التّعليم القرآنيّ في المغرب وديداكتيك اللّوح
توطئة:
يتناول هذا البحث موضوعًا من الأهمية بمكان، لا سيّما في الزّمن المعاصر الّذي تشهد فيه مسألة التّديّن (الإسلاميّ) أزمة عارمة، لا تتعلّق بالتّجليّات الواقعيّة الّتي تكشف عن مختلف مظاهر التّديّن ورموزه وأشكاله فقط؛ بل بطبيعته الّتي صارت تفقد قيمة الاعتدال أمام اكتساح التّديّن، سواء الغارق في الحَرْفيّة أو المبالغ في الاعتكافيّة، وتؤدّي نوعيّة التّربية أو التّعليم الّذي يتلقّاه النّشء دورًا مفصليًّا في التّوجيه العقلانيّ السّليم إلى تديّن معتدل لا غلوّ ولا تنطّع ولا رهبانيّة فيه.
وحين نحاول استيعاب مسألة التّديّن في علاقتها مع التّنشئة أو التّعليم القرآنيّ، ندرك أنّه من شأن هذا النّوع من التّعليم التّقليديّ المتوارث أن يكسب التّلميذ والطالب شتّى المهارات، ليس المعرفيّة فقط؛ بل الاجتماعيّة والأخلاقيّة والرّوحيّة والتّواصليّة، وهكذا يحصل التّوازن في شخصيّة الإنسان وهويّته وعلاقاته، وما أحوج المجتمع اليوم إلى ذلك، لا سيّما أمام اكتساح مختلف الإيديولوجيّات الدّينيّة المتزمّتة والمتطرّفة، فالتّعليم القرآنيّ - كما تطرحه التّجربة المغربيّة - من شأنه أن يحصّن النّشء، فتتهذّب نفوسهم بأخلاق القرآن وتتقوّى شخصياتهم بروحانيّات الإسلام.
إنّ تجربة المغرب في تعليم القرآن الكريم - تحفيظًا وقراءة وتفسيرًا - يُشار إليها اليوم بـ"البنان"، ليس داخل المغرب فقط؛ بل في الخارج أيضًا، إذ استطاع الأنموذج المغربي أن يعبر الحدود، سواء في اتجاه الشّمال حيث يظلّ مغاربة "الدياسبورا" الأوروبيّة متسّمكين بمقوّمات هويّتهم الدّينيّة والثّقافيّة والتّاريخيّة، الّتي يحتلّ فيها تعليم القرآن الكريم واللّغة العربيّة مكانة جوهريّة، أو في اتّجاه الجنوب؛ حيث اختارت العديد من دول جنوب الصّحراء الإفريقيّة اعتماد الأنموذج الدّينيّ المغربيّ قصد إدارة شؤونها الدّينيّة والتّربويّة والصّوفيّة، ويُلاحظ في الآونة الأخيرة إقبال منقطع النّظير على التّجربة المغربّية الرّائدة في التّعليم الدّينيّ، ودليل ذلك؛ استقطاب المغرب مئات الطّلّاب الأفارقة من أجل تأطيرهم تأطيرًا علميًّا، يُوفّق بين المعرفة الدّينيّة العميقة والمناهج الأكاديميّة المتطوّرة.
ولعلّ التّحرّك الرّسميّ المغربيّ نحو الكثير من الدّول الإفريقيّة أحيى من جديد الرّوابط التّاريخيّة، الّتي كانت تجمع المغرب الأقصى بأجزاء مهمّة من شمال إفريقيا ومناطق من الصّحراء الإفريقيّة الكبرى، وقد تفاعلت العديد من البلدان مع هذا التّحرّك، فسارعت إلى إرسال بعثات طلّابيّة نحو المغرب لتلقّي العلوم الشّرعيّة والدّينيّة، وهذا لا يعني أنّها لا تتوفّر على مؤسّسات للتّعليم الدّينيّ، لكنّها تسعى إلى الاستفادة من التّجربة المغربيّة الثّريّة في منبتها الأصليّ، وهذا ما قد يُمكّن الطّلبة من استلهام قيم التسامح والانفتاح والتّعدديّة الّتي يزخر بها واقع المغرب وتاريخه، وتلقّي المعرفة اللّازمة من شيوخ ضالعين في الفقه المالكيّ والعقيدة الأشعريّة وعلوم القرآن والحديث، ثمّ الانخراط المباشر في واقع التّديّن المغربيّ عبر التّدريب الميدانيّ والاحتكاك اليوميّ، ما يؤهّلهم - لا محالة - لاكتساب رؤية دينيّة وفكريّة وسطيّة متوازنة، قد تمكّنهم - لاحقًا - من المساهمة الفعّالة في إرساء تديّن معتدل خالٍ من الغلوّ والتّطرّف والتّشدّد في أوطانهم الأصليّة.
القراءة برواية ورش:
لقد اختارت مساجد المغرب وزواياه ومدارسه منذ المراحل الأولى لوصول الإسلام إلى تلك الرّبوع أن تَقرأ برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق؛ تُرى ما هي حقيقة هذه الرّواية وأصلها؟ ومن هو مؤسّسها أو ممثّلها؟ ولماذا اختار المغاربة أن يقرؤوا بها ويتشبّثوا بها تشبّثًا عظيمًا عبر مختلف حقب التّاريخ الإسلاميّ في المغرب؟
يُعدّ الإمامان ورش وقالون من أشهر التّلاميذ الّذين رووا عن الإمام نافع المدنيّ، فانتشرت قراءته في شتّى الأمصار وعبر مختلف الحقب التّاريخيّة، ولا تزال تحضر - إلى حدّ اليوم - في بعض البلدان الإسلاميّة، ويُعدّ نافع أحد الأئمة السّبعة المبرّزين، وقد شهد له بذلك الكثير من العلماء المعروفين، كابن مجاهد الّذي قال فيه: "كان الإمام الّذي قام بالقراءة بعد التّابعين بمدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وكان عالمًا بوجوه القراءات متّبعًا آثار الأئمة الماضين ببلده"، وقال فيه مالك بن أنس: نافع إمام النّاس في القراءة، ويحكي أبو قرّة موسى بن طارق أنّه سمع نافعًا يقول: قرأت على سبعين من التّابعين"[1]، أمّا تلميذه الإمام ورش، هو: أبو سعيد عثمان بن سعيد المصريّ، رحل إلى المدينة ليقرأ على (الإمام نافع) فقرأ عليه أربع ختمات في سنة خمس وخمسين ومائة، ورجع إلى مصر فانتهت إليه رياسة الإقراء بها مع التّجويد وحسن الصّوت، ولقّبه شيخه بـ"ورش" لشدّة بياضه"، وقد ولد سنة عشر ومائة، وتوفّى في مصر، سنة سبع وتسعين ومائة، عن سبع وثمانين سنة"[2]، ويوجز الإمام الشّاطبي مناقب هؤلاء الثّلاثة (نافع، ورش، قالون) في بيتين شعريَّين جميلَين، يقول فيهما:
فأمّا الكريم السّرّ في الطّيب نافع /// فذاك الّذي اختار المدينة منزلا
وقالون عيسى، ثمّ عثمان ورشهم /// بصحبته المجد الرّفيع تأثّـــلا[3]
وتُغطّي رواية ورش عن نافع العديد من بلدان العالم الإسلاميّ؛ إذ تنتشر "في بلاد المغرب العربيّ (الجزائر والمغرب وموريتانيا)، وفي غرب إفريقيا (السّنغال والنّيجر ومالي ونيجيريا وغيرها)، وبعض نواحي مصر وليبيا وتشاد وجنوب وغرب تونس - إلى حدّ ما - وهي الرّواية الّتي كان لَها الانتشار في القرون الأولى في مصر، ومنها انتشرت إلى تلك البلدان"[4]، ويعزو صاحب كتاب النّجوم الزّاهرة سبب انتشار رواية ورش في بلدان المغرب وإفريقيا إلى أصلها المدنيّ، وهو أصل الإمام مالك الّذي ينتشر مذهبه الفقهيّ في هذه الأنحاء، وقد ورد في كتاب "مفتاح السّعادة": "لمّا اختار أهل المغرب مذهب مالك لأمر مسطور في التّاريخ، اختاروا قراءة نافع لاختيار مالك قراءته، وسُمع من بعض فضلاء المغاربة أنّهم اختاروا ذلك ليكون فقههم فقه عالم المدينة، وقراءتهم قراءة قارئ المدينة"[5]. ورغم أنّه يُسجّل في العقود الأخيرة تراجعٌ نسبي لرواية ورش عن نافع أمام الانتشار الكاسح لرواية حفص عن عاصم، إلّا أنّها ما انفكّت تحافظ على قواعدها الأصليّة لا سيّما في البلدان المغاربيّة والإفريقية؛ بل وتحضر بشكل مكثّف في أوساط الجالية المغربيّة المستقرّة في العديد من الدّول الأوروبيّة؛ حيث تسعى الكثير من المساجد والمراكز والمعاهد والجمعيّات جاهدة إلى اتّباع رواية ورش في قراءة القرآن الكريم وتحفيظه ودراسته.
التّعليم العتيق:
لن يتأتّى استيعاب تجربة المغرب في تحفيظ القرآن الكريم إلّا بالتّوقّف عند طبيعة التّعليم الّذي يحتضن هذه التّجربة القرآنيّة المتميزة، وهو ما يُعرف في الأدبيّات التّربويّة والقانونيّة المغربيّة بـ "التّعليم العتيق"، الّذي يقصد به في المغرب (التّعليم الدّينيّ) الّذي كانت تعقد حلقاته في الكتاتيب القرآنيّة والمساجد والزوايا في السّابق، لكنّ أوضاعه تغيّرت جذريًّا الآن، بعد أن تقرّر تحديثه تحت إشراف وزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة، "وقد "لعب هذا النّوع من التّعليم دورًا مقتدرًا في الدّفاع عن العقيدة الإسلاميّة ونشر تعاليم الإسلام في المغرب، بحفظ وتحفيظ القرآن الكريم، والأحاديث النّبويّة الشّريفة، واللّغة العربيّة، وعلوم الشّريعة والفقه على مذهب الإمام مالك"[6].
ويضرب هذا النّوع من التّعليم الدّينيّ بأطنابه في عمق التّاريخ المغربيّ؛ إذ يرى المؤرّخون أنّ بلاد المغرب شهدت تحفيظ القرآن الكريم وتعليمه مباشرة عقب الفتح الإسلاميّ، حيث انتشر ذلك في الحواضر والبوادي - على حدّ سواء - ولُقّن في مختلف دور العبادة والعلم؛ كالكتاتيب والمساجد والزّوايا والمدارس والرّباطات، ولعلّ الفضل في ذلك يعود إلى دور السّلالات العربيّة والأمازيغيّة الّتي تناوبت على حكم المغرب؛ كالموحديّة والمرابطيّة والمرينيّة والسّعديّة والعلويّة، في تعميم تعلّم القرآن واستمراريّته، يذكر صاحب المعجب في تلخيص أخبار المغرب أنّ المهدي بن تومرت سنّ تقليدًا يحتّم فيه على النّاس قراءة حزب من القرآن الكريم كلّ يوم جمعة بعد صلاة الصّبح[7]، وسوف يتطوّر هذا التّقليد في المغرب الحديث؛ حيث يقرأ المسلمون اليوم - في العديد من المساجد - حزبَين من القرآن الكريم كلّ يوم جماعة، وذلك بعد صلاتَي الفجر والمغرب.
