صُورة السَّلف: تأمُّلات فلسفيَّة في الدّلالة والوضع

منصف الوسلاتي

 

مقدّمة

أن تكون مقاربتنا لصورة "السَّلف"[2] مقاربة فلسفيَّة تتخيَّر لنفسها مقاماً في النَّظر والتناول يُعيّن اختلافها عن غيرها من ضروب التناول، وأن يكون ذلك مواجهة لا مداورة بحسب ما تقتضيه طبيعة التفلسف من ضرورات نقديَّة، فذلك من شأنه أن يجعل من هذا العمل ضرباً من ضروب التحدّي الفكري لكلّ المُسبقات من الأحكام التي تقضي بغربة موضوع النَّظر عن مجال اهتمام الفيلسوف وانشغاله، وكأنَّ الأمر لا يتعلّق بالشأن الإنساني مجال نظر الفكر الفلسفي بامتياز. ولكنَّ رفع التحدي لا يكون بتعليل الأسباب المقتضية لمقاربة المسألة على نحو فلسفي فحسب، بل أيضاً بدفع هذا التحدّي إلى حدوده القصوى، وذلك بجعل هذه المقاربة تتحرَّك ضمن أفق بكر من خلال تعليل خصوصيَّة الكيفيَّة التي بحسبها يكون الانشغال الفلسفي بهذه المسألة حتى يكون للفلسفة موقع مختلف ضمن إطار المقاربات المختلفة ألوانها لمسألة "السّلف".

إنَّ موضع هذه المقاربة يُقاس في تقديرنا بوضع التناسب، حيث تكون جميع المقاربات التي تتَّخذ من مسألة "السَّلف" مجال انشغالها على نحو يكون وافياً بمقصودها، مقاربات تُنجز بالنسبة إلى مرجع يظلُّ من قبيل المنطلق البدهي الذي تفترضه هذه المقاربات دون تفكير أو نظر فيكون بمثابة المسكوت عنه، ونقصد بذلك أساساً الوضع الأنطولوجي لصورة السَّلف الذي يتعلّق بطبيعة الوجود أو الكيان الذي تؤسّسه فكرة "السَّلف" الذي يستحيل إلى ظاهرة بعد أن يكتسب كثافة واقعيَّة اجتماعياً، فكلُّ مقاربة (فقهيَّة أو تاريخيَّة أو اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو نفسيَّة...إلخ) تؤسّس تصوُّرها لمسألة السَّلف انطلاقاً من تمظهرها أو تشكُّلها بشريَّاً في ظاهرة معلّلة الأسباب المقتضية لوجودها بضرورات مختلفة، كما لو أنَّ الاختلاف في الأسباب وليس في طبيعة الوجود، من أجل ذلك تعمد هذه المقاربة الفلسفيَّة إلى الانشغال بصورة "السَّلف" من جهة مُسَاءلة بداهة الوضع الأنطولوجي، وذلك باعتبار أنَّ تلك الصورة تُجسِّد في تقديرنا كيفيَّة وجود مختلفة ومغايرة. ولذلك لا يتعلّق الأمر في مستوى هذه المقاربة الفلسفيَّة لصورة السَّلف بظاهرة يمكن تفسيرها من خلال هذا المنظور أو ذاك، وإنَّمابظهور كيان يجسِّد فكرة ويعلن عن كيفيَّة مختلفة للوجود الإنساني. وبناء عليه يظلُّ كلُّ انشغال تفسيري وتعليلي للظاهرة على وجاهته وأهمّيته مشروطاً بمقاربة جذريَّة تتعلق بالمستوى الأنطولوجي، الأمر الذي يُعلّل نسبة كلِّ انشغال بمسألة السَّلف إلى ما هو أنطولوجي أساساً تعليلاً يشرّع ضرورة وضع مسألة السَّلف قيد النَّظر الفلسفي[3].

لا شكَّ في أنَّ الإقبال على مقاربة "مسألة السَّلف" فلسفياً يُعدُّ في تقديرنا امتحاناً لقدرتنا على الإصغاء إلى صوت التفلسف والاستجابة لاقتضائه انطلاقاً ممَّا يوجبه من التزامات تقضي بممارسة "النظر" على نحو ينأى به عن المشهور من الرأي والمألوف من التناول سعياً إلى الوجاهة وأملاً في الجدَّة[4]، بيد أنَّ ذلك يقتضي منَّا بيان المعنى الذي بمقتضاه تستحيل خاصيَّة "النَّظري" إلى شرط إمكان فلسفيَّة "النَّظر"، ولا يكون ذلك ممكناً في تقديرنا إلا إذا ما اضطلعنا بالكشف عمَّا هو أصيل في مدلول النَّظري "ثيوريا" théoria)) من جهة إحالته إلى معنى "السُّمُو في كيفيَّة المقاربة" مقارنة مع غيرها من الكيفيات[5]، ولأنَّ "النَّظري" ها هنا يتعلّق بالكيفية السَّامية في النظر ترتَّب على ذلك أنَّ خصوصية النظر الفلسفي ضمن هذا السّياق تظلُّ رهن القدرة على الاستجابة للشروط التالية:

أولاً: التعلّق بمطلب الكليَّة، وذلك من خلال اعتبار أنَّ أيَّة ظاهرة أو واقعة موضوع النَّظر على جزئيتها تجسّد الكلي على نحو ما، والذي يتجلى في مستوى الصُّورة الحاملة لفكرة أو لمفهوم، بحيث تكون ممارسة النَّظر الفلسفي في الظاهرة متعلّقة بما هو كلي فيها، ونعني بذلك أساساً فكرة السَّلف التي تجسّدها، والتي تمثل شرط إمكانها، من أجل ذلك كان النَّظري في إطار التفلسف رؤية تتميز بكونها "كليَّة عينيَّة"[6]، تُؤمّن في الوقت ذاته تخليص الواقعة موضوع النَّظر من جزئيتها وذلك برفعها إلى مستوى الكلّي، على أساس أنَّ الكلي مستقر في كلّ واقعة أو ظاهرة إنسانيَّة[7].

ثانياً: اعتبار أنَّ الكلّي لا يستقرُّ في الظاهرة أو الواقعة إلا بعد أن يكتسب كثافة أنطولوجيَّة بحيث يتعلّق التفلسف بالنَّظر في طبيعة الوجود الذي تؤسّسه فكرة السَّلف، والذي يتمظهر في ظاهرة أو واقعة إنسانيَّة بكيفيَّة يكون معها هذا الوجود مجال النَّظر الفلسفي بامتياز، وتكون المقاربة الفلسفيَّة بذلك مقاربة نظريَّة أنطولوجَّية، على أساس أنَّ الظاهرة[8] تظلُّ بالنسبة إلى الفيلسوف ظهوراً لكيان يجسّد فكرة أو مفهوماً مشكّلاً بذلك صورة متميّزة.

ثالثاً: الاضطلاع بمهمَّة الفهم، وأن يكون ذلك متناسباً مع فرادة النَّظر وخصوصيَّة الموضوع، إذ الأمر لا يتعلّق بمجرَّد واقعة/ظاهرة، بل بمسألة تثير مشكلاً من الناحية الإنسانيَّة. وعلى هذا الأساس تكون مقاربتنا لمسألة "السَّلف" مقاربة فلسفيَّة "نظريَّة"، ويكون منظورنا الفلسفي منظوراً "أنطولوجياً". ولأنَّ الأمر ههنا لا يتعلق بمطلب تفسير ظاهرة بل بمهمّة فهم صورة، فإنَّه حريٌّ بنا التأكيد على أنَّ نموذج الفهم[9] ضمن هذا الإطار لا يرتبط بالسّياق الإبستمولوجي (العلوم الإنسانية: علم التاريخ، علم الاجتماع، علم النفس، الأنتروبولوجيا)، ولا يستمدُّ شروط إمكانه منه، بل يرتبط أساساً بالسياق الأنطولوجي مادام الأمر يخصُّ فهم هذه الكينونة التي تتجلى في مستوى الظاهرة، ذلك ما يجعلنا نؤكّد خصوصيَّة هذه المقاربة مقارنة بغيرها من المقاربات، وذلك من جهة اضطلاعها بالنَّظر في الأساس الأنطولوجي باعتباره مستوفياً لمقصود انشغالنا بمسألة "السَّلف" ضمن هذا المقال.

وحتى تكون محاولتنا في هذا المقال وافية بمقصودها من جهة الاضطلاع بمقاربة فكرة "السَّلف" من زاوية أنطولوجيَّة وضمن سياق فلسفي نظري، كان لزاماً علينا تغيير وجهة السؤال والدفع بالتفكير إلى حدوده القصوى من خلال إثارة تساؤل يكون أكثر جذريَّة وتكون صياغته على النحو الآتي:

ما الذي يجعل من السَّلف سلفاً؟ أو ما وجه سلفيَّة السَّلف؟

ليس بالإمكان الإجابة عن هذا السؤال ما لم نتمثل صورة السَّلف من جهة اعتبارها فكرة مجسّدة لضرب من الكيان المتميز في كيفيَّة حضوره وتواجده، الأمر الذي يستوجب تمييزاً بين الظاهرة وشروط إمكانها الأنطولوجيَّة. وعلى هذا الأساس تقترن الإجابة عن سؤالنا بالتفكير في هذا الكائن الذي يمثل شرط إمكان الظاهرة، والذي يجسّد فكرة السَّلف. فإذا كانت الظاهرة تعني انتظام بشر وتشكّله في جماعة على أساس عقدي فإنَّ ما هو سلفيّ في مستوى السَّلفية يتعيَّن كأساس لهذا الانتظام وشرط إمكانه الأنطولوجي. بهذا التمييز بين الظاهرة والكيان يتسنَّى لنا تحديد مقصود سؤالنا وتحديد سبيل الإجابة عنه. ولكنَّ استيعابنا لدلالة فكرة "السَّلف" وفهمها على نحو كلي لا يكون إلا فلسفياً وخارج الشروط المعرفيَّة التي تظلُّ في تقديرنا جزئيَّة على وجاهتها، الأمر الذي يقضي بضرورة توجيه النظر باتجاه تلك الدلالة باعتبارها مستوفية لمقصود انشغالنا بصورة "السَّلف".

في دلالة فكرة السَّلف

يرتبط تحديد دلالة فكرة "السَّلف" أو معنى سلفيَّة السَّلف بالانتباه إلى خاصيتين أساسيتين تُميّزان الكائن الذي يجسِّد فكرة السَّلف، ونقصد بذلك أساساً خاصيَّة "الغيريَّة" من جهة، وخاصيَّة "التاريخانيَّة"[10] من جهة أخرى.

تقضي خاصيَّة "الغيريَّة" باعتبار السَّلف آخر مغايراً، وأنَّ غيريته مؤسَّسة على أفضليته بما هي أفضليَّة في الدرجة لا في الطبيعة، الأمر الذي يرفعه إلى مستوى النموذج/المثال، على نحو تكون علاقة الخلف به علاقة على جهة المحاكاة والاقتداء، اقتداء يحوّله إلى آخر مغاير بدوره رغم كونها ليست من جنس غيريَّة المثال. وبصرف النَّظر عن الاختلاف في طبيعة الغيريَّة بين السَّلف والخلف فإنَّ ما يميز طبيعة الكيان الناتج عن علاقة الخلف بالسَّلف يتعيَّن أساساً في هذه الغيريَّة التي تمثل دلالة من دلالات فكرة "السَّلف". وأمَّا خاصيَّة "التاريخانيَّة" فنقصد بها اجتماع عنصرين متعارضين في كائن؛ عنصر الزمنيَّة من جهة، وعنصر اللازمنيَّة من جهة أخرى، فالسَّلف من جهة وضعه البشري يتعيَّن ككائن تاريخي متجذّر في عصر ما بكلّ مقوّماته الثقافيَّة، ولكن من جهة وضعه الرمزي/ الإيتيقي يظهر كائناً لا تاريخياً خارج إطار الزمنيَّة باعتباره نموذجاً للمحاكاة ومثالاً للاقتداء، ولأنَّ الأمر يتعلّق بالجمع بين عنصرين متناقضين ترتَّب على ذلك تحوُّل السَّلف إلى "محصّلة"[11] للعلاقة بين الزمنيَّة واللازمنيَّة، يصير بمقتضاها كائناً "تاريخانيَّاً". وكذلك الشأن بالنسبة إلى الخلف الذي يتحوَّل بفعل الاقتداء والمحاكاة إلى كائن تاريخاني بدوره، الأمر الذي يجذّر غيريتهما ويعمِّقها. على هذا الأساس يمكن تعليل كيفية تجرُّد السَّلف في وعي الخلف من كلّ زمنيَّة، وما يترتَّب على ذلك من تجرُّد من كلّ الشروط التاريخيَّة والثقافيَّة (السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة)، بحيث يصبح كائناً لا زمنياً Intempestif لكي يرتفع إلى مقام الرَّمزيَّة حيث العلوُّ والقداسة، ويستقرُّ في وعي الخلف حضوراً لصورة مقدَّسة ومعلميَّة، وبالمقابل يسعى الخلف إلى التجرُّد من حضوره الزمني، أي التجرُّد من الحاضر والتواصل مع تلك الصُّورة خارج إطار الزمنيَّة مجسّداً بذلك كياناً لا زمنياً. وبخاصيتي "الغيريَّة والتاريخانيَّة"، نحدّد مدلول فكرة "السَّلف" التي يحوّلها الخلف إلى كائن من خلال فعل الاقتداء والاعتقاد.

تحوُّل الفكرة إلى كيان

تحوز فكرة "السَّلف" وضع "الصورة -الرصيد" مشخّصة في كائن يتعيَّن نموذجاً بالنسبة إلى الخلف في تصوُّره وفي سلوكه، لذلك فإنَّ الاستيعاب القيمي ـ الأخلاقي لهذه الصورة ـ الرصيد ترفع السَّلف إلى مستوى الرَّمز في سمّوه وقداسته. وإنَّ الرمزيَّة والقداسة إذ ترفعان السَّلف إلى مستوى "المثال" فهي تحوّله بالنسبة إلى الخلف مرجعاً للحق، حيث اليقين الراسخ، كما تحوّله مرجعاً قيمياً حيث الخير الأعظم. بيد أنَّ هذه الصُّورة النَّمطية التي تخصُّ وضع السَّلف باعتباره نموذجاً ومرجعاً تستوجب مقاربة تأويليَّة تمكِّن من استيعاب هذا الوضع المخصوص والمتميز وفهمه، فالسَّلف من جهة الكينونة يجسّد وضعاً اختلافيَّاً يكون الغياب بمقتضاه حضوراً، فيصبح بذلك دالَّاً من غير ظهور ومؤثراً في الخلف تأثيراً بالغ الوقع رغم الغياب مادامت كينونته قدَّت من "أثر"[12]، وشأن الأثر أن يكون عصيَّاً على الوضوح والتميُّز، لأنَّه يتموضع في منطقة تصل الحضور بالغياب، فالأثر حضور لكائن غائب، فلا هو غياب تام ولا هو حضور بيّن، الأمر الذي يجعل الالتباس والغموض خاصيته الأساسيَّة، على نحو يستحيل معه إلى كائن ـ أثر يحوز بفعل الاقتداء كثافة أنطولوجيَّة تجعله كائناً دائم الحضور إلى الحدّ الذي تتحوَّل فيه صورة السلف النموذجيَّة إلى "أيقونة" تكون علامة على يقين راسخ وحق مكين، فنحصل بذلك على صورة نموذجيَّة للماضي تحوّله إلى مثل أعلى من جهة رمزيته وقداسته ومرجعيته بالنسبة إلى الحاضر، الأمر الذي يجعله ماضياً مَعْلَمياً بفعل "التحنيط" القائم على بداهة الاعتقاد. بهذه الخاصيَّة التحنيطيَّة في التعامل مع الماضي من ناحية طبيعة الرؤية والاعتقاد نتبيَّن خصوصيَّة علاقة الخلف بالسَّلف هذا الكائن /الأثر على نحو يمكننا من فهم غيريَّة السَّلف وغيريَّة الخلف بفعل المحاكاة على جهة الاقتداء. ولكي نتأوَّل غيريَّة الخلف المجسّدة لهذه الكيفيَّة في الوجود المختلف والمتميز التي تتجلى في ظاهرة اجتماعيَّة (فرقة، جماعة ...) سنعمد إلى الاستئناس بمفهوم "النَّابت" وفق التحديد الخلافي لكلٍّ من "الفارابي" و"ابن باجة".

إذا ما انصرفنا إلى تصوُّر الفارابي لنتبيَّن معنى "النَّابت" ألفينا تحديده مشروطاً بمنظوره المدني وبتصوُّره للوجود المدني الفاضل المتعيّن نظريَّاً في المدينة الفاضلة، الأمر الذي يؤدي إلى اعتبار "النَّابت" كائناً فاسداً لأنَّ وجوده يكون على نحو مخالف لمقتضيات الوجود المدني الفاضل، وهو ما يعني أنَّ "النَّابت" كائن يوجد بكيفيَّة تستحيل إلى خطر يترصَّد وجود المدينة الفاضلة ويتهدَّدها[13]، أمَّا إذا ما استأنسنا بتصوُّر ابن باجة ألفينا تحديده لمعنى "النَّابت" يستمدُّ شروط إمكانه من تصوُّره "للمتوحّد"، بحيث يكون "النَّابت" كائناً فاضلاً في مجتمع فاسد، وذلك نظراً إلى الكيفيَّة المتميزة في الوجود التي يكون عليها هذا "النَّابت"، والتي تكون على جهة التدبير والنَّظر العقليين، وهو شأن الفيلسوف[14].

بهذا المعنى يفيد "النَّابت" من حيث الدلالة الكائن الذي يجسّد كيفيَّة مختلفة ومتميزة في الوجود سواء اعتبرنا هذا الكائن فاسداً من منظور مدني فاضل أو اعتبرناه فاضلاً من منظور "المتوحّد"، وبناء عليه يكون الخلف في ارتباطه بالسَّلف صورة وكياناً ظاهرة تدلُّ على كائن "نابت" متميز في كيفيَّة وجوده ومختلف في تواجده[15]. وبصرف النَّظر عن موقف الحسم المنتصر لهذه الرؤية أو تلك فإنَّ المقاربة التأويليَّة تؤسّس لفهم يتأوَّل معنى هذه الظاهرة أنطولوجياً من جهة اعتبارها دالاً على كائن "نابت" يجسّد كيفية وجود فريدة ومختلفة تجعله ظاهرة[16].

تحوُّل الكيان إلى ظاهرة

إنَّ تشكّل صورة الإسلام عقيدة وسياسة تاريخيَّاً قد جسّد وضعاً فارقاً ومتميزاً للإسلام ضمن سياق مسار التاريخ والحضارة، سواء من جهة سيرورة تشكّل النّص المرجعي للعقيدة الذي انتهى إلى ضرورة التوحيد من خلال المصحف الإمام أو من خلال تدوين السيرة تمهيداً لتأسيس السُنّة أو من جهة سيرورة الخلافة على امتداد التاريخ إلى حدود اللّحظة التي تماهت فيها العقيدة بالسياسة إلى الحدّ الذي أضحت معه عقيدة النَّاس تُضبط بقرار سياسي[17]، الأمر الذي يجعل من هذا التجسيد تأسيساً لتاريخ ورسماً لقدر، والذي ضمنه نشهد بداية تشكّل صورة "السَّلف" من جهة اعتباره مرجعاً للحق ومرجعاً للخير الأعظم بالنسبة إلى الخلف، كما نشهد تشكل السّياق الذي نتبيَّن ضمنه نشأة المنزع السَّلفي، الأمر الذي يجعل من هذه النشأة حدثاً فاتحاً لتاريخ ومؤسّساً لقدر. من هذا المنطلق يمكن اعتبار المنزع السَّلفي حدثاً من جهة تأسيسه لتاريخ التحالف بين السياسي والعقدي تحالفاً يُفرض فيه العقدي سياسياً ويُشرع فيه السياسي عقدياً، ولكن أيضاً من جهة رسمها لقدر تكون فيه سيطرة النقل على العقل بإسناد سياسي وبتأييد منه، كما يكون فيه البسط التام لنفوذ المحدّث بتوسله ما أمكن له من الوسائل باسم الحق والأخلاق. وبمقتضى ذلك أضحى المنزع السَّلفي في الإسلام ظاهرة دينيَّة يجسّد فلسفياً العلاقة بين الحق والسلطان. ولكنَّه لا يتسنى لنا أن نشهد تحوُّل المنزع السَّلفي إلى ظاهرة إلا من خلال امتداد اجتماعي وجغرافي، حيث التشكُّل البشري ضمن إطار جماعة أو فرقة، وما السَّلفية بجميع مظاهرها إلا كيفيَّة من كيفيات الوجود المجسّد لهذا المنزع اجتماعياً وجغرافياً، على أنَّ تلك الكيفيَّة لا تستوفي دلالة سلفيَّة السَّلف فضلاً عن كونها تتعلق بتأويل ما لفكرة السَّلف يعبّر عن تصوُّر الخلف وعن طبيعة تمثله لدلالة تلك الفكرة وما يترتب عن ذلك عملياً من استحالة المنزع السلفي إلى ظاهرة، ولذلك فإنَّ مقاربتنا الفلسفيَّة تتميز بخصوصيَّة التعامل مع "الظاهرة"، وذلك من جهة اعتبارها "ظهوراً" لكائن ما على نحو معيَّن، على أساس أنَّ الكائن لا يكون إلا بما يظهر، وهو ما يعني أنَّ الظاهرة لا تكون فقط في ما يظهر بل في ما به يوجد هذا الكائن بالنسبة إلينا، كما لو أنَّ الكائن لا يحوز قيمة الوجود بالنسبة إلينا إلا بما هو ظاهرة[18]. ومن هذا المنطلق تكون الظاهرة تجسيداً لكائن يظهر على نحو ما، ممَّا يجعلها تحوز وضعاً وقيمة أنطولوجيَّة بالنسبة إلينا، ذلك ما يعلل ضرورة التزام المقاربة النَّظريَّة بالأفق الأنطولوجي ضمن إطار مهمَّة الفهم التي تتأسَّس على استيعاب لهذا الكائن المنكشف أو الظاهر وفق كيفية ما استيعاباً مؤسّساً للمعنى.

إذا كان السَّابق إلى القلب في كلّ سعي إلى فهم هذه الظاهرة، الرغبة في الاستئناس بالمقاربات ذات الطبيعة المعرفيَّة على اختلاف ألوانها لاعتقادنا في قدرتها التفسيريَّة نظرياً فضلاً عن مستطاع نتائجها عملياً، فإنَّ الذي يضرب في الصَّدر أن تكون جميع هذه المقاربات التي تنزَّل هذه الظاهرة منزلة الموضوع تحت شرطَي الزمان والمكان، عاجزة عن أن تدرك من حقيقة الكائن الذي تجسّده هذه الظاهرة غير بعض من دلالته، ولذلك تظلُّ تلك المقاربات مستوفية لشروطها المعرفيَّة غير وافية بحقيقة الكائن. من أجل ذلك لا نرى وجاهة إلا في مقاربة تتمثل الظاهرة بناء على خصوصيَّة الكائن الذي تجسّده، بحيث لا يتعلق الأمر في تقديرنا بهمّ تفسيري لظاهرة-موضوع، بل يتعلّق بمطلب فهم لمعنى كيان متفرّد في كيفيَّة تواجده، الأمر الذي يجعل من كلّ مقاربة ذات طبيعة معرفيَّة وافية بمقصودها وقاصرة عن استغراق حقيقة الظاهرة، وموضع القصور يتعيَّن في عدم الانسجام بين مقتضيات المقاربة وطبيعة الظاهرة وخصوصيتها، فإذا ما استأنسنا بالمقاربة الاجتماعيَّة/ السوسيولوجيَّة على سبيل المثال تبيَّن لنا قصورها من جهة سعيها إلى استغراق التمظهر الاجتماعي "لعلاقة السَّلف بالخلف"، من خلال تشكُّله في جماعة معللّة خاصيَّة الغيريَّة فيه انطلاقاً من مفهوم "الهامش"، ومتعمّقة في الأسباب المقتضية لتواجده على هذا النحو وبحسب ما تقتضيه آليات المقاربة السوسيولوجيَّة، وفي أحسن الأحوال يتمُّ استغراق هذا الكيان الغيري من جهة اعتباره جزءاً داخل الكلّ الاجتماعي، سواء اعتبرنا هذا الجزء عارضاً أو مكوّناً اجتماعياً، وهو ما لا يستوفي دلالة غيريَّة هذا الكيان. أمَّا إذا ما استأنسنا بالمقاربة التاريخيَّة فإنَّنا نتبيَّن سعيها إلى تعليل الظاهرة من خلال النشأة والتحوُّلات مستندة في ذلك إلى عنصر الزمنيَّة غير منتبهة إلى الوجه الآخر لهذه الظاهرة، المتمثل في البعد اللازماني الذي يجعلها تاريخانيَّة مستوفية بذلك شروطها كمقاربة غير مستوفية لخصوصيَّة الظاهرة، الأمر الذي يجعلها قاصرة، شأنها في ذلك شأن المقاربة السوسيولوجيَّة، وما قصور هذه المقاربات وغيرها (النفسيَّة والسياسيَّة...) إلا لكونها لا تدرك من هذا الكيان سوى مظهر أو جهة من حقيقته، وحسبها أن تستجيب لشروطها ومقتضياتها كمقاربة ذات طبيعة معرفيَّة، فضلاً عن ذلك فإنَّ جميع المقاربات ذات الطبيعة العلميَّة مشروطة في إمكانها المعرفي بالأساس الأنطولوجي، على اعتبار أنَّ كلَّ مقاربة لا تدرك من هذا الكائن سوى مظهر، أي كيفيَّة من كيفيات وجوده المختلفة، ولذلك تردُّ مجمل المقاربات إلى المرجعيَّة الأنطولوجيَّة المتعلّقة بتمثل هذا الكائن في حقيقته. فأن تجسّد فكرة السَّلف كائناً اختلافياً من جهة الوجود (آخر) تاريخانياً من جهة الزمنيَّة فذلك أمر يستوجب مقاربة من طبيعة فلسفيَّة تأويليَّة تسعى إلى فهم هذا الكائن في خصوصيته وضمن الأفق الأنطولوجي. بهذا المعنى تكون فكرة "السَّلف" مسألة من منظور فلسفي نظري، وذلك بالنظر إلى طبيعة الفكر الفلسفي التي تقضي بتجاوز التمثل الجزئي المشروط بخصوصيَّة المنظور العلمي على اختلاف ألوانه والتعلّق بأفق الكليَّة المشروط بالنفاذ إلى الأساس الأنطولوجي للظاهرة الذي تمثله دلالة هذه الفكرة، ذلك ما يؤكّد خصوصيَّة مقاربتنا الفلسفيَّة لدلالة الظاهرة باعتبارها ظهوراً لكيان يجسّد فكرة "السَّلف". بيد أنَّ خصوصيَّة المقاربة لا تستوفى في جانبها التأسيسي من جهة تحديد الدلالة ومعاينة التحوُّل من الفكرة إلى الظاهرة فحسب، بل تقتضي فضلاً عن ذلك اتخاذنا مسافة نقديَّة إزاء البداهات التي تأسَّست عليها صورة السَّلف ضمن مشهور الرأي، وذلك من خلال التنبيه على هشاشتها وتهافت أسسها.

صورة السَّلف بين الواقع والإنشاء

تتشكَّل صورة السَّلف في مشهور الرأي من خلال جملة من الافتراضات تحوز وضع المسلّمات التي تتعلق ببداهة الوضع المرجعي وبتمييز الأشخاص وبالإجماع عليهم فضلاً عن بداهة اللّحظة التاريخيَّة لتواجدهم. فإذا ما وضعنا مسألة الوضع المرجعي للسَّلف قيد النَّظر الفلسفي تبيَّنا الالتباس في مستوى الدّلالة والوضع بين المرجع والمثال، وأنَّه لا يمكن بأيّ وجه حمل معنى المثال على دلالة المرجع، فإذا ما اعتبرنا الرَّسول "محمَّداً" مرجعاً للدينيّ عقيدة وسلوكاً أضحى الصَّحابة واللاحقون قدوة في استيعابهم للمرجع ومثالاً لغيرهم، وإذا ما اعتبرنا الرسول بما يحوزه من وضع مرجعي سلفاً ترتَّب على ذلك اعتبار من يخلفه بالاقتداء خلفاً، وأضحى من نعتبره في مشهور الرأي خلفاً لسلف خلفاً لخلف، لذلك وجب التمييز بين المرجع والمثال من جهة، ثمَّ إخراج الرسول من دائرة السَّلف وجعلها مقتصرة على الصحابة من جهة أخرى. لكنَّ رفع الالتباس بين المرجع والمثال لا يعني تحصيل الوضوح فيما يتعلق بهويَّة السَّلف من خلال "تمييز الصحابة"، إذ تقوم الأدبيات المتعلقة بمطلب التمييز شاهداً على استحالة الإجماع فضلاً عن عمق الاختلاف بشأن الأجدر بموضع السَّلف-المثال[19]، ولا تقتصر المعضلة على تمييز الأشخاص فحسب، بل تتجاوز ذلك نحو استحالة الاتفاق بشأن اللّحظة التاريخيَّة لتواجدهم[20]، فلا إجماع على الأشخاص ولا اتفاق على الفترة التاريخيَّة، الأمر الذي يؤكّد هشاشة صورة السَّلف في مشهور الرأي من جهة وهن أسسها ومرتكزاتها، كما يقضي باعتبارها إنشاء صرفاً لا وجود لها إلا في السَّرد[21]. والجدير بالملاحظة أنَّ تلك الهشاشة تتعمَّق حين نتبيَّن التهافت في مستوى الانتقال بالسَّلف من وضع الصُّورة على هشاشة مقوّماتها إلى وضع الكيان أو الوجود الفعلي.

رغم أنَّ صورة السَّلف المثالية محض إمكان إنشائي، فإنَّها تكتسب كثافة أنطولوجيَّة بمقتضى اعتقاد الخلف فيها، فتستحيل إلى كيان متعيّن لا ريب فيه، بل وموضع إجماع بمنأى عن كلّ خلاف وخارج دائرة التظنُّن، فيكون الانتقال بالسَّلف من مجال الصُّورة إلى واقع الكيان بضمانات الاعتقاد وضمن سياق السَّرديات أو المرويَّات التاريخيَّة، وذلك على أساس أنَّ الاعتقاد هو الفعل الذي من شأنه أن يؤمّن العلاقة التي تربط الصورة بالكائن، وتربط المحايث بالمتعالي، فيكون الكائن شاهداً على الصُّورة، وفي المقابل تكون هذه الأخيرة شرط إمكان ما هو كائن ومحايث، ولذلك لا يتسنَّى لنا فهم هذا الوضع خارج السّياق العقدي الذي يؤسّس لهذا الانتقال من الصُّورة إلى الكائن الذي يجمع بين الزمنيَّة من حيث النشأة أي من حيث شروطه التاريخية، واللَّازمنية من حيث الاستمرار في الحضور. تلك هي حقيقة هذا الكائن الذي تشكَّلت صورته المثاليَّة إنشائياً وسرديَّاً، والتي أضحت بمقتضى الاعتقاد واقعاً فعلياً، كما ستصبح بفعل "الاقتداء" يقيناً راسخاً.

أن يؤسّس فعل الاقتداء علاقة يحوز السَّلف بمقتضاها وضع المثال/القدوة عقيدة وسلوكاً، ويضطلع فيها الخلف بمهمة الاستيعاب والمحاكاة، فذلك من شأنه أن يجعل من السَّلف نموذجاً، ويجعل من الخلف صورته على جهة التشبُّه الذي يجري في معتقده كتطابق، بيد أنَّ التمييز الذي أجريناه بين المرجع والمثال يقضي بحمل السَّلف محمل الصُّورة المحاكية للمرجع، بل إنَّه ليس بإمكان السَّلف أن يحوز وضع النَّموذج لخلفه، ما لم يكن متشبّهاً بذلك المرجع على نحو يجعله صورته، وههنا وجب التمييز بين ضربين من الصُّور: صور محاكية للمرجع ومتشبّهة به، وأخرى متشبّهة بالمثال ومحاكية له. وحتى نُجري أمرنا على السَّداد كان لزاماً علينا أن نُخضع الصُّور إلى تراتبيَّة تفاضليَّة، إذ ليست المتشبّهة بالمرجع والمحاكية له كتلك المتشبّهة بالمثال، فهناك اختلاف في الطبيعة وفارق في الدرجة والقيمة بينهما، وعليه سوف نعمد إلى اعتبار الصُّور الأولى "أيقونات" واعتبار التي دونها درجة وقيمة "نسخاً". وبناء على هذا الاعتبار يمكننا القضاء بكون الأيقونات (السَّلف) نسخاً أصيلة لارتباطها بالمرجع، في حين أنَّ الصُّور (الخلف) نسخاً عن النسخ أو نسخاً من الدرجة الثانية، فإذا كانت الأيقونات شبيهة بالمرجع فإنَّ الصُّور شبيهة بالشبيه، وفي كلّ الحالات لا يمكن حمل علاقة الشبه على المطابقة، لأنَّ ذلك من شأنه أن يحول دون التمييز بين المرجع والمثال، وهو أمر مخالف لمقتضيات الإيمان. ولكنَّه رغم الاختلاف بين الأصل والشبيه من جهة، ثمَّ الاختلاف بين الشبيه والمتشبّه به من جهة أخرى، فإنَّ الخلف ينزع إلى الاعتقاد في كون التشبُّه بالمثال يجعله مطابقاً في اعتقاده وسلوكه للمرجع مطابقة تشرّع له أن يكون ممثلاً للحق عقيدة وسلوكاً، ولأنَّ الأمر يتعلّق باعتقاد في صورة إنشائيَّة لا إجماع بشأنها إلا داخل ملّة أو نِحلة أو فرقة أو جماعة ...، ترتَّب على ذلك تشكُّل الفرق أو الجماعات وتنوُّعها واختلافها بناء على اختلاف طبيعة تمثلها وإنشائها لصورة السَّلف، وهو ضرب من التأويل الذي لا فضل فيه على غيره إلا بمقدار السُّلطة التي تدعمه وتجعله واقعاً فعلياً، بل وتجعله الممثل الوحيد والشرعي للحق عقيدة وسلوكاً. ولأنَّ الأمر يتعلّق بتمثل قائم على الإنشاء والتأويل فإنَّنا بذلك نغادر دائرة الضرورة لننخرط في مجال الممكن المفتوح على كلّ الإمكانيات، وذلك ما يعلّل سعي كلّ منزع (فرقة، جماعة ...) إلى تحويل تأويلها إلى واقع، متوسّلة في ذلك جميع السُّبل، بما في ذلك سبيل العنف سواء بالنسبة إلى من يخالفها الاعتقاد أو من يخالفها التأويل، وإنَّ العنف في هذا السياق الذي نحن فيه ليس ممارسة عرضيَّة ولا يمكن اعتباره مجرَّد وسيلة أو غاية، لأنَّه اقتضاء مرتبط بصراع تأويلات نظرياً، يتجسَّد في حرب إرادات عملياً[22].

خاتمة

وبالجملة فإنَّ ما يمكننا أن نخلص إليه يتعيَّن أساساً في الاعتبار القاضي بأنَّ صورة السَّلف محض إنشاء يندرج ضمن دائرة الإمكان حيث مجال الظّنيَّات، وذلك بالنظر إلى غياب الإجماع على الأشخاص وعلى رمزيتهم أو قداستهم وانعدام الاتفاق بشأن اللّحظة التاريخيَّة لتواجدهم، وأنَّ الانتقال بتلك الصورة من مجال الإنشاء إلى مجال الواقع الفعلي انتقال سردي يرفع الاعتقادُ قواعده. فضلاً عن كون العلاقة التي تربط الخلف بالسَّلف على جهة الاقتداء قائمة على خلط والتباس بين المطابقة والشَّبه على أساس الاعتقاد في إمكانيَّة حمل علاقة التشبُّه على معنى المطابقة التّامة، وما يترتَّب عن ذلك من تأسيس لضرب من الشرعيَّة بناء على ذلك الخلط والالتباس الذي من شأنه أن يعلّل تشكُّل الفرق والجماعات مِللاً ونِحلاً لا متناهية في التفرُّع والانقسام قائمة على وثوقيَّة في مستوى العقيدة، وثوقيَّة من شأنها أن تجعل من العنف بجميع أشكاله إمكاناً من بين ممكنات التواصل بينها سواء في مستوى علاقة الفرق بالجماعات اللَّادينيَّة أوفي مستوى علاقة الفرق بعضها ببعض، أو أيضاً في مستوى علاقة الأفراد بعضهم ببعض من داخل الفرقة الواحدة، ذلك ما يجعلنا ننتهي إلى الإقرار بأنَّ صورة السَّلف تحوز وضعاً مفارقياً باعتبارها فاقدة للأساس من جهة، ومؤسّسة لكيان يتجلّى في ظاهرة من جهة أخرى، هذا الوضع المفارقي من شأنه أن يعلّل العلاقة بين الدغمائيَّة في مستوى الاعتقاد والعنف في مستوى الممارسة.

وانطلاقاً من هذه التبعات المترتّبة على التأسيس العقدي لصورة السَّلف يمكننا أن ننتهي إلى اعتبار يقضي بأنَّ معنى الإسلام أضحى رهن استيعاب الفرق والجماعات، وهو مشروط برؤيتها وتشريعاتها، الأمر الذي يوجب في تقديرنا إعادة طرح سؤال بشأن ذلك المعنى بمنأى عن تمثلات الملل وتشريعات النِّحل، وأنَّ الغاية من هذا الطرح لا تكمن في تأسيس معنى جديد للإسلام، بل تتعلَّق بنداء ناتج عن صراخ بلغ بالمرء حدَّ الاختناق، الأمر الذي يجعل من التفكير في ذلك المعنى استجابة لنداء واضطلاعاً بمهمَّة.


[2]ـ تتأسس محاولتنا في هذا المقال على افتراض يقضي بمعاينة الوضع المفارقي الذي تحوزه صورة السَّلف من جهة كونها صورة مؤسّسة رغم أنَّها بغير أساس، ولا يتسنَّى لنا معالجة هذا الافتراض معالجة فلسفيَّة ما لم نميّز بين الفكرة والكيان والظاهرة في مقاربتنا لصورة السلف التي تتشكل في تقديرنا انطلاقاً من فكرة تجسّد ضرباً متميّزاً من الكيان يتجلى واقعياً في ظاهرة. ولذلك ليس بالإمكان تمثل حقيقة صورة السَّلف انطلاقاً من الظاهرة السَّلفية ما لم نتبيَّن طبيعة الفكرة التي تحملها وخصوصيَّة الكيان الذي تجسّده.

صورة ◄فكرة ◄كيان◄ظاهرة.

[3]ـ لا تعلل الحاجة إلى مقاربة مسألة السَّلف فلسفياً بمقصد رفع الالتباس بين الفكرة والكيان والظاهرة فحسب، بل تُعلّل فضلاً عن ذلك بالقدرة على التفكير في الظاهرة انطلاقاً من شروط إمكانها الأنطولوجيَّة، أي من جهة كونها تجسّد كياناً متميّزاً.

[4]ـ تقترن الجدّة ههنا بالقدرة على تجاوز ما ترسَّب من تصورات متهافتة لا ترى في النظر الفلسفي غير تأملات جوفاء يُقاس عمقها بعمق الهوَّة التي تفصلها عن واقع البشر والأشياء، الأمر الذي يجعل من ذلك التجاوز ضرورة للنجاح وسبيلاً له في امتحان تلك القدرة من جهة، ورهاناً على ما يجعل من "النظر" طريق التفلسف في مقاربته للوقائع على نحو يجمع فيه بين عمق التفكير النافذ فيها من جهة واستيعاباً لحميميَّة القرب منها من جهة أخرى.

[5]ـ إنَّ السُّمو في كيفيَّة النظر لا يعني الإعراض عن معالجة الوقائع أو الظواهر والتعالي عنها لجزئيتها أو عرضيتها، بل يعني على العكس من ذلك تماماً الإقبال عليها من موقع يُجسّد خصوصيَّة الرؤية وفرادة المعالجة مادام الأمر يخصُّ الشأن الإنساني بوجه عام، بصرف النظر عن جزئيَّة الواقعة المجسّدة له أو عرضيَّة الظاهرة المعبّرة عنه.

[6] ـLacroix (J), Interview, In Revue la nouvelle critique , 1972,p 20.

[7]ـ انظر موريس مرلوبنتي، تقريظ الحكمة، ترجمه وقدَّم له: محمَّد محجوب، دار أميَّة، 1995 ص 100.

[8]ـ خلافاً لما يقتضيه المنظور العلمي في مقاربته للظواهر من ضرورة تنزيل الظاهرة منزلة المعطى الحامل لحقيقة ما والتي يجب اكتشافها من بعد إخضاعها لآليات التفكير العلمي، فإنَّ مقاربتنا الفلسفيَّة تنخرط ضمن أفق فلسفي تأويلي لا يرى في الظاهرة غير ظهور لكائن وتجلٍّ لكينونة يمكن مقاربتها تأويليَّاً باعتبارها شرط إمكان ظهور الظاهرة.

[9]ـ فيما يتعلّق بالدلالة الأنطولوجيَّة للفهم مقابل التأويل الإبستيمولوجي، انظر مؤلف ديفيد وورد، الوجود والزمان والسَّرد، ترجمة وتقديم سعيد غانمي، المركز الثقافي العربي، المقال الثالث، أسلاف فلسفة ريكور، في "الزمان والسرد" لصاحبه كيفن فانهوزر ص72. وفي السياق نفسه، انظر أيضاً جان غراندان، المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، ترجمة وتقديم د. عمر مهيبل، الدار العربيَّة للعلوم ـ ناشرون 2007. الفصل الرابع ص 152.

[10]ـ لا نقصد بالتاريخانيَّة (Historialité) رؤية تاريخيَّة، ولا نقصد بها كذلك نزعة مذهبيَّة دغمائيَّة (تاريخاويَّة) فضلاً عن كوننا لا نستدعي في هذا السياق كامل الدلالة الفلسفيَّة التي حدَّد معالمها هايدغر(Heidegger) في مختلف كتاباته، ولاسيَّما مؤلّفه الأساسي "الكينونة والزمان"، لأنَّنا سنكتفي باستدعاء ما هو أنطولوجي/فنّي من تلك الدلالة الفلسفيَّة، حيث تفيد التاريخانيَّة السّمة التي تجعل الكائن (ولاسيما الكائن الفني) مفتوحاً على الممكن، الأمر الذي يؤكّد خلوده وتواصله في الحضور رغم انتفاء شروطه التاريخيَّة، فيستحيل بمقتضى ذلك إلى كائن يجمع بين التاريخيَّة والخلود، أي كائناً تاريخانيَّاً. انظر في هذا السياق المقال تحت عنوان (chez Heidegger Imagination et Œuvre d’art) لصاحبه (Jean Marie Vaysse) الوارد ضمن المجلة التونسيَّة للدراسات الفلسفيَّة، العدد الخامس، مارس 1986.

[11]- لا نقصد بالمحصّلة (Résultante) الحاصل أو الحصيلة بالمعنى الرياضي، حيث الجمع بين كائنات رياضيَّة لا توتّر بينها، بل نقصد بها السياق الفيزيائي حيث الجمع بين عناصر فيزيائيَّة متعارضة، ترتبط فيما بينها بعلاقات متوتّرة، تكون شرط إمكان حقيقة الكائن الفيزيائي وتوازنه.

[12]ـ فيما يتعلّق بعبارة لفيناس، انظر مقال: « «Etre en tant que laisser une trace

- Strasser (stéphan), Le concept de «Phénomène» chez Lévinas et son importance pour la philosophie religieuse, in Revue philosophique de louvain,Quatrième série, Tome 76 n 31,1978, P329.

[13]ـ انظر: أبو نصر الفارابي، كتاب السياسة المدنيَّة، دار سيراس للنشر، تونس 1994 ص 98.

[14]ـ انظر: أبو بكر بن الصَّائغ بن باجة، تدبير المتوحّد، دار سيراس للنشر، تونس 2009، ص 18/19.

[15]ـ وليس أدلّ على ذلك من التواجد الراهن للجماعة/الفرقة ذات المنزع السَّلفي فكرة وواقعاً بشرياً في مجتمعات ذات طبيعة مدنيَّة من حيث كيفيَّة الوجود وما يترتب على ذلك من تباين في المواقف التقييميَّة، فمن منظور مدني تُعدّ السلفيَّة ظاهرة تجسّد كائناً نابتاً تدلُّ كيفيَّة وجوده على "الفساد" الذي يتهدَّد مدنيَّة الاجتماع وعلى الخطر الذي يترصَّد وحدته، في حين أنَّه من منظور "الجماعة" تكون هذه الظاهرة مجسَّدة للوجود الفاضل في مجتمع فاسد جرَّاء كيفيَّة تواجده.

[16]ـ إنَّ أهميَّة هذه المقاربة تكمن أساساً في التنبيه على أنَّ الاختلاف ليس عرضياً، بل إنَّه اختلاف أنطولوجي، مادام الأمر يتعلق بصراع وجود يتخذ شكل "حرب إرادات" غير مأمونة العواقب قد تُستنفد فيها كلُّ الإمكانيات. وقد يكون من الغباء النظري أو السياسي تمثل هذا الصراع على غير هذه الأرضيَّة وضمن أفق مغاير.

[17]ـ انظر مضمون نصّ الاعتقاد القادري الذي نُسب إلى الخليفة العبّاسي القادر باللّه، أورده الحافظ ابن الجوزي في تاريخه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" دراسة وتحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، راجعه وصحَّحه نعيم زرزور، دار الكتب العلميَّة، بيروت - لبنان، حوادث سنة 433هـ، الجزء 15 ص 279/280/281/282.

[18]ـ انظر مقال (Strasser (stéphan المذكور سالفاً.

[19]ـ نذكر في هذا السياق الخصومة السنيَّة الشيعيَّة بشأن صورة الصحابة وبشأن الأحقيَّة والجدارة، وذلك من خلال نصوصهم المتعلّقة بالمطاعن والردود، بما يؤكّد استحالة الإجماع، وسنقتصر في هذا المجال على ذكر مؤلّف على سبيل المثال. انظر كتاب العواصم من القواسم، للقاضي أبي بكر بن العربي، تحقيق الدكتور عمَّار الطالبي، مكتبة دار التراث، القاهرة ـ مصر.

[20]ـ بشأن غياب الإجماع على الفترة التاريخيَّة لوجود السَّلف يمكن أن نؤكّده من خلال التباين في المواقف والتصورات، فمنهم من يجعلها حكراً على الخلفاء، ومنهم من يمدّها إلى الفترة التي تليهم، ومنهم أيضاً من يحدّها بوفاة أحمد بن حنبل كما هو الأمر مع ابن تيمية، الأمر الذي يحول دون القطع باللحظة التاريخيَّة لتواجدهم. وحتى ما تواتر من حديث يقضي مضمونه بأنَّ "خير الناس قرني والذين يلونهم." فإنّه لا يزيد الأمر غير الغموض. انظر في هذا السياق كتاب الإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني، المجلّد الأوّل، الجزء الأوّل والثاني، الفصل الثالث في بيان حال الصحابة من العدالة، دار نهضة مصر للطبع والنشر 1970 ص 8.

[21]ـ فيما يتعلّق بهشاشة مفهوم الصحبة ومراجعتها نقدياً، انظر حياة عمامو، أصحاب محمَّد ودورهم في نشأة الإسلام، دارالجنوب، تونس 1996.

[22]ـ سنعمد في مقال لاحق إلى تفصيل القول في العلاقة بين صراع التأويلات وحرب الإرادات.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك