الإخبار بالحقيقة أم الإقناع؟
يقول توماس بابينجتون: «ليس الهدف من التحدث الإخبار بالحقيقة, بل الإقناع».
هذا الكلام بعرضه على الميزان الإسلامي والإنساني لن يستقيم لنا مطلقًا, بل سيغضبنا, وسنحشد الأدلة لإبطاله, والإطاحة بكل من يروّج له مستندين بكل ثقلنا إلى القرآن الكريم والسُّنة المطهرة.
هذا في مواجهتنا القولية له, أما في مواجهتنا الفعلية – ولأننا في زمن تلاطم الفتن – سنتلوث بهذه العبارة إن لم نتمرغ في وحلها مهما بلغنا من الصدق مع أنفسنا.
ولنأخذ مثالاً بالإشاعات التي يروَّج لها مؤخرًا عبر وسائل التواصل, من تصنيف الناس – ولاسيما المشاهير – وتسريب صور ومقاطع مفبركة أو حتى حقيقية عنهم للإساءة لهم.
العاقل منا والمتعيقل سيتخذ موقفًا, إما للدفاع, أو للاتهام.
هذان الموقفان سيكونان لأجل الحقيقة أم الإقناع؟!
سنعود لحشد الأدلة, وكل فريق منا سيعود لأصل خلقته التي قال الله تعالى عنها: {وَكَانَ الْإنسان أكثر شَيْءٍ جَدَلًا}.
أكثر شيء مراء وخصومة، لا ينـيب لـحقّ، ولا ينزجر لـموعظة.
هذا ما قاله الله عنّا, فهل نحن بجدلنا المعجونين به في أصل خلقتنا مع الحقيقة أم الإقناع؟
هذا الجدل الممتد إلى ما بعد البعث سيجعل تلك النفوس المخلوقة من نطفة وضيعة تجادل خالقها, قال تعالى:
{يوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}.
ستـخاصم، وتـحتـجّ بـما أسلفت فـي الدنـيا من خير أو شرّ أو إيـمان أو كفر.
هل جدالها وهي تعرف أن الحق سبحانه لا يظلم مثقال ذرة لقول الحقيقة أم للإقناع؟!
سنضطر إلى تقبُّل مقولة (توماس) بأن الهدف من أحاديثنا ليس الحقيقة بل الإقناع.
موجعة هذه الحقيقة؟ لا تقبلها؟ شعرت بأن كاتبة هذا المقال تزعزع بعض ثوابتك؟
ربما بعض هذا إن لم يكن جله هو ما دار برأسك الآن عزيزي القارئ, لكنها الحقيقة المرّة التي يجب أن ندفعها عنا بكل ما أوتينا من قوة؛ لنصبح حقيقيين في إقناعنا.
لننحِ مشاعرنا الغاضبة, الكارهة, الغيورة, ونحن نتفرج على مشاهد الاتهامات التي طالت الصالح قبل الطالح.. لنبتعد عن عاطفتنا الشللية المنحازة ونحن نُشكِّل خلايا التحشيد ضد بعضنا البعض إذا ما ارتكب خطيئة أمرها عند الله.
المكالمات الهاتفية, الأحاديث المباشرة, الأحاديث عبر المواقع.. كلها ترتدي ثوب الإقناع بما نحن مقتنعون به وليس الحقيقة.
عندما تتحدث عن المخالِف لك باعتدال، وتتحدث عن حقه الإنساني الذي كفله الدين له, لن تعجب سماحتك هذه سياسة القطيع الممنهجة التي لا تؤمن بغير: إن لم تكن معنا فأنت عدونا. وسنُفصِّل على مقاسك تهمة تقص جناحك؛ لتخرس, وتصبح سجين صمتك للأبد.
سترى هجومهم المستبسل على كلّ من أخطأ ببشريته الضعيفة, أو حتى اجتهد, وقال الحق الذي يكرهون.
نحن – بكلّ أسف – بعد انفتاح العالم وصعوبة ملاحقة الحقائق صرنا نستجيب للرسائل دون وعي.
عقولنا المغلقة على ما يهمها بصور آلية ليس لديها الوقت الكافي لتخوض شرف التدقيق بحثًا عن الحقيقة.
تنساب الرسائل في غفلة منّا, تفتح أبواب عقولنا اللاواعية, وتغفو آمنة, ثم تستيقظ؛ لتفرض نفسها قناعة لا تقبل التشكيك.
إننا بدلاً من أن نعتمد على الحقائق في اتخاذ الحكم نقوم بالاختصار الذهني, ونعتمد على مشاعرنا التي تأثرت في اللاوعي هي الأخرى؛ لتمنحنا مفاتيح الإجابة.
إننا مع مشاغلنا, وكثرة الرسائل الممنهجة في تمريرها علينا، صرنا نعتمد على الدلالات البسيطة؛ لنسجل الموقف قبل نضج الحقيقة.
نبحث عن الإقناع، ولا نمتلك الوقت الكافي للاقتناع.
لذلك لم تعد الحقيقة تعني حتى المقتتلين باسمها؛ لأنّ كلمتهم التي يجب ألا تنزل الأرض ستخنق الحقيقة لو اعترضت طريقها, وستنتصر للإقناع وحسب.
حقيقة:
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي إِلَيْهَا, فَإِذَا نَزَلَتْ فَمَنْ كَانَ لَه إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِه، وَمَنْ كَانَتْ لَه غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِه، وَمَنْ كَانَتْ لَه أرض فَلْيَلْحَقْ بِأرضه. فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَه إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أرض؟ قَالَ: يَعْمِدُ إلى سَيْفِه فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّه بِحَجَرٍ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ».
إقناع:
معظمنا وسط هذه الفتن نسينا ما أخبر به رسولنا – صلى الله عليه وسلم – من حقيقة, وصرنا نتلقى رماح القوم, ونرسلها!
تحوَّلنا إلى علماء وسياسيين, نُدخل أقوامًا النار، ونزكي آخرين.
نُقنع بوجهات نظرنا, ونسينا حقيقة زماننا التي أخبر عنها نبينا – صلى الله عليه وسلم.