نص الفقيه: اتحاد السُّلطة - قراءة في الفكر الشيعي

معتز الخطيب

 

نشير منذ البداية إلى أننا نريد من كلمة "الفقيه" معنى أوسع من المعنى الخاص ( المعروف ) ، ونستند في ذلك إلى قوله سبحانه : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ) [التوبة 122] .

 

نحاول في هذه الدراسة الموجزة قراءة ما لم يُقرأ ، والتفكير في اللامفكر فيه ضمن الفكر الشيعي من خلال تحليل للنصوص الشيعية الممتدة عبر تاريخه ، والتي لا تزال حية وناشطة في المجتمعات الشيعية حتى اليوم ، بصفتها نظاماً أيديولوجياً خاصاً من الاعتقاد والمعرفة ، يصوغ المستقبل - فضلاً عن الحاضر والماضي – ويساهم في تشكيله .

 

وأؤكد أنني في تحليلي للنصوص ( مجال البحث ) – فيما أرى – أقرب إلى الدقة ؛ لأنني متحرر من الفرْضيات والمسلَّمات الخاصة بالفضاء الشيعي ، المهيمنة عليه ، خاصة حين تلقي النصوص وكيفية استقبالها ، وهو ما يُدعى " جماليات التلقي " .

 

كما أؤكد أنني أرصد التيار البارز – إن لم يكن السائد - في الفكر الشيعي بعيداً عن "الانتقائية" ، ولا يعني بالضرورة أنه ينسحب على كل الاتجاهات والأفراد ، وإن تمّ الاستشهاد بأقوال للخليفة الراشد " علي بن أبي طالب " أو غيره فإنما نوردها من المنظار الشيعي ، ونفترض ثبوتها بناء عليه .

 

وهل نحن في هذا ننبش في التاريخ ؟ إنه يجب علينا " غَرْبلة التراث " ، والبحث في آليات التشكيل ، وكيفيات التشكل ، وعوامل التأثير لنكون شهداء على التاريخ ، وعلى وعي تام بالمشاكل التي نعاني منها في واقعنا الفكري .

 

أزمة النص الديني :

 

ثمة أزمة حقيقية في التعامل مع النص الديني ، سواء على مستوى التأويل والاستدلال ، واختراق الحُجُب الكثيفة التي غطت النص الأول ( الوحي ) في لحظة صفائه ونقائه ، أم على مستوى الإثبات ومعايير القبول والرفض ، وهذان هما مستويا التعامل مع النص الشرعي كما يؤسّس لهما في العلوم الإسلامية التقليدية .

 

وإذا أضفتَ إلى ذلك إشكاليات الواقع ، ورهاناته المستمرة مع تطور العلاقة بين التراث والحداثة ، والإشكاليات المعرفية للقراءات المعاصرة للنص الديني فإن المساحة ستتسع لتقدير إضافات كثيرة بين مفردتي العنوان " أزمة " ، " النص " خصوصاً وأن الإشكاليات المطروحة لا تزال غير محسومة أو غير قابلة للحسم إلى الآن ( على الأقل ) .

 

وإذا كانت الحضارة الإسلامية في مجملها " حضارة نص " ( النص الديني ) ، فإن هذا يجعل عدم كفاية النصوص الأصلية ( الوحي ) مشكلة جديدة تضاف إلى جملة ما قدّمناه ، الأمر الذي سوّغ – في الفكر الشيعي – شرعية مرجعية آل البيت ، واعتبار أقوالهم نصوصاً كنصوص الوحي تُستنبط منها الأحكام ، ويكونون هم حماةَ الشريعة ، والقائمين عليها ، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية المحافظة على " الوديعة " ( الوحي ) التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم ( لهم ) ، ومن ثم كان وجود الإسلام مرهوناً بآل البيت والأئمة حتى انتشرت مقولة (( إن الإسلام محمدي الوجود ، حُسيني البقاء )) (1) .

 

النص والسلطة :

 

إن النص الديني يمارس سلطته على المدينين به تحت تأثير " مديونية المعنى " الناشئة من مصدريته الإلهية المتعالية ، واعتماداً على هذه المصدرية تتقوى مديونية المعنى لتصبح مستمرة عبر "الزمكان " بحيث تصبح صالحة لكل زمان ومكان .

 

لكن تم توظيف هذه السلطة في الفكر الشيعي لصالح " الإمام " ، و" المرجع " اللّذين يمتلكان – وحدهما – حق التأويل والقراءة للنص الديني ، بل إن الأمر – في حق الإمام – يتجاوز ذلك بحيث يصبح كلامه نصّاً شرعياً يكتسب السلطة التي يكتسبها " النص / الوحي" .

 

لقد تم تأسيس ذلك من خلال " الترميز " ، و " التأويل " ، و " التزيـين " ، فالسلطة العليا الرمزية ( الإمام المعصوم ، آية الله ) ترسخت عبر الزمن والتكرار ، وساهم في ترسيخها تلك الشعائر والطقوس المصطنعة كما في الأذان ( أشهد أن عليّاً ولي الله ) ، وعاشوراء ، وغير ذلك ، والعملية الطويلة التي تم فيها استبطان الصيغ الأدبية والفنية كما في ( نهج البلاغة ) على أساس أنها معايير متعالية ، يكون لها المرجعية والسيادة مع " النص " ( الوحي) ، وتنال من العناية والدرس والحفظ (بالحرف الواحد) ، والحضور ما يناله نص الوحي ( القرآن والسنة ) .

 

لقد تم اقتباس " التزيين " من ( الوحي ) ، وتوظيفه لصالح السلطة المرادة من خلال ربط الفعل بالثواب والعقاب ، كما في حديث (( ذِكر علي عليه السلام عبادة )) (2) ، وحديث : (( مَثَل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح مَن ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق )) (3) . ونرجئ الكلام على " التأويل " إلى مكان آخر .

 

إن ما يحدث في ( عاشوراء ) من مظاهر سيئة ( في شكلها على الأقل ) إنما يعكس الإصرار والرغبة المحمومة من الفكر الشيعي في إحياء وترسيخ فكرة السلطة السياسية والدينية لآل البيت (وفق التصور الشيعي ) ، كما يعكس إحياء وترسيخ ظاهرة العنف الجذري ، وهو ما حاولت أديان الوحي أن تسيطر عليه من خلال التسامي الأخلاقي ، والتصعيد الروحي للدوافع والغرائز . ومع وضوح هذه الفكرة – فيما نرى – يصرّ الفكر الشيعي على المحافظة على تلك المظاهر رغماً عن بعض مرجعياته (4) والمستنيرُ منهم يفلسفها بأنها إحياء للفكرة الثورية ، ونحو ذلك من الإسقاطات السائدة في الفكر الإسلامي عموماً .

 

لقد تم استخدام تلك السلطة بشكل كبير في الفضاء الشيعي من أجل ممارسة سلطة سياسية وثقافية للسيطرة على " المرجعية " ، وتبوّء منصب القيادة ( الإمامة ) . (( ونلاحظ أنه عندما جاء الخميني إلى السلطة أراد محاكمة الشاه وإعدامه بصفته رمزاً لموت الطاغوت ، وظهور الإمام المقدس)) (5) ، وهو نموذج لاتحاد السلطتين ( سلطة الوحي – وسلطة الفقيه ) في شخص إمام المسلمين ( السلطة السياسية ) .

 

النص : اتحاد السلطة :

 

إن الحديث عن مظاهر " اتحاد السلطة " ( السلطة الإلهية بالسلطة الفقهية ) مترامي الأطراف بدءاً من مكانة علي بن أبي طالب وآل البيت من التشريع الإسلامي ، وانتهاءً " بآيات الله " على الأرض ، وهو ما أشرنا إليه قبلُ بـ " الترميز " وهو – فيما نرى – يمثل شكلاً من أشكال اتحاد السلطة بين نص الوحي والسلطة القانونية والقسرية للمؤول و " المرجع " الديني فالقرآن مكون من آيات ، والقائمون على تفسيره هم آيات أيضاً‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!

 

نبدأ من مكانة آل البيت من التشريع فهم – وحدهم – الذين يتبوؤون منصب " الإمامة " ، وفيما يخص إمامة علي يقول النبي صلى الله عليه وسلم – حسب أدبياتهم – في حديث " المناصبة": (( من ناصب علياً الخلافة فهو كافر )) (6). ذلك لأن الإمامة (( منصب إلهي )) ، أي أن الله ألزم نفسه بأن يعين الإمام (7) ومن ثم – فيما نسبوا للنبي – (( من جحد علياً إمامته من بعدي فإنما جحد نبوتي ، ومن جحد نبوتي فقد جحد الله ربوبيته )) (8) ذلك أن الإمامة تقاس بالنبوة – عند الشيعة – لا بالولاية – كما عند السنة – على حد قول الطباطبائي(9).

 

هنا يتم الدمج بين " النبوة " و" الإمامة " - التي هي من مباحث العقيدة كالنبوة - في المدرسة الشيعية تحت مسمى " القياس " ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍، وغنيٌّ عن البيان أن جحود إمامة علي رضي الله عنه يشمل فكرة اعتباره ثالث الخلفاء .

 

وذلك " القياس " له ما يبرره في الفكر الشيعي ، فهو " ولي المؤمنين " حسب " حديث الولاية"(10)، والأصرح من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم – حسب أدبياتهم - : (( كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله عز وجل قبل أن يُخلق آدم )) (11) ويؤكد علي – فيما نسبوا إليه – تلك الخصوصية في كثير من الأقوال ، وخصوصاً القول الذي سنحلله في (( التأسيس لوهم السلطة)).

 

ومن مستلزمات ذلك أن آل البيت لا ينطقون إلا بالحق ، وهو ما يلح عليه بشدة صاحب "بحار الأنوار" (12) ، وأن علياً (( يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم على تنزيله )) (13) ، وأن آل البيت هم "سفينة النجاة" كسفينة نوح في (( حديث السفينة )) المتقدم ، و(( ضلال الأمة وهدايتها )) مرهون باتباع تلك العترة الطاهرة ، والتمسك بها لأنهم – أي أهل البيت (( يدورون مدار القرآن )) ، لهذا كله لن تعجب حينما يقول عمر بن حنظلة – حسب روايتهم - : (( سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أوَ يحلُّ ذلك ؟ قال عليه السلام : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الجِبْت والطاغوت المنهي عنه ، وما حكم له به فإنما يأخذه سُحتاً ، وإن كان حقه ثابتاً […] . قلت : فكيف يصنعان […] ؟ قال : ينظران إلى مَن كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكَماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه فإنما بحكم الله استخفّ ، وعلينـا ردَّ ، والرادُّ علينا كافر رادٌّ على الله وهو على حدٍّ من الشرك بالله ( كذا ) )) (14).

 

ولن نقف عند تحليل هذا النص الذي يدل لفكرتنا بامتياز، ولكن نكتفي بالإشارة إلى الثنائية القرآنية (الله / الطاغوت ) التي استعيرت هنا مع تعديل بسيط وهو: ( آل البيت / الطاغوت) ، وكذلك ثنائية (الله / إبليس) في حديث الصادق ( المنسوب ) (15) وذلك أن كل من يتحاكم إلى غيرهم يكون قد تحاكم إلى الطاغوت ؛ لأن غيرهم حكّام جور‍‍‍‍‍ ، وإذا كان منصب الإمامة (الإلهي) يكون بالتعيين ( من الله ) فإن القضاة والفقهاء يكونون بتعيين من الأئمة، ومن ثم كان الراد على الفقهاء كالراد على الأئمة ، والراد على الأئمة كالراد على الله ، ويقول علي بن الحسين: (( من وجد في نفسه شيئاً مما نقوله أو نقضي به حرجاً فقد كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم (كذا !!) )) (16) ، وهو نحو قوله سبحانه وتعالى : ( فلا وربِّك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيتَ ويسلموا تسليماً ) [النساء65] ، وهو ما نجده صريحاً في قول الصادق : (( إن الله تبارك وتعالى فوّض أمره إلى الأئمة منّا ، وإلينا ما فوّض إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم )) ، ومن ثم لا يسعنا إلا التسليم لقولهم كما صرح بذلك بعض الأئمة (17) ، والأصرح من هذا قول الآمــلي ( آيـة الله ) : (( ولاية أهل البيت : العصمةُ والطهارة باعتبار أنهم خلفاء الله ، وليست هي الولايةَ الشخصيةَ المعيَّنة ، بل هي في الواقع نفس ولاية الله )) (18) ، الأمر الذي يبرر الأقوال السابقة !

 

ومن مظاهر اتحاد السلطة خضوع نواميس الكون للأئمة ، ونكتفي بالإشارة إلى حديث ((ردّ الشمس لعلي )) حيث ردّها الله له لكي يصلي العصر بعد ما غابت ، وهو حديث جاز على بعض علماء السنة (19) .

 

وكما استخدمت هيبة الأعمال الفنية وسلطتها كدعائم أيديولوجية ، مثلها مثل النصوص الدينية والشخصيات الرمزية ، لدعم السلطة السياسية ، كذلك استخدمت في دعم السلطة الفقهية، ونكتفي بمثال للشاعر المصري ( المتشيع ) معروف عبد المجيد الذي يقول :

 

فالشمس تظن بأن خيوط أشعتها

 

أبيات قصيدة شعر مارقةِ

 

تتملص من قيد الوزنِ

 

وسلطان القافيةِ

 

ونحو الآجرّوميهْ

 

لكن علياً مسّ من الشمس شغاف القلبِ

 

فعشقتهُ

 

وسكنت خيمتهُ

 

حتى باتت عَلَويّه …‍‍‍!

 

فالشمس تظن أنها تفلت من سلطة " الإمام " ، لكن ما لبثت أن خضعت لها ، بل وتم احتواؤها ( سكنت خيمته ) ، وتبعيتها للسلطة ( حتى باتت عَلَويه ) .

 

ويقول :

 

هي ذي أوديةٌ سالت لعليٍّ

 

بالوحي على البطحاءْ

 

فاندثرت أحلام قريشٍ

 

وتلاشت محضَ هباءْ (20)

 

وهذه السلطة تنسحب على الفقيه ؛ لأنه (( منصوب بإذن الله من الإمام المعصوم )) فهو ((خليفة الله في الأرض )) و(( نائب النبي والإمام )) .

 

إن " ولاية الفقيه " لم تكن لها صيغة مستقلة واضحة إلى ما قبل قرن ونصف من الآن (21) فلم نكن نرى فصلاً مستقلاً في باب الولاية والسياسة والإمارة ، وهو أمر له دلالته - فيما نحسب - على التحولات التي طرأت على الفكر الشيعي حديثاً ، والتي فرضتها رهانات الواقع وإشكالياته من جهة ، وعلى قضية " الاجتهاد" ( في الأمور السياسية والقضائية على الأقل ) ، ومكانتها في الفكر الشيعي في زمن " الغيبة " ، وهو مرتبط بالرأي القائل بحرمة القيام في زمن غيبة القائم (عجل الله فرجه ) على حدّ قولهم . وهي رؤية غارقة في السلبية تجاه الواقع ، لكن هذه الإشكاليات الجوهرية وإن فرضت نفسها بقوة على الفكر الشيعي ، فإننا لا يمكن أن نخرج بنظرية منقحة حول الدولة في عصر غيبة الإمام المهدي من أكثر مما بين أيدينا من بحوث الفقهاء حسب نتائج الباحث محسن كديور(22).

 

وتنقسم نظريات الدولة في الفكر الشيعي المعاصر إلى قسمين : نظريات تبتني على الشرعية الإلهية (الولاية الانتصابية ) ، ونظريات تبتني على الشرعية الشعبية مع رعاية الضوابط الإلهية ، وكلا الفريقين يعتقد أن الحاكمية في المجتمع هي للإمام المعصوم ، لكن الخلاف إنما يكمن في حال الغيبة ، فيذهب (( فقهاء الفريق الأول إلى أن الولاية الإلهية فوضت إلى الفقهاء بشكل مباشر ، فالفقهاء منصوبون بإذن الله من الإمام المعصوم ، لذا فإن الحاكم على المجتمع هو خليفة الله على الأرض ، ونائب النبي والإمام )) ، ويمثل هذا الاتجاه أكثرية الفقهاء على حد قول الباحث محسن كديور .

 

والفريق الثاني – وإن كان يعتقد أن الله جعل الإنسان قيّماً على مصيره الاجتماعي ، وفوّض إليه الولاية السياسية للأمة زمن الغيبة – فإن أكثرية القلة الباقية (( تعتقد أن على الأمة أن تكل الحاكمية للفقهاء )) ( ولاية الفقيه الانتخابية ) (23) .

 

ومن الأسس التي استند إليها الفريق الأول : أن الولاية هي حق الله ، ولا يملك هذا الحق أحد إلا بإذنه ، لذلك أعطاها للأنبياء ، ثم لعلي ، ثم للأئمة المعصومين ، ثم في عصر الفقيه فوضت للفقهاء من قبل الشارع المقدس ، ومن ثم يكون للفقيه (( جميع ما للنبي والأئمة ، بمعنى أن له ولاية مطلقة ، وولاية الفقيه تُنعت بأنها مستدامة مطلقة متمركزة غير قابلة للتفكيك )) (( ومن شأن مجلس الخبراء [ الذي ينتخب الولي الفقيه ] الكشف فقط عن النصب الإلهي للفقيه ، أو الكشف عن العزل الإلهي في حال تخلف الشروط )) (24) .

 

وهذا النموذج هو السائد في إيران ، ونحن لن نقف عند الإشكاليات المنهجية في هذا الطرح السابق ، ونكتفي فقط بالإشارة إلى إشكاليات " الكشف " عن النص الإلهي في التعيين والعزل ، وما يكتنفها من عوامل بشرية وسياسية ودينية ، من السهل جداً استغلالها أيديولوجياً ، وكذلك لا يفوتنا أن نذكر أن ذلك المجلس الذي ينتخب الولي الفقيه إنما هو خاضع لسلطة ذلك الولي ، ومن ثم اضطر أصحاب تلك النظرية إلى أن يكتفوا بالقول : إن مهمة ذلك المجلس هي مجرد " الكشف" ، ثم نتساءل عن آليات ذلك الكشف ، وكيف يكون الحال عند اختلاف مجلس الخبراء في اكتشافاته (الإلهية ) ؟

 

إن مبدأ الشرعية السياسية للفقيه - عند من يقولون بالولاية الانتصابية وهم الأكثرية – تستند إلى "النصب " ، وإلغاء أي دور للأمة في ذلك ، الأمر الذي ينطوي على إشكاليات كبيرة لا مجال هنا لتحليلها .

 

إذن فالحكومة منصّبة من قبل الله ، ولا دخل للناس ( الناسوتيين ) في أمر إلهي ( لاهوتي ) ، وعلى هذا فإن قضية " البيعة " لا وجود لها هنا ، أو قل : إن أمرها إخباري ، وهي إظهار وإعلان الطاعة فقط .

 

مرة أخرى نشير إلى حديث " مقبولة عمر " المتقدم ، وهو يتناول " حاكمية الفقيه " ؛ لأنه معيّن من قبل الإمام ، والراد على الإمام كالراد على الله ، لذلك – حسب قول المجلسي - ((وجب على الناس الترافع إليه والرضا بحكمه )) (25) ، وهو نحو ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) [النساء65]

 

وإذا كان قد تم استخدام السيادة العليا في الفكر السني من أجل تبرير السلطة السياسية ( في بعض المراحل على الأقل ) فقد تم السعي في الفكر الشيعي من أجل استخدام تلك السيادة ( سيادة النصوص ) في فرض السلطة السياسية ليتم من خلال ذلك اتحاد السلطتين ( السياسية والدينية) .

 

أبدية السلطة : الصلاحية المطلقة

 

وإذا كانت عدم كفاية النصوص في تعاقب الحوادث دعت الأصوليين في الفكر " السني " إلى تقرير " القياس " مصدراً من مصادر التشريع ليستوعب لامتناهي الحوادث والزمان ، ويحلّ إشكالية صلاح التشريع لكل زمان ومكان مع محدودية النصوص فإن الفكر الشيعي لجأ إلى القول بسلطة الأئمة التشريعية ، ثم بنيابة الفقهاء في زمان " الغيبة " حتى لا يحدث فراغ سلطوي . ونكرر القول : إن مصدر تلك السلطة هو أن الإمام منصّب من قبل الله ، والفقيه منصب من قبل الإمام ، بمعنى أن الله راضٍ عن كل تصرفات الفقيه من حيث إنه فوّض إليه أمر الشريعة والولاية (26) .

 

هذا وإن أقوال الأئمة – وهي مصدر من مصادر التشريع – أصولٌ يُفرَّع عليها ، فقد قال الرضا ( عليه السلام ) : (( علينا إلقاء الأصول إليكم ، وعليكم التفرّع )) (27) ، وهو الأمر الذي كان يختص به ( الوحي ) ، ومن ثم تكون أفعالهم بياناً للوحي كقول أبي جعفر ( عليه السلام ) : ((قد بيّن [ علي ] لهم إذ نهى نفسه وولده )) (28) ، وهو الدور الذي كانت تختص به السنة .

 

وولاية الفقيه وسلطته (( نعمة إلهية )) لذلك عقد اليزدي باباً في كتابه (( الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه )) (29) سماه: (( شكر نعمة ولاية الفقيه )) ، وهو نحو باب (( شكر المنعم )) ( أي الله) الذي درجت عليه الكتب العقائدية في الفكر السني . وإذا كانت نِعَم الله لا تدوم فإن نعمة ولاية الفقيه وسلطته دائمة لا تنقطع ، بل إن الأمر يتطلب ابتهالاً إلى الله وتضرعاً إليه على نحو ما ختم به " اليزدي " كتابه حين قال : (( نسأل الله تعالى أن يمنحنا التوفيق [... ] ، ويجعلنا نعرف قدر نعمه ، لا سيما نعمة النظام الإسلامي وولاية الفقيه )) (30) .

 

ومن شأن المطاع ( مطلقاً ) أن يكون الميزانَ ( المرجعية ) الذي تُعرض عليه الآراء ، وهو ((القرآن الناطق )) على حد تعبير الآملي ( آية الله ) – وهو الأئمة المعصومون (31) .

 

وهذه السلطة لا تقتصر على البشر بل تتعدى ذلك إلى الكون ، يقول المنتظري ( آية الله ) : ((ويوجد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بل لجميع الأنبياء ، أو أكثرهم ( كذا ) ، وكذا للأئمة المعصومين بل لبعض الأولياء الكرام مرتبة من الولاية التكوينية بحسب ارتقاء وجودهم وتكاملهم في العلم )) (32) ؛ فإن (( النبي والأئمة الطاهرين خلاصة العالَم وثمرته في قوس الصعود، وعلته الغائية )) على حدّ قوله (33)، وهذه الولاية تخضع (( لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون )) على حدّ قول الخميني(34) .

 

فهذه السلطة عامة ، وأبدية حتى أنها قد لا تكون لجميع الأنبياء ، بل (( أكثرهم )) ، بينما تكون لجميع الأئمة ، وبعض الأولياء من الشيعة كما أفادنا المنتظري !

 

ونؤكد مجدداً أنه ما على المرء سوى (( وجوب التسليم والانقياد في قِبَال جميع الولايات المجعولة من قبله [ أي الله ] )) حسب قول المنتظري (35) .

 

التأسيس لوهم السلطة :

 

لقد حاولت الأيديولوجيا الشيعية فرض النموذج ( الخاص بها ) عن السلطة الشرعية والسياسية بواسطة " اصطناع النص " ، ( سواء أكان نص الوحي أم نص الأئمة ) وهو ما يكشف بوضوح اختلاف التركيبات الأيديولوجية المنسوبة إلى الوحي ( سواء تأويل الآيات أم الأحاديث النبوية) عن خطاب الوحي نفسه ومضامينه المتعالية .

 

وكان لذلك الاصطناع أساليب شتى منها : استعارة المفاهيم والمصطلحات القرآنية كثنائية (الله / الطاغوت) حيث استبدلوا بها ( آل البيت / الطاغوت ) ، و( الله / إبليس ) ( آل البيت / إبليس) ، وسبق الإشارة إليها ، أضف إلى ذلك الإسقاطات التي تمت في عملية التأويل ، والتي سنأتي عليها .

 

أما في خصوص " السنة النبوية " فقد اتخذوا أشكالاً شتى " كالإبدال " ، و " الاستبطان " و"الإقحام " ، و " الخلط " ، و " التقمص " ، و " الاختلاق " أصلاً .

 

فالإبدال كما حدث في حديث " الثقلين " الذي يلحّ عليه بشدة الفكر الشيعي ، ويشكل أحد الأركان الأساسية لمذهبهم ، وتم فيه استبدال لفظ (( عترتي )) ، بلفظ (( سنتي )) في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي))(36) فيجعلون " العترة " موازية للقرآن في السلطة ، ووجوبِ الأخذ بها ، ويتم التأسيس لمرجعية آل البيت – وحدهم – ، و إثبات الوصاية لهم على الكتاب والشريعة ؛ لأنهم – وحدهم- الحماة لها .

 

وفي حديث (( كنت أنا وعلي نوراً بين يدي الله .. )) المتقدم يلجأ الفكر الشيعي إلى إقحام لفظة (( علي )) على النص السني ( المشهور على الألسنة وليس بثابت ) (( كنت نبياً وآدم بين الماء والطين )) (37) مع تعديل بسيط .

 

وفي حديث (( من كنت مولاه فعلي مولاه )) المتقدم أيضاً يتم التأسيس للولاية وقياسها على النبوة في خلطٍ مفضوح " بين مصطلحي " الولاية " ، و " النبوة " كما يتم قسْر " آية الولاية" – كما يسمونها – ( إنما وليكم الله ورسوله والذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) [المائدة55] على علي ، وأنه - وحده – المراد بها من دون سائر المؤمنين !

 

وفي ما يخص " الاستبطان " يلجؤون إلى استبطان النصوص القرآنية والنبوية مع إضافة تعديلات بسيطة (!) ، فهذا علي بن أسباط يسأل الرضا (عليه السلام ) : (( يحدث الأمر لا أجد بداً من معرفته ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ؟ فقال ( عليه السلام ) : اِيْتِ فقيه البلد فاستفته في أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإن الحق فيه )) (38) ، ويحار في تأويل هذا الخبر صاحب بحار الأنوار ويتجاوزه إلى غيره!

 

إن الحديث محاولة خفية لتأجيج الصراع المحتدم بين الفكر السني والفكر الشيعي تتجلى في أشد صورة ، فالسائل يستفهم عما إذا لم يجد فقيهاً من آل البيت أو الموالين لهم (( من مواليك )) فيأتي الجواب أن الحق يكون بخلاف قول الفكر الآخر " فقيه البلد" .

 

ومن هو فقيه البلد ؟

 

لا ريب أنه الفقيه السني الذي تمتع بحضور مستطيل عبر كل العصور بخلاف الفقيه الشيعي الذي كان مغيَّباً أو غائباً، وواضح في النص – فيما نرى – استحضار حديث النبي صلى الله عليه وسلم (( خالفوا أهل الكتاب )) (39) وهو مشهور جداً في الفكر السني ، وهي محاولة من الفكر الشيعي للنيل من الفكر السني بأقسى صورة ‍‍!

 

ويُكثر الفكر الشيعي من " تقمص " شخصية صاحب الوحي ، وهو إفراز من إفرازات الخلط بين " النبوة " ، و " الولاية " ، ونكتفي بالإشارة هنا إلى بعض تلك النصوص كقول أبي الحسن (عليه السلام ) : (( اختلاف أصحابي لكم رحمة )) وهو تقمص واضح لحديث مشهور في الفكر السني (( اختلاف أمتي رحمة )) (40) ، لكنه - وإن كان شائعاً - غير صحيح عند جمهرة محدثيهم.

 

ومن ذلك قول أبي عبد الله عليه السلام : (( بهذا نزل جبرئيل )) (41) ، وهو تَقَمّص واضح لقول النبي صلى الله عليه وسلم – حسب الفكر السني – (( هكذا أنزلت )) (42) . والمثال الأخير الذي نقف عنده في هذا السياق هو الحديث الطويل لأبي عبد الله ( عليه السلام ) الذي يقول فيه: (( عليكم بالتسليم والردّ إلينا .. )) (43) ، وهو تقمص واضح لحديث (( عليكم بسنتي .. )) (44)

 

وفي خصوص الاختلاق أصلاً نورد حديث علي (( كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم دخلة ، وكل ليلة دخلة ، فيخلّيني فيها وأدور معه حيثما دار ، وقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، وربما كان ذلك في بيتي ، يأتيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر ذلك في بيتي ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني نساءه فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في بيتي لم تقم عنه فاطمة ولا أحد من بَـنِي [… ] فما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عَلَي فكتبتها بخطي وعلّمني تأويلها وتفسيرها و […] ، وما ترك شيئاً علّمه الله من حلال ولا حرام ، أمر ولا نهي ، كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله إلا علّمنيه وحفّظنيه فلم أنس حرفاً واحداً […] )) (45) .

 

إن هذا النص - وكثير أمثاله أعرضنا عن ذكره - محاولة لأدلجة وشَرْعنة السلطة . دعونا نحلل هذا النص الأخير الذي نسجه صانعه على لسان علي نسجاً متكاملاً لكنه مفضوح !

 

نقف بداية عند فكرة " الخلوة " بين النبي صاحب الوحي وعلي ، وهي كل يوم مرتين صباحاً ومساءً ، والأمر لا يقتصر على تلك الخلوة اليومية فهو إلى ذلك يلازمه (( حيثما دار ))، فالقاص لم يجرؤ على أن يصرح باتصال علي بالوحي مباشرة ، لكنه لجأ إلى تأكيد ذلك الاتصال بالواسطة - وهي هنا النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا الاتصال بالوحي لعلي قد علمه أصحاب النبي ، وأنه اختص به دونهم ، وبذلك انقطع عذرهم ، ومن لم ينصع لذلك كان كمن يكتم الحق (المعروف ) من الجميع !

 

ولا يقف القاص عند هذا القدر من القصة ، بل يتجاوز ذلك إلى أن أكثر تلك الخلوات التي كان يتصل فيها علي بالوحي كانت في بيته رضي الله عنه ليشير بذلك إلى اختصاص بيت علي بالوحي ، ولا يستبعد من ذلك فاطمة وابنيها ، وهو أمر معلوم بداهة ، لكنه لا يستطيع أن يجعل تلك الخلوات في بيت علي وحده ؛ إذ كيف سينصّ على اختصاص علي وفاطمة وابنيها بالوحي من دون سائر آل البيت (نساء النبي حسب المفهوم السني) ؟ هنا يتعين على القاص أن يجعل بعض تلك الخلوات في بيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن النبي كان في تلك الخلوات يستبعد نساءه وهو ما يريده القاص .

 

لم تنته القصة هنا فلابد من النص الصريح على أن عليّاً كان يعلم الوحي كله بتفاصيله الدقيقة، ونلحظ أن القاص اكتفى ( هنا ) بذكر علي وحده دون أهل بيته ، وذلك أن معرفة آل البيت (حسب المفهوم الشيعي ) لا يمكن أن تكون متساوية ، فاكتفى بوجود فاطمة وابنيها في الخلوات التي كانت في بيت علي لإثبات التفاضل بينهم في المعرفة بالوحي .

 

ونقف عند المشهد الأخير ، وهو أن عليّاً كان قد علم من النبي صلى الله عليه وسلم ما كان وما يكون ، وكل الكتب المنـزّلة سابقاً ، أي علم الأولين والآخرين ! وهنا تنتهي القصة .

 

الاجتهاد – التأويل :

 

يشكل الاجتهاد إشكالية كبيرة في الفكر الإسلامي ( عامة ) ، وفي الفكر الشيعي خاصة ، فإذا كانت الولاية العظمى للإمام المعصوم ، وهو المهيمن على الوحي ، والحافظ له ، المؤتمن عليه (الوصي ) فلا شك أن الاجتهاد سيتلاشى ، لكن الإشكالية الكبيرة في غياب الإمام المعصوم ، وهي القضية التي أربكت الفكر الشيعي إلى ما قبل قرن ونصف ، لذلك لم نشهد في الفقه الشيعي حتى ذلك التاريخ فصلاً – كما أشرنا من قبل – مستقلاً في باب الولاية والسياسة والإمارة ، ما خلا إشارات في الأقضية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود وجمع الأموال ونحو ذلك ، وذلك لأسباب كثيرة أبرزها – وهو ما يُهمنا – ادعاء حرمة القيام في زمن غيبة القائم (46) .

 

وإذا كانت العمليتان التشريعية والتنفيذية محصورتين في الأئمة المعصومين من قِبل الله فإن الاجتهاد يكون محرماً ، الأمر الذي يبرر صنيع سهل النوبختي في القرن الثالث الهجري حيث ألف كتابين في إبطال القياس ، ونقض اجتهاد الرأي (47) ، وهو ما أكده السيد المرتضى في " الشافي " وقال : (( إن الاجتهاد والقياس لا يُثمران فائدة ، ولا يُنتجان علماً ، فضلاً عن أن تكون الشريعة محفوظة بهما )) (48) ، وهو في ذلك إنما يستند إلى نص للإمام المعصوم حيث يقول علي بن الحسين (الإمام ) (( إن دين الله عز وجل لا يصاب بالعقول الناقصة ، والآراء الباطلة ، والمقاييس الفاسدة، ولا يصاب إلا بالتسليم ، فمن سلَّم لنا سَلِم ، ومن اهتدى بنا هُدي ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك .. )) (49).

 

لكن بدأ فتح باب الاجتهاد مع بداية القرن الخامس الهجري (50) ولاقى ذلك معارضة شديدة لا تزال رواسبها في إيران والعراق حتى الآن حيث نشطت المدرسة (الأخبارية ) في القرن الحادي عشر، ونشأ القول بولاية الفقيه ( الانتصابية ) التي أوكلت بعض مهام الإمام إلى نائبه (الفقيه) فصار هو الذي يقوم مقامه في غيبته ، وتلزم طاعته ، ويبقى الاجتهاد محظوراً بوجوده ، حتى على باقي الفقهاء، يقول الآملي ( آية الله ) : (( فإذا أعمل [ الفقيه ] ولايته في شيء ، أو أنشأ حكماً معيناً فإن نقضه حرام ، سواء منه أم من الآخرين )) (51) .

 

ومن الأشكال التي مورس فيها الاجتهاد : عملية " التأويل " التي كانت تتم فيها إسقاطات تؤدي - في الغالب - إلى تجاوز النص : فالنعيم في ( لتُسألنّ يومئذٍ عن النعيم) [التكاثر 8] – كما يقول الصادق – (( نحن أهل البيت )) (52) ، و ( اليوم أكملت لكم دينكم) – كما يقول (آية الله) الآملي – (( يشير إلى النعمة الجديدة التي أُعطيت للمجتمع الإسلامي وهي الولاية )) (53) .

 

تعدد النصوص وتناقضها

 

نشير في البداية إلى أن الأخبار – في الفكر الشيعي – لا تتناقض ، ولكن تختلف ، وثمة لذلك الاختلاف علل ومسالك للجمع بينها ، وقد عقد المجلسي باباً لذلك . ونقتصر على ذكر بعض تلك الأخبار : فهذا سماعة بن مهران يسأل أبا عبد الله عليه السلام فيقول : (( يرد علينا حديثان : واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا عنه ؟ قال : لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله . قال: قلت : لا بد من أن نعمل بأحدهما . قال خذ بما فيه خلاف العامة )) (54) فهنا نجد أن العمل في الخلاف يكون في انتظار الإمام الغائب ، فإن كان ولابد فالأخذ بما خالف " العامة " ومن هم العامة ؟ ولماذا الأخذ بما خالفهم ؟ لقد أجبنا عن السؤال الأول قبلُ من خلال سؤال " فقيه البلد " ، والعامة - لاشك - هم غير الشيعة ، أما لماذا الأخذ بما خالفهم فيجيب عليه المجلسي فيقول : (( لأنه يحتمل أن يكون قد ورد مورد التقية ، وما خالفهم لا يحتمل ذلك )) . وهذا الاختلاف مما أَرّق الأصحاب حتى قال حريز لأبي عبد الله عليه السلام : (( إنه ليس شيء أشد عليّ من اختلاف أصحابنا ! قال : ذلك من قِبـَلي )) (55) ، ويكرر الشارح القول : إن ذلك من جهة التقية .

 

ويزيد الأمرَ وضوحاً أبو الحسن ( عليه السلام ) فيقول : (( اختلاف أصحابي لكم رحمة )) وسئل عن اختلاف الأصحاب فقال : (( أنا فعلت ذلك بكم ، لو اجتمعتم على أمر واحد لأُخذ برقابكم )) (56). نلحظ هنا كثرة الخلاف بين الأقوال ( الأحاديث ) ، الأمر الذي استدعى الحرقة من الأصحاب والتخوف من هذا الخلاف ، لكن الأئمة يُطَمئنون الأتباع بأن ذلك الخلاف إنما هو رحمة بهم من سطوة أمراء الجور ، وأنهم هم مصدر الخلاف بدافع " التقية " إلى أن يظهر الحق ، ويقوم القائم ( عجل الله فرجه ) فتتوحد الأقوال ، ونكتفي هنا بتسجيل الأسئلة التالية :

 

ماذا لو لم يقم القائم ؟ وماذا لو عمل الأصحاب بالقول الذي قيل "تقية" وهو خلاف الوحي ؟ وكيف ينسجم القول بالتقية مع كون الأئمة حماة الشريعة والأمناء عليها ؟ وكيف يكون تناقض الأحاديث رحمة ؟ وكيف يمكن أن نعلم أن ذلك التناقض منشؤه " التقية" وليس الوضع ؟ إلى غير ذلك من الإشكاليات المنهجية.

 

وأخيراً من الواجب الإشارة إلى أن " النسخ " يطرأ على نصوص الأئمة كما يطرأ على نصوص الوحي ، فعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : (( أرأيت لو حدثتك بحديث العام ، ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه فأيهما كنت تأخذ ؟ قال : كنت آخذ بالأخير . فقال : رحمك الله)) (57) ، وفي حديث آخر (( خذوا بالأحدث )) ، وهذا الأمر له دلالته المهمة – في هذا السياق – على تساوي النصين ( نص الأئمة ونص الوحي ) وخضوعهما لذات الآليات (58) .

 

احتياز السلطة :

 

كل ما سبق يؤكد فكرة " اتحاد السلطة " واحتيازها ( احتكارها ) ضمن شخصيات محدودة تتصف بالهيبة " الكاريزم" ، لا يملك الإنسان سوى التسليم والانصياع لها ، بل إن السلطة الفقهية هيمنت على نص الوحي ، ومارست عليه ( أيضاً) سلطتها بصفتها " الحامية " ، و" المؤتمنة " على حفظ الشريعة ، وأن ضلال الأمة ، وهدايتها مرهون بها – وحدها – وأنها (( سفينة النجاة )) ، ولذا فإنه ليس بالإمكان – كما يقول الصدّوق – لأحد غير أهل البيت معرفة تأويل القرآن بالاستنباط(59) ، والشمس ( الولاية المتصلة بالوحي) التي تحدثنا عنها في شعر معروف عبد المجيد

 

يندر أن تلج [...] الأكواخ الرثَّةَ

 

وتجاهد ألا تشرقَ

 

فوق الآبار المطمورةِ

 

وخيام الرعي المهجورةِ

 

وقفار الشرقِ الأميّهْ

 

[…] وأقول بأن القرآن النازلَ

 

لم يصبح قرآناً

 

حتى أصبح شيعياً ‍‍‍!!

 

إن الهيمنة التي جسدها هنا الشاعر ( المتشيع ) تبلغ مداها عند الخميني إذ يقول : (( إن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملَك مقرّبٌ ولا نبي مرسل )) (60) ، ومن نتائج تلك الهيمنة أن تصبح ألفاظ القرآن مجرد (( سواد على بياض)) على حدّ تعبير الآملي (آية الله)(61) لذلك لا بد من ميزان تطبق على أساسه تصورات الناس ، هذا الميزان هو (( القرآن الناطق وهو الأئمة المعصومون )) على حدّ قوله ، وهو الدور الذي كان يقوم به النبي ص.

 

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=142&idC=1&idSC=3

الحوار الداخلي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك