الفقيه والمفكر والسياسي: العلاقة والمنهجية

معتز الخطيب

 

شكّل علم الفقه في تاريخ الحضارة الإسلامية أحد أبرز العلوم الإسلامية التي نشأ في ظلها عدد من العلوم، فحتى بعض المدونات المبكرة في الحديث النبوي اعتُبرت مدونات فقهية كموطأ مالك ثم صحيح البخاري، وكذلك كتب السنن التي لم يكن هدفها الأول جمع الأحاديث النبوية بقدر ما كان الهدف جمع السنن بحسب الوعي الفقهي المبكر، لتكون في ما بعد مادة لعمل الفقيه، وحتى الانقسام القديم الذي نشأ في نهاية القرن الهجري الأول بين من سُموا بـ «أهل الحديث» و «أهل الرأي» كان في حقيقته انقساماً داخل دائرة واحدة هي دائرة طريقة الاستنباط وبناء الأحكام الفقهية، قبل أن ينفصل الحديث عن الفقه مع فئة انشغلت بجمع الروايات من دون فقهها.

ومع نشأة الفكر الحديث، برزت مصطلحات ومفاهيم جديدة على المنظومة الإسلامية، كالمثقف، والمفكر، والسياسي، وغير ذلك. وبقي الفقيه تحديداً ينظر بعين الريبة الى ثـلاثة مصطلحات على وجه الخصوص هي: المفكر، والمثقف، والداعية، إلا ان مشكلته مع المفكر بقيت أكثر بـروزاً وحضوراً، فهو ينازعه في مركزيته بصفته نواة للعلوم الدينية، ومصدر الأحكام الشرعية، فـ «المفتي قـائم مقـام النبي»، بتعبير الشاطبي، بل هو «موقّـع عن رب العـالمين» بـتـعبير ابن القـيم، ولهذا حرص د. البـوطي في مقدمة كتـابـه «الجهـاد» عـلى أن ينبه الناس الى الفرق الشاسع بين الفقيه والمفكر، ذلك الذي هو بعيد عن أحكام الله (وهي الفـقه بطبـيعة الحال)، ونحو هذا نجده عند د. القرضاوي الذي اعتبـر ان المفـكر هو الذي ينـطلق من منطلقات فلسفـية قد تـكون غير شرعية، وكـثيراً ما تـتم المرادفة بين الشريعة والفقـه. ليبقى الفـقـه هو النواة المركزية للعلوم الدينية، بحسب القول المشهور لسليمان الأعمش أحد أئمة الحديث في القرن الثاني الهجري الذي يشبّه المحدثين بالصيادلة والفقهاء بالأطباء.

هـذه اللمحة التاريـخية، هي مقدمة للحـديـث عـن العلاقـة بين ثلاثة مصـطلحات هي: السيـاسة، والفـقـه، والفكر، وأنا هنا أتـجـاوز وقـائـع الفتـاوى التي صدرت في الآونة الأخيرة في ما يخص العـراق وفلسطين الى طـرح إطار تـحليـلي نظري، وقد سبق لي أن طـرحـت جملة من المساءلات حول فتاوى الجهاد في العراق («الحياة» 2003)، كما طرحت (في «الحياة» 24/6/2006، وفي هذا الموقع) منـاقـشة نـقـدية لخـلط الفـقـه بالسيـاسـة في ما يخـص فتاوى المشاركة بالانتخـابـات البـرلمانية العراقية، ثم فتوى الريسوني حول السلام مع إسرائيل، والردود التي كتبت تعقيباً عليه.

العلاقة بين الفقه والسياسة في الوعي الفقهي الكلاسيكي بقيت محصورة بما سمي بـ «السياسة الشرعية»، وهو مصطلح نشأ في مرحلة متأخرة نسبياً، واعتبره البعض نشأ بتأثير مغولي في الفكر السياسي الإسلامي، وإن كنت أعتقد بأن النزعة الفقهية القانونية هي نزعة فقهية قديمة لا تحتاج الى مؤثرات خارجية، وقد برزت حتى في مسألة الزواج والمناقشات التي دارت حولها بوصف الزواج عقد استبضاع يختزل العلاقات الإنسانية في صيغة قانونية بحتة!

السمة الأساسية في الفقه وعمل الفقـيه هي الضبط والتقنين (ليس بمعناه القانوني)، فـفـضلاً عن مركزية الفقه ومرجعيـة الفقيه بحسب التاريخ الإسلامي، فإن هذه السمة الأساسية التي يختلف فيها المفكر وفكره، والسياسي وعمله، عن الفقيه، ففي حين تشكل النصوص مرجعية الفقيه، فينطلق من النص لتنزيله على الواقع، أو من الواقع للبحث له عن حل في النص، فإن المفكر ينطلق أساساً من الواقع أو من وقائع التاريخ، تاريخ الأحداث والأفراد والأفكار، والمفكر الإسلامي يضم الى ذلك مرجعية الوحي على سعتها، فنصوص الفقهاء التي شكلت مرجعيات وسيطة للفقيه المعاصر، قد لا تعني المفكر، فقد يتجاوزها الى ما يجده أقوى وأكثر صدقية وواقعية.

وفي ما يخص الشأن السياسي، فقد كان هذا من اختصاص الإمام، أو الخليفة، فحتى الجهاد كان موكولاً أمره الى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته في ما يراه من ذلك. هذا ما صرّح به جمهور الفقهاء، وقالوا: إنه أعلم بكثرة العدو وقلّتهم، ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يُرجع الى رأيه، لأنه أحوط للمسلمين.

لكن كما نشأ الانقسام بين الدين والدولة، نشأ الانقسام بين الفقيه والسياسي، ولكون السياسي في الغالب درس السياسة بمفهومها الغربي، والفقيه لم يدرس إلا ما يسمى بالسياسة الشرعية، فإن ذلك الانقسام بين الدين والسياسة، انتقل الى الفقيه والسياسي، ركني الثنائية الأولى، ومن هنا تختلف طبيعة تعاطي كل منهما مع الأحداث وتقديره لها، بل ان الأمر مع الفقيه يزيد عن ذلك، فالسياسة الشرعية – قبل أن تهيمن عليها النزعة الفقهية القانونية – هي بحسب قول ابن عقيل الحنبلي: «إن كنت تقصد انه لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فهذا غلط وتغليط للصحابة، السياسة هي أي فعل يكون معه الناس أقرب الى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يفعله الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) ولم يرد فيه نص قرآني».

وفي هذا ما يدل الى أمرين: الأول: أن السياسة بهذا المعنى هي أقرب الى عمل السياسي الحالي، وليس الى عمل الفقيه الذي يدور في فلك الأحكام الخمسة التكليفية، فالسياسة بهذا المعنى لصيقة بالفكر ومنهجيته، والثاني: ان فكرة المصلحة ومتعلقاتها، هي جوهر فكرة المقاصد الشرعية، والتي إنما توسعت ونضجت في رحم السياسية الشرعية، مع كتاب «الغياثي» للإمام الجويني، وهي لم تستقل إلا بعد ان انفصلت عن باب «القياس» الفقهي، والذي هو جوهر عمل الفقيه في المستجدات. وفي هذا إشارة الى التباين بين النزعتين: الفقهية والفكرية، وتفسيرٌ لماذا يصر الفقهاء – على الدوام – على ان مقاصد الشريعة إنما يقتصر دورها على مجرد «الكشف» عن حكمة الأحكام الفقهية المقررة سلفاً، ولا تصلح دليلاً شرعياً.

الشخصية الاعتبارية... وفقه الواقع

وإذا كان الفقه – في معظمه - يخاطب الشخصية الطبيعية (الأفراد)، كما لاحظ د. علي جمعة، وكان الفقهاء خصّوا الإمام (الخليفة) بالرأي في مسائل الجهاد والقضايا الكبرى، فإن الانفصال بين الدين والدولة، وانهيار ما بني على ذلك من اختصاصات كانت تتوزع على مؤسستين، جعل كثيراً من الفقهاء يدخلون مساحة القضايا الكبرى (وهي قضايا سياسية) ويفتون فيها وفق منهجيتهم القانونية التي غلبت عليها مخاطبة الشخصية الطبيعية (الأفراد) من دون إدراك كافٍ بالتبعات والمتغيرات التي تنشأ عن هذا، سواء لجهة المستقبل للفتوى أم لجهة بناء الفتوى نفسها. وهنا تأتي مقولة «فتاوى الأمة» التي طرحها البعض وحاول التنظير لها لتسد ذلك الفراغ الناشئ.

هذا التداخل بين الفقه والسياسة في عمل الفقيه، في سياق تفكك المنظومة القديمة التقليدية، التي كانت تنظم تلك العلاقات والاختصاصات، ساهم في إذكائه ما سمي بـ «فقه الواقع»، الذي لا نجد له ضبطاً منهجياً محكماً، ليبقى لكل شخص تقدير ما يراه واقعاً، ومن المفارقة أنه تأسس هذا الفقه اعتماداً على مقولات فقهية متأخرة، أبرزها مقولات ابن القيم نفسه صاحب المنهجية النصوصية. فلو مضينا مع هذا، سنجد أن المفكر هو أكثر إدراكاً للواقع من الفقيه نفسه في كثير من الأحيان، لما سبق شرحه من منهجية كل منهما، غير اننا نجد العكس، فالسلفيون بادروا بالسخرية من «فقه الواقع»، والتقليديون سخروا من «المفكر»، أما السلفيون فرأوا في فقه الواقع تجاوزاً للمنهجية النصية، وأما التقليديون فرأوا أن المفكر يتجاوز المنهجية نفسها وينازعهم في مركزية الفقه لأجل مخاطبة الشخصية الاعتبارية (المجتمع والأمة).

وفي الواقع هناك فئة وسيطة تخلط بين عمل الفقيه والمفكر، بطريقة غير واعية ربما، وغير منهجية بالتأكيد، فتستعمل لغة الفقهاء في قضايا لا تحتمل ذلك في محاولة التصدي لقضايا كبرى لم يعتد الفقه التقليدي التنظير لها، لكونه – في معظمه – كان يخاطب الشخصية الطبيعية (الأفراد) أولاً، ولمنهجيته القانونية الصارمة ثانياً

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=151&idC=1&idSC=3

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك