الفكر الأنثوي في مواجهة الإرهاب الفكريّ والاستبدادين الديّنيّ والسّياسيّ

آمال مختار

 

مقدّمة عامة

كانت المرأة العربية المسلمة ومنذ القدم ترزح تحت وطأة قدم العقلية الذكورية التي سيطرت وتسيطر عليها، باعتبارها كائنًا ضعيفًا؛ فهي في مفهوم هذه العقلية المستبدة ناقصة عقل ودين.

من هنا تمامًا، تنطلق مأساة هذه المرأة المسكينة التي سكنت لاوعي هذه العقلية المنغلقة، والمستمدة سيطرتها من سلطتيها الدينية والسياسية، سكنت في اللاوعي الذكوري بهاتين الصفتين الأساسيتين: نقصان العقل ونقصان الدين.

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار المعنى الحقيقي لهاتين الصفتين؛ فإنّنا سندرك مباشرة مدى خطورة هذا الحكم الجائر الصادر في حقّها ظلمًا، فهو بالأساس يسلبها أهم ما يميز الإنسان، وهو العقل الذي يفكّر من خلاله والدين الذي يمنحه السند الوجودي ليكون.

بهذا الحكم، ضربت المرأة العربية المسلمة في الصميم، لتظل حبيسة سجن اسمه الجسد الذي يمنح الذكر المتعة والخلف، وحبيسة دور بائس يتمثل في خدمته.

ولأن المرأة ليست كذلك حتى وإن كانت أميّة، فإنها قاومت استبداد تلك العقلية الدكتاتورية التي حرمتها من أهم معاني الوجود المتمثل في الحرّيّة، قاومته بالحيلة.

فكانت شهرزاد من النساء اللائي خلّد التاريخ حيلتها، لتقاوم السلطة وحدّ السيف في آن، ولم يكن أمامها من حيلة إلاّ أحبولة السرد والحكاية المشوّقة، والتي سلبت عقل شهريار/ الذكر والسلطان فأنقذت حياتها، وسجلت في التاريخ اسمها بأحرف غليظة، لتؤكد للعالم بأسره أنّها ذات عقل وحكمة.

ويزخر تاريخ العرب المسلمين بأسماء نساء فنّدن صحّة ذلك الحكم الجائر بأن شاركن الخلفاء والسلاطين السلطة، حتى وإن كان ذلك في الكواليس ومن وراء حجاب.

كما خلّد التاريخ أسماء نساء كثيرات كذّبن تلك المقولة بقولهن الشعر، مثل الخنساء وولاّدة بنت المستكفي وغيرهن، كما تسجل كتب عديدة تراثية مثل الأغاني وغيرها حكايات وطرائف شتى تروي ذكاء النساء، بل دهاءهن غالبًا في التعامل مع السلطة الذكورية التي لا يعنيها من المرأة إلاّ جسدها.

أثناء الفترات التي عاشت خلالها البلدان العربية المسلمة تحت وطأة الاستعمار الغربي، أكدت المرأة في أغلب البلاد العربية قدرتها الفكرية العالية وإرادتها الفولاذية للمساهمة في النضال من أجل تحرير بلادها؛ ولعلنا هنا لا نستطيع أن نتجاوز ذكر المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد أو الفلسطينية دلال المغربي..

ولما نالت هذه البلدان استقلالها هبّت على وضعية المرأة رياح مواتية وبقوى متفاوتة من بلد إلى آخر، لتساعد المرأة على إثبات وجودها والتأكيد على أنها ليست كما اتهمت ناقصة عقل ودين، وتمثلت تلك الرياح في وجود زعماء مختلفين من مفكرين وساسة مثل الطاهر الحداد والحبيب بورقيبة في تونس وقاسم أمين وجمال عبد الناصر في مصر وعبد الكريم قاسم في العراق وغيرهم ممن آمنوا بأنه لا تطور ولا تقدم للمجتمعات العربية المسلمة إلا بتعليم المرأة وبعث الحياة في نصف المجتمع الذي شلّته العادات البائسة والتقاليد البالية بتهمة باطلة، وهي أنّها ناقصة عقل ودين.

خلال النصف الثاني من القرن العشرين، نستطيع أن نقول إن المرأة العربية المسلمة التي تحرّرت من عقالها، فغادرت سجنها إلى رحاب المدارس والكلّيات، لتجنّح بعدها وتطير محلقة في سماء الحرية والعمل والإبداع في شتى المجالات، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة بين بلاد وأخرى وبين منطقة وأخرى.

هذه الفترة التي يمكن أن نعتبرها الآن فترة ذهبية في تاريخ تحرّر هذه المرأة منحت لهذا العالم العربي المسلم نجمات في شتى المجالات، ونكتفي بذكر أم كلثوم وفيروز في الغناء، ومي زيادة ونازك الملائكة وفدوى طوقان في الشعر، وغادة السمان وبنت الشاطئ في الرواية والبحث، وفاتن حمامة وسعاد حسني في التمثيل، وغيرهن كثيرات، مثل أوّل طبيبة عربية، وهي التونسية توحيدة بالشيخ...

وفي الوقت الذي اعتقدنا فيه، أن المرأة بدأت تخطو بثبات في طريق تحرّرها ليس فقط في تونس والمغرب وسوريا ولبنان ومصر والعراق، بل وحتى في بلدان الخليج العربي الذي لحق متأخرًا مقارنة ببقية البلاد العربية المسلمة، تمامًا أثناء هذه اللحظات التي بدأ خلالها يعلو صوت المرأة على الركح وعبر الشاشات ومن خلال المصدح والكتب والمجلات والصحف، في تمام هذه اللحظات هبّت "عواصف" ثورات الربيع العربي عاتية على مجتمعاتنا، فاختلّت الموازين وتزعزع كل شيء، وإذا بالمرأة العربية تتراجع إلى الوراء، وتخسر كل المسافة التي ربحتها خلال ما يفوق نصف القرن، لتجد نفسها في المواجهة انطلاقًا من وضعية أسوأ من الصفر وفي ظروف اجتماعية وثقافية وأخلاقية مهتزة من ناحية لكن بإمكانيات أكثر فاعلية وقوّة والمتمثلة في أنها متعلّمة ومثقفة إلى حدّ ما.

وهنا يطرح السؤال الأهمّ كيف لهذه المرأة المتعلمة والمثقفة، والتي تذوّقت طعم الحريّة أن تقاوم هذا المدّ من التخلف والرجعية الذي هجم متنكرًا تحت أقنعة الديمقراطية والدين، ليصنع الفوضى والحروب ويستهدفها هي تحديدًا وبنفس التهمة الجائرة: "نقصان العقل والدين"؟!

وضعية المرأة الكاتبة في المجتمعات الذكورية

لئن كانت المرأة الكاتبة/ المبدعة عمومًا تعاني من نظرة المجتمع الذكوري القاسي تجاه منتوجها الإبداعي مشككًا في قدرتها على خلقه إن كان متميزًا متّهمًا إياها تلك التهمة الكلاسيكية الممجوجة والمتمثلة في وقوف رجل وراءها، أو مستهزئًا أو متملقًا، إن كان عملها لا يرتقي إلى الإبداع مستغلًا الفرصة لنيل جسدها، فإنّ الوضع اختلف تمامًا بعد إعصار الربيع العربي بالنسبة إلى هذه المرأة التي باتت أكثر عرضة للخطر، باعتبارها تسير خارج القطيع مدجّجة بأخطر الأسلحة التي تمقتها العقلية الذكورية التي ازدادت انغلاقًا وغوصًا في عفن التجارة بالدين التي استندت عليها كحجة لاستعادة المرأة عمومًا إلى سجنها بعد القضاء على السائرات خارج القطيع؛ لأنهن يملكن أخطر الأسلحة، وهو سلاح العقل والتفكير والسؤال والإبداع، والذي سيحرر عقول المزيد من نساء القطيع من الخوف المبثوث في النفوس باسم الدين والعقاب في الآخرة، حيث تنتظر المارقات جهنّم وبئس المصير.

الآن إذن ونحن نعيش زمن العولمة والثورة الرقمية الاتصالية، نعيش أيضًا زمن المفارقات والعجب؛ فالكاتبات المبدعات المفكرات مهددات بالقتل بعد تكفيرهن وهدر دمائهن، أما نساء القطيع فهن مهجّرات، مغتصبات، يتامى أرامل وثكالى ..

إنّها الحرب يا حبيبتي وأنت مسكينة ناقصة عقل ودين وعليك توجّب دفع الثمن الباهظ من جسدك، من شرفك، من كبريائك، من كيانك كإنسان أنثى عاد الجهلة بفقه الدين المتطرف إلى اعتبارك مجرّد عورة توجّب سترها أو حبسها أو تعذيبها أو قتلها بشتى أنواع القتل المادي والمعنوي.

تعاني المرأة الكاتبة المثقفة الواعية بدورها النضالي في عصر "البوز" و"الكلاش" الإعلامي وفي عصر "السوشيل ميديا" التي تعكس الصورة الحقيقية لتردي العقلية الذكورية المسيطرة على المجتمعات العربية بعد الثورات اللقيطة والربيع الأسود، تعاني على كل الواجهات: تعاني من التكفير من قبل الجهلة والمرتزقة الذين قبضوا الدولار، ليتطرفوا في إسلامهم وهم لا يفقهون فيه شيئًا، بل تمثل دورهم في أن يكونوا جنودًا إلكترونيين ينشرون فكرهم الأسود، ويجندون المغفلين والجهلة والفقراء من الشباب العاطل، ويشنون حروبًا إلكترونية على المرأة التي تكتب لتقول: لا لإعادة المرأة إلى سجن التقاليد البالية والفتاوى المضحكة محاصرة أيضًا في واقعها من الرجل القريب منها الذي بات يخاف عليها من حملات التكفير والتهديد بالقتل، حتى وإن كان مقتنعًا بما تكتب، ومحاصرة من الرجل زميلها الكاتب المبدع الغيور الذي انتهز فرصة الفوضى، ليشكك في مقدرتها الفكرية والإبداعية، فيسارع إلى تهميشها والاستخفاف بها وبمنتوجها الفكري والإبداعي، وأخيرًا محاصرة من المرأة في حدّ ذاتها تلك التي تنتمي إلى القطيع، فتصفها بالكافرة والسافرة والساقطة، بينما لا تستحي هي من المشاركة في بدعة ما سُمي بـ"جهاد النكاح".

في ظل هذا الواقع الجديد الذي أفرزه الربيع الأسود على المرأة عمومًا، وخصوصًا على تلك التي تعلّمت ارتكاب فعل السؤال والبحث وتعلّمت المغامرة من أجل العثور على إجابة تشفي غليل سؤالها، وتعلمت كتابة تجربة مغامرتها الفكرية والوجودية والحياتية، في ظل هذا الواقع المتعفن، لا بد لهذه المرأة أن تكون شجاعة، وأن تواجه كل هذا الحصار وتقاتل على جميع هذه الجبهات.

سلاح القلم في مواجهة عنف التطرف

ندرك بداية ومن خلال هذا العنوان المفارقة الجليّة بين طرفي المواجهة، إذ يبدو لنا أنّه من الواضح لا حوار بين من يسأل ويبحث ويفكر ويكتب مغامرة سؤاله وبحثه للعلن، ليستفيد منها الجميع ويحاورها كل من يملك نفس أدوات السؤال والبحث وهو سلاح الفكر والقلم، وبين من لا يسمع ولا يفهم ولا يستوعب، بل هو مبرمج مثل آلة لأداء دور محدّد ومعين، وهو تعنيف ومحاصرة وقتال كل من يتجاسر على ارتكاب فعل التفكير وإعلانه من خلال كتاباته هذا إن كان رجلًا فما بالك إن كان الأمر يتعلق بامرأة ناقصة عقل ودين؟

وعلى الرغم من هذه الحقيقة البارزة في عدم تكافؤ الطرفين خاصة إذا ما أضفنا صفة الجبن التي تتلبّس بأولئك المرتزقة الذين ينجزون مهماتهم القذرة في الظلام والسرّ وتحت شتى الأقنعة وصفة الشجاعة أو الجرأة للمرأة التي اختارت المواجهة غير مبالية بنتائج ما قد يحدث لها؛ لأنها مؤمنة أشدّ الإيمان بأهمية دورها هي تحديدًا المرأة الواعية بضرورة صمودها ببسالة في الصف الأمامي من جبهة القتال الفكري الثقافي الوطني، باعتبارها راعية المنزل والأسرة أثناء غياب الرجل كما هي عادة النساء في الحروب.

على المرأة في الحروب، عندما تفقد السند الذكوري استشهاد الزوج والأخ والابن والأب - عليها وهي ناقصة العقل - أن تستنبط الحيل، لتحمي ما بقي من أسرتها من أطفال وعُجز وجرحى، عليها أن تؤمن لهم الأكل والمرقد وأساسيات الحياة حتى لو كان ذلك بحفر مغارة للاحتماء بها من ويلات الحرب وعنف العدو. على المرأة الكاتبة أن تقوم بدورها هذا الذي تقوم به المرأة العادية في واقع الحرب المادية على المستوى الفكري، فتحمي بكتاباتها عقول الشباب المستهدف لتجنيده وتحرّض المرأة العادية على النزول للميدان للاستبسال والمقاومة. وإذا ما كانت المرأة العادية تواجه وتتعذب لتحمي أسرتها فقط، فإن المرأة الكاتبة من خلال مقال صحفي أو دراسة فكرية أو رواية تحمي كل من قرأ ما كتبت، وهي بذلك تحمي أكثر من عائلة، إنها تحمي وطنًا بالمعنى الأشمل.

ولأنّها واعية تمام الوعي بأهمية دورها، بل بخطورته لإنقاذ وطنها، فإنها بشجاعتها وجرأتها لا تهاب تلك التهديدات ولا تلك التحرشات ولا ذلك العنف اللفظي الذي ينهال عليها على صفحات "السوشيل ميديا" لإرهابها وإجبارها على التراجع، غير أن مثل هذه المرأة المسؤولة لا ولن تتراجع مهما كانت التهديدات ومنسوب العنف اللفظي الذي يضربها مباشرة في شرفها وأخلاقها، وهي النقطة التي تعتبرها العقلية الذكورية نقطة ضعف المرأة، ربّما ينجح مثل هذا الأسلوب العنيف مع امرأة عادية، فينتابها الخوف وترهبها نظرة المجتمع القاسية لامرأة متهمة في شرفها وأخلاقها، فتتراجع إلى سجنها.

أما المرأة الواعية والمثقفة والمبدعة، فإن ثقتها العالية في نفسها وفي ذكائها وقدرتها على التأثير بسلاح قلمها، بلغتها الصادقة المنطلقة من عقل نزيه وقلب صادق، في العقليات المترددة والخائفة ونصف المتعلمة لن تؤثر فيها، بل لن ترهبها مختلف أشكال العنف التي تواجهها، بل لعلها تزيد من تحفيزها للتشبث بأداء دورها الذي عهدت به إلى نفسها، باعتبارها واعية تمام الوعي بالمرحلة الخطيرة والدقيقة التي تمرّ بها المنطقة العربية والمسلمة المقبلة على زلزال جغرافي بعد الزلزال السياسي.

في ظل هذه الفوضى السياسية العارمة والعفن الأخلاقي وسقوط الثقة وانكسارها بين الناس وبين الشعوب وساستها الجدد باتت مهمّة المرأة الكاتبة المثقفة أصعب غير أنّها ليست بمستحيلة بفضل إيمانها بدورها وقناعتها بأهميته. فهي حقًا، باعتبارها المرأة الواعية تدرك أنّها ومثيلاتها من الكاتبات الوطنيات المخلصات -وهنّ للأسف قليلات العدد- أنها تشكل بإبداعها وكتاباتها وإصرارها حزام الأمان لهذه الأوطان العربية المسلمة المستباحة من طرف الغرب المتآمر مع الصهيونية لتدميرها وإعادتها إلى عصور الجاهلية بينما ينهبون خيراتها وثرواتها تحت غطاء الديمقراطية ومساعدة هذه الشعوب على نيل الحرية.

مغامرة الكتابة في الواقع وتضاربها مع مصطلح الكتابة النسائية

إنّ فعل الكتابة كفعل مجرّد هو فعل مغامرة بالأساس، فهو فعل يتطلب الجرأة والقدرة على المواجهة والصدق في نقل التجربة مهما كانت حقيقتها بشعة أو مرعبة أو مرّة، إنّه فعل تعرية بامتياز. ولأنّه كذلك، فقد اعتبر هذا الفعل ذكوريًا بامتياز، وأنّه لا يجوز للمرأة البتة أن تتجاسر على ممارسة هذا الفعل، لأنه من المحرّمات عليها، فهي كائن عورة لابد من ستره فكيف يسمح له بالتجاسر على ممارسة فعل العراء؛ أي فعل الكتابة؟

من هنا انبثق مصطلح الكتابة النسائية، عندما كتبت المرأة، باعتبارها كائناً منقوص العقل والدين، وبالتالي فهو من ناحية عاجز على التفكير وإعمال العقل، ومن ناحية أخرى؛ أي دينيًا، لا يجوز له ممارسة فعل التعرية هذا وهو فعل الكتابة.

لذلك ترفض كل كاتبة واعية ومسؤولة هذا المصطلح الذي يحمل بين طيات أحرفه تهميش المنجز الإبداعي الذي تقدّمه المرأة، باعتبار تهمة قصورها وعجزها، فكأنّما في هذا المصطلح اعتراف ضمني بأن هذه الكتابة التي تقدّمها المرأة مختلفة ضرورة عمّا يقدّمه الرجل. فهي حتى وإن وجدت، فهي تنطق بلغة المرأة العاطفية والساذجة وليس لها علاقة بالعقل والتفكير والإبداع.

ولأن هذا المصطلح ينفي على المرأة العقل والإبداع، فإنّه يتضارب بالتأكيد مع فعل الكتابة الذي هو مغامرة تتطلب كل تلك المواصفات التي ذكرت من جرأة وصدق.

نتساءل هنا: كيف يمكن للمرأة الكاتبة العربية في ظل الظروف الراهنة من حروب على أرض الواقع وأخرى على مستوى الفضاء الإلكتروني التواصلي والاتصالي أشدّ شراسة ربّما، كيف يمكن لهذه الكاتبة المرأة المتهمة بالعاطفية والسذاجة ونقصان العقل، والتي يكفّرها مرتزقة التطرف الديني كلّما كتبت ما تفكّر فيه، كيف يمكن لها أن تقوم بهذه المغامرة الحقيقية والخطرة وعلى المستويات الفنية والفكرية والواقعية؟

هذا التساؤل تجيب عليه كل الكتابات التي قدمتها المرأة الكاتبة المبدعة العربية منذ زلزال الربيع العربي وفي جميع الأقطار، ونذكر على سبيل المثال انطلاقًا من تونس، الكاتبة والمفكرة والمختصة في الشأن الديني ألفة يوسف التي وقع تكفيرها وإباحة دمها، ممّا جعلها تعيش تحت رقابة أمنية دائمة منذ ما يقارب الخمس سنوات، والأستاذة الدكتورة الجامعية آمال الغرامي، وكاتبة هذا المقال التي قدمت رواية "دخان القصر" حيث انتقدت حركة النهضة - الحزب الذي حكم تونس خلال ثلاث سنوات تمثلت في حكم "الترويكا"- إذ تنبأت بفشل انصهار هذا الحزب المتطرف دينيًا في تركيبة المجتمع التونسي، رغم عمليات المكياج والتجميل التي قام بها لإعطاء الانطباع بأنه تخلى عن الجانب الديني المتطرف، ليكون حزبًا سياسيًا مدنيًا بخلفية دينية، إلى جانب العديد من الصحفيات والكاتبات الناشطات على صفحات التواصل الاجتماعي واللائي ساهمن في تحجيم دور حركة النهضة والمد الأسود الذي غطى تونس في منطلق الربيع الأسود، بينما تراجع هذا المدّ الآن، وتقلّص حجمه بفضل حزام الأمان الذي وضعته المرأة التونسية الكاتبة والمفكرة والمبدعة والناشطة مدنيًا.

وفي بلدان أخرى، أذكر الروائية السورية شهلا العجيلي التي كتبت عن الحرب السورية روايتها "سماء قريبة من بيتنا"، ومن مصر نذكر المناضلة في الحركة النسوية المصرية والعربية نوال السعداوي التي ازداد نشاطها بعد ثورة الربيع العربي في مصر، نذكر أيضًا المبدعة سلوى بكر وغيرهن كثيرات وفي جميع البلدان العربية المسلمة التي أصابها فيروس الربيع العربي وأولها العراق، وكان ذلك تحت غطاء آخر إلى جانب اليمن وليبيا والبحرين، حيث أخمدت المؤامرة بفضل مساعدة خارجية، وأيضًا بفضل صمود كاتبات، مثل المبدعة فوزية الرشيد التي تكتب يوميًا مقالة تفضح فيها تفاصيل المؤامرة الغربية على العالم العربي المسلم طبعًا بمساعدة خونة داخل كل بلد.

إنّ المرأة الكاتبة، الواعية، المثقفة، الوطنية وحدها القادرة على خوض مغامرة الكتابة والإبداع الشاقة والخطيرة، لتواصل مسيرة التحرّر التي انطلقت بعد استقلال البلدان العربية المسلمة من الاستعمار الجغرافي بفضل نضال الرجل بالسلاح والمقاومة. والآن بات دور المرأة هذه أهمّ وأخطر بما أنّ الاستعمار الحديث للبلدان العربية المسلمة جاء عن طريق الثورة الرقمية التي جعلت أخطر الأفكار تدخل إلى بيت أي مواطن، وربّما بل الأكيد بمساعدته لتفتكّ منه ابنه أو ابنته وتجنده أو تجنّدها ضدّ عائلتها، وهنا تجسدت الحرب العالمية الثالثة في شكلها الإلكتروني الاتصالي الذي حول العالم إلى قرية حقيقية يقع التحكّم في أحداثها عن بعد.

هنا تحديدًا، يكمن دور المرأة عمومًا لحماية أبنائها من الاستعمار الفكري الذي يحرّض أفراد العائلة الواحدة ضد بعضهم البعض بإحداث الفرقة الدينية أو الأيديولوجية أو العرقية أو غيرها من أسباب الفُرقة والفتنة التي دمّرت شعوبنا.

أما دور الكاتبة المثقفة، فيتمثل في توعية تلك الأم ّالتي ليس لها من الثقافة والوعي لتعي خفايا الأحداث، وفي توعية جيل من الشباب الذي خسر تعليمه أو ثقته أو مكانته في مجتمعاتنا التي ترزح تحت سياط الفقر والبطالة، وهي من أغنى البلدان بثرواتها المنهوبة. ذلك هو دور المرأة المثقفة والكاتبة وعلى خطورته التي تصل إلى حد التهديد بالقتل، فإنّ هذه الأخيرة لم ولن تتراجع عن أداء دورها هذا لإنقاذ وطنها.

المرأة الكاتبة والسلطة الدينية والسياسية

مما لا شك ولا جدال فيه، أنّ علاقة العداء بين المرأة المبدعة وهاتين السلطتين قديمة قدم التاريخ. فالعقلية الذكورية المستبدة لم تسمح للمرأة المتهمة بأنّها ناقصة عقل ودين بالمشاركة في مجالها.

ولأن صورة المرأة الكاتبة المبدعة في العقلية الذكورية هي صورة امرأة متشبهة بالرجل، باعتبارها خرجت عن القطيع النسوي بما أنّها تجرأت ومارست الفعل الذي لا يجرؤ عليه سوى الرجال، وهو فعل الإبداع الذي يتطلب عقلًا وفكرًا.

هذه الصورة تخيف العقلية الذكورية وترعبها لذلك تسارع بتهميش مشروعها الإبداعي والفكري واتهامها بأن رجلًا يقف وراء إبداعها إن كان متميزًا أو استغلالها والاستهزاء منها، إن كان مشروعها الإبداعي هزيلًا.

أما الحقيقة، فتتمثل في أنّ صورة المرأة الكاتبة الواعية والمبدعة تخيف السلطة السياسية، لذلك ظلّت المناصب السياسية حكرًا على الرجال في البلاد العربية وحتى إن ساهمت نساء قليلات، فذلك بفضل العلاقات الشخصية وليس بفضل الجدارة.

وعلى الرغم من مساهمة العديد من النساء في تونس ومصر وسوريا وليبيا في بداية ثورات الربيع العربي - وقد اعتقدن في جديتها - إلاّ أنّهن عند نيل المناصب لم نشاهد عددًا كبيرًا من هؤلاء النسوة على كراسي السلطة ! وهنا نتأكد من الحصار الذي تضربه العقلية الذكورية حول عقل المرأة؛ لأنها تهابه وتهاب قدراته، لأنها تدرك مكامن قوّته ومنها يقع غلق الأبواب أمام طموحها السياسي.

أمّا السلطة الدينية، فهي موصدة تمامًا في وجه المرأة المفكرة تحديدًا، والتي تبحث في المسألة الدينية في كل البلاد المسلمة دون استثناء ولا أدل على ذلك من إهدار دم كل من تجرأت على البحث في مسائل خلافية دينية، وأعود هنا لذكر التونسية ألفة يوسف التي نالت دكتوراه دولة حول موضوع "تعدد المعاني في القرآن"، والتي قدمت مجموعة كبيرة من الكتب في مسائل تخص الحجاب والميراث وعديد القضايا التي لم تحسم بعد.

كما أذكر العراقية وفاء سلطان التي ناقشت وتناقش تلك المسائل الخلافية في الإسلام، والتي أهدر دمها هي الأخرى.

الأمثلة كثيرة، حيث ترفض فيها السلطة الدينية دخول المرأة المفكرة ميدان البحث الديني، باعتبارها ناقصة عقل ودين.

ختامًا

بعد كل الجهود التي قامت بها المرأة العربية المسلمة، وبعد كل ما حققته من منجزات على مستوى القوانين وعلى مستوى الحضور الثقافي والإبداعي في كثير من البلاد العربية المسلمة، غير أنّ إعصار الربيع الأسود هبّ على هذه البلاد، فدمرها على جميع المستويات وأعادها إلى عصور ما قبل الاستقلال. وكانت وضعية المرأة هي الأكثر تضررًا، حيث تراجع حضورها الاجتماعي، وأعيدت إلى سجونها المختلفة، ومنها سجن الحجاب وسجن التقاليد وسجن الجهل والأمية.

وهنا يتوجّب على المرأة الكاتبة المثقفة الواعية أن تضاعف من جهود نضالها، لتوعية هذه المرأة العربية المسلمة التي أعادوها إلى دور الضحية المعذّبة والمعنّفة، لأن المرأة الكاتبة وحدها تمثل حزام أمان لأوطاننا المحتلة بشكل أو بآخر من غزاة افتراضين وآخرين خونة.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D...

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك