توظيف العلوم الإنسانية لمحاربة التطرف
العلوم الطبيعية تغرس التفكير النقدي في أذهان الطلاب عبر الحوارات والنقاشات
مع إيماني التام بأن التطرف عملية معقدة تشترك فيها العديد من الأسباب التي يتعذر ذكرها في ثنايا هذا المقال لتصنع من إنسان دون غيره “متطرفاً” دينياً، إلا أن هناك زاوية اخرى مختلفة وربما بعيدة حتى اللحظة عن صناع القرار والقائمين على التعليم وهي النظر الى التطرف من زاوية العلوم الإنسانية. لعل السؤال الذي يتبادر الى الذهن هنا هو:لماذا لا يقع خريجو التخصصات الإنسانية بسهولة في فخ التطرف الديني؟ إن السر يكمن في طبيعة التخصصات الإنسانية التي متى ما اقترنت بطريقة تعليم صحيحة آتت ثمارها.
فبالنظر الى التخصصات الإنسانية نجدها تعطي المتخصص فيها نوعاً من النظرة الشمولية للأمور. بحيث يستطيع النظر الى الموضوع قيد المناقشة من أكثر من زاوية. ان النظر الى الموضوع من أكثر من زاوية يمنح الإنسان منطقة شاسعة من المساحات البينية وأقصد بها المساحات الواقعة بين اللونين الأبيض والأسود. وبذلك يتخلص الإنسان من الثنائية التضادية الحادة بين الأسود والأبيض، بين الصح والخطأ، بين “أنت معي” أو “أنت ضدي”. فقد لا تكون معي ولكن في ذات الوقت لا تكون ضدي. كما أن العلوم الإنسانية بطبيعتها قادرة على غرس التفكير النقدي لدى المتخصصين. فنجدهم لا يسلمون تسليما مطلقاً بأي فكرة تلقى عليهم حتى يمحصوها تمحيصاً دقيقاً. من هنا فإن خريجي هذه العلوم لا يكونون مادة محببة من قبل “دعاة التطرف”. لذلك نجد في الدراسة التي أعدها مارتن روز كبير مستشاري المجلس البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حول نجاح الجماعات الإرهابية في استقطاب بعض خريجي التخصصات العلمية دون الإنسانية وقد صاغه تحت عنوان “تحصين العقل” وجد أن تعليم العلوم الطبيعية فشل في غرس التفكير النقدي في أذهان الطلاب على النحو الذي تفعله الحوارات والنقاشات داخل قاعات الكليات الأدبية.
أما الأمر الثاني الذي يجعل من التخصصات الإنسانية تخصصات بعيدة عن التطرف يكمن في حقيقة اتخاذ هذه التخصصات للإنسان موضوعاً لها. ومن هنا فإن هذه التخصصات تفيد صاحبها في التعرف على التجارب البشرية الماضية وكيف تعامل معها الإنسان. اضف إلى ذلك قدرة التخصصات الإنسانية على تعزيز الانتماء الوطني لدى المتخصصين فيها. وهو الأمر الذي لا يكون واضحاً فيما عداها من تخصصات. ومن المعروف ان هناك تناسباً عكسياً بين التطرف والإرهاب والانتماء الوطني.
لكن هذا لايعني أن التخصص في العلوم الإنسانية سيكون وحده كافياً للتحصين من التطرف والإرهاب. فلا بد أن تدرس هذه التخصصات وفق آلية تعليم ناجحة. فإن كان التعليم يتم وفق منهج الرأي والرأي الآخر واحترام المخالف وحقه في الاختلاف وهو الأمر الذي توفره بيئة التخصصات الإنسانية ستكون بيئة هذا التعليم طاردة للإرهاب. أما إذا كان هذا التعليم يقوم على رأيين لا ثالث لهما أحدهما الصواب المطلق والآخر الخطأ المطلق، أحدهما الحق المطلق والآخر الباطل المطلق فإنه سيكون تعليماً جاذباً للتطرف والإرهاب.
لكل هذا هذه دعوة لصناع القرار والقائمين على التعليم بتفعيل دور التخصصات الإنسانية وتوفير النطاق التعليمي الصحي لها لكي نستطيع اجتثاث التطرف الديني ونقطع الطريق على “دعاة الإرهاب”.