رؤية شرعية لفلسفة العنف... مقاربة بين «آية السيف» وشهوة النسخ

ياسر لطفي العلي

 

الأصل أن «العنف» غير مشروع وغير مرغوب فيه، ولكن مع ذلك «لا يمكن التسليم بأنّ كل أنواع العنف ظواهر مرضيّة وسلبيّة على الدوام»، لأنّ من العنف ما هو مبرَّر ومنه ما هو غير ذلك، وفي هذا السياق يميّز فرويد العنف الشرعي (المبرر) بصفته حقّاً للسلطة المقبولة اجتماعيّاً كي تسيطر فيه على العنف غير الشرعي (غير المبرر)، أو كي تسيطر فيه على العنف غير المصادق عليه اجتماعيّاً لدى الأفراد وبالتالي المهدِّد للمجتمع، وهذا يعني، بحسب باربرا ويتمر في كتابها الأنماط الثقافيّة للعنف، أنّ العقيدة، أو الفكر السائد بين الأفراد في المجتمع، هو الذي يتحكّم في تقرير شرعيّة العنف من عدمها.

وهنا يرد السؤال حول مفهوم العنف ضمن المنظومة الإسلاميّة؟ وهل يمكن الحديث عن تفسيرات أحاديّة للعنف سواء على مستوى المفهوم أو على مستوى التطبيق والمشروعيّة؟ وإلى أي مدى يمكن الحديث عن شَرْعَنَةِ العنف أو أسلمته؟ ثمّ هل لطبيعة العنف ودوافعه وأهدافه وآثاره وشكل التعبير عنه ووسائل تشخيصه وتبلوره في الواقع - وغير ذلك من الضوابط - أي أثر في تحديد الموقف منه قبولاً ورفضاً؟

إنّ ما يشهده العالم الإنساني من تكاثرٍ لأعمالِ العنف وصل إلى حدود اللامعقول واللامنطق، إذ بات العنف - بكل مظاهره وصوره غير المشروعة - يشكل ظاهرة خطيرة أوشكت أن تلتهم المجتمع الإنساني، وذلك من خلال تهديده لحال الأمن والاستقرار كإحدى أهم مقومات وجوده، وفي هذا السياق لعل الظاهرة الإرهابية باتت من بين الأعمال الدامية، الأكثر خطورة وانتشاراً وتكاثراً، في عالم يموج بألوان مختلفة من العنف غير الإنساني وغير المشروع.

والمثير في واقع كهذا هو ما تقوم به بعض الحركات التي تنسب نفسها للتعاليم الإسلامية من تقديم تفسيرات ومقاربات شرعيّة لفلسفة العنف - سواء على الصعيد المفاهيمي التطبيقي -، كان لها الدور الأهم في جعل الإرهاب والعنف الذي نشهده في العالم الإسلامي هو الوجه الآخر للإسلام، الأمر الذي جعل من المباح والمسوّغ إعلاميّاً وسياسيّاً وضع الإسلام في قفص الاتهام الدائم، بعد كل عمل إرهابيّ وعنفيٍّ مرفوض.

قد يكون الأمر سهلاً لو اقتصر الأمر على تقديم تلك التفسيرات على أنها مقاربات شخصيّة، متأثّرة بظروف وأوضاع سياسيّة خاصّة، ولكن لن يكون من السهل أبداً إلباس تلك المقاربات اسم الإله أو ثوب الدين، وإظهارها على أنها جزء من بنية الخطاب القرآني أو الخطاب الديني، إذ الخطير في ذلك أنّه سيكون من الصعب جداً في ظلّ تلك المقاربات، فكّ الارتباط الحاصل بين مفهوم الجهاد المفروض والإرهاب المرفوض، ومن السهل جداً اختطاف مفهوم الجهاد (حق الدفاع المشروع) لتمارس من خلاله صور القتل والتخريب والإرهاب، وكل ذلك تحت غطاء من المشروعيّة والمرجعيّة الدينيّة.

ولعلّ من نافلة القول، ولعلّنا لا نأتي بجديد حين نُنَظِّر، أنّ الجميع يقف ضدّ العنف غير المشروع، وأنّ الجميع يرفض العنف غير المشروع، ولكنّ المشكلة سرعان ما تظهر عندما يتحوّل التنظير إلى ممارَسة، ثمّ يزداد الأمر إشكاليّة في عالم يمور بخطابات عنفيّة متعدّدة يصعب معها تحديد التمايزات الدقيقة بين ما هو مشروع منها وما هو غير مشروع.

هذا التخبط على صعيد الواقع والممارسة، وهذا التداخل بين ما هو مشروع، وما هو غير مشروع يعود في أصله إلى جملة من الفهوم والاستنباطات الدينيّة، التي بُنِيَت على مقتضى قواعد الاختزال والسطحيّة، وهذا يعني أنّ القراءة الدينيّة أو الفهم الديني الخاص هو أحد أهم العوامل الثاوية خلف مشهد العنف المعاصر.

وبصيغة أخرى يمكن التأكيد أنّ الفهم الديني المنحرف أو السطحي، يحمل في طبيعته كل المقومات والأدوات المساعدة على إفراز الإرهاب وتفريخ الإرهابيين، كحال واقعيّة ممارسة تُفَسِّر تلك الحالة الفكرية أو الأيديولوجيّة، وضمن هذا الإطار يمكن للفرد أن يفهم أرجحيّة وأحقيّة الدعوات المؤكّدة أنّ الفهم الديني حقيقةً هو «بحاجة إلى مراجعات وإصلاحات بنيويّة» تعيد الاعتبار للنص الديني أو «الخطاب الإلهي» كنصّ مؤسس لكل مقولاتنا الفكريّة والحضاريّة، وهنا تبرز خطورة تغييب الذّات والركون لسلطة التاريخ، أو الارتهان لتلك الفهوم الموروثة والمنبثقة من الخطاب الإلهي المؤسس، وذلك من خلال إحاطة تلك الفهوم بثقل طهوريٍّ أكسبها سلطة التفرّد بامتلاك حق التأويل وقراءة النص الديني، لدرجة تحول صاحبها «موقِّعاً» عن الله سبحانه.

ولكن في هذا السياق لا بدّ من الانتباه إلى أنّ ما سبق الإشارة إليه من أنّ الفهم الديني يساهم – في بعض حالاته - في انتشار العنف غير المشروع، وأنّ له دوراً فعّالاً في إزكاء الظاهرة الإرهابيّة، لا ينبغي أنْ يُفهَم على أنّ الإرهاب أو العنف اللامشروع، يحظى بتأييد شرعيّ أو مرجعيّة دينيّة في العقيدة الإسلامية على نحو ما يذهب إلى ذلك كثيرون، ومن هنا يجب التفريق بين الفهم الديني (الشرعي، وبين الدين ذاته، إذ أنّ الدين لا علاقة له بالأمر إلا من حيث هو نصوص قابلة للتأويل، وأمّا إذا كان هناك خلل، فالبحث ينبغي أنْ ينصرف إلى التأويل ذاته وظروفه، أو إلى صاحب هذا التأويل).

ويأتي قوله تعالى «فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» (سورة التوبة:5)، أو ما يُعرف بـ «آية السيف» - كنصّ مؤسس لمقولات العنف أو فقه الجهاد - وما ينبثق عن تلك الآية من فهوم في مقدّمة الأمثلة تعبيراً عن التداخل الحاصل بين ما هو مشروع وغير مشروع من العنف. أو بمعنى آخر تُعدّ هذه الآية من أكثر النصوص إشكاليّة في فهم فلسفة العنف من منظور شرعي، سواء على المستوى المفاهيمي والأيديولوجي أو على المستوى الواقعي الممارس.

إنّ الابتعاد عن النظرة المتكاملة والشموليّة في فهم «آية السيف» وعزلها عن سياقاتها الداخليّة والخارجيّة سيؤدي إلى نتائج كارثيّة في تحديد رؤية الشرع لفلسفة العنف وذلك من الناحية العلميّة والعمليّة، ولو تأملنا قليلاً في تلك الممارَسات العنفيّة التي يقوم بها بعض من ينسب نفسه للإسلام لاكتشفنا أنّ الفهوم الموروثة حول «آية السيف» هي أحد أهم المقولات المؤسسة لممارسة العنف بصوره غير المشروعة، وذلك من خلال استثمار هذه الآية لإبراز بعض الاجتهادات والفهوم المختزلة والتي ترى في أنّ عدم الإيمان بالله والكفر به - والعياذ بالله - باعثاً على استحلال دم الإنسان وإباحة قتله وممارسة العنف والإرهاب عليه، وذلك من دون أن يُضاف لصفة الكفر هذه أي وصف آخر كالحرابة (أن يكون محارباً) أو الاعتداء أو رفع الظلم ومنع الاضطهاد ونصرة المظلومين.

ولعل أهم الأسس التي تستند إليها تلك الفهوم بعد عزل «آية السيف» واجتزائها من كلّ سياقاتها دعوى النسخ التي نلحظها عند جل علماء الفقه والتفسير، وتتلخص في أنّ آية السيف هذه وضعت ضابطاً لممارسة العنف وهو عدم الإيمان بالله، وبالتالي فإنّ هذه الآية نسخت كل آية تحمل دلالات تشريعيّة مخالفة في ظاهرها للنتيجة المأخوذة من «آية السيف».

واستنادا إلى هذه الدعوة الصارخة، فإنّ كل النصوص الدينيّة التي تشير إلى أنّ رؤية الشرع لفلسفة العنف في العلاقة مع الآخر تقوم على رفع الظلم ودفع الاعتداء ومنع الإكراه والاضطهاد الديني إنّما هي نصوصٌ منسوخة، وأمّا أثرها الدلالي والتشريعي فهو ملغى من أي اعتبار، لينحصر نصيب المجتمع منها بمجرد تلاوة لفظية لا تعدو أن تكون عبادة يتقرَّب بها العبد إلى خالقه سبحانه وتعالى.

وقد لا يحتاج المرء إلى كثير عناء ليثبت بطلان دعوى النسخ تلك، لا سيّما أنّ أدلة انتفائها هي من الكثرة لدرجة يمكن للفاهم أنْ يسوّد بها عشرات الصحف، وخصوصاً إنْ تمّ استحضار دلالة الآية وسياقها السابق واللاحق، وربّما تكفي الإشارة في هذا الإطار إلى كلام ابن الجوزي - في كتابه نواسخ القرآن - الذي يحمل إنكاره الشديد لمقولة النسخ في فهم آية السيف، وذلك عندما عرّف عن القائلين بالنسخ بـ «من لا فهم لهم من ناقلي التفسير».

أخيراً إنّ ما ينبغي تأكيده هو أنّ لـ «آية السيف» هذه الأثر البالغ في ضبط ماهيّة العنف ومفهومه ضمن المنظومة الإسلاميّة، فضلاً عن تحديد دوافعه وأهدافه وآثاره وشكل التعبير عنه ووسائل تشخيصه وممارسته.

وبمعنى أدق إنّ لفهم هذه الآية الأثر الكبير في تقديم مقاربة شرعيّة دقيقة لفلسفة العنف، وحتى نتمكن من الوصول الى تلك المقاربة يجب علينا تجاوز كل تلك الفهوم والاجتهادات الموروثة حول «آية السيف»، وفي مقدمة تلك الفهوم مقولات النسخ التي وصلت حدّاً من الإفراط تحوّلت فيه - عند بعضهم - إلى «شهوة النسخ».

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=551&idC=1&idSC=3

الأكثر مشاركة في الفيس بوك