ويرى بعض المؤرّخين والباحثين أنّ العصر المرينيّ شهد تشييد المدارس العلميّة في المغرب وتنظيمها، لا سيّما في عهد سلطانهم الأوّل يعقوب بن عبد الحقّ المرينيّ؛ الّذي "بنى مدارس عدّة في أنحاء المملكة، ووقف عليها الأوقاف، وأجرى على الطّلبة والأساتذة المرتّبات، واقتفى أثره بنوه في ذلك، فاستكثروا من بناء المدارس العلميّة، وأجروا عليها الأرزاق، وعمروها بالكراسي العلميّة والأوقاف، لا سيّما إزاء جامع القرويين الّذي أحاطوه بمجموعة من المدارس ما زالت ماثلة للعيان شاهدة على روعة الفنّ المعماريّ الأندلسيّ، وكذلك في مرّاكش والرّباط وسلا ومكناس وغيرها"[8].
كما تجدر الإشارة إلى أنّ التّعليم الدّينيّ، لا سيّما في شقّه المتعلّق بتحفيظ القرآن الكريم، نُظِّم عبر مختلف المراحل التّاريخيّة تنظيمًا محكمًا يواكب سياق كلّ مجتمع وظروفه الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، فراعى ما هو فقهيّ؛ حيث شكّل المذهب المالكيّ إطار ذلك التّعليم والعقيدة الأشعريّة كنهه، ورواية ورش إحدى آليّاته، وما هو تربويّ؛ حيث ظلّ الفقيه يعدّ المرجعيّة الدّينيّة والأخلاقيّة، وما هو اجتماعيّ واقتصاديّ؛ حيث حُدّدت واجبات كلّ من الفقيه والمتعلّم وحقوقهما بدقّة تامّة، ولعلّ كتاب "الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة" لأبي الحسن الشوشاوي، يعدّ أهمّ مصدر علميّ يسلّط الضّوء على شخصيّة الفقيه أو معلم القرآن في المجتمع المغربيّ التّقليديّ، ويفسّر العديد من القضايا والمسائل المرتبطة بعمل الفقيه، الّذي جوّز له الإمام مالك أخذ الأجر المادّيّ على تحفيظ القرآن خلاف أبي حنيفة الّذي يمنع ذلك، "ودليل مالك - رضي الله عنه - القائل بالجواز مطلقًا، وهو القول الصحيح: القرآن والحديث والعمل والنّظر، دليل النّظر لئلّا يضيع كتاب الله - عزّ وجلّ - ودليل العمل؛ لأنّ علماء أهل المدينة جوّزوه، ودليل القرآن قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، وأيّ برّ أعظم من دفع أجرٍ على تعليم كتاب الله - عزّ وجلّ - ودليل الحديث؛ قوله عليه السّلام: (أحقّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله عزّ وجلّ)"[9].
ويُطلق - في المذهب المالكيّ - على المال أو الأجر الّذي يُعطى إلى المعلّم مقابل تحفيظه القرآن الكريم للأولاد "الحذقة"، وهي غير محدودة على المشهور، لكن يفوَّض فيها الأمر إلى العرف والعادة والمروءة والقدرة الماليّة، وقيل: "هي محدودة في ثمانية دراهم، إذا عرف الصبيّ الكتب وأخذ آية، وأربعة دنانير إذا بلغ سورة الملك، وثمانية دنانير إذا بلغ سورة الفتح، واثنا عشر دينارًا إذا بلغ سورة مريم، وستّة عشر دينارًا إذا ختم القرآن أو قارب الختم، واختلف في قرب الختم، فقيل: إذا جاوز ثلاثة أرباع القرآن، وقيل: إذا جاوز ثلثي القرآن، وقيل: كتب أوّل آية من سورة البقرة، وقيل: بتمام سورة البقرة، وقيل: ليس في المفصّل حذقة - كما تقدّم - ولكن من المذهب أنّ الحذقة غير محدودة، وتختلف باختلاف أحوال الوالدَين من المال والعدم، وباختلاف أحوال الولد من كثرة الحفظ وقلّته، فتكثر بكثرة المال وكثرة الحفظ، وتقلّ بقلتهما، وتتوسّط بكثرة أحدهما وقلّة الآخر"[10]، وهذه الحذقة أو شرط المعلّم - كما يسمّيها المؤلّف في موضع آخر - قد اختلف فيمن يجب عليه أداؤها، فقيل: يجب على كلّ من سكن ذلك الموضع سواء كان أصلًا أو طارئًا - حسب أبي عمران القابسي وأبي عمران الرجراجي - وقيل: إنّما يجب على كلّ من له صبيّ - حسب التّونسيّ - أمّا من له صبيّ يتعلّم القرآن ولم يعقد أبوه إجارة مع المعلم، فإذا مكث الصبي عند المعلّم ثلاثة أشهر، ثمّ أخرجه، فالشّرط لازم له[11].
ويُعلّم القرآن الكريم طوال خمسة أيام من الأسبوع؛ أي باستثناء يومَي الخميس والجمعة، حيث يُسرّح الصّبية صبيحة يوم الخميس بعد كتابتهم الألواح وتصحيحها وتجويدها، وقد حدّد هذه العطلة الأسبوعيّة الخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - وذلك أثناء عودته من فتح بلاد الشّام، فعندما "رجع إلى المدينة، وقد استوحش النّاس منه، فخرج النّاس للقائه، وأوّل من سبق إليه الصّغار لسرعتهم ونشاطهم، فتلقّوه على مسيرة يوم، وكان ذلك اليوم يوم الخميس (356 أ)، فبات معهم في الطّريق ليلة الجمعة، ودخل معهم المدينة يوم الجمعة قبل الصّلاة، فقال: للأولاد أنتم تعبتم يومًا في الخروج، ويومًا في الدّخول، وقد جعلت لكم يوم الخميس ويوم الجمعة وقت تسريح وراحة لكم ولمن بعدكم إلى يوم القيامة، ودعا بالفقر لمن أمات سنّته، ودعا بالغنى لمن أحيى سنّته"[12].
يستمرّ إذن - على هذا النّحو - حضور القرآن الكريم بشكل مكثّف في المجتمع المغربيّ دون انقطاع أو توقّف، فحيثما يوجد أيّ تجمّع بشريّ في المدينة أو في البادية، يتوفّر مكان لتحفيظ القرآن الكريم وتدارسه، وهو مكان يختلف اسمه من منطقة إلى أخرى (الجامع، لَمْسيد، الكتّاب، لحضار، تامزكيذا، المدرسة)، غير أنّ المسمّى واحد، وقد سعت الدّولة المغربيّة - منذ عام 2000م - إلى الدّفع بعجلة التّعليم الدّينيّ، أو ما يطلق عليه التّعليم العتيق إلى الأمام؛ حيث صدر الميثاق الوطنيّ للتّربية والتّكوين الّذي نصّ في (المادّة 88) على ضرورة "العناية بالكتاتيب والمدارس العتيقة وتطويرها، وإيجاد جسور لها مع مؤسّسات التّعليم العامّ"[13]، ويشهد قطّاع التّعليم العتيق في المغرب إقبالًا متزايدًا، وهذا ما تؤكّده إحصائيّات عام 2012م؛ حيث بلغ عدد التّلاميذ حوالَي (429) ألف، منهم ما يناهز (281) ألف في العالم القرويّ، وما يقارب (148) ألف في العالم الحضريّ، وهم يتوزّعون على أكثر من (29) ألف مركز لتحفيظ القرآن الكريم[14].
ديداكتيك اللّوح:
ولن تكتمل صورة التّجربة المغربيّة في تعليم القرآن الكريم إلّا بالحديث عن بعض الآليّات الّتي يعتمدها هذا الصّنف من التّعليم التّقليديّ، وقد توارثتها الأجيال منذ قرون طويلة، وتجدر الإشارة - في هذا الصّدد - إلى دراسة قيّمة للدّكتور (محمّد دبّاغ) تناول فيها مناهج تدريس القرآن الكريم وأبعادها التّربويّة، وتوصّل إلى أنّ المناهج التّقليديّة تعتمد مختلف الآليّات البيداغوجية والدّيداكتيكيّة؛ كالبداية بقصار السّور الّتي تستجيب لقدرة الطّفل على التّلقّي، والكتابة على اللّوح، واعتماد العرض، والتّكرار، والإملاء، والقراءة الجماعيّة، وغير ذلك، ما يُمكّن الطّالب من الحفظ التّلقائيّ المتدرّج لآيات القرآن الكريم وسوره[15].
ولعلّ آليّة اللّوح تعدّ أهم ما يميّز تعليم القرآن وتحفيظه في المغرب، وهي آليّة ديداكتيكيّة تُكسِب الطّالب وتعلّمه شتى المهارات: الذّهنيّة (الحفظ وسرعة البديهة)، واللّسانيّة (النّطق السّليم للّغة العربيّة)، واللّغويّة (الثّروة المعجميّة والقواعد النّحويّة والصّرفيّة والبلاغيّة)، والتّواصليّة (التّفاعل مع البيئة الصّفّيّة)، واليدويّة (الكتابة والرّسم)، لذلك؛ يتحتّم على كلّ من ينتظم في التّعليم الدّينيّ التّقليديّ أن يستعمل لوحًا خشبيًّا يُكتب عليه نصّ القرآن الكريم، إمّا من قبل الفقيه أو من لدن الطّالب نفسه، بعد أن يتقدّم في تعلّم كيفيّة الكتابة والرّسم، ويعتمد في ذلك على طرائق وآليّات تقليديّة؛ إذ يُمسح اللّوح بالصّلصال والماء، ويجفّف تحت أشعة الشّمس، وتلي ذلك مرحلة الكتابة بقلم مصنوع من القصب، ومداد "السّمخ" الأسود، فيفتي الفقيه ثمنًا أو ربعًا من القرآن على الطّالب، وعند الانتهاء من الكتابة يراجع المكتوب.
وبعد ذلك، ينخرط الطّلبة في جوّ التّكرار الجماعيّ لما خطّوه من آيات على الألواح، وهم يجهدون أنفسهم بكلّ ما أوتوا من عزيمة وقّوة، لأجل الحفظ السّريع والمترسّخ للقرآن الكريم، حتّى يتمكّنوا من تحقيق أمنيتهم الغالية الّتي هي ختم حفظ كتاب الله تعالى كلّه، "وتسمّى الختمة الأولى للقرآن (الشّقّة)، ثمّ يبدأ بعدها الطّالب قراءة القرآن من البداية (شكل مراجعة)، وتسمّى (العودة)"[16].
وهذا التّقليد ليس وليد اليوم؛ بل هو ضارب في القدم - كما يسرد ابن خلدون في "المقدّمة"، فيقول: "فأمّا أهل المغرب؛ فمذهبهم في الوِلدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذُهم أثناء الدّراسة بالرّسم ومسائله، واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث، ولا من فقه، ولا من شعر، ولا من كلام العرب، إلى أن يحذَق فيه أو ينقـطع دونه، فيكون انقطاعه - في الغالب - انقطاعًا عن العلم بالجملة، وهذا مذهب أهل الأنصار في المغرب، ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم، إلى أن يجاوزوا حدَّ البلوغ إلى الشّبيبة، وكذا مذهبهم في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره، لذلك هم أقومُ على رسم القرآن وحفظِه من سواهم"[17]، وهذا ينطبق على شقّ عظيم من التّعليم الدّينيّ التّقليديّ، لا سيّما في الكتاتيب والمدارس القرآنيّة؛ حيث يُركَّز على حفظ القرآن الكريم بالطّريقة المغربيّة الّتي - غالبًا - ما تعتمد آليّة اللّوح، وبمجرد ما يتمكّن الطالب من ختم القرآن الكريم مرّة واحدة أو أكثر، يمكن له - بعد ذلك - الانكباب على حفظ مختلف متون الحديث والعقيدة والفقه والنّحو ومدارستها.
هكذا يظهر - إذن - أنّ تجربة المغرب في تعليم القرآن الكريم وتحفيظه تعدّ من أهمّ التّجارب التّربويّة الإسلاميّة التّقليديّة، الّتي تحضر بشكل مكثف في المجتمع المغربي المعاصر، وتستمرّ دون أيّ تعثّر أمام زحف الحداثة والعولمة والنّظريّات البيداغوجيّة الحديثة، وقد قيل قديمًا: إنّ القرآن نزل بلسان العرب ففسّره الفرس، وكتبه الأتراك، وقرأه المصريّون، وحفظه المغاربة، وما زال هذا القول البليغ ينطبق على علاقة المغرب والمغاربة بكتاب الله العظيم، ومردّ ذلك إلى أنّ أهل المغرب "ظلّوا متمسّكين بالقرآن الكريم ومحافظين عليه، رغم جميع مظاهر التّدهور الّتي سادت حياة البلاد"، فـ "بقيت الكتاتيب القرآنيّة المنبثّة في حواضر المغرب وبواديه مهتمّة بتعليم القرآن وتحفيظه، مع تلقين أصول الرّسم بطريق السّماع والاستظهار"[18].
خاتمة:
أخلص في هذه الخاتمة المقتضبة إلى أمرين أساسيّين:
أحدهما: إنّه رغم التغير الجذريّ الّذي شهدته منظومة التّعليم في المغرب تحت تأثير جملة من التّحوّلات السّوسيو - ثقافيّة والبيداغوجيّة والتّكنولوجيّة، استطاع التّعليم الدّينيّ العتيق أن يحافظ على مكانته المرموقة داخل المجتمع، ويستمرّ إلى جانب باقي أصناف التّعليم المحدَّثة، ليس في انفصال عن واقع النّاس واحتياجاتهم الدّينيّة والمعرفيّة؛ بل في تفاعل تامّ مع رغبات المجتمع وانتظاراته، حيث يشكّل الدّين متنفسًا روحيًّا وأخلاقيًّا في زمن تحكمه الآلة والمادّيّات، ولا أدلّ على ذلك من عدد الطلبة المنتظمين في التّعليم العتيقّ الّذين يقترب عددهم من النّصف مليون طالبًا، ثمّ الرّغبة العارمة لدى نسبة كبيرة من أولياء الأمور في توجيه أطفالهم نحو التّعليم الدّينيّ - داخل الوطن وخارجه - على حدّ سواء.
والأمر الآخر: أنّ التّعليم الدّينيّ عامّة، والقرآنيّ خاصّة، يساهم في توجيه تربويّ متوازن للنّشء، يرسّخ فيهم القيم السّامية الّتي جاء بها الدّين الإسلاميّ، وهي قيم تدعو إلى الرّحمة والتّعاون والتّسامح في زمن تطغى فيه قيم الفردانيّة والمادّيّة والاحتكار، وقد انتبه إلى ذلك الكثير من الخبراء والباحثين الّذين رؤوا في الاعتدال الدّينيّ المنقذ من آفات الغلوّ والتّطرّف والتناحر، فكلّما تغذّت روح المسلم بتعاليم الإسلام السّمحة، صارت شخصيّته أكثر تحصّنًا ضدّ الأفكار المتزمّتة والرّاديكاليّة والمنحرفة، ويؤدّي التّعليم القرآنيّ المعتمَد في المغرب دورًا جوهريًّا في تصحيح الكثير من المفاهيم الهدّامة، وذلك عبر انخراط الطّالب في عالم معرفيّ وروحانيّ يتلقّاه مباشرة من شيوخ جهابذة وأساتذة متمكنين، لا من عالم الإنترنت المحفوف بمخاطر الإيديولوجيّات الدّينيّة المتطرّفة، والفتاوى الفقهية العابرة للقارات، وهكذا، يكتسب الطّالب - عبر الأيّام - تجربة متكاملة يتقاطع فيها الدّينيّ مع الرّوحيّ والشّرعيّ، ومع الأخلاقيّ والعلميّ، ومع المعرفيّ، ما يمكّنه - أوّلًا - من تحصين نفسه وتزكيتها، ثمّ العمل الجادّ والمسؤول على تحصين المجتمع الّذي ينتسب إليه من معضلات الغلو والتّزمّت والتّطرّف.
[1] أبو سليمان، صابر حسن محمد، النّجوم الزّاهرة في تراجم القراء الأربعة عشر ورواتهم وطرقهم، دار عالم الكتب الرّياض، ط1، 1419ه/ 1998م، ص 8
[2] المرجع نفسه، ص 10
[3] المرجع نفسه، ص 10
[4] الأمين، الشّيخ محمد، أماكن انتشار القراءات اليوم، ينظر الموقع الرّقميّ للشّيخ: www.ibnamin.com، (تصفحت الموقع بتاريخ 13 مارس 2015).
[5] النّجوم الزّاهرة، ص 9
[6] إدريسي الحسين، التّعليم الدّينيّ العتيق في المغرب، جريدة الشّرق الأوسط، ع 12208، الثلاثـاء 10 جمـادى الثّانى 1433ه/ 1 مايو 2012م.
[7] المراكشي، عبد الواحد، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق: محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، مطبعة الاستقامة القاهرة، ط1، 1368 ﻫ، ص 178
[8] الإلغي رضا الله إبراهيم، التّعليم القرآنيّ، مجلّة دعوة الحقّ، ع 3، س11، شوّال 1387ه/ يناير 1968م، ص 60
[9] الشّوشاوي أبو الحسن، "الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة"، تحقيق: إدريس عزوزي، وزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة، المملكة المغربيّة، 1409ه/ 1989م، ص 282
[10] المرجع نفسه، ص 289
[11] المرجع نفسه، ص 291
[12] المرجع نفسه، ص 287
[13] الإطار القانونيّ: نظام التّعليم العتيق، الاثنين 21 أكتوير 2013م، ينظر الموقع الرّقميّ لوزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة المغربيّة: www.habous.net، (تصفّحتُ الموقع بتاريخ 13 مارس 2015).
[14] تحفيظ القرآن الكريم في مؤسّسات التّعليم العتيق، الأربعاء 23 أكتوير 2013م، يُنظر الموقع الرّقميّ لوزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة المغربيّة: www.habous.net، (تصفّحتُ الموقع بتاريخ 13 مارس 2015).
[15] دبّــاغ محمّد، مناهج تدريس القرآن الكريم في الزّوايا وأبعادها البيداغوجية، الأربعاء 25 أبريل 2007، جامعة أدرار الجزائر، ينظر موقع الشّبكة المعرفيّة: www.veecos.net، (تصفّحتُ الموقع بتاريخ 13 مارس 2015م).
[16] الماطي محمّد، الكتاتيب القرآنيّة، جريدة العلم المغرب، 7 يوليوز 2010، (تصفّحتُ الموقع بتاريخ 13 مارس 2015م).
[17] ابن خلدون عبد الرّحمن، مقدّمة ابن خلدون، دار الفكر، بيروت، 2001م، ص ص 538- 539
[18] الخطابي، محمّد العربي، القرآن والمغرب المعاصر، مجلّة دعوة الحقّ، ع 4، س 11، ذو القعدة 1387ه/ شباط 1968م، ص 97
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9...