تجديد أم اضمحلال السياسة الأمريكية؟

فرانسيس فوكوياما

ترجمة: نوال البقمي

 

قبل عامين، جادلت في هذه الصفحات بأن أمريكا تعاني من الاضمحلال السياسي. حيث جمع النظام الدستوري الضوابط والتوازنات للدولة مع الإسقاط الحزبي وجماعات المصالح الممولة جيداً، واشتمل على الإنتاجية المشتركة التي صنفتُها “بالفتروقراطية”، وهو الوضع الذي كان فيه من السهل إيقاف الحكومة عن القيام بالأشياء أكثر من استخدامها لتعزيز الصالح العام. وكانت من علامات فوضى النظام السياسي: أزمة الميزانية المتكررة، والركود البيروقراطي، وقلة الابتكار في السياسة.

ومن أول وهلة، تُظهر الانتخابات الرئاسية 2016 تأكيدًا لهذا التحليل. حيث فقد الحزب الجمهوري الفخور بنفسه لأول مره السيطرة على ترشيحه باستيلاء الخصم دونالب ترمب عليه المتصّف بالتناقضات الداخلية. وفي الوقت نفسه ومن الجانب الديمقراطي، واجهت هيلاري كلينتون من الداخل بشكل مفاجئ منافسة قوية من بيرني ساندرزالذي يبلغ من العمر 74 عامًا والمُنصب نفسه بالديمقراطي الاشتراكي. ومهما كانت القضية من ترحيل عن الوطن للتحسين المالي أو لتجارة أو لركود الدخل، فقد نهضت أعداد كبيرة من الناخبين من جانبي السلسة على ما يرونه كفساد وكمؤسسة تتعامل مع الذات وتدوير للمتطرفين الغرباء في أمل تنقيتهم وتطهيرهم.

ولكن في الواقع اظهرت حملة الشغب الانتخابية أن الديمقراطية الأمريكية في بعض نواحي النظام تعمل أفضل مما كان متوقعًا. وأياً كان قد يفكر الاشخاص في اختياراتهم، فبعد توافد الناخبين لصناديق الاقتراع في الدولة، انتزعت الدولة السيطرة على السرد السياسي من جماعات المصالح المنظمة والأوليغارتش. وجيب بوش -ابن الرئيس وأخوه الذي كان الخيار الحتمي للجمهوريين يومًا ما-انسحب من السباق الرئاسي بشكل مخزٍ بعد أن جمع ما يزيد على 130 مليون دولار بالتعاون مع حملته الانتخابية. وفي الوقت نفسه كان ساندرز يحد من تبرعاته القليلة لنفسه ويتعهد بإضعاف النخبة المالية التي تدعم خصمه، فقد أثار بوش أكثر مما وصلت إليه كلينتون من مكانه طوال الوقت.

القصة الحقيقية لهذه الانتخابات أنه بعد عدة عقود تستجيب الديمقراطية أخيرًا لظهور التفاوت الطبقي والركود الاقتصادي الذي عانى منه معظم السكان. والآن عادة الطبقة الاجتماعية والانقسامات الأخرى المختلفة إلى قلب السياسة الأمريكية -الجنس والانتماء العرقي والتوجه الجنسي والتقسيم الجغرافي-جميعها كانت تسود على مناظرات الانتخابات الأخيرة.

تنمو الفجوة بين ثروات النخب وتلك التي ينتمي إليها بقية الجمهور منذ جيلين، ولكن الآن تأتي فقط للسيطرة على السياسة الوطنية. وما يحتاج حقًا لشرحه هو لماذا لم يتمكن الشعبيّون من تحقيق المكاسب في هذه الدورة، ولماذا استغرقوا وقتًا طويلًا للقيام بها. وعلى الرغم من ذلك، من الجيد معرفة أن النظام السياسي للولايات المتحدة أقل تحجرًا وأقل انصياغاً للنخب مما هو مفترض، فاصطياد الصليبيين الشيوعيين للحل زائف وغير مفيد تمامًا، وإذا اصطادوا فإنها تخنق النمو وتفاقم الشعور وتجعل الوضع أسوأ لا أفضل. وحتى الآن مذهولة النخب من متعجرفي الرضا لكن حان الوقت لإيجاد حلول أكثر عملية للمشاكل التي لم يعد من الممكن إنكارها أو تجاهلها.

 

 

المبادىء الإجتماعية للشعوبية

في السنوات الأخيرة، قد أصبح من الصعب إنكار ركود الدخل لمعظم مواطني الولايات المتحدة حتى كنخب قد أنجزوا أفضل ما لديهم من أي وقت، فأحدث ذلك ارتفاع في التفاوت الطبقي في جميع فئات المجتمع الأمريكي. ومن الحقائق المؤكدة، الزيادة الهائلة في حصة الثروة الوطنية التي أخذت نسبة واحد في المئة والأعلى ولكن في الواقع الأعلى 0,1 في المئة وهي زيادة غير معقولة. وما هو جديد في هذه الدورة السياسية بدأ الانتباه للتحول من تجاوزات الأوليغاركيي إلى الظروف الصعبة من أولئك الذين تركوا وراءهم.

ونُشر في كتابين حديثين-كتاب أطفالنا لربورت باتنم وكتاب يتمزق لتشارليزميراي -الواقع الاجتماعي الجديد بتفاصيل مؤلمة. موراي وبتنام نقيضا الطرف في الطيف السياسي فأحدهما محافظ والآخر ليبرالي ولكن الحقائق التي يخبرون عنها فعلياً متطابقة. حيث انخفض دخل الطبقة العاملة أكثر من الجيل الماضي، فمعظم الرجال أصحاب البشرة البيضاء لديهم الشهادة الثانوية العامة أو المرحلة الأدنى منها، ولهذه المجموعة معنى حقيقي مع شعار ترمب “سأجعل أمريكا عظيمة مرةً أخرى”. ولكنهم يعانون من أمراض بالغه حيث تُظهر بياناتهم في الجرائم، وتعاطي المخدرات، والأسر ذات العائل الواحد.

 

 

 لوسي نيكولسون / رويترز

داعمي ساندرز في كاليفورنيا، تجمع كارسون، مايو 2016

 

 في الثمانينات، كانت هناك محادثة وطنية واسعة حول ظهور الطبقة الأفريقية الأمريكية – وهي كتلة من العمالة العاطلة عن العمل والغير ماهرة فيه التي بدت مظاهر الفقر تتكرر فيها ذاتياً لأنه أدى إلى تحطم الأسر التي لم تتمكن من نقل أنواع الأعراف الاجتماعية وسلوكياتها المطلوبة للتنافس في سوق العمل. والطبقة العاملة البيضاء اليوم هي في نفس الموقف فعلياً كما ظهرت عليه الطبقة الدنيئة السوداء في المجتمع حين ذاك.

وسبقت المرحلة الابتدائية في نيوهامبشير-وهي ولاية للبيض والريفين كما في أي دولة –تفاجئ العديد من الأمريكيين لمعرفتهم أن أهم شواغل الناخبين هناك إدمان الهيروين. في الواقع، أصبح إدمان الأفيونيات والميثامفيتامين كالوباء في المجتمعات البيضاء الريفية في عدة ولايات مثل إنديانا وكنتاكي، كما كان عليه إدمان الكراك في المدن الداخلية منذ جيل. وأظهرت دراسة حديثة أجراها الاقتصاديان آن كيس وأنجوس ديتون أن معدلات وفيات الرجال البيض في منتصف العمر-من غير الإسبانيين البيض-ارتفع بين عامي 1999 و2013 في الولايات المتحدة، وبينما انخفض معدل الوفيات فعلياً في الجماعات السكانية الأخرى، وفي كل الدول الغنية. وظهر أن أسباب هذه الزيادة هي الانتحار والمخدرات والكحول -ما يقرب من نصف مليون حالة وفاة زائدة عما كان متوقعاً، كما ارتفعت معدلات الجريمة لهذه الفئة. تستجيب الديمقراطية الأمريكية أخيرا للركود الاقتصادي لمعظم السكان.

ولكن يزداد هذا الواقع الكئيب، فقد سجلوا مع النخب الأميركية بصعوبة -ليس لأنها الأدنى خلال هذه الفترة، بل كانوا أنفسهم على ما يرام.  وقد شهد الأشخاص الذين لديهم تعليم جامعي أو أعلى على ارتفاع ثرواتهم على مر العقود الماضية.  وانخفضت معدلات الطلاق والأسر ذات العائل الواحد بين هذه المجموعة، كما تراجعت بشكل مطرد الجرائم في الأحياء الغنية، وتم اصلاح المدن لسكان المدن من الشباب، وعززت تقنيات مثل: الإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعية، التي دعمت الثقة الاجتماعية ونماذج جديدة من المشاركة المجتمعية. حتى صار الإفراط في التدليل والحماية المشكلة الكبرى لأبناء هذه المجموعة، وليس الإهمال.

 

فشل السياسة

نظرًا لضخامة التحول الاجتماعي الذي حدث، فالسؤال الحقيقي ليس لماذا الولايات المتحدة لديها شعوبية في عام 2016 ولكن هو لماذا لم يحدث الانفجار قبل ذلك بكثير.  وهنا كانت المشكلة ففي الواقع احتجاج المؤسسات الأمريكية إذا لم يخدم الحزب السياسي للمجموعة المتدنية جيداً.

وفي العقود الأخيرة، تحالف الحزب الجمهوري المضطرب من رجال أعمال النخب الذين يوفرون المال مع المحافظين الاجتماعيين الذين يمثلون أصوات الناخبين الرئيسيين. وتمثل صفحة التحرير من مجلة ويل سترييت نخب رجال الأعمال والدعاة الرئيسيين لليبرالية الاقتصادية: الأسواق الحرة والتجارة الحرة، وفتح ابواب الهجرة. وكان الجمهوريون من قدموا الأصوات لتمرير التشريعات التجارية مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية وهيئة ترويج التجارة (المعروفة أكثر باسم “المسار السريع”). ومن الواضح انهم يستفيدون من رجال الأعمال في إستيراد العمالة الأجنبية والماهرة والغير ماهرة والنظام التجاري العالمي الذي يسمح لهم بالتصدير والاستثمار في جميع أنحاء العالم. وضغط الجمهوريون لتفكيك النظام المصرفي في حقبة الكساد الذي وضع الأساس لانهيار الرهن العقاري ونتاج الأزمة المالية في 2008. والتزموا ايدلوجيًا بخفض الضرائب على الأثرياء الأمريكيين، وإضعاف قوة النقابات العمالية والتقليل من الخدمات الاجتماعية التي تفيد الفقراء.

حيث يتعارض جدول الأعمال هذا مباشرة مع مصالح الطبقة العاملة. ومن أسباب انخفاض الطبقة العاملة: التعقيد، حيث يتعين عليها أن تفعل الكثير مع التغيير التكنولوجي كما هو الحال مع العوامل التي تطرقها السياسة العامة. وحتى الآن، لا ينكر أن قبل التحول السوقي الذي روجت له نخب الجمهوريين في العقود الأخيرة قد بَذل ضغطا منحدراً على دخل الطبقة العاملة وذلك من خلال تعريض العمالة للمنافسة تكنولوجية وعالمية قاسية، وبتقليل مختلف أشكال الحماية والمزايا الاجتماعية التي أهملتها الصفقة الجديدة. (بذلت دولاً جهودًا كبيرة لحماية عمالتها مثل ألمانيا وهولندا، فلم تشهد زيادات مماثلة في التفاوت الطبقي).  إذاً لا ينبغي أن يستغرب من أن أكبر الصراعات العاطفية وأعظمها في هذه السنة هو الذي يحدث داخل الحزب الجمهوري، حيث أن قاعدة الطبقة العاملة تعبر عن تفضيل واضح للسياسات الاقتصادية الوطنية.

ومن جانبهم ينظرون الديمقراطيون تقليديًا إلى أنفسهم كأبطال المواطن العادي، ويمكنهم الاعتماد على القاعدة المتقلصة من أعضاء النقابات العمالية لمساعدتهم في الحصول على التصويت.  ولكنهم أيضا فشلوا في هذه الدائرة الانتخابية. منذ إعلان مبدأ بيل كلينتون ” الطريق الثالث”، تبنى النخب في الحزب الديمقراطي الجمهوري إجماعًا على الفوائد -من بعد عصر ريغان-من التجارة الحرة والهجرة. وفي التسعينات كانوا متواطئين في تفكيك النظام المصرفي وحاولوا شراء الحركة العمالية بدلاً من دعمها لمعارضات الاتفاقيات التجارية.

ولكن أهم مشكلة مع الديمقراطيين هي أن الحزب اعتنق سياسة الهوية كقيمة جوهرية. وقد فاز الحزب بالانتخابات الأخيرة من إدارة تحالف القطاعات السكنية: النساء، والأفارقة الأمريكيون، وشباب المدن، والمثليون، والبيئيون. فقدت مجموعة واحدة تماما الاتصال مع نفس الطبقة العاملة البيضاء، التي كانت حجر الأساس لائتلاف الصفقة الجديدة لفرانكلين روزفلت. وبدأت الطبقة العاملة البيضاء التصويت الجمهوري في الثمانينيات حول القضايا الثقافية مثل الوطنية وحقوق السلاح والإجهاض والدين. حيث فازت كلينتون منهم في التسعينات لتكون منتخبه مرتين (مع الأغلبية النسبية في كل مرة) ولكن منذ ذلك الحين كان لديهم ثقة عالية في الدائرة الانتخابية للحزب الجمهوري، وعلى الرغم من حقيقية أن السياسيات الاقتصادية الجمهورية للنخب تتعارض مع مصالحهم الاقتصادية. ولهذا السبب، أجرت جامعة كوينيبياك استطلاع رأي في ابريل، قال 80 في المئة من مؤيدي ترمب أنهم يشعرون بأن “الحكومة ذهبت بعيدًا عن مساعدة الجماعات الأقلية”، و85 في المئة أتفق على أن ” أمريكا فقدت هويتها “.

يوضح تثبيت الديمقراطيين بالهوية أحد الأسرار العظيمة للسياسة الأمريكية المعاصرة– لماذا الأبيض الريفي من الطبقة العاملة خاصةً في الولايات الجنوبية ذات الخدمات الإجتماعية المحدودة توافدوا إلى شعار الجمهوريين حتى رغم أنهم كانوا من أكبر المستفيدين من معارضة البرنامج الجمهوري مثل قانون الرعاية الصحية لأوباما بأسعار معقولة. أحد الاسباب أنهم أدركوا أن اوباما كير صمم لصالح اشخاص غيرهم—لأن في جزء منه فقد الديمقراطيون القدرة على التحدث لبعض الناخبين (وعلى عكس من ذلك في الثلاثينات، عندما كان البيض في المناطق الريفية الجنوبية من الداعمين الرئيسيين لمبادرات الدولة للرعاية الإجتماعية مثل سلطة وادي تينيسي).

 

نهاية الحقبة؟

إن تصريحات ترمب السياسية مشوشة ومتناقضة، كما أنها تأتي من مناور إعلامية نرجسية بدون إيديولوجية واضحة. ولكن الفكرة الشائعة التي جعلته جذابًا لكثير من الناخبين الجمهوريين الرئيسيين هي أنه يشترك إلى حد ما مع ساندرز: حيث وضع جدول أعمال وطني إقتصادي يهدف إلى استعادة وظائف العمال الأمريكيين وحمايتهم. وهذا يشرح معارضته للهجرة -ليست الهجرة القانونية فقط ولكن أيضاً العمالة الماهرة القادمة على تأشيرات اتش ون بي-وإدانته للشركات الأمريكية التي تنقل النباتات إلى خارج البلاد للإنقاذ من التكاليف العمالية. ولم ينتقد الصين لتلاعبها بالعملة فقط، بل أيضًا الدول الصديقة مثل اليابان وكوريا الجنوبية لتقويضهم قاعدة التصنيع للولايات المتحدة. وبالطبع هو متوقف عن العديد من التجارات الليبرالية مثل الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ في آسيا والشراكة التجارية والاستثمار عبر المحيط الأطلسي في أوروبا.

وكل هذه الأصوات هرطقة كليه لأي شخص اتخذ دور أساسي على مستوى الكلية في نظرية التجارة، حيث أن النماذج من ريكاردغان أفضل مقارنةً بنظرية نسب عوامل الإنتاج لهكشر-اولين الذي يخبرك بأن التجارة الحرة هي فوز للشركاء التجاريين وزيادة الدخل الكلي لكل الدول. وفي الواقع انفجر الناتج العالمي على مدى الجيلين الماضيين، حيث تم تحرير التجارة والاستثمار العالمي تحت إطار واسع من الاتفاق العام على التجارة والتعريفة الجمركية ومن ثم منظمة التجارة العالمية، وهو ما زاد أربعة أضعاف بين عامي 1970 و2008. وكانت مسؤولية العولمة إخراج مئات ملايين الأشخاص من الفقر في دولهم مثل الهند والصين، وإنتاج كميات من الثروة المبهمة للولايات المتحدة.

لكن هذا الإجماع في الآراء حول فوائد التحرير الليبرالي الاقتصادي، التي قسمتها النخب في كل الأحزاب السياسية، ليست محصنة من الإنتقادات. ودمج جميع النماذج التجارية المتوفرة وهو نتيجة لتحرير التجارة، بينما رفع الدخل الكلي سيكون له عواقب وخيمة، أي أنه سينتج فائزين وخاسرين. قدرت إحدى الدراسات الحديثة أن أهمية المنافسة من الصين كانت مسؤولة عن فقدان ما بين 2 مليون إلى 2.4 مليون وظيفة في الولايات المتحدة في الفترة من 1999 إلى 2011.

حيث جادل مستوى إستجابة إقتصاديين التجارة أن المكاسب التجارية كافية لأكثر من تعويض الخاسرين، وبالطريقة المثالية من خلال التدريب على العمل الذي سيزودهم بمهارات جديدة. وبالتالي، قد رافق كل جزء رئيسي من التشريعات التجارة بجمهور قياسي من إعادة تدريب العمالة إضافة إلى إدخال تعديلات تدريجية على القواعد الجديدة للسماح للعمالة بوقتٍ للتكيف.

لكن عملياً فشل تجسيد هذه التسوية. قد أدارة حكومة الولايات المتحدة الغير الإتحادية ” الفيدرالية” 47 برنامج لإعادة التدريب الوظيفي (منذ توحيدها حوالي الاثني عشر) بالإضافة إلى عدد لا يحصى من تلك التي على مستوى الدولة.  وقد فشلت جميعها لنقل أعداد كبيرة من العمالة إلى مواضع ذات مهارات أعلى. وهذا فشل جزئي من التنفيذ، وأيضاً يعد فشل في الفكرة أو المفهوم: حيث أنه ليس واضحًا ما نوع التدريب الذي يمكن فيه تحويل 55 عامًا من عمالة خط المجلس إلى مبرمج حاسب آلي أو مصمم موقع عبر الأنترنت. كما أن نظرية التجارة المعيارية لا تأخذ بعين الاعتبار الاقتصاد السياسي للإستثمار. وقد كان دائماً يتمتع رأس المال بمزايا العمل الجماعي على عنصر العمل، لأنه أكثر تركيزاً وأسهل للتنسيق.وكانت هذه إحدى الحجج الأولى المؤيدة للحركة النقابية، التي تآكلت بشدة في الولايات المتحدة منذ الثمانينات، وزادت فقط امتيازات مزايا الرأس مالية مع درجة عالية من النهوض في عالم اليوم المعولم.

وأصبح العمل أكثر قدرة على الحركة، ولكنه أكثر تقييدًا حيث تقوض بسرعه مزايا المفاوضة النقابية من أصحاب العمل الذين يمكنهم أن يهددوا للانتقال ليس فقط لولاية يطبق فيها قانون الحق في العمل ولكن أيضًا للإنتقال لدولة مختلفة تماما. ولن يكون النظام السياسي الأمريكي ثابتاً ما لم يرتبط الغضب الشعبي بسياسات جيدة.

واختلافات تكلفة العمل بين الولايات المتحدة والدول المتقدمة كبير جدًا، والذي من الصعب تصور ما نوع السياسات التي يمكن أن تحمي في نهاية المطاف كتلة الوظائف ذات المهارات المتدنية. ربما لا يعتقد ترمب أن الأحذية والقمصان يجب أن تبقى تصنع في أمريكا. حيث أن كل دولة صناعية في العالم، بما في ذلك تلك التي تعد أكثر التزاما لحماية قواعدها التصنيعية مثل ألمانيا واليابان، قد شهدت انخفاضًا في الحصة النسبية للصناعات خلال العقود القليلة الماضية. وبدأت حتى الصين تفقد وظائفها للتشغيل الآلي وللمنتجين الأقل تكلفة في أماكن مثل: بنغلاديش وفيتنام.

ومع ذلك، تشير تجربة دولة مثل ألمانيا إلى أن الطريق الذي تتبعه الولايات المتحدة ليس حتميًا.لم تسعى نخب رجال الأعمال الألمان لتقويض القوة من نقابات العمالية. وحتى يومنا هذا، تتحدد الأجور عبر الاقتصاد الألماني من خلال مفاوضات ترعاها الحكومة بين أصحاب العمل والنقابات.

ونتيجة لذلك، فإن تكاليف العمالة الألمانية هي أعلى بنحو 25 في المئة من نظرائهم الأمريكيين. ومع ذلك تبقى ألمانيا ثالث أكبر دولة مصدرة في العالم، وحيث تبقى حصة العمالة الصناعية في ألمانيا على الرغم من انخفاضها، أعلى من الولايات المتحدة. وخلافاً على ذلك الفرنسيين والإيطاليين، فلم يسعى الألمان إلى حماية الوظائف القائمة من خلال قوانين العمل؛ لأنه تحت اصلاحات المستشار غيرهارد شرودر في جدول أعمال عام 2010، حيث أصبح من السهل تسريح العمال الزائديين عن الحاجة. ومع ذلك، قد استثمرت البلاد بكثافة في تحسين مهارات الطبقة العاملة من خلال برنامجها التدريب المهني وغيرها من التدخلات النشطة في سوق العمل. وسعى الألمان أيضًا إلى زيادة حماية المعروض في البلاد عبر الاستعانة بمصادر خارجية غير محدودة، وربط الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، بأصحاب الشركات الكبيرة.

وفي النقيض في الولايات المتحدة، وصف المثقفون المعروفين والاقتصاديين التحول من الاقتصاد الصناعي إلى تأسيس خدمات لما بعد الإقتصاد الصناعي كأمر حتمي، حتى يكون شيء مرحب به وعاجل. ومثلما هو الحال بالنسبة لصانعي العربات التي تجرها الدواب من العمال القدامى والمفترضين، فإن العاملين في الصناعات التحويلية سيعيدون تأهيل أنفسهم، ليصبحوا عمال معروفين في اقتصادٍ جديدٍ ومرن، ويستعينون بمصادر خارجية، وجزء من الوقت، حيث ستكسبهم المهارات الجديدة أجوراً أعلى. وعلى الرغم من الإيماءات الواسعة، لم يأخذ أي حزب سياسي جدول أعمال إعادة التدويرعلى محمل الجد، باعتباره محور عملية التكيف الضرورية، كما أنها لم تستثمر في تصميم البرامج الاجتماعية لتخفيف الطبقة العاملة في محاولة لتعديلها وهكذا كان العمال البيض، مثل الأفارقة الأمريكيين في العقود السابقة، من تلقاء أنفسهم.

 

 جيم يانغ / رويترز

يصل الناخب لجمع أصواتهم في الإتخابات الرئاسية في ويسكونسن، ولاية ويسكونسن، في مركز التصويت في ميلووكي، أبريل 2016، كان من الممكن أن يكون العقد الأول من القرن الماضي مختلفا جداً. حيث لا يتلاعب الصينيون اليوم بالعملة لتعزيز الصادرات، فقد كانوا يحاولون مؤخراً دعم قيمة اليوان من أجل منع هروب رؤوس الأموال. ولكنهم كانوا بالتأكيد يتلاعبون بعملتهم في السنوات التي تبعت الأزمة المالية الآسيوية في عامي 1997 و1998 وفقاعة دوت كوم 2000-2001. كان من الممكن تماما لواشنطن أن تهدد أو فرضت بالفعل رسوم جمركية على الواردات الصينية ردًا على ذلك. وينبغي أن يشتمل ذلك على مخاطر: إزدياد اسعار المستهلك، وإرتفاع أسعار الفائدة، فكان رد الصينيون بعدم شراء دين الولايات المتحدة. لكن لم تأخذ النخب الأمريكية هذه الإمكانية على محمل الجد، خوفا من أن تبدأ في الانزلاق على المنحدر الزلق من سياسة الحماية الإقتصادية. ونتيجة لذلك، فقدت أكثر من مليوني وظيفة في العقد الذي تلاه.

 

الطريق إلى الأمام؟

قد يكون ترمب معقودًا على شيءٍ حقيقيًا في المجتمع الأمريكي لكنه وحده أداة غير مناسبة للاستفادة من لحظة الإصلاح التي تمثلها هذه الثورة الإنتخابية. لا يمكنك إلغاء 50 عامًا من التجارة الليبرالية بفرض رسوم جمركية من جانب واحد أو تقديم لائحة اتهامات جنائية لشركات أمريكية متعددة الجنسيات لإستعانتها بمصادر خارجية. عند هذه النقطة، يرتبط اقتصاد الولايات المتحدة إرتباطا وثيقًا مع إقتصاد باقي العالم وأن مخاطر التراجع العالمي كلها حقيقية. ومقترحات ترمب لإلغاء برنامج أوباما للرعاية الصحية وحرمان للملايين من الطبقة العاملة الامريكية من التأمين الصحي، واقتراحه لخفض الضريبة سيؤدي إلى إضافة أكثر من 10 تريليون دولار إلى العجز خلال العقد القادم مع إستفادة الأغنياء من ذلك فقط. وبحاجة الدولة إلى قيادة قوية، ولكن من مُصلح أساسي قادرعلى جعل الحكومة فعالة حقاً، وليس من ديماغوجي شخصي يرغب في الاستهانة بالقواعد الأساسية.

ومع ذلك، إذ أكدت النخب عن قلقها الحقيقي عن التفاوت الطبقي، والطبقة العاملة المتدهورة، فتحتاج إلى إعادة النظر في بعض مواقفها طويلة الأمد في الهجرة والتجارة والإستثمار. ويتمثل التحدي الفكري في معرفة ما إذا كان من الممكن التراجع عن العولمة دون إحداث فجوه في الاقتصاد الوطني والاقتصاد العالمي على السواء، بهدف تداول دخل وطني إجمالي قليل لزيادة المساواة في الدخل المحلي.

ومن الواضح أن بعض التغييرات تكون أكثر قابلية للتطبيق من غيرها، مع وجود الهجرة في مقدمة القائمة القابلة للتطبيق نظريًا. لقد كان الإصلاح الشامل للهجرة في الأعمال منذ أكثر من عقد من الزمن، والآن قد فشل لسببين. الأول: عارض المعارضون ” العفو العام” أي إعطاء المهاجرين الحاليين غير حاملي للوثائق اللازمة طريقاً للتابعية الوطنية. ولكن السبب الثاني يتعلق بالتطبيق: يشير النقاد إلى أن القوانين الموجودة لا تنفذ، وأن الوعود السابقة بإنفاذها لم يتم الاحتفاظ بها.

وإن فكرة الحكومة في ترحيل 11 مليون شخص من البلاد، حيث الكثير منهم معهم أطفالهم الذين هم من مواطني الولايات المتحدة، تبدو غير معقوله إلى حد كبير. لذا يبدو أن العفو العام أمر حتمي. ولكن كان منتقدي الهجرة على حق في أن الولايات المتحدة كانت ضعيفة جداً في التنفيذ. إن القيام بذلك بصورة صحيحة لن يتطلب وجود جدار ولكن شيئا كبطاقة الهوية الوطنية، والاستثمارات الثقيلة في المحاكم والشرط، وقبل كل شيء، الإرادة السياسية لمعاقبة أصحاب العمل الذين يتجاوزون القوانين. الانتقال إلى سياسة أكثر تقييداً على الهجرة القانونية، حيث يتم تبادل بعض أشكال العفو عن المهاجرين الحاليين لجهود حقيقية لتطبيق قوانين جديدة وصارمة، لن تكون كارثة اقتصادية. حيث فعلت ذلك البلاد من قبل، ففي عام 1924 مُهد الطريق في نواحي معينة للعصر الذهبي للمساواة في الولايات المتحدة في عامي 1950 و1940.

وانه من الصعب أن نرى تقدم في التجارة والإستثمار بدون التصديق على الصفقات القائمة مثل الشراكة عبر المحيط الهادئ -التي لن تكون بالغة الخطورة.  يزداد العالم ازدحامًا بالقوميين الاقتصاديين، وانعكاسات الدورة التي قامت بها واشنطن -التي بنت النظام الدولي الليبرالي الحالي ودعمته -يمكن أن تؤدي إلى موجة مد من الأعمال الانتقامية. وربما يكون هناك مكان واحد للبدء به، هو إيجاد وسيلة لإقناع الشركات الأمريكية المتعددة الجنسيات، والتي لديها حائط أكثر من 2تريليون دولار نقدًا خارج الولايات المتحدة، لجلب أموالهم للوطن للاستثمار المحلي. وتعتبر معدلات الضرائب على الشركات في الولايات المتحدة من بين أعلى المعدلات في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي؛ لأن تقليصها بشكل حاد في حين القضاء على عدد لا يحصى من الإعانات الضريبية والإعفاءات التي تفاوض الشركات لنفسها هي السياسة التي يمكن أن تجد الدعم في كلا الطرفين.

وستكون هناك مبادرة أخرى وهي حملة ضخمة لإعادة بناء البنية التحتية الأمريكية. وتقدر الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين أنها ستحتاج إلى 3.6 تريليون دولار لتحسين البنية التحتية للبلد على نحو كاف بحلول عام 2020. ويمكن أن تقترض الولايات المتحدة 1 تريليون دولار بينما تستخدم أسعار الفائدة وتخفضها لتمويل مبادرة ضخمة للبنية التحتية التي ستنشأ أعدادًا كبيرة من الوظائف مع رفع الإنتاجية الأمريكية على المدى الطويل. اقترحت هيلاري كلينتون إنفاق 275 مليار دولار، ولكن هذا العدد بسيط جدًا.

ولكن ستصطدم المحاولات لتحقيق أي من الهدفين بالإختلالات الوظيفية الأكثر روتينًا في النظام السياسي الأمريكي، عندما تمنع الفيتوقراطية الإصلاح الضريبي أو الإستثمار في البنية التحتية. ويجعل النظام الأمريكي من السهل للغاية بالنسبة لجماعات المصالح المنظمة تنظيمًا جيدًا عرقلة أي تشريع و “الاستيلاء” على أي مبادرات جديدة لخدمة مصالحها الخاصة. لذا تحديد النظام للتقليص من نقاط النقض وتبسيط صنع القرار يجب أن يكون جزءًا من جدول أعمال الإصلاح نفسه. وينبغي أن تشمل التغييرات اللازمة إلغاء الحزبين في مجلس الشيوخ والاستخدام الروتيني للأساليب التعويقية والعرقلة البرلمانية وتفويض الميزانية وصياغة تشريع معقد لمجموعات أصغر وأكثر خبرة يمكن أن تقدم رزم متماسكة إلى الكونغرس من أجل رفع التصويت أو خفضه.

هذا هو السبب فقد يشير الظهور الغير متوقع من ترمب وساندرز إلى فرصة كبيرة. وعلى جميع أخطاءه، فقد كسر ترمب مع الأرثوذكسية الجمهوريية التي سادت منذ رونالد ريغان، ضريبة منخفضة وشبكة الامان صغيرة الأرثوذكسية التي تفيد الشركات أكثر بكثير من عمالهم.كما كان متأهب ساندرز لرد الحركة الإرتجاعية من الشمال الذي كان مفقودًا بشكل واضح منذ عام 2008.

 

“الشعوبية” هي التسمية التي تعلقها النخب السياسية على السياسات التي يدعمها المواطنين العاديين الذين لا يحبونهم.

ولا يوجد بالطبع أي سبب، وينبغي للناخبين الديمقراطيين الأختيار بحكمة، خاصةً في عصر العولمة الذي يجعل خيارات السياسة معقدة جدًا. ولكن لا تختار النخب دائماً بشكل صحيح، وفصلها من الخيار الشعبي غالبًا ما يخفي الوضوح في مواقفهم. ولا تعتبر التعبئة الشعبية سيئة بطبيعتها ولا جيدة في حد ذاتها. بل أنها من الممكن أن تحقق أشياء عظيمة، مثلما حدث خلال الحقبة التقدمية والصفقة الجديدة، كما قد تسفر عن أمور مفزعه، كما حدث في أوروبا خلال الثلاثينيات. وفي الواقع قد عانى النظام السياسي الأمريكي من تدهور شديد، ولن يتحدد ما لم يرتبط الغضب الشعبي بالقيادة الحكيمة والسياسات الجيدة، إن لم يفت الوقت بعد لتحقيق ذلك.

المصدر: http://hekmah.org/%D8%AA%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D8%B6%D9%85%D8%A...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك