رؤية كيسنجر بولادة نظام عالمي جديد عام 2009 ؟

أ.د. سيّار الجَميل

 

وأخيرا ، نطق هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ، إذ كتب مؤخرا مقالة عنوانها “عام 2009 سيكون بداية لنظام عالمي جديد” ( الايكونومست ) . دعوني أعالج ما قاله ليس لأهميته القصوى ، بل لأن العام 2009 له أهمية استثنائية في تاريخنا المعاصر ـ كما كنت أقول دوما ـ ذلك أن أمريكا ستكون أقل قوة مما سبق ، ولكنها ستبقى تمتلك الاستقطاب الأحادي ، وستكون وراء خلق نظام عالمي جديد ! إن أهم حدث تاريخي عام 2009 سيشتمل على التحول الخطير في واشنطن من اجل توافقات مبادئ السوق واختراقاتها الحدود الوطنية ، ومن خلال منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي .. إن الولايات المتحدة الأمريكية لابد أن تجد ما يسند تلك ” المبادئ ” بخلق دوافع النظام على المستوى العالمي. إن استمرارية الأزمات المالية وتوسعها من خلال شارات تحذير لما يمكن أن يصيب الدول الصناعية ولما سيشتمل ذلك على تداعيات اقتصادية لتلك الدول المنتجة ، ولكن سيعيش العالم هول انحرافات خطيرة ، وخصوصا في العالم النامي ، تلك التي ينبغي أن تعالج عن طريق التشدد في السياسات المحلية في البلدان المتقدمة ، وستؤثر تلك ” السياسات ” حتما على عالم الجنوب وستزداد انسحاقاته المريرة.

ونظرا ، لعدم وجود ضبط النفس ، وغلبة الحالات الطفيلية ، فلقد غرقت اقتصادات كاملة وشركات لا تعد ولا تحصى .. مما شجّع على المضاربة مع تطور متزايد في المنتوجات ، والتباطؤ في مواكبة ما يحصل يوميا ، مع تزايد انعدام الشفافية .. انها لفترة غير مسبوقة من النمو ، تلت ذلك ، ولكن تجارب عدة قد أخفقت ، بسبب إشاعة الوهم بأن وجود نظام اقتصادي ، يمكن أن تحافظ أية منظومة اقتصادية فيه على نفسها من خلال ركام الديون لأجل غير مسمى. في الواقع ، يمكن لبلد العيش بطريقة تبذير فقط طالما أن بقية العالم لا يمانع بالإبقاء على الثقة في وصفاته الاقتصادية. تلك الفترة انتهت الآن. هذه الإخفاقات تذكرني تاريخيا بتجارب مصر الخديوية وتركيا العثمانية وتونس الحسينية عندما غرقت هذه الدول الثلاث بالديون في اواخر القرن التاسع عشر !

أي نظام اقتصادي سيتبلور ؟ وهل سيتطور ، خصوصا ، اقتصاد السوق .. هنا ستتعرض المجتمعات المنتجة للربح والخسارة ، ولكن المجتمعات المستهلكة سوف تنسحق تماما ، حتى إذا كانت الفجوة بينهما كبيرة ، فسوف تتسّع أكثر فأكثر لتصبح كبيرة جدا. إن حكومات الدول المصنّعة ستعيد تنظيم سياساتها ، وهي تسعى ـ اليوم ـ إلى إعادة صياغة النظام القائم في دواخلها وفيما بينها. سيكون هذا موضوعا رئيسيا من عام 2009. إن تفرد أميركا العسكري والسياسي عقب الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفييتي قد أغراها كثيرا بالتفرد والهيمنة مستقطبة العالم ، وثمة من يسعى إغراء الولايات المتحدة من أجل إعلان عالمي ، يحمل أهدافا سياسية في عالم القطب الواحد على ما يبدو ، ولكن كانت الأهداف التي حددتها الشعارات بديلا ، كما تبدو واضحة من جدوى الإستراتيجية حتى اليوم .

الآن بعد أن غاص النظام الاقتصادي بالوحل ، فإن الفجوة بين نظام عالمي Order للاقتصاد العالمي والنظام السياسي القائمRegime .. ستولد مشيئة جديدة للدولة التي يمكنها أن توّجه كمهمة مهيمنة في عام 2009. وستتم معالجات كبرى من اجل أن يكون وضع الاقتصاد على أسس سليمة ، واستحقاق برامج استعراض عالمية ، والاعتماد الوطني في التغلب على الديون. هنا يأمل هنري كيسنجر باستنباط دروس التاريخ في أن سيطرة الدولة المفرطة لن يطويها النسيان. إن مجمل الحوارات ستكون عن الأولويات وتجاوز المثاليات . إن أميركا بحاجة إلى حالة انضباط كي تعمل استراتيجياتها بأشكال تدريجية تسعى لبلوغ عظمة التراكم ، وان لا تقتصر في سياساتها الخارجية على ما يسمى بـ ” القوة الناعمة ” والخروج من ضيق الأفق ! وعليه ، نتساءل : ما هو مستقبل الرأسمالية؟ وكيف يمكن التعامل مع التحديات العالمية ، مثل الانتشار النووي ، وتغير المناخ؟

يقول كيسنجر بأن أمريكا ستبقى أقوى بلد في العالم ، لكنها لن تحتفظ بحدود الهيمنة ، وهذا ما نلمحه اليوم من ضعف لتنفيذ تجاوزاتها على الأرض ، وان تتبدل التصورات الأمريكية. وسوف تحتاج إلى دور جديد لتبني الصين والهند والبرازيل وربما جنوب أفريقيا. ولكن ؟ يتمّثل التحدي الفوري الأكبر في العراق ، وإذا كانت إستراتيجية تعزيز القوات حاصل ، يجب أن يكون هناك عقد مؤتمر دبلوماسي في عام 2009 لترسيخ مبادئ عدم التدخل وتحديد المسؤوليات دوليا . أما بالنسبة إلى إيران ، فثمة مماطلة دبلوماسية تجاه إيران إن الوقت المتاح لإحباط البرنامج النووي الإيراني آخذ في التقلص ، وان التورط الأميركي أمر أساسي في تحديد ما يمكن التنازل عنه أو الضغط عليه كمشروع مؤجل . وفي 2009 ، سيفرض واقع أفغانستان نفسه. وان تجربته ستمر بتأسيس حكومة مركزية تذعن لها كل المناطق ، كما فعلت بريطانيا ذلك معها إبان القرن 19 ، وكما جرى لها إبان القرن 20 من قبل السوفييت . ما يقرب من المقاطعات المتمتعة بالحكم الذاتي والتي تحدد أفغانستان تتجمع في معارضة المحاولات الخارجية لفرض الحكم المركزي ، ولكن نظام اللامركزية في الجهود الحالية أمر ضروري.

كل هذا يتطلب حوارا جديدا بين أميركا وبقية العالم. وهناك بلدان أخرى ، يتأكد دورها المتزايد ، ويخلص كيسنجر إلى أن أميركا لا تزال قوة (سوبر باور) لا غنى عنها ، ولكن عليها أن تعلم بأن النظام العالمي يعتمد على هيكل من المشاركين من اجل الدعم ، لأنها ساعدت على تحقيق ذلك. إذا كان التقدم المحرز في هذه المشاريع قد أتى بثماره ، وان عام 2009 سيكون بداية لإقامة نظام عالمي جديد !

المصدر: http://sayyaraljamil.com/2009/09/09/1711.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك