إيديولوجيون ..دون إيديولوجيا

نعمان الحاج حسين

 

” الطريق إلى الحقيقة يمرّ في نفس الدهليز الّذي يقبع فيه وحش الخطأ ”

هيجل.

1

ما الّذي يجعل كاتبا يكتب تفنيدا لكل الإيديولوجيات؟ وبكلمة أخرى ما الذي يجعل كاتبا يكتب؟ هل لأنّه يريد حقا كشف الحقيقة المتوارية؟ وهذا الكاتب المطوب، كيف أصبح غبر إيديولوجي؟ بالوراثة أم بالإكتساب؟ وهل هناك ميل مطلق لكشف الحقائق؟ أي غير مشروط لا اجتماعيا ولا سياسيا وفي هذه الحالة هل الحقائق مطلقة أم نسبية؟ والإيديولوجيات من جهتها هل هي مجرد حجب للحقائق؟ وما الّذي يجعلها كذبا مطلقا أو على الأقل ميلا مطلقا للكذب؟ وأين تقع العملية الاجتماعية؟ هل يكفي حقا ان يكون كاتب ضد الإيديولوجيات لكي يكون غير إيديولوجي؟ ونحن لا نتكلم بشكل مجرد لننفي وجود أفراد غير إيديولوجيين فهم موجودون وينصرفون لما يعتقدون انه أجدى من الإيديولوجيات.. أي أنهم – وهنا دلالة – ليسوا في حالة حرب على الإيديولوجيات، لكننا نتكلم عن ظاهرة محددة ونسمي كاتبا غير إيديولوجي مثلما يدعو نفسه في كلّ مناسبة..وبدل الانصراف إلى ما يجب أن يكون مؤهلا لمعرفته من حقائق خالية من زيف الإيديولوجيات تراه غاطسا في تكذيب الإيديولوجية فقط..أي تكذيب الكذب الصرف لأنه هكذا يرى الإيديولوجيات. وإذا كانت الماركسية قد شككت بالإنتلجنسيا كشريحة تحلق فوق الطبقات لأنّها مشروطة طبقيا مثل كل شرائح المجتمع، (وقد يكون هذا أنموذجيا للإيديولوجية في الماركسية) فهل صارت الانتلجينسيا شريحة تقول بالتحليق فوق الإيديولوجيات؟ وهذا التحليق فوق أعشاش الإيديولوجيا مثل (طيور الوقواق) هل هو طيران فوق المجتمعات أيضا؟..لم يزعم الكتاب السائدون أبدا أنهم يسعون للحقيقة المطلقة..إذاً، المفترض أن نلتقي بهم في ساحة الحقائق غير المطلقة في السياسة والاجتماع والتاريخ..فما الّذي قدموه منها في كتاباتهم؟ من المثير أننا حينها لا نجد عند تطرقهم للقضايا الملحة سوى الهروب إلى الأحكام المطلقة.. وخطاب المثقفين الحاليين الّذي يتسم – كما يعرف نفسه – بأنّه لا إيديولوجي هو في العمق لا ثقافي ومضاد للثقافة، وإذ لايتناقض الافتقار للثقافة جذريا مع الإيديولوجية لكنه ذروة التناقض حين يكون مكتوبا من قبل مثقفين غير إيديولوجيين..ومن هنا جدارته بان يكون موضع دراسة وتعليق لاسيما إنه (خطاب) سائد ومفرط العمومية والاتساع ولا يقتصر على كتاب استثنائيين يمكن الاكتفاء بالإشارة إليهم وتحليل مواقفهم..أي انه لا يقتصر على أشخاص..بل على ظاهرة عامة يمثلها أشخاص..وهذا بالضبط ما يدفع المثقف إلى تحمل مسؤولياته تجاه (الثقافة) أيا كان الجانب الإيديولوجي، أو غير الإيديولوجي، الّذي يقف فيه.

..يمتلئ المجال الثّقافي السائد بكتابات من سماتها الأولية إنها تبدأ بنقض مالا تقوله قبل بسط ما تريد قوله..أي أنّها  تستعرض ما سيقوله الخصوم قبل أن يقولوه والذي سوف يقولونه حتما، أي أنّ فرض الكاتب يبدأ من النهاية المفترضة حين سيصبح مقروء من القارئ الخصم ..فيستبق الردود الاعتراضية ويفندها ويعتبرها لاغية قبل صدورها وقبل أن يعرض مقالته موضوع الاعتراض..ثمّ فيما بعد وحين تظهر- رغم ذلك – الاعتراضات ..يعتبرها مكررة وتثبت توقعاته بشكل حرفي ..(تماما كما كان يفعل الماركسيون التقليديون حين كانوا يعتبرون أي نقد لتحليلهم الماركسي المعلن، باعتباره  نقدا طبقيا من مثقف برجوازي وإن أنكر ذلك رغم أن الناقد يكون في حالات كثيرة ماركسي منشق عن موسكو) ويقول الكاتب أن الاعتراضات التي يتعرض لها تأتي غالبا من اليساريين والقوميين الذين تجاوزهم الزمن.. وفي مواضع أخرى إذا كان موضوع مقالته نقدا للدين وللحركات الدينية يقول أن خصومه متدينين وإنهم سوف يدافعون عن الحركات الأصولية تحت غطاء الاعتراض على نقد الدين وسيعارضونه انطلاقا من هذه الخلفية الدينية، لكن الكاتب يقطع الطريق على معارضي نقده التبسيطي..ويلقى القبض عليهم متلبسين مسبقا ويورطهم بالالتباس المقصود بين الحركات الدينية والدين، مع أنّهم قد يكونون من اليساريين التقليديين أو القوميين أو حتّى الليبراليين المعادين للحركات الدينية لكنّهم يعارضون التحليل غير العلمي وغير التاريخي لنقد الدين. ويعتمد على قراءه بل يستمد العون منهم ويحرضهم وهم المعرضون ليل نهار لسطحية الأحكام السائدة ضد اليسار والقومية والتي يروجها الإعلام..لأنّ الوضع السائد ناتج جزئيا عن هزيمة اليسار والقومية وما يزال يتكفل الإعلام بمهمة أهالة التراب فوق القضية للتأكد من موتها، وليس لدى الكاتب السائد أية حسرة على نتيجة ذلك الصراع رغم انشغاله بتداعياته من ظهور للعنف الأصولي والتطرف كما لو أنها تداعيات بلا سبب مفهوم أو تاريخي . فكيف يعرف مسبقا ما سيقوله خصومه؟ ولماذا يكون خصومه مرة متدينين ومرة ماركسيين مضحكين ومرة قوميين يقاومون الانقراض؟ بل أحيانا يكون خصومه كل هؤلاء معا في مقالة واحدة رغم أنّهم مختلفون ولا يربط بينهم رابط؟ ربّما لا يربط بينهم سواه هو نفسه؟ يقول: لأنّهم كلّهم إيديولوجيون..على العكس منه وإلاّ لما اعترضوا على كلمة ممّا يقوله لأنّ ما يقوله أصبح حقيقة واضحة مثل الشّمس بدليل موافقة قراءه (وهنا يكتشف مؤيّدوه أنّهم يمتلكون فضيلة كونهم ليسوا إيديولوجيين مثل كاتبهم لكنهم بعكسه لم يفعلوا شيئا ليكتسبوا هذه الفضيلة). فيتبنون اللاتاريخيّة (إنّ الأصولية هكذا، لأنّ الإسلام هكذا) وهذا الفهم البسيط غير قابل للفهم لأنّ الظاهرة تصبح هي (الماهية) نفسها وبالعكس، ولا تبقى حاجة لأي تفسير سياسي أو تاريخي يحكم المجتمعات ويحكم علاقتها الخارجيّة والداخليّة ونظرا لأنّ الماهية لا تاريخيّة فإنّها غير قابلة للفهم إلاّ من خلال الظواهر ..و” الظواهر هي ظواهر لأنّها حصيلة كلّ المحدّدات والأسباب” كما يقول (ماركس) ولكن اللاّإيديولوجيين يفسّرون الشّيء بذاته وهذا أكثر أشكال الإيديولوجيات ابتذالا ويترك الطريق مفتوحا لإنتاج الأساطير السياسيّة الجديدة. يقول (دانيال برتو) في مقالة (المنهجية في العلوم الاجتماعية):” لم تستطع وجهة النظر العقلية و(العلميّة) أن تتقدّم عندما كان التّحليل يتناول (الجواهر) فبالنسبة للعلم ليس هناك (جواهر) أو ماهيات بل..علاقات ” ..

*                        *                            *

2

-إيديولوجيا جديدة..لكنّها قديمة:                  

يقول (رولان بارت): إنّ الإيديولوجيا تجعل كلّ إنكار اعترافا عند المحلل النّفسي، وكلّ تجديف تضرعا عند رجل الدين..وكلّ نقد هو نقد طبقي عند الماركسي..بينما يقول البرجوازي أنّ الليبراليّة وحدها ليست إيديولوجيّة ولا تمنع النقد ضدها ولكن..- يضيف بارت-: ” ..هناك يكمن جوهر الإيديولوجيّة..لأنّها تقوم على التّلطيخ العنيد” ضدّ خصومها.. وكذلك خصوم الكاتب اللاّإيديولوجي العربي ملوثون بالإيمان بالاشتراكيّة والنّضال العالمي للشّعوب أو بالقوميّة وأن هذا كلّه إيديولوجيات كاذبة وسخيفة..أصبحت بالية وقديمة زمنيا (خمسين سنة) لكنّه لا يستنكف الجدال مع ما يسميه: ثقافة الألف وأربعمائة عاما من الزّمن دون أي قطع (ولا حتّى إبستمولوجي) والّتي يقول أنّه يرفضها لكنّها مفهومة ومتوقعة من المسلمين وقد يضرب مثلا لتفسير سلوك الإسلاميين الرّاهن بحادثة موثقة بشهادة الشّهود منذ أربعة عشر قرنا. ومن سمات الكتابات السّائدة: السخرية، ممّا يعطي الانطباع أنّ كتابها أشخاص ساخرون، لكنّهم لا يقبلون السخرية أبدا وينقلب مزاجهم فورا، بينما كانت أوّل ردود (إدوارد سعيد) على المستشرقين الّذين هاجموا بعنف كتابه (الاستشراق) قوله:” للأسف أنّهم لا يمتلكون حس السخرية..” وهؤلاء أيضا على العكس من مهرج الملك الملتبس الجنس في مسرحيات (شكسبير) فهو ليس ذكرا ولا أنثى لكنّه يقول الحقائق الّتي لا يستطيع الآخرون قولها ويتقبّل سخريتهم لأنّه هو نفسه ساخر….ومع ذلك فإنّ الكتّاب العرب الّذين يهزؤون بكلّ شيء خاصّة ما ليس قابلا للهزء والّذين يفتقدون حس السخرية حين تكون موجهة إليهم إلاّ أنّهم لا يسخرون من أبرز خصومهم أي الحركات الأصوليّة الجديدة الّتي تزعم تمثيل الدين بشكل كاريكاتوري أحيانا ..إمّا لكي يقولوا أنّ اتهاماتهم للأصوليين أكثر جديّة من ان تحتمل السخرية أو للتأكيد على أنّ خوفهم من الأصولية ليس وهميا وفي هذه الحالة نتساءل إن كان ميلهم للسخرية حقيقي أم مزيف أيضا، أو إن كان استهزاؤهم بالماركسيين والقوميين يعني أن اتّهاماتهم ليس جديّة؟

هذه هي النقاط المحددة من حيث تكرارها وتواترها المنتظم في معظم الكتابات السّائدة..والّتي تهاجم قرّاء أبرياء عزل من المفاهيم الثقافيّة النّاظمة، لتملأ أذهانهم بما تدعوه حقائق غير قابلة للنقاش بوثوقيّة لا نجدها إلّا عند الإيديولوجيين المتزمتين. والخلاصة كما يمكن استخلاصها أنّه لم يكن هناك نضال للشّعوب بل شعوب مخدوعة..ولم يكن هناك نضال قومي لأنّه لم تكن هناك قومية (خاصة قوميّة عربيّة) والتّاريخ العربي الإسلامي مكوّن من قطعة زمنيّة متّصلة ومتكاملة  لا يمكن تقسيمها ولا تجزئتها اسمها (الألف وأربعمائة عام)..وأنّ الأصوليين ورثة شرعيون لهذه القطعة الزمنيّة، ورغم أنّهم يريدون استئصال الأصوليين لكنّهم لا يريدون منافستهم على فهم الإسلام، وكأنّهم موافقون على الخطاب الأوروبي /الأمريكي الّذي يزعم أنّه لا يفهم الإسلام رغم أنّ أوروبا أدارت عالم المسلمين وأنشأت (الاستشراق) منذ قرنين. بينما يقول هيجل:” أنا أفهم المسيحيّة أكثر من آباء الحقبة المسيحيةّ لأنني ابن الحاضر..أفهم الماضي والحاضر”. لذا يبقى أن نناقش إدعائين من ادعاءات الكتّاب الجدد اللاّإيديلوجيين: هل هم حقّا تقدميون ضدّ الحركات الماضويّة؟  وهل هم عقلانيون مع الحداثة ضدّ اللاعقلانيّة؟ إنّ الكاتب الّذي يعرف مهمّته بأنّها مهمّة غير إيديولوجيّة وهو منخرط في الجدال السّياسيّ والإجتماعيّ هو من ناحية الشّكل أكثر إيديولوجيّة من الإيديولوجيين ومن ناحية المضمون أقلّ من الإيديولوجيين ..لأنّه لا يقدّم أي مضمون بديل..والإيديولوجيا ليست مضمونا إيديولوجيا خالصا ومنعزلا بحيث يمكن تكذيبه تماما أو تصديقه تماما؟ فمضمونها مشروط اجتماعيا وتاريخيا وإن كان من شيء إيديولوجي خالص في الإيديولوجيا فهو شكلها وليس مضمونها أي: نجاحها أو فشلها في الوصول بأحلام ومعاناة النّاس إلى هدف يريده المجتمع أو تريده الإيديولوجيا..وذلك بالتّلفيق أو المبالغة أو التّحامل أو الأسطرة وقد تتصلّب الإيديولوجيا وتصبح متزمتة أو قمعيّة ولكن محمول الايديولوجيا هو محمول اجتماعي دوما ..وفي تاريخ العلم هناك إيديولوجيات علمية فهل نرمي العلم جانبا حين نرمي الإيديولوجيات؟ الكاتب غير الإيديولوجي عندما يزيح الإيديولوجيا جانبا يزيح معها حقبة اجتماعية بأكملها ولا يبدي اي اهتمام باستخلاص أو استنقاذ التجارب التاريخيّة للبشر وأحلامهم.. الكاتب اللاّإيديولوجي حافظ على التّحامل والأسطرة والمبالغة والحقد والتّلفيق دون أن يقدّم للنّاس حلما أو يكرّس موضوعا أو هدفا..أو أنّ هدفه بقى في الخفاء ورغم الوصف الّذي يملأ به الصفحات فإنّه لا يفسّر شيئا..” التّفسير توضيح أسباب الظواهر، وهو ما يمكن تسميته نظريّة ” هذا ما يقوله (دانيال برتو)..ولكن الكاتب اللاّإيديولوجي لا ينطلق من نظريّة سعيا للنقل الشفاف عن الوقائع والحقائق..ويقول برتو مجددا:” من المستحيل أن نصف بصورة حيادية فالواقع متنوّع إلى درجة كبيرة. وعندما يراد بناؤه أو تقديمه على شكل معلومات أو كلام أو إحصائيات نكون مجبرين على القيام بخيارات، نختار ما هو مهم أي ضمنيا ما نظنّ أنّه محدد (أي مسبب)، نلتزم إذا بنظريّة ضمنيّة عندما نمارس تجريبا مّا..”..عندما نمارس تجريبا أي كلاما عن الوقائع والصراعات وليس صوفيّة.. ويضيف (برتو): ” من هنا تنتج احتمالات خطأ عديدة، والحل: التّصريح بالنظريّة العفويّة أو الضمنيّة الّتي نملكها ونخضعها للمناقشة..”  ولهذا نخوض المناقشة من جانب واحد بحثا عن النظريّة الضمنيّة أو الإيديولوجيّة لأنّ الكتاب اللاّإيديولوجي لا يخضعها للمناقشة لأنّه لا يعترف بوجودها ..فهو يشبه الإيديولوجيين في أسوء صورهم ولكنّه يختلف عنهم في أن لديهم إيديولوجيا معلنة بينما هو بدون إيديولوجيا..فما الّذي يقدّمه لقرّائه؟ وهل يستطيع أن يبقى في المكان الّذي اختاره دون أن تظلّله أيديولوجيا بظلّها؟ القول أو مجرّد الانطباع أن زمنا جديدا هو ما جعل الإيديولوجيات تنكشف وترمى جانبا ككذبة بعد طول معاناة وانحراف، أسطورة أخرى، ففي ذروة عصر الإيديولوجيات والصراع العالمي رفع الأمريكيون شعار (نهاية الإيديولوجيات) منذ السبعينات أي أنّ اللاَّإيديولوجيا ليست ظاهرة انكشاف جديدة بعد انهيار جدار برلين وانهيار الاشتراكيّة العالميّة بل هي موقف قديم من قلب الصراع وليس من خارجه ولا من فوقه..والكتّاب اللاّإيديولوجيون لا يقدّمون بضاعة جديدة بل..قديمة، ومغشوشة فوق ذلك. زيف اللاايديولوجيا ليس جديدا لا لأنّ شعار نهاية الإيديولوجيات الأمريكي من حقبة الحرب الباردة أي حقبة الإيديولوجيّة بامتياز بل لأنّ الكتاب المعادون للإيديولوجيّة معادون لكلّ شيء آخر..معادون للايديولوجيا القوميّة ولكن للقوميّة أيضا ..وللماركسيّة ولكن يعتبرون تحليلها للرأسماليّة كذب مع أن القضيتين ليستا قضيّة واحدة فكثير من المفكرين الغربيين معادون للرأسماليّة دون أن يكونوا اشتراكيين والتّحليل الماركسي للرأسماليّة ثبتت صحة الكثير منه بعد هزيمة الماركسيّة والاندفاع المتوحش للرأسماليّة..وهم معادون للحركات الإسلاميّة ولكن معادون للتّاريخ الإسلاميّ..ليس كدين مثل كلّ الديانات بل كدين مختلف عن كلّ الديانات وهذه أسطرة للإسلام. وإذا كان (فوكوياما) قد طور (نهاية الإيديولوجيات) إلى (نهاية التاريخ) في مقالته الشّهيرة الّتي تحولت إلى كتاب (جريا على الأسلوب السّائد)، بعد انهيار الكتلة الشرقيّة فإنّ الكتّاب العرب الجدد حولوا نهاية التّاريخ إلى ما يشبه (نهاية المستقبل وعودة التّاريخ) من خلال أدبياتهم عن أنّ انبعاث الحركات الإرهابيّة كان دائما كامنا ومتأهبا داخل ثقافتنا وشعوبنا وعاداتنا وقيمنا، وهذا ليس ببعيد جدّا عمّا كان فوكوياما يوحي به ففوكوياما نموذج الكاتب الّذي يريد تصفية الحساب مع إيديولوجيا معينة لصالح إيديولوجيا يخفيها تحت لافتة البراءة الإيديولوجيّة.. كما أنّ أسطرة الإسلام الأصولي تلتقي من الباب الخلفي مع مقالة (صراع الحضارات) لـ(هنتنجتون) وتبررها، والّتي عارضها مفكرون كثيرون ورفض (إدوارد سعيد) الأخذ بعين الاعتبار تحوّلها إلى كتاب لأنّه وجدها أكثر سخفا من ذلك. وفي عام 2004 قدم (فوكوياما) اعتذارا عن خطأ (نهاية التاريخ) وبدل كشف الدّلالة عن هذا التّلاعب نشرت مقالات في الصحف العربيّة عن (فضيلة الاعتراف بالخطأ)! وهكذا يتبيّن لنا كيف كان من المحتم على كتاب يأخذون بكل طرائق الإيديولوجيّة ولا يأخذون بطرائق المنهجيّة والنظريات الاجتماعيّة أن تصبّ مواقفهم لصالح الإيديولوجيا السّائدة والمنتصرة وأن تصبّ في صالح آله إيديولوجيّة متزايدة الاتّساع هي الآلة الإعلاميّة، فهل هذا عبث وعدمية لدى الكتاب اللاّإيديولوجيين؟ أم هو ظاهرة جديدة من ظواهر العولمة والأزمات العالميّة؟ ليس تماما وإن كانت أحد نتائجها لكنها أيضا وبالأحرى (كلبية/ cyncism) وهي مدرسة فلسفيّة تعود لليونان القديمة..لكنّها تطلق على كلّ من يوجه نقده لكلّ شيء في مجتمعه..للشّيء وعكسه..وهي عند الكتّاب والمثقفين ارتكاس ثقافي..ولأنّهم يتخلون عن كلّ معنى تعلموه وآمنوا به من مفاهيم ثقافيّة وفكريّة وإيديولوجيّة فإنّهم لا يعرفون كيف يستخدمونها فقط بل يعرفون كيف لا يستخدمونها..أي كيف يحرفونها لذلك تكون كتاباتهم رائجة لدى النّاس غير الاختصاصيين من المتلقين الّذين يجهلون بشكل طبيعي كيف تصنع الثّقافة ويجهلونها بشكل مصطنع مضاعف بتأثير وسائل الإعلام. ولأنّ الكتّاب يتراجعون عن التزامهم المنهجيّ والنظريّ بالثّقافة والفكر ويتراجعون عن التزامهم فإنّهم يرجعون إلى انطباعاتهم الشخصيّة وآرائهم عن الواقع وتصبح كتاباتهم ذاتيّة مع كلّ ما يصدر عنها وبدل شفافيّة الواقع دون إيديولوجيات أو نظريات لا تشفّ كتابتهم عن أكثر من النرجسيّة ومن تحامل عاطفي بدل النقد الفكريّ

*                    *                      *

3

تلك كتابات لا أعتقد أنّ من الممكن تسميتها (خطابا ثقافيا) إن كان الخطاب الثقافي العربي يندرج فيه (جورج قرم) و(عبد الله العروي) و(هادي العلوي) و(حسين مروة ) و(إدوارد سعيد) – وغيرهم طبعا – وهؤلاء مفكّرون أحدهم قومي وآخر يساري وإثنان ماركسيان وواحد ليبرالي علماني لا ينطبق عليهم ما ينطبق على ما يكتبه المثقّفون السّائدون رغم تبنيهم للعلمانيّة والليبراليّة والحداثة في نقدهم لثقافة مجتمعاتهم التقليديّة. وما يجعل نقدهم أشدّ وقعا سطحيته وضحالته لأنّه عندها يتحوّل إلى ما يشبه الإهانة لتراث الشّعب ومعتقداته. بل إنّ معظم المثقفين الحاليين، المقصودين بمقالتنا، يعالجون موضوعاتهم بشكل متعاكس مع تراث المفكرين الّذين سبق ذكرهم رغم اعتبارهم زمنا طويلا أنّهم رموزهم وأيقوناتهم وما إن توافرت الفرصة قاموا بتطويب بضعة مثقفين مثابرين تحوّلوا إلى التّأليف على أنّهم (مفكّرون) قبل أن يلبّوا ما يفترضه اللّقب من اشتراطات فكريّة ومنهجيّة  لكي يدوروا في فلكهم ويخلقوا توازنا مع المفكّرين الثّقاة سابقي الذكر، في حالة شبيهة بتفضيل (سلافوي جيجيك) مثلا بدل (تشومسكي) مع أنّ مضمون هذا هو نفسه مضمون ذاك مع تسطيح وإثارة تناسب الثّقافة الاستهلاكيّة والإعلانات دون أن يكون هذا اتّهام لـ(جيجيك) حين يتمّ تقديمه وكأنّه صاحب فكر جديد. وبالمثل، فأحد المترجمين المعروفين بكتابة مقدمات وشروح ترجماته لمفكر عربي يكتب بالفرنسيّة، أصبح كاتبا ينشر دراسات تتناقض في جوهرها مع كلّ ما كان يترجمه ويدعو بحماسة له، ومترجم آخر مثقف وإيديولوجي سابق، تحوّل للتأليف وأسبغ عليه لقب مفكّر، نقدي وتنويري رغم أنّ نقاده من اتباع مفكرين نقديين وتنويريين، أي أنّ الصراع ليس على التّنوير والنّقد بل على المنهجيّة الفكريّة والثقافية. فالباحث المفكّر هو الكاتب الّذي يدرس بحيادية حتّى الموضوعات الّتي يكرهها، وليس ذلك الّذي يكره الموضوعات الّتي يدرسها، فلا يجوز للباحث التّحامل على موضوع بحثه، لذلك عاش بعض المستشرقين الكلاسيكيين تحوّلا في شخصياتهم لأنّهم جاؤوا من خلفيّة متعالية ومعادية مسبقا للعرب والإسلام ولكنّهم حين جعلوا الحضارة العربيّة الإسلاميّة موضوعا لكتاباتهم انتهوا إلى أن يحبّوها. في الثّقافة العربيّة الحاليّة نجد ترحيبا بكتاب صغير كتب بأسلوب المقالة الطويلة لأنّ كاتبه علماني معاد للأصوليّة، لكنّهم يتجاهلون كتابا ضخما ومنهجيا هو(النزعات الماديّة في الإسلام) لحسين مروة وهو مفكّر علماني معاد للأصوليّة أيضا..ونحجب أسماء الكتاب المقصودين هنا لكي لا يكون ذكرهم الصريح تشهيرا بهم من دون عرض كامل لأفكارهم وكتبهم وهو غير متاح في مقالة قصيرة على أن يكون هذا عمل يجب القيام به. ومن سمات هذه الكتابات تطابقها مع رأي عام يتماهى معها كما لو أنّها صوته لا صداه رغم أنّ الرأي العام متلق لا منتج بينما تبدو هذه الكتابات الّتي تستبطن ما يقوله العامّة ووسائل الإعلام وكأنّها صدى وليست أصوات مؤلفيها رغم أنّهم منتجين لا متلقين لكنّهم يعيدون إنتاج بعض محتوى الإعلام وثقافة العامّة. وعلى الرّغم أنّ العكس هو الّذي يبدو صحيحا طالما أنّ الكتابات المذكورة تنتقد تراث المجتمع فإنّها تعادي الرّأي العام السّائد وأنّ هذا تناقض في السّمات الأخرى الّتي نعزوها للكتابات، ولكن الحقيقة أنّ النقد السطحي والتّشفي والاستهزاء بما لا يستحق الهزء به ..هذه كلّها سمات تثير اهتمام الرأي العام حتّى ولو كانت موجهة ضد ثقافته، أي ضدّه ..كما تثير وسائل الإعلام وهذا ما يجعلها باعتقادنا كتابات غير جديرة بتسميتها (خطابا ثقافيا) من جهة وتبرر اعتبارها مضادّة للثّقافة ولكن..بلغة ثقافيّة..من جهة أخرى.

الحاضر صيرورة كلّ ما عاشه النّاس..ولا يصلب الماضي ولا يعتبره انحرافا يتوجّب تصحيحه، الحاضر تجاوز للماضي واستيعاب جديد له ومتفوّق عليه، والمستقبل تفوّق على الحاضر واستيعاب له وليس محاكمة قد تنتهي بالإعدام..إنّ تاريخ الإيديولوجيات مثل كلّ تاريخ اجتماعي هو تاريخ البشر..وتاريخ البشر لا يرمى في سلّة المهملات حين ترمى الإيديولوجيات..

*                     *                      *

إشارات:

  • 1- هيجل: من كتاب (ماركس وهيجل) لـ(جان هيبوليت) ..وفكر هيجل لـ(روجيه غارودي.).
  • 2- ماركس ودانيال برتو: من (المنهجيّة في العلوم الاجتماعية).
  • 3- رولان بارت: لذّة النّص.
  • 4- إدوارد سعيد: مقابلة صحفية ومحاضرات.
  • 5- فرانسيس فوكوياما: مقالة (نهاية التاريخ).
  • 6- صموئيل هنتنجتون: كتاب(صراع الحضارات).
  • المصدر: https://www.alawan.org/2017/08/12/%D8%A5%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%84%D...
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك