استخدام علم الدلالة في فهم القرآن: قراءة في تجربة الباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu

عبد الرحمن حللي

 

تمهيد:

     لقد أنزل الله القرآن ليكون هداية للناس، فقال تعالى: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" (الإسراء:9)، ويحمل رسالة الله الخاتمة إلى العالمين، "وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ" (الأنعام:19)، فجعله الله كتاباً مصدقاً ومهيمناً "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (المائدة:48)، وجعله الله كتاباً مبيناً وعربياً، "الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف:1-2)، لكنه رغم وضوحه وجلاء الرسالة التي يحملها يكتنف من المعاني ما لا ينقضي ومن الدلائل ما لا ينفد مهما طال البحث عنها، فهو كتاب إلهي يخاطب العالمين، وهو كما وصف كتاب لا يخلق على كثرة الرد، ولا يحيط بكلماته زمان أو مكان، "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا"(الكهف:109)، هذه الخصائص لكتاب الله عز وجل تجعل المسؤولية نحوه أكبر وأعمق من أن يتم اختزال العلاقة معه على أنه نص للتعبد فقط، ففيه نظام وإحكام لم يكتشف منه المفسرون والدارسون له إلا القليل، وسيبقى الزمن أهم مفسر للقرآن بما يستجد فيه من علوم ومعارف يمكن أن تسهم في اكتناه معانيه، وقد أدرك المتقدمون ما للعلوم على اختلافها من أثر في فهم القرآن سواء بالفهم المباشر له كعلوم القرآن أو غير المباشر كالعلوم التي تنمي ثقافة المفسر التي تؤثر بدورها في تفسيره، حتى وصل الأمر بالإمام ابن عطية الأندلسي إلى القول: "كتاب الله لا يتفسر إلا بتصريف جميع العلوم فيه"[1]، ولعل أهم العلوم ذات الأثر في فهم كتاب الله هي علوم اللغة، والتي شهدت تطوراً في التقعيد والتصنيف والتحليل، وقد اعتنى المسلمون مبكراً باللغة العربية، وكان الدافع الرئيس لذلك يرتبط بفهم كتاب الله عز وجل.

   إلا أن هناك من علوم اللغة ما هو مرتبط باللغة بالعموم وليس خاصاً بلغة بعينها، لاسيما ما له صلة بالجانب التحليلي منها، كما أن تطورات العلوم اللغوية الحديثة آلت إلى نتائج كان علماء اللغة سبقوا إليها ونصوا على مثلها[2]، لكن ذلك لا يعني أن هذه العلوم لم تأت بإضافة يمكن الإفادة منها، فالعلوم منحة إلهية واستثمارها في الخير ينبغي أن يكون مطلباً مشروعاً بل واجباً، لاسيما إن كانت تصلح لأن يفهم بها كتاب الله، لكن مقاربة كتاب الله بها ليست من الأمور السهلة أو القابلة للارتجال والتجربة السطحية، كما أن توسل هذه العلوم من خلال التجارب التي تمت لم يكن في الغالب منتجاً للعلم أو يقدم إضافة نوعية نظراً لتوسل تلك العلوم لأهداف غير علمية كما هو شأن عموم أعمال المستشرقين وتلاميذهم، على أنهم في كثير من الأحيان وجهوا العلوم التي استخدموها لاستنباط ما حرصوا على الوصول إليه، كما هو شأن أدعياء القراءة المعاصرة للقرآن الذين توسلوا مناهج مختلفة وأحياناً تجمع متناقضات منها، ليخرجوا بخليط من الأفكار غير المنسجمة والمتناقضة أحياناً ادعيت دراسة للقرآن الكريم[3]، هذه التجارب أدت إلى زيادة الوثاقة بالمنهج المعهود لدراسة القرآن ومرجعيته، والشك والحذر من أي مقاربة جديدة أو غير مألوفة في درس القرآن الكريم.

    لكن الإنصاف يقتضي الإقرار بأن هذا الغالب الشائع ينبغي ألا يخفي النادر المهم والمجهول والذي لم ينل حظه من العناية والتعريف به، بل تم التعتيم عليه أو التقليل من أهميته أو التشكيك في علميته كونه لم يلتق مع الرؤى الاستشراقية السائدة، أو أكد عكس ما هدفت إليه.

   وتهدف هذا المقاربة إلى التعريف بنموذج للدراسات القرآنية الحديثة يمثل – فيما أرى- نقلة نوعية في الدرس القرآني المتوسل لعلم الدلالة منهجاً، وأقصد به أعمال الباحث الياباني الراحل توشيهيكو إيزوتسو، وسيكون تناول أعماله من زاوية محددة هي استثماره علم الدلالة الحديث في دراسة القرآن الكريم، وستتضمن الورقة المحاور التالية:

أولاً- علم الدلالة بين القديم والحديث

ثانياً- تعريف بالباحث ايزوتسو Toshihiko Izutsu:

ثالثاً- علم الدلالة ودراسة القرآن من منظور ايزوتسو:(مقاربة المنهج)

  رابعاً- الخاتمة: (خلاصة وتقييم)

أولاً:

علم الدلالة بين القديم والحديث

  موضوع علم الدلالة هو دراسة المعنى، وقد بدأ البحث عنه منذ أن حصل للإنسان وعي لغوي، وقد وجد هذا مع علماء الهنود واليونان[4]، وقد اهتم اللغويون العرب وعلماء الأصول بدراسة المعنى ووضعوا قواعد وأصولاً لاستنباطه، ولم يكن ثمة فصل في هذا المجال بين البحث في طرق استنباط النص وبين البحث اللغوي، بل إن مباحث الدلالة عند اللغويين تأثرت بمباحث ومناهج الأصوليين في تقعيد فهم النص[5]، وتواتر استعمال مصطلح الدلالة في التعبير عن المعنى المستنبط من النصوص والألفاظ، وكان ذلك بالخصوص في كتب الأصوليين[6]، وقد خصت كتب الأصوليين قسماً خاصاً بمباحث الدلالات، إذ بدأ البحث في دلالة الألفاظ مبكراً عند العرب، وذلك منذ أن بدأ البحث في مشكل الآيات القرآنية وإعجازها وتفسير غريبها واستخراج الأحكام الشرعية منها، فكان علماء الفقه والأصوليون من أوائل من احتضنوا الدراسات التي تدور حول الألفاظ ومعانيها[7]، أما اهتمام اللغويين بدراسة الدلالة فكان مقتصراً على الناحية التاريخية الاشتقاقية للألفاظ، كأن تقارن الكلمة بنظائرها في الصورة والمعنى حتى يتسنى إرجاعها إلى أصل معين[8].

    كل هذا الحضور للدلالة في العلوم العربية والشرعية لم ينته إلى ظهور علم مستقل باسم "علم الدلالة"، إذ ظهر هذا الإفراد في أواخر القرن التاسع عشر (1883م) مع اللغوي الفرنسي برييل Breal     Michelليعبر عن فرع من علم اللغة العام هو "علم الدلالات" ليقابل "علم الصوتيات"، وقد تم تداول اصطلاح "علم الدلالة" بإجماع لا لبس فيه والتعبير الانكليزي عنه (Semantics)[9]، والأصل في هذه لكلمة أنها تعني الدراسة التاريخية لتغيرات معاني الكلمات[10]، وواضح من تاريخ هذا العلم أنه تطور ليوسع مجاله إلى علوم أخرى كعلم النفس وعلم الإنسان والفلسفة والمنطق والبلاغة وعلم الاجتماع، إذ أصبحت كلمة Semantics توظف كمصطلح عام لدراسة العلاقات بين الدوال والأشياء التي تدل عليها[11].

     هذا التطور في علم الدلالة في سياقه الغربي استفاد من تراكمات معرفية سابقة، لكن الباحثين في هذا المجال يلاحظون أن الدراسات الدلالية أغفلت جهود الدلاليين العرب القدامى فلم تأت على ذكرهم في سلسلة تطور الاهتمام الدلالي القديم[12]، وقد أسهمت الدراسات اللغوية العربية الحديثة في إبراز جهود اللغويين والأصوليين في مجال الدلالة، ورغم هذه الجهود فإنهم لم ينكروا الإضافة العلمية في علم الدلالة الحديث وآفاق الاستفادة منه، بل أبرزوا التكامل الذي يضيفه إلى الدراسات العربية

   فقضية المعنى كموضوع لعلم الدلالة لم تعالج في المعاجم والقواميس، والتي قدمت معاني ألفاظ اللغة التي ترصدها دون أن تقدم نظرية حول طبيعة المعنى في اللغة، فما تقدمه المعاجم حكم وصفي لا يعالج سؤال (ما هو المعنى؟) الذي يهتم به علم الدلالة[13].

   ومن ناحية أخرى فإن علم الدلالة اتجه إلى العوامل الخارجية ذات الأثر في الألفاظ من إنسانية واجتماعية، بل ونفسية وعاطفية، وما لهذه العوامل من أثر في انكماش بعض الألفاظ في دلالتها أو انحدار في سموها[14]. وبالتالي فنحن أمام علم حديث إن لم يصل إلى نظرية نهائية متسقة في دراسة المعنى فإنه رغم ذلك يشكل إضافة مهمة في دراسة المعنى[15].

   هذا الجانب الحديث في علم الدلالة هو ما سنبحث إمكانية استخدامه في فهم القرآن، لكن الحديث إلى حد الآن ما يزال في العموم وفي سياق إثبات أن هناك ما هو جديد في علم الدلالة يختلف عن النظريات الدلالية عند اللغويين والأصوليين التي لا تقل أهمية وعمقاً وثراء واتساقاً، والتحديد الدقيق سيكون لاحقاً عند الحديث عن منهج إيزوتسو ومقدماته النظرية التي ضبط من خلالها ما سيستثمره من علم الدلالة في فهم القرآن.

 

ثانياً:

تعريف بالباحث ايزوتسو Toshihiko Izutsu

 

        من المهم البدء بالتعريف بالباحث إيزوتسو إذ هو مجهول في الأوساط العربية ولا يعرفه إلا القلة من المتخصصين، لذا سأعرف به كمقدمة للتعرف على منهجه.

    ولد الباحث الياباني[16] Toshihiko Izutsu في طوكيو في اليابان، عام/1914، وكَانَ باحثاً ولغوياً وأستاذاً جامعياً، درَّس في معهدِ الدِراساتِ الثقافيةِ واللغويةِ من جامعةِ كيوKeio في طوكيو(1954-1968)، وفي المعهد الملكي لدراسة الفلسفةِ في طهران، وفي معهد الدراسات الإسلامية من جامعة مكجل McGill في مونتريال بكندا، وكان أستاذاً فخرياً وعضواًَ في الأكاديمية اليابانية.

   ألف عدداً مِنْ الكُتُبِ عن الإسلامِ والأديانِ الأخرى، وعن اللغة والتصوف، وكان موهوباً جداً في تَعلّّم اللغاتِ الأجنبيةِ، وكان على معرفة دقيقة بالعربية، والفرنسية والألمانية، فضلاً عن الإنكليزية، وهو من أوائل من ترجم القرآن الكريم إلى اللغة اليابانية، وترجمته معروفة بدقتِها اللغويةِ وما زالَتْ مشهورة وكثيرة الاستعمال في الأعمال العلمية.

     توفي في:1يوليو/تموز 1993، ونقل تلامذته إسلامه وأنه سمى نفسه (مختار)[17].

 

ألف بالإنكليزية:

1.  المفهومات الأخلاقية -  الدينية في القرآن (Ethico-Religious Concepts in the Quran ) طبع منقحاً عام 1966 وأعيد نشره عام 2002، وترجمه إلى العربية الأستاذ الدكتور عيسى علي العاكوب، وصدرت الترجمة عن دار الملتقى بحلب 2008.

2.     بين الله والإنسان في القرآن:دراسة دلالية لنظرة القرآن إلى العالم، 

GOD AND MAN IN THE KORAN: Semantics of the koranic weltanschauung

   وقد صدر للمرة الأولى بالإنكليزية عام 1964 عن معهد جامعة كيو للدراسات الثقافية واللغوية بطوكيو. وبعد تسع سنوات على وفاته عام 1993، صدرت طبعته الثانية بالإنكليزية أيضاً في ماليزيا عام 2002، وترجمه إلى العربية الأستاذ الدكتور عيسى علي العاكوب، وصدرت الترجمة عن دار الملتقى بحلب 2007، وقد صدرت ترجمة أخرى للكتاب بعنوان: "الله والإنسان في القرآن، علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم"، أعدها الدكتور هلال محمد الجهاد، وذلك عن المنظمة العربية للترجمة عام 2007.[18].

3.  مفهوم الإيمان في علم الكلام الإسلامي  Concept of Belief in Islamic Theologyصدر عام 1980، وهو قيد الترجمة من قبل الدكتور العاكوب.

4.     دراسة مقارنة للمفهومات الفلسفية الرئيسة في التصوف والطاويه (1984)

 Sufism and Taoism: A Comparative Study of Key Philosophical Concepts 

5.     اللغة والسحر Language and Magic   (1956)

وله باليابانية المؤلفات التالية:

1.     تاريخ الفكر الإسلامي

2.     الفلسفة الصوفية

3.     الثقافة الإسلامية

4.     الوعي والذات

5.     الكون وأضداد الكون

  ومما تجدر الإشارة إليه في سياق التعريف بإيزوتسو أن أعماله لا تصنف في سياق الدراسات الاستشراقية للقرآن والإسلام، وذلك للأسباب التالية:

أولاً- طبيعة منطلق هذه الدراسات في السياق الياباني، فكما يؤكد الكاتب اللبناني الدكتور مسعود ضاهر فإن "الدراسات اليابانية عن الإسلام والعالم العربي أرادها واضعوها رداً موضوعياً على "الدراسات الاستشراقية" الغربية، بجناحيها الأوروبي والأميركي. ويرفض المستعربون اليابانيون بشدة تصنيفهم كمستشرقين، ويفضلون مصطلح الدراسات العربية في اليابانية بعد أن حمل مصطلح "الاستشراق" وزر المواقف السلبية التي عرّضت أصحابها للنقد الصارم حتى من جانب الباحثين المنصفين أو الموضوعيين في الغرب نفسه"[19].

ثانياً- ما صرح به إيزوتسو نفسه حول قصده من عمله بقوله:"وكان حاديّ في هذا الصّنيع الأملَ في أن أظلّ قادراً على الإسهام بشيء جديد في سبيل فَهْم أفضل لرسالة القرآن لدى أهل عصره الأوّل ولدينا نحن كذلك"[20]، وفي دراسته للمفهومات الأخلاقية يؤكد تحريه منهجاً علمياً يعتمد التجريب والاستقراء، لتحليل البنية الأساسية للحقل الدلالي للتعابير الأخلاقية، ويؤكد أهمية العلمية بحيث تتفادى قدر المستطاع التأثر بالأحكام القبلية لأي موقف نظري للفلسفة الأخلاقية[21].

     ثالثاً- ما يؤكد بعد فكر إيزوتسو وتضاده مع الاستشراق ما تميزت به أعماله من الموضوعية والحياد العلمي والإنصاف إن لم يكن الانحياز والاحترام للقرآن والإسلام، وقد تجلى ذلك فيما قام به من جهد ودراسات عن الإسلام والقرآن، فأثبت من خلالها أنه على قدر كبير من التثبت وتقليب وجهات النظر وسعة الاطلاع مما هيأ له قدرة ملحوظة على التمحيص والاختيار والبناء على أسس لها قدر كبير من القيمة[22]، بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، واعتبار أعماله الوجه النقيض للدراسات الاستشراقية المتعلقة بالقرآن، فأثبت في غير موضع احترامه وإجلاله للقرآن وإعجابه بلغته وإحكام آياته، وأثبت قدراً فائقاً من العلمية والتواضع عندما يبدي رأياً في فهم آية على نحو يخالف ما يتجه إليه المفسرون[23].

       هذا ويتميز كتاباه بلغتهما السهلة وأسلوبهما المبسط الذي يبتعد عن التعقيد[24]، بشكل عام، لكن غير المختص قد يجد صعوبة في المقدمات المنهجية لجدتها عليه، مع حرص واضح فيها على الضبط المنهجي المفصل للقارئ.   هذا ومما يحسب له في الدقة والعلمية اعتماده المباشر على اللغة العربية وإتقانه الدقيق لتفاصيلها، بل رفضه دراسة المفاهيم القرآنية من خلال لغة أخرى، إذ يؤكد هذا المبدأ بشكل عام بقوله: "وهناك في كل لغة عدد من الكلمات التي تكون عصية على الترجمة على نحو باد للعيان"[25].

كما يسجل احترامه للغة العربية وتقديره لها ولمصادر التراث الإسلامي، فيصف العربية الفصحى بأنها واحدة من اللغات المعروفة جيداً في العالم، ومزودة بأدق تفاصيل النحو والمعجم اللغوي، وفيها معجمات ممتازة، وقد أنجز كثير من الدرس المتصل بفقه اللغة، وفي حقل التفسير القرآني خاصة توجد كثير من التفاسير المعتمدة، ويؤكد اعتماده هذه المصادر كمساعدات قيمة في درسه الدلالي[26].

وهو كباحث لغوي لم ير خصوصية وتميزاً للغة العربية، إذ اعتبر مجيء القرآن بها يرجع إلى كونه أنزل على العرب، وأنها واحدة فقط من لغات كثيرة، وقد انتقده على ذلك الأستاذ الدكتور عيسى العاكوب، مؤكداً  "أنّ العربيّة قادرةٌ على الإبانة عن مراد الله سبحانه أكثر من غيرها من اللغات بما توافر لها من وفرة في المفردات المعبرّة عن الشيء الواحد في أوضاعه وأشكاله وخاصّياته المختلفة، وبما انطوت عليه من صِيَغ حرفيّة معبّرة، وبمّا تدلّ عليه أوضاعُها التركيبيّة من دلالات، وبما يوفّره جرْسُ ألفاظها من تماثلات صوتيّة تساعد في إبهاج السّامع وإيقاظ ملكاته الإدراكية لتحصيل أكبر قدر من الطاّقة الدّلاليّة. وما لا ينبغي إغفالُه البتّة في السّياق الذي نحن فيه أنّ مادّة ع ر ب فيما يبدو تفيد البيانَ والوضوح"[27].

 

ثالثاً:

علم الدلالة ودراسة القرآن من منظور ايزوتسو:(مقاربة المنهج)

يفتتح إيزوتسو كتابه "الله والإنسان في القرآن" بفصل خاص بعنوان (الدرس الدلالي والقرآن) يحدد من خلاله معالم دراسته فيذكر أن  دلالات الألفاظ وتطوّرها، أو ما يسمّى عِلْم الدّلالةSemantics تمثِّل الجانبَ المنهجيّ لعمله، بينما يمثِّلُ القرآنُ جانبَه المادّي[28]، ويحدد الشريحة التي يتوجه إليها الكتاب بأنهم القرّاء الذين كان لديهم من قبْلُ معرفة عامّةً جيّدةً بالإسلام وهم، تبعاً لذلك، مستّعدون لأن يكونوا منذ البدء مهتمّين بقوّة بالمسائل المفهوميّة التي أثارها هذا الضَّرْبُ من الدَّرْس فيما يتصل بالقرآن نفسه.

 ولا يتغاضى إيزوتسو عن حقيقة أنّ ما يسمّى عِلْم الدّلالة Semantics معقَّدٌ على نحو مُذْهِل للغاية. ومن الصّعب جدّاً، هذا إن لم يكن مستحيلاً، على شخصٍ غير متخصّص أن يظفر حتّى بفكرةٍ عامّةٍ عن ماهيّة هذا العِلّم، فـ "عِلْم الدّلالة"، كما يرى إيزوتسو، من حيث هو دراسةٌ للمعنى، لا يمكن أن يكون إلاّ نمطاً جديداً من الفلسفة مبنيّاً على تصوّر جديد تماماً للكون والوجود وشاملاً لأفرع كثيرة مختلفة ومتنوّعة جدّاً من أفرع العِلْم التقليديّ، التي ما تزال حتّى الآن في أيّة حال بعيدةً عن أن تكون قد أنجزت المثَلَ الأعلى لتكاملٍ تامّ. كما يلحظ أنه علم يفتقر إلى التناغم والانسجام، وأن ما نمتلكه في أيدينا عددٌ من النظريات المختلفة للمعنى[29].

تأسيساً على هذه الملاحظات يسجل إيزوتسو تصوره الخاص لعلم الدلالة الذي سيعتمده في دراسته فيقول:"عِلْم الدّلالة كما فهمتهُ هو دراسةٌ تحليلية للتعابير المفتاحية Key- terms في لغةٍ من اللغات ابتغاءَ الوصولِ أخيراً إلى إدراكٍ مفهوميٍّ للنّظرة إلى العالمWeltanschauung لدى النّاس الذين يستخدمون تلك اللّغة أداةً ليس فقط للتحدّث والتفكُّر، بل أيضاً، وهذا أكثرُ أهمّيةً، لتقديم مفهوماتٍ وتفاسير للعالَم الذي يحيط بهم."[30]

فهدف الدراسة الدلالية للقرآن البحث عن رؤية القرآن لكيفية بناء عالَم الوجود، وما المكوِّناتُ الرّئيسةُ للعالم، وكيف يُرْبَط بعضُها ببعض، فيكون عِلْمُ دلالات الألفاظ وتطوّرها، في هذا المعنى، نوعاً من عِلْم الوجود ontology- علم وجود محّدد وحيّ ومتحرّك[31].

ولانجاز عمله يوضح المرتكزات الأساسية التي ستضبط تحليله الدلالي، وذلك من خلال مداخل أساسية، أو مصطلحات اعتمدها أو ابتكرها ليوضح فكرته، وهي:

1-شبكة المفهومات في القرآن:

إن جوهر عمل إيزوتسو كما حدده هو دراسةٌ تحليلية للتعابير المفتاحية في القرآن والتي تعبر عن المنظور القرآني للعالم، لكن ذلك ليس مجرد اختيار مفهومات من المعجم اللغوي للقرآن، بل هي – كما يقول - مهمة صعبة، ذلك لأنّ هذه الكلمات أو المفهومات – كما يصفها إيزوتسو- ليست موجودةً هكذا في القرآن مستقلاً كلٌّ منها عن الأخريات، بل إنّ كلاًّ منها تعتمد على صاحبتها اعتماداً قويّاً، وتستمدّ معانيها المحدّدة على نحو دقيق من جملة نظام العلاقات. وبكلماتٍ أُخَر، تؤلِّف فيما بينها مجموعاتٍ متنوّعة، كبيرة وصغيرةٍ، مرتبطاً كلٌّ منها بالأخرى أيضاً بطرائق مختلفة، وهكذا تؤلّف في النهاية كُلاً منظّماً شبكةً غايةً في التعقيد والتركيب من الترابطات المفهوميّة[32]. فإيزوتسو يبحث عن النظام المفهومي الذي يعمل في القرآن، لا المفهومات الفردية منظوراً إليها بعيداً عن البناء العام، أو ما يسميه "البنية المتكاملة" التي اندمج فيها المفهوم.

2-التحول الدلالي من خلال السياق القرآني:

يسجل إيزوتسو ملاحظة يعتبرها جوهرية في عمله وهي ملاحظة التحول الدلالي للمفردة اللغوية التي كانت متداولة قبل الإسلام عبر إدخالها في سياق قرآني جديد ودمجها ضمن نظام مفهومي مختلف، فألفاظ القرآن كانت متداولة، بل إنه - كما يرى - ليس من التعابير المفتاحية التي تؤدّي وظيفةً حاسمة في صياغة نظرة القرآن إلى العالَم بما فيها اسْمُ "الله" نفسُه، ما كان بأيّ معنى من المعاني تعبيراً جديداً مبتكَراً. فقد كانت كلُّها تقريباً مستخدمةً بصورةٍ أو بأخرى في الأزمنة التي سبقت الإسلام. وعندما بدأ الوَحْيُ الإسلاميّ باستخدام هذه الكلمات، كان النظامُ كلُّه، أي السّياقُ العامُّ الذي استُخدِمت فيه، هو الذي صدَم مشركي مكّة بوصفه شيئاً غريباً تماماً وغيرَ مألوف، ولذلك، غيرَ مقبول، وليس الكلماتِ الفرديّة والمفهومات نفسَها.

   فـ "الكلماتُ نفسُها كانت متدوالةً في القرن السّابع (الميلادي)، إن لم يكن ضمن الحدود الضّيّقة لمجتمع مكّة التجاريّ، فعلى الأقلّ في واحدةٍ من الدّوائر الدينيّة في جزيرة العرب، ما جدّ هو فقط أنّه دخلت أنظمةٌ مفهومية مختلفة. والإسلامُ جَمَعها، دَمَجَها جميعاً في شبكةٍ مفهوميّة جديدة تماماً ومجهولة حتّى الآن."[33]

ويذكر نموذجاً لذلك التحول كلمةَ "تقوى"، فالمعنى الصّميمي الأساسيّ  لكلمة "تقوى" في الجاهلية "دفاعَ كائن حيّ، حيوان أو إنسان، عن نفسه في مواجهة قوّة مدمِّرة آتية من الخارج". وتدخلُ هذه الكلمةُ في نظام المفهومات الإسلاميّ حاملةً معها هذا المعنى الأساسيّ نفّسه. ولكن ههنا، وتحت التأثير السّاحق لجُمْلة النظام، وخاصّة بفضل كونها الآن موضوعةً في حَقْلٍ دلالّي محدَّدٍ مؤلَّفٍ من مجموعةٍ من المفهومات عليها أن ترتبط بـ "الإيمان" أو الاعتقاد المميَّز للتوحيد الإسلاميّ، اكتسبت معنَّى دينيَّاً في غاية الأهمّية: بعد أن تجتاز التقوى المرحلة المتوسّطة لـ "الخوف من العقاب الإلهيّ في يوم الحساب"، يُقصَد بها في النهاية "الورَع" الشّخصي، الصّافي والبسيط[34].

هذا ويعول إيزوتسو في الكشف عن التحول الدلالي على الشعر الجاهلي"لأنّ المعجم اللغويّ للشّعر الجاهليّ سابقٌ زمانيّاً القرآن، فتكونُ المقارنةُ بينهما يقيناً مثمرةً. ويمكن أن أنّ تلقي ضوءاً كاشفاً على المعنى " الوضْعيّ " لبعض التعابير المفتاحيّة الموجودة في القرآن. بل تسمح بأن نرى على نحو دقيق كيف ظهرت فِكَرٌ وكيف عُدّلت فِكَرٌ قديمة في جزيرة العرب في المرحلة الحاسمة الممتدّة من أواخر العصر الجاهليّ إلى أوائل العصر الإسلاميّ، وكيف أثّر التاريخ تأثيرهَ وصاغ فِكْرَ النّاس وحياتهم"[35]. ويبدو إيزوتسو مقتدراً جداً على فهم الشعر الجاهلي ومعرفة تفاصيل الحياة العربية قبل الإسلام من خلاله، وهذا يؤكد درجة تمكنه من العربية[36].

ووفي دراسته للمفهومات الأخلاقية يعدد إيزوتسو أنماطاً للتحول الدلالي في المفهومات الأخلاقية التي كانت في الجاهلية كالكرم والشجاعة والصبر...، فقد أخضعها القرآن لتحول دلالي خاص، فمنها ما وسع ومنها ما ضيق ومنها ما طور في اتجاهات جديدة تماماً[37].

3-المعنى الوضعي والمعنى السياقي:

من المفهومات المنهجيّة في علم الدّلالة ما أسماه معنىً "وَضْعيّاً basic" ومعنىً "سياقياًrelational"، فكلّ كلمةٍ مفردةٍ حين تؤخذ معزولةً يكون لها معناها الوضعيُّ الخاصّ أو محتواها المفهوميّ الذي تُبنى عليه حتّى إذا أخرجنا الكلمة من سياقها القرآنيّ. فكلمة "كتاب" مثلاً تعني أساساً الشيءَ نفسَه سواءٌ أوُجِدت في القرآن أم خارجه. فالعنصرُ الدّلالي الثابت الذي يظلّ ملازماً للكلمة حيثما يمّمت وكيفما استُخدمت، يسمّيه المعنى "الوَضْعيّ"، أمّا في السّياق القرآني فإنّ كلمة "كتاب" تتّخذ أهمّيةً غير عادية بوصفها العلامةَ لمفهوم دينيًّ خاصّ جداً محاطٍ بهالة من التّقديس. وينشأ هذا عن أنّه في هذا السّياق ترتبط الكلمةُ ارتباطاً قوياً بمفهوم الوَحْي الإلهيّ، أو على الأصحّ بمفهومات مختلفة ذات صلة مباشرة بالوَحْي. فكلمة "كتاب" البسيطة بمعناها الوضعيّ الواضح "كتاب"، بمجرّد أن تدخل في نظامٍ خاصّ وتُعطى مكاناً محدَّداً معيَّناً فيه تكتسب عدداً وافراً من العناصر الدّلاليّة الجديدة المنبثقة من هذا الوضع الخاصّ، وكذلك من العلاقات المختلفة بالمفهومات الرّئيسة الأخّر في ذلك النّظام التي تُعدّ هذه الكلمة لتضمُّنها. وينتهي إلى أن الكلمة في السياق القرآني المثقل بالدلالة ينبغي أن تفهم بلغة هذه التعابير المترابطة، وهذا ما يقصده بالمعنى السياقي[38]. ويعتبر إيزوتسو في كتابه المفهومات الأخلاقية منهج التحليل الذي يعتمده نوعاً من التفسير السياقي، الذي يجمع ويقارن ويربط بين كل التعابير التي تتشابه وتتضاد وتتطابق فيما بينها[39].

 ويسجل إيزوتسو في إطار حديثه عن السياق احتواء القرآن على منظومة مفهومية كبيرة مؤلفة من عدد من منظومات مفهومية متداخلة أصغر تسمى في علم الدلالة "حقول الدلالة"، كحقل الكلمات المتصلة بالنشور والحساب، والذي يسهم في اكتشاف النظرة إلى العالم في القرآن، ويسميه "حقل الأخرويات"[40].

"وكثيراً ما يحدث أنّ القوّة المعدِّلة لجُملة المنظومة تفعلُ فِعْلَها في الكلمة إلى حدّ أنها تفقد تقريباً معناها المفهوميّ الأصليّ. وعندما يحدث هذا يكون لدينا كلمةٌ مختلفة، وبتعبير آخر، نشهد ولادةَ كلمة جديدة."[41]

4- " التعابيرَ المفتاحيّة" : المعجم اللغوي والنظرة إلى العالم:

يؤكد إيزوتسو أن التحليل الدّلاليّ ليس تحليلاً بسيطاً للبنية الشكليّة للكلمة وليس دراسةً للمعنى الأصليّ المرتبط بصورة الكلمة، أي دراسةً تُعنى بأصل الكلمات وتاريخها. ذلك لأنّ دراسة أصل الكلمات، -كما يرى- حتىّ حين نكون محظوظين تماماً بمعرفتها، تزوّدنا فقط بمفتاح فيما يتّصل بالمعنى "الوضعي" للكلمة، ويذكّر بأن "دراسة أصل الكلمات" في أحوالٍ كثيرة تظلُّ عملاً معتمداً على التخمين، وفي معظم الأحيان لُغْزاً لا حلّ له[42]، لذلك فهو يعول على المعنى السياقي لأن الكلمات في الّلغة تؤلَّف نظاماً شديد التّماسك. والنّمط الرّئيسُ لذلك النظام يحدّده عددٌ معيّنٌ من الكلمات الشديدة الأهمّية.

ويلاحظ أن الكلماتُ في المعجم اللغويّ ليست على قدْرٍ واحدٍ من القيمة في تشكيل البنية الأساسيّة للتصوّر الوجوديُّ الذي يشكّل أساس المعجم، أيّاً كانت أهمّيتُها من وجهات نظر أخرى[43]، فكل معجم لغوي يمثل ويجسد نظرة خاصة إلى العالم[44]. ويسمي تلك الكلماتُ التي تلعبُ دوراً حاسماً ً في تشييد البنْية المفهوميّة الأساسيّة لنظرة القرآن إلى العالم، " التعابيرَ المفتاحيّة" للقرآن. وتمثَّل كلماتُ: الله، الإسلام، الإيمان، الكافر، النّبيّ، الرّسول، بعضَ الأمثلة البارزة.

ويذكر أن ثمة صعوبة في عَمَلِ الدّارس الدّلاليّ في اختيار بعض التعابير المفتاحيّة لحُمْلة المعجم اللغويّ في القرآن دون غيرها، ولهذه الخطوة أهمية كبرى لأنّها ستحدّد جُملةَ العمل التحليليّ اللاّحق الذي سيقوم به، ويقر بوجود قدر من الاعتباطية في هذه المرحلة لكن ذلك ليس بمشكلةً حقيقيّة، لأنّه فيما يتعلّق، على الأقلّ، بالهيكل الرّئيس للتعابير المفتاحيّة ربّما لا يوجد هناك تعارضٌ جوهريٌ، ولا أحد سيشكّّ في اختيار كلماتٍ مثل إسلام، إيمان، كُفْر، نبيّ، الخ، ناهيك عن كلمة "الله" نفسها[45].

5-الحقول الدلالية:

يقصد بالحقل الدلالي "مجموعة من الصلات الدلالية ذات طابع نمطي بين كلمات محددة في لغة من اللغات"[46]، فـ"حقول الدّلالة" هي المناطقُ أو المقاطعُ التي شكّلتها العلاقاتُ المختلفة للكلمات فيما بينها، ويمثل كل حقلٍ دلاليّ مجالاً مفهوميّاً مستقِلاًّ نسبياً مشابهاً تماماً في الطبيعة للمعجم اللغويّ. والاختلافُ بين "المعجم" و"الحقل الدّلاليّ" اختلافٌ نسبيٌّ، ومن الناحية الجوهريّة، لا يمكن أن يكون هناك اختلافٌ البتّة فيما بينها. لأنّه في الأحوال كلّها، ليس "الحقْلُ الدّلاليُّ " كُلاًّ أقلَّ تنظيماً من "المعجم اللغويّ ". لأنهّ كتلةٌ كاملة من كلماتٍ مرتّبةٍ في نمط دالً ممثّلٍ لمنظومة مفهوماتٍ مرتَّبةٍ ومبنيّةٍ وفقاً لمبدأ تنظيم المفهوميّ[47].

فالمعجم اللغويّ بوصفه حقلاً مفهوميّاً واسعاً مقسّمٌ على حقول محدّدة مختلفة. ولكن كلاًّ من الحقول المحدّدة، من حيث هو قطاعٌ منظّمٌ من المعجم اللغويّ، هو نفسهُ مؤهَّلٌ تماماً لأن يسمى "معجماً لغويّاً" إذا ما كان كبيراً إلى الحدّ الذي يُعَدّ فيه وحْدةً مستقلّة. ومن الوجهة النظريّة سيكون ممكناً والحالُ كذلك اعتبارُ المعجم اللغويّ القرآنيّ نفسه "حقلاً محّدداً " ضمن كلًّ أكبر كثيراً، هو المعجم اللغويّ للسان العرب في ذلك العصر. ويشترك شعراء الجاهليّة – وجزئيّاً أيضاً الشعراءُ المخضرمون – مع القرآن في مقدارٍ مهمّ من التعابير المفتاحيّة، لكنّ معجمهم اللغويّ ونظرتهم إلى العالَم مبنيّان على خطوط مختلفة جوهريًاً عن تلك التي للقرآن[48].  ويشير إيزوتسو لاحقاً إلى استخدامه مصطلحي "منظومة مفهوميّة Conceptual System" و"معجم لغويّ Vocabulary" من دون تمييز بينهما، كونهما مظهرين مختلفين لشيءٍ واحدٍ، يعني أنّ اللغويّ. هو ببساطة الجانبُ الآخر للمفهوميّ[49].

6-الكلمة الصميمة:

يقصد بـ"الكلمة الصميميّة focus – word" تعبيراً مفتاحيّاً مهمّاً جدّاً يشير ويحدّد مجالاً مفهوميّاً مستقِلاً ومتميّزاً نسبيّاً، أي "حقلاً دلاليّاً"، ضمن الكلّ الواسع للمعجم اللغويّ. فالكلمةُ الصميمية إذاً هي المركزُ المفهوميُّ لقطاع دلاليّ مهمًّ من المعجم اللغوي متضمّناً عدداً محدّداً من الكلمات المفتاحيّة.

ومفهوم " الكلمة الصميميّة " مفهوم مرن، وإذا ما هُيّئت كلمةٌ لأنّ تعمل "كلمةً صميميّة" في حقل دلاليّ محدّد، فإنّ ذلك لا يمنع الكلمةَ نفسَها من أن تتصرّف بوضعها كلمةً مفتاحيّة عاديّة في حقل آخر أو حقول أخرى. ويضرب مثلاً لذلك بكلمة "إيمان" ومشتقاتها إذ تلعب في القرآن دوراً في غاية الأهميّة. ولن يعترض أحدّ على عدها كلمةً صميميّةً تحكم حقلاً خاصّاً بها. وبالتالي يمكن أن نرى عدداً معيّناً من الكلمات الأُخَر المهمّة، أي الكلمات المفتاحيّة، تتجمّع حولها بوضعها النّواة المفهوميّة the conceptual nucleus أو نقطة البؤرة، مشكلةً معاً مجالاً مفهوميّاً دالاً ضمن المعجم اللغويّ الشامل للقرآن[50]. ويسجل في هذا السياق أهم فكرة في كتابه "الله والإنسان في القرآن" بقوله:"ولنقل الحقيقة، إنّ كلمة "الله" هي أسمى كلمة صميميّة في المعجم اللغويّ للقرآن، مهيمنةً على الميدان كلّه. وما هذا سوى المظهر الدّلاليّ لما نعنيه عموماً بالقول إنّ عالَم القرآن مرتكزٌ أساساً على الله"[51].

هذه هي أهم المداخل المنهجية التي أوضحها إيزوتسو في الفصول الأولى من كتابيه، وهي بالتأكيد ليست مبادئ جديدة بمفردها، إذ إنه قد استعمل بعضها في العلوم اللغوية وأصول الفقه، فمبدأ التحول الدلالي قد طبقه الأصوليون عند الحديث عن الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية، كما بحث اللغويون تحول دلالات الألفاظ في اللغة مقارنة بالشعر الجاهلي[52]، وإن كانت دراسات قليلة وجزئية ولم تتطور إلى معجم تاريخي للغة العربية،إذ من الصعوبات التي لا تخفى عند المعنيين بالقضايا اللغوية غياب معجم تاريخي للألفاظ العربية، وعدم مراعاة التطور الدلالي في المعاجم المتوفرة[53].

وكذلك الشأن بالنسبة لأهمية السياق النصي فقد اعتنى به المفسرون في إطار ما عرف بتفسير القرآن بالقرآن، لكن هذا الاهتمام بهذه الجوانب ظل في إطار فهم النص والمعنى، لا في إطار تحليل المفهومات القرآنية ضمن نسق محدد.

 

رابعاً:

 الخاتمة:(خلاصة وتقييم)

إذا أردنا أن نلخص منهج إيزوتسو في تطبيق علم الدلالة في فهم القرآن، يمكن أن نسجل النقاط التالية:

·         تطبيق عِلْم الدّلالة في دراسة القرآن عند إيزوتسو هو دراسةٌ تحليلية للتعابير المفتاحية في لغةٍ القرآن ابتغاءَ الوصولِ إلى إدراكٍ مفهوميٍّ للنّظرة القرآنية إلى العالم. فهو بعبارة أخرى محاولة للكشف عن تصور الإنسان والكون والحياة كما يتجلى في القرآن.

·         يؤكد إيزوتسو أن الكلمات القرآنية منثورة بشكل منظم وفائق الضبط، وثمة علاقات فيما بينها ولا يمكن فهم كلمة دون الربط بينها وبين شبكة المنظومات المفهومية التي تنتمي إليها.

·         يستحضر إيزوتسو حقيقة أن لكل كلمة معنى وضعياً أساسياً لا يتغير بتغير الاستعمال، ومعنى سياقياً يضفي على الكلمة معان جديدة قد تقطع مع معناها الأصلي وتصبح كلمة جديدة كلياً في معناها، وهذا شأن المفردات القرآنية.

·         يرى إيزوتسو أن الكشف عن الرؤية القرآنية للعالم يعتمد على دراسة ما يسميه التعابير المفتاحية في القرآن وهي الكلمات الرئيسة التي تمثل مركزاً في فهم موضوع معين أو حقل دلالي تنتمي إليه مجموعة أخ

المصدر: http://almultaka.org/site.php?id=752&idC=1&idSC=1

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك