ابن رشد بين الدّين والفلسفة

فريد العليبي

 

تُمارس إشكاليّة العلاقة بين الدّين والفلسفة حضورا لافتا ضمن المدونة الرشديّة، ولا نبتغي هنا بحثها في استقلالها عمّا عداها، مثلما راج كثيرا في الدراسات الرشديّة بقدر ما نُحاول الالتفات إلى تلك العلاقة، في صلة بالتّدبير المدنيّ، بالإبانة عن الغاية  من ترتيب العلاقة بين الدّين والفلسفة.

ومن ثمّة فإنّنا نرى أنّ إشكاليّة العلاقة بين الدّين والفلسفة، مأخوذة في إنفصالها عن حقل التّدبير المدنىّ، إنّما هي إشكاليّة مُكرّرة أُشبعت بحثا ولن نضيف جديدا بقولنا إنّ أبا الوليد يصل الفلسفة بالدّين أو يفصل بينهما، وبالتّالي فإنّ مطلبنا هو السّعي لدفع البحث في الرشديات في اتّجاه استكشاف قارّة أخرى من قاراته المجهولة والمساهمة  في الكشف عمّا تكتنزه.

ومطلب مثل هذا يستدعي منذ البدء مواجهة مشكلة منهجيّة قراءة نصوص ابن رشد  وهذه برأينا تمثّل أم المشاكل جميعها في تعاملنا مع فلسفته، ونحن نميل إلى مساءلة تلك النّصوص المتعلّقة بالفلسفة والدّين كما ذكرنا على ضوء ما حفّ بتشكلها من أوضاع تاريخيّة، فقد  فكر صاحبها في زمن الإضطهاد، ومن هنا فإنّ ما حفلت به من مجازات وإشارات وتنبيهات تستوجب النّظر إليها من زاوية  ما هي مشحونة به من مواقف، ينبغي إخراجها إلى مستوى التّعبير الواضح أي الإنتقال بها من المسكوت عنه  إلى المنطوق به.

وهذا يعني أنّنا نرى أنّ النّص الظّاهر إنّما يُخفي نصّا باطنا يجب الظّفر به، ففيلسوفنا كان يكتب بين السّطور بحسب عبارة عزيزة على ليو شتراوس[1] نصّا آخر يحسن النّفاذ إليه إذا شئنا فهم مقاصده، دون أن يفوتنا التّنبه إلى منزلقات هذه القراءة إذ أنّنا نُغامر بنسبة مواقف قد تكون غريبة إليه بينما نُعدم الحجّة على البرهنة عليها غير أنّ تلك المغامرة المحفوفة بالمخاطر تستحقّ مع ذلك أن نخوضها مع حذر شديد لتلافي تلك المنزلقات ولكن لماذا وكيف؟

في الإجابة عن سؤال لماذا؟ نقول إنّ ابن رشد يستعمل عبارات دالّة على إخفاء الموقف الفلسفيّ عن “العامّة” مثل المضنون به على غير أهله وقد  قمع وأضطهد وعانى من الوشاية والمحاكمة والنّفي وهذا متّفق حوله  بين من أرّخوا له، ممّا يجعلنا نستنتج أنّ نصّه لا يمكنه إلاّ أن يحمل بصمات المناخ الّذى عاش في كنفه. أمّا عن السّؤال كيف؟ فإنّنا نجيب بأنّنا في حاجة إلى تأويل تأويل ابن رشد بربط نصّه بمحفّزاته وخفاياه واستتباعاته ورهاناته فالتّأويل تأويلان، تأويل كلامي تقليدي متناقض وجدلي “لم يأذن الله ورسوله به” [2] ،  وتأويل آخر عميق يقف على المُضمر وهو ما قام به أبو الوليد مع توجيهه إلى “الخاصّة”[3] دون سواها وهذا التّأويل نفسه في حاجة إلى تأويل ثان للوقوف على مضامينه، لأجل هذا نحن في حاجة إلى حلّ مشكلة منهج القراءة بإلاشارة إلى أنّنا نقرأ الإشكاليّة موضوع بحثنا على ضوء الإضطهاد والكتابة بين السّطور، وفي كنف التّاريخ وتأويل التّأويل.

ومن هنا أهميّة حلّ مشكلة العلاقة بين الفلسفة والدّين على ضوء هذه القراءة، علما أنّ ذلك الحلّ نحتاجه رئيسيا في السّياسة فجوهر المسألة السياسيّة في الإسلام يدور حول هذه الإشكاليّة المركزيّة فالغزالي على سبيل الذّكر كان قد أغلق الباب أمام ذلك  بدعوى كفر الفلاسفة جميعهم، وبالتّالي إقراره التّناقض بين الفلسفة والدّين، ومن ثمّة اتّباع سبيل العقيدة وحدها في تدبير شؤون الدّولة، أمّا ابن رشد فقد اتّجه وجهة أخرى نسعى هنا للإبانة عنها.

 للدّين  تأثير كبير في بلاد الإسلام  فهو راسخ في وجدان الملة  وموسوم بالقداسة وأبعد عن يكون مجرد طقوس ومعتقدات ومعاملات لا يرقى إليها الشّك ولا يشملها النّقد، إذ يتعدّى ذلك إلى تحديد ردود أفعال النّاس، بما له من سلطة آسرة عليهم لثقتهم المطلقة في قدسيته، وتلك السّلطة تمارس نفوذها في شتّى مجالات الحياة ومن بينها السّياسة.

ولا يحدث ذلك في صلة بفرد مُنعزل  يُنظم علاقته بإلاله وفق ما يبتغيه كما هو حال حي ابن يقظان في جزيرته، وإنّما يتمّ ضمن المجتمع ومن هنا فإنّ للدّين مفاعيله وهو ما ينبّه إليه الجرجانى بقوله إنّ الدّين والملّة “متّحدان بالذّات ومختلفان بالاعتبار، فإنّ الشّريعة من حيث أنّها تطاع تسمّى دينا، ومن حيث أنّها تجمع تسمّى ملّة، ومن حيث أنّها يُرجع إليها تسمّى مذهبا” [4]. ومن هنا ضرورة القيام بذلك التّفريق بين الدّين والملّة والمذهب فعلى ضوء ذلك يمكن أن تتحدّد العلاقة بين الفلسفة والشّريعة والفلسفة والدّين والفلسفة والمذهب، فالدّين منسوب إلى الله والملّة إلى الرّسول، والمذهب إلى المجتهد. ومن هنا فإنّ الشّريعة تقوم على بيان  الأوامر الإلهيّة الملزمة والنّواهي المطلوب الابتعاد عنها  بما يعنية ذلك من ضوابط تتحكّم بحياة الملّة وهذا هو المعنى الأساسي للدّين الّذى إهتمّ به ابن رشد، فقد ركّز نظره على ما تزخر به المدوّنة المقدّسة من أحكام تنظمّ علاقة المؤمنين بعضهم ببعض.

وقد كان الدّين الاسلامي على مرّ الأزمنة موضع توظيف من قبل الفقهاء والمتكلمين والأدباء وأصحاب السّلطان والثّائرين إلخ ….  بينما وجدت الفلسفة غالبا نفسها معه في حرج، ممّا جلب عليها الضّرر كلّما حاولت القيام  مقامه فكانت نهايتها غير سعيدة في عدد غير قليل من الحالات، ومن هنا ضرورة وقف الإشتباك بينها وبينه، وحلّ عقدة العلاقة معه، وهذا ما أدركه ابن رشد وهو يحاول تسييج منزلته ومنزلة الفلسفة في السّياسة، فالدّين يؤدّي هنا دورا يتّسع لكي يشمل حياة النّاس كلّها وفق علاقة عموديّة تجمع بين الله والمؤمنين به، أساسها القبول والتّسليم والخضوع والطّاعة، وكان الجرجانى قد عرفه بقوله: “الدّين وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرّسول” [5] أي التّسليم بصّحة الرّسالة الّتي يدعو النّبي النّاس إلى قبولها، والطّاعة مطلوبة هنا طالما يتّصل الأمر بعلاقة بين ربّ ومربُوب، أي بوضع، فيه سلطة عليا يأتمر من هو تحتها بأوامرها ونواهيها، وذلك غير منفصل عن التّرهيب والتّرغيب، في صلة بمصير الأفعال الإنسانيّة وفق ثنائيات مثل الجنّة والنّار الثّواب والعقاب، الحلال والحرام، المؤمنون والكفّار.

وما وضعه ابن رشد نصب العين في فصل المقال على سبيل الذّكر إنّما هو تحقيق التّوافق بين الشّريعة والفلسفة، أي بين الحكمة والدّين، منظورا إليه باعتباره قوانين تسير المجتمع، وهو من هذه النّاحية يسلّم به ويعتبر أنّه والفلسفة ينشدان نفس الغاية [6] وهو من ناحية ثانية يحتفظ للفلسفة بخصوصيتها عندما يتعلّق الأمر بالحديث في البرهان، حتّى لو كان ذلك مُخالفا لما جاء به ظاهر الشّرع، ممّا يستوجب هنا التّأويل على النحو الّذى يطابق فيه الوحي العقل، فـ” الوقوف على الغيب ليس هو شيئا أكثر من الاطلاع على هذه الطّبيعة. وحصول العلم لنا، فيما ليس عندنا دليل يتقدّم عليها، هو الّذي يسمّى للنّاس رؤيا، وللأنبياء وحيا. والارادة الأزليّة والعلم الأزلي هي الموجبة في الموجودات لهذه الطّبيعة. وهذا هو معنى قوله سبحانه ” قل لا يعلم من في السّموات والأرض الغيب إلاّ الله ’’ النّمل 65 “[7].

لقد أدرك ابن رشد ما للدّين من قيمة في التّدبير المدني، فكان سعيه لتوظيف ذاك المتخيّل الموسوم بالقداسة في إصلاح شأن المدينة، وهو الثّاوي في التّاريخ والمغروز فيه، ممّا يجعله متحكّما بردود أفعال الملّة، دافعا  أو كابحا لها في السّياسة والأخلاق وما جاورهما، فمن خلال المتخيّل  فإنّ ما فات وتعذّر استرداده نخلقه تخيّلا ونعيش في ظلاله الوارفة، كأن يكون اللّحظة الذّهبيّة للإسلام مُجسّدة في الخلافة الرّاشدة وهي تلك الّتي ألمح إليها ابن رشد مرارا وهو يخاطب ملّته، كما أنّ ما نحلم به ولم يتحقّق بعد نتصوّره ونتمنّاه ونعيش لأجله، وهنا حديث ابن رشد عن المدينة الفاضلة الّتي ستنتفي فيها كلّ الأمراض السياسيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة، فقد وظّف أيضا المستقبل: المدينة الفاضلة الفردوسيّة حيث العدل والمساواة.

وفي الحالتين يتعلّق الأمر بتطليق الواقع والاستعاضة عنه بالأحلام، ممّا يخوّل لنا استنتاج أنّ الأمر يتعلّق بيوتوبيا تعمل في اتّجاهين: الماضى والمستقبل، ولكنّها يوتوبيا مُحفّزة على التّغيير، تجد فيها الشّعوب مؤونتها الروحيّة الّتى تحتاجها عند محاولتها حلّ معضلاتها، وهذه اليوتوبيا كثيرا ما نجدها في الفلسفة السّياسيّة الكلاسيكيّة والوسيطيّة مع أفلاطون والفارابي وابن باجة وابن رشد وغيرهم، حيث الارتباط الوثيق بين السّياسة والأخلاق، وهو ما سيعرف نهايته مع ماكيافال وهوبس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1Leo Strauss . La pérsuction et l’art d’écrire .Trad de l’anglais  par Olivier Sedeyn .Collection Tel (numéro 360 ) Gallimard . Paris 2009.

2- ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلّة في عقائد الملّة، تقديم وشرح وتحليل محمد عابد الجابري، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1998، ص 99.

3- يقول ابن رشد: ” إنّ الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول وإنّ الظّاهر منها هو فرض الجمهور وإنّ المؤول هو فرض العلماء، وأمّا الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله وإنّه لا يحلّ للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور، كما قال علي رضي الله عنه: حدّثوا النّاس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله “، المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

4- مرجع نفسه، ص ص105 /106.

5- الجرجانى الشريف على بن محمد: كتاب التعريفات، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1988، ص 105.

6- يلخص ابن رشد المهمة الّتي أنجزها في كتابه فصل المقال قائلا: ” فإنّه لما كنّا قد بينا قبل هذا، في قول أفردناه مطابقة الحكمة للشرع وأمر الشريعة بها …” أنظر: الكشف عن مناهج الأدلّة في عقائد الملّة، مصدر سابق، ص99.

7- ابن رشد: تهافت التهافت، تقديم وشرح وتحليل محمد عابد الجابري، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1998، ص 514.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك