في معنى الحداثة والحاجة إلى رؤية نقدية
عبد الله إدالكوس
يستأثر سؤال الحداثة بمساحة واسعة في خريطة النقاش المعرفي والسياسي في بلداننا، بعد أن تجاوزت إطارها الغربي وأخذت بفعل عوامل عديدة تفرض نفسها على مجتمعات العالم المختلفة لتشكل تحديا مركزيا وإيديولوجية كاسحة ذات طابع متوحش، خاصة وأننا اليوم نعيش أسوأ مظاهرها بعد أن خيل للكثير أنها « الحداثة» ب « أل» التعريف، أي لا مجال للحديث إلا عن نمط واحد من الحداثة ليس على مجتمعاتنا إلا الأخذ به وهي بذلك تجر المجتمع إلى الركون إلى مطلقات لا تؤسس الخيار التداولي ولا تراعي الخصوصية الحضارية، أي أنها حداثة فوقية لا تمت بصلة للجاهز الاجتماعي بحيث يكون الشكل السياسي والاجتماعي الجديد مشوها أو حاملا للفوضى كما هو ماثل لدينا في العراق وفي الكيان الصهيوني من خلال أنماط من الحلول الحداثية الجاهزة والتي عبرت إلينا عبر القارات.
بالرجوع إلى مادة « حدث» في المعاجم العربية نجد أن الحديث نقيض القديم، والحديث الخبر يأتي على القليل والكثير، ويجمع على أحاديث على غير قياس، والحدوث: كون الشيء بعد أن لم يكن، واستحدثت خبرا أي وجدت خبرا جديدا ونقول: افعل هذا الأمر بحد ذاته وبحداثته أي في أوله وطراوته
أما في اللغة الإنجليزية نجد لفظان هما (modernism) و(modernity) ومثلهما في الفرنسية، وتختلف ترجمتهما بين حداثة وعصرية ومعاصرة، ويرى الدكتور مصطفى هدارة أن كلمة (modernity) تعني « إحداث تغيير وتجديد في المفاهيم السائدة، والمتراكمة عبر الأجيال نتيجة تغيير اجتماعي أو فكري أحدثه اختلاف الزمن. أما (modernism) فتعني الحداثة التي هي مذهب أدبي أو نظرية فكرية تدعوا إلى التمرد على الواقع، الانقلاب على القديم بكل جوانبه ومجالاته.»
يرى عدد من الباحثين خلاف هذا الرأي فيجعلون كلمة (modernism) لفظا دالا على حب الجديد، كما يدل على العصرية، ثم تطور حتى غدا مصطلحا له دلالته على مذهب الحداثة المعلوم في الأدب، أما كلمة (modernity) فهي تصف الزمن الثاني لهذه الحقبة كما تصف حداثة الأدب بكونه عصريا.
عند تعريف الحداثة اصطلاحا نجد أننا أمام كم هائل من التعريفات، كما أن تعريفها بلسان أصحابها يحوطه الغموض واللبس والاضطراب فعلى صعيد اللسان الغربي نجد أن الحداثة « تجسد صورة نسق اجتماعي متكامل، وملامح نسق صناعي منظم وآمن وكلاهما يقوم على أساس العقلانية في مختلف المستويات والاتجاهات» وهي عند « جيدن» تتمثل في نسق من الانقطاعات التاريخية عن المراحل السابقة حيث تهيمن التقاليد والعقائد ذات الطابع الشمولي والكنسي» .
الملاحظة الهامة في هذه التعاريف ليس فقط تعددها واختلافها إلى حد الغموض لكن الأهم في نظر الدكتور سعيد شبار هو "الانسحاب الكامل لكافة المضامين التي حملها المصطلح تاريخيا، لتفسح المجال أمام مضامين أخرى، إنها المضامين الثقافية للحداثة الغربية. إذ أصبحت الحداثة هنا لا تعرف إلا من خلال النماذج والأنماط الحداثية هناك".
لقد ساهمت الآلة الإعلامية الضخمة والتطور السريع لتقنيات التواصل في الترويج لمصطلح الحداثة « وشيوع المصطلح إنما يعكس النزعة الحادة والطموح القوي نحو التغيير الذي بلغ في حالات من التضخم حد إعلان التبعية الالتحاق الكلي والشامل بالغرب، لعل ذلك يحدث إقلاعا ونهوضا في البنى التقليدية في المجتمع.»
لكن هذه الحداثة في حقيقة الأمر لا تشكل سوى تحديث عاجز عن إدراك التاريخ والخصوصيات الحضارية، ومن ثم فهي غير قادرة على الخروج من السياج المغلق الذي يقوض مفاصل الإبداع والمسيطر على قابليات إنتاج الجديد بما يخدم المجتمع العربي الإسلامي المعاصر، ولا يؤسس الارتداد أو الرفض والإدانة كما هو حاصل عند بعض الحركات الاحتجاجية الباحثة عن المشروعية من خلال الترويج لخطاب ماهوي يجد نفسه في الماضي ولا يعيش اللحظة الراهنة.
إن الأفكار إذا أريد لها الانبثاق والصيرورة، ومن ثم التواصل بشكل مثمر ينبغي لها أن تكون غير مؤسسة في مجتمعات تعاني القطيعة النهائية مع تراثها والقطيعة النهائية مع الحداثة التي ينجزها الآخرون، كل ذالك يؤدي إلى ضياعنا ومن ثم الانزواء ضمن بوثقة الآخر وتمثل السطح لديه وليس تمثل الذات بشكل واع ومدرك ومميز وقادر على تشكيل الإطار المجتمعي الجديد.
من هذا المنطلق تكتسب المقاربة النقدية أهمية قصوى نحو الإنعتاق وكسر طوق التبعية للآخر، وبالتالي التأصيل لحداثة تراعي وتحفظ مقومات السياق التداولي الحضاري الخاص بالمجتمعات العربية والإسلامية ذلك أن» الرؤية النقدية في التاريخ المعاصر تشكل رأسمالا رمزيا لا مفر من استيعاب وتمثل مختلف مكوناته أي لا مفر من الوعي المركب بنتائجه وأبعاده ومختلف مكاسبه».
ضمن هذه المسلكية من التفكير النقدي نستطيع تفعيل مقتضيات التفكير الإبداعي فهذا « الوصل هو الذي يسمح لنا بالانتقال إلى مرحلة إبداع حلول قد تكون مشابهة لحلول اقترحها غيرنا، أو مختلفة عنها نسبيا أو كليا» ، لكن الأهم من ذلك أنها نابعة من ذات عاقلة وفاعلة ومبتكرة، وهذه هي مقومات الحداثة المبدعة، لكن علينا ألا ننظر إلى النقد» من جهة سلبية، بل من جهة إيجابية كذلك، فالنقد من الجهة السلبية يعد المرحلة الأدنى في أي تقويم، ففيه نعمد إلى الهدم، من خلال نقد واقع معين، أو تصور ما. وبما أن كل هدم يتطلب إعادة البناء فالمقام يقتضي استحضار الجانب الإيجابي في عملية النقد فهذا المستوى يمثل مرحلة إعادة النظر في الأمر المنظور فيه ببيان محاسنه ومساوئه، ومن ثم، العمل على التجاوز الجزئي أو الكلي، بهذا نعتبر النقد ميزة أساسية للعقل المنفتح الذي يسعى إلى الإبداع والابتكار، فبواسطته نتمكن من رفع الواقع، والانتقال من مرحلة الإتباع إلى مرحلة الإبداع» .