الاستبداد وملامح التغيير

محمد محمود محمد النجار

 

 

يقول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً. وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾ (الإسراء:16-17).

 

في هاتين الآيتين الكريمتين يحدثنا القرآنُ الكريم عن سقوط الأمم وهلاك المجتمعات، وأن ذلك يبدأ حين توسد المسؤوليةَ إلى حفنةٌ من المترَفين الفَسَقة، أو الفاسدين الظَّلَمة، أو المجرمين الطُّغاة، فيمارسون من مواقعِ السلطةِ كلَّ أساليب البطش والعدوان، وإن أول من يتجرؤون عليه ويفتئتون على حكمه هو من ولاهم ومكن لهم ليبتليهم وهو الله، فإذا بهم ينحون شرعه ويتهضون دينه، ويعادون أحكامه ومبادئه، فهم بذلك يستخدموا أقصى وأقسى درجاتِ القَسْوة والطَّيْش لِصَدّ الناس عن الحقِّ و عن الدعوةِ إليه، فلا دين إلا دينهم، ولا فهم إلا فهمهم، ولا رأي إلا رأيهم، ولا تشريع إلا مكان صادراً عن أهوائهم متوافقاً مع انحرافاتهم مرسخاً لاستبدادهم وتسلطهم على العباد والبلاد.

 

وإن شيخهم في ذلك ورائدهم إليه في الدنيا كما هو في الآخرة بمشئة الله تعالى إنما هو فرعون الذين يقول:  ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر:29).،

 

إن الاستبداد هو:         الانفرادُ والاستقلالُ بالرأي من غير مشورة. وهو يعني التسلُّطَ وفرضَ الرأي بالقوة.

 

ومن أهم مظاهره:       تكميمَ الأفواه، وقطعَ الألسن؛ فلا تتحدث إلا في مجال محدودٍ لا تتجاوزه، وبطريقةٍ معينةٍ لا تتغير، ولا يَدَعُ الاستبدادُ مجالاً لرأيٍ معارضٍ، أو فكرٍ محايدٍ، أو قولٍ صريحٍ، أو موقفٍ غير مؤيِّدٍ للمستبدّ، بل ينطلق الاستبدادُ أحياناً ليحجر على أفكار الإنسان وخواطره، بل يَعُدُّ عليه أنفاسَه وزفراته.

 

ومن أهم أسباب الاستبداد:

 

(1) اغترارُ المستبدِّ بقوتِه وقوة أعوانه وزبانيته، وإعجابُه بعقلِه وتدبيره وسياسته، مع استجهاله للمخالفين له، وقد قيل: «مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ لَمْ يُشَاوِرْ، وَمَنْ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ كَانَ مِنْ الصَّوَابِ بَعِيدًا».

(2) كذلك: استصحابُ بطانةٍ من المنافقين الذين يلوون الحقائق ويُزَيِّنون الطغيانَ والفساد، وَقد قَالَ عَلِيُّ رضي الله عنه «نِعْمَ الْمُؤَازَرَةُ الْمُشَاوَرَةُ، وَبِئْسَ الِاسْتِعْدَادُ الِاسْتِبْدَادُ». وكان العربُ يقولون: «آفةُ الرأي الاستبداد». وَقَالَ بَعْضُ الحكماء: «الْخَطَأُ مَعَ الِاسْتِرْشَادِ أَحْمَدُ مِنْ الصَّوَابِ مَعَ الاسْتِبْدَادِ». وكان يُقال: «إِذَا اسْتَبَدَّ الْمَلِكُ بِرَأْيِهِ عَمِيَتْ عَلَيْهِ الْمَرَاشِدُ، وانْبَهَمَتْ عَلَيْهِ المَقَاصِدُ».

(3) فسق المحكومين: قال تعالى ﴿ فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين﴾ الزخرف آية54. فبين سبحانه أن سبب طاعتهم لفرعون واستخفافه بهم هو فسقهم وتكالبهم على الدنيا واتباعهم للشهوات، فإن هذا ملحظ مهم ينبغي أن لا نغفل عنه.

 

وقد حذر النبيُّ صلي الله عليه وسلم من الاستبداد، وقال: «إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ» والحُطَمة: هو الذى يضرب الناس ولا يرحمهم، وهو مأخوذٌ من الحَطمْ، أو الحِطمْ، فيقال: راعٍ حُطَمة، إذا كان قليلَ الرحمة برعيَّتِه، فهو يسوقهم سَوْقاً شديداً عنيفاً لا رفقَ فيه،  ويأخذهم بالشدة. والحُطَمة أيضاًهو الأَكُولُ الحريصُ الذى يأكل ما يرى ويَقْضِمُه، لا يستثني شيئاً من طمعه وجشعه، فالحطمة هو الحاكم المستبد الجائر سيء النفسِ الظالم بطبعه، شديد الطمع فيما فى أيدي رعيته، لا يحرص على نفعهم بقدر ما يحرص على نفع نفسه ولو بظلم رعيته.

 

ولقد دعا النبي صلي الله عليه وسلم على الأمير المستبد فقال: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ».

 

وقد ذكر النبي صلي الله عليه وسلم أنَّ المستبدين الظلمةَ من أهل النار.

 

وكما ربط القرآن الكريم بين الاستبداد والفسق، فإن النبي صلي الله عليه وسلم ربط كذلك بين الاستبداد السياسي وبين حصول حالة الانحلال الأخلاقي في الأمة فقال: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا ـ أي لم أدركهما في زمني ــ قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا».

 

ولا عجب فإن المستبدين يربطون دائماً ولاء المحكومين لهم وطاعتهم وانصياعهم لهم باتباع أساليب توفر نوعاً من إشاعة السلبية واللهو وارتباط نفوس الناس وعقولهم بالتفاهات، والملهيات، ومن ذلك صناعة النجوم المزيفين والأبطال المزورين في مجالات الغناء والرقص والتمثيل. فانظر كيف هي العلاقة وثيقة بين الانحلال الأخلاقي والاستبداد السياسي في الواقع على نحو ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم.

 

إن الاستبداد هو رأس الأفعى، إنه أهم أسباب انهيار الأخلاق في المجتمعات. وهو لذلك أهم سبب من أسباب هزيمة الأمة في هذا العصر.

 

لقد تحول الناس في المجتمع بفعل الاستبداد السياسي إلى أكوامٍ بشرية لا هم لها إلا إشباع البطون، واللهث وراء ضرورات الحياة، فشاعت بذلك الأنانية الفردية، وتمزقت شبكة العلاقات الاجتماعية، وتعطلت فعالياتُ العقيدة والرسالة، وماتت معنويات الأمة.

 

وحين ننظر إلى مراحل السقوط فى تاريخ الممالك الإسلامية نجد أنها كانت دائماً تمر بمراحل من الحكامِ الحُطَمةِ المستبدين، الذين يسوقون الأمةَ بأهوائهم وآرائهم، غير عابئين بالرفق بالرعية أو مشاورة أهل الرأي فيها، أو بأخذها إلى ما فيه صلاحُ حالها. وقد سئل مروانُ بنُ محمد آخرُ ملوك بني أمية: ما الذي أضعف مُلْكَك بعد قوة السلطان وثبات الأركان؟ فقال: «الاستبدادُ برأيي».

 

ولقد جاء في شعب الإيمان للبيهقي عن الحسن أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَالُوا: سَل لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا علمَ رِضَاهُ عنا وَعلم سَخَطِهِ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَا مُوسَى، أَبْلِغْهُمْ أَنَّ رِضَايَ عَنْهُمْ أَنْ أَسْتَعْمِلَ عَلَيْهِمْ خِيَارَهُمْ وَأَنَّ سُخْطِيَ عَلَيْهِمْ أَنْ أَسْتَعْمِلَ عَلَيْهِمْ شِرَارَهُمْ ".،

وعلينا في الختام أن نعلم أن (الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، و ( أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وعن الحسن بن علي (رضي الله عنهما) قال: كان بين عمر بن الخطاب وبين رجل كلام في شيء، فقال له الرجل: اتّق الله. فقال رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ قال عمر: دعه، فليقلها لي، نِعْم ما قال. لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها.

علاج الاستبداد السياسي:

بناء على ما سبق يظهر في غير لبس، أن علاج الاستبداد السياسي في أي أمة وفي أي عصر وفي كل جيل إنما يكون:

(1)     بالفهم الصحيح للدين وتحقيق الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين

 

(2)     العلم بأن السلطة ليست مغنماً ولا منهبة، بل أمانة في أعناق من تصدوا لها، وإن الله تعالى يقول ( فليؤد الذي أتمن أمانته وليتق الله ربه).

 

يقول النبي صلي الله عليه وسلم : «إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ؛ فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا (أى الحياة خير لكم من الموت). وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاَءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا» .(أى فالموت خير لكم من الحياة).

إن من أراد التغيير وسعى إليه لا يسعه إلا أن يبدأ بنفسه: فيصلح ما بينه وبين ربه، ويعلم أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب ما كتب الله علينا فلا تهمل ولا تفرط.

وإذا أردنا الإصلاح حقاً فلابد أن نعلم أنه ليس بنيان أسس على غير تقوى الله إلا ما يلبث أن يهدم الله على رؤوس من بنوه.

فتقوى الله والعمل لله هما مصدر القوة وسبيل الرشاد للراعي والرعية، وأما فساد حال الراعي فإنما هو فرع عن فساد حال الرعية، فإذا انصلح حال هؤلاء أصلح لهم حال أولئك أو استبدلهم بمن هو أصلح منهم أو هيء للصالحين مدارج التغيير، واعلموا أن الضعف (ضعف الأمة) فرع عن التفرق، وأن التفرق فرع عن البعد عن منهج الله، وأن البعد عن منهج الله فرع عن اتباع الهوى، وأن اتباع الهوى فرع عن تعلق القلب بالدنيا، وأن تعلق القلب بالدنيا، فرع عن عدم الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر.

فهذه هي منظومة الإصلاح لمن أرداه، وهذا هو سبيل النجاة لمن رامه في الدنيا والآخرة.

نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يفقهنا في الدين وأن يرزقنا حسن العمل بصحيحه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) طبائع الاستبداد للكواكبي.

(2) الاستبداد السياسي أصل كل بلاء مقالة للدكتور عبدالرحمن البر.

المصدر: https://sites.google.com/site/muslims2muslims2/home/5-1

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك