دار الحرب. وقال الأوزاعي له أن يطأها وهذا حلال من الله عزَّ وجلَّ. قال أبو يوسف: ما أعظم قول الأوزاعي في قوله "هذا حلال من الله"، نقلاً عن كتاب الأم للشافعي، 7/351.
[13]- أحمد محمد صبحي، في علم الكلام، المرجع المذكور، ص 232.
[14]- انظر ما يقوله صاحب فصل قياس بـ د.م.إ.، المرجع المذكور، ص 238.
«Selon le Mu’tazilite al-Nazzam, le procédé du kiyas est loin de toujours respecter le modèle rationnel».
[15]- انظر:
Joseph van Ess: Une lecture à rebours de l’histoire du Mu’tazilisme, Les deux écoles: Basra et Baghdad.
[16]- راجع فصل معتزلة (Gimaret) بـ د.م.إ. ط2 بالفرنسية، المرجع المذكور، ص 793.
[17]- الجاحظ، الحيوان، المصدر المذكور، 6/36.
[18]- المصدر نفسه، 2/83 و3/139.
[19]- لذلك نراه يعلّل ما يرويه العرب من عزيف الجنّ وتغوّل الغيلان تعليلاً عقلياً، المصدر نفسه، 6/248.
[20]- انظر قولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ص 182.
[21]- يقول الحميري: وإنَّما ذكر الجاحظ والنَّظّام أنّ دين الناس بالتقليد لا بالنظر والبحث والاستدلال، وقد ذمَّ الله في كتابه المقلّدين. وقالت العلماء المقلّد مخطئ في التقليد ولو أصاب الحق، لأنَّ من اعتقد الحقَّ بغير حجَّة ولا دليل مثل من اعتقد الباطل بغير حجَّة ولا دليل، الحور العين، المصدر المذكور، ص 210.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%85%D9%86%D8%B2%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D...