التسامح.... غاب عنا من زمان

التسامح.... غاب عنا من زمان

رشيد الفهد

التسامح ثقافة غابت عن المجتمع العراقي ومن يؤكد عكس ذلك انما يحاول الإشارة إلى وجودها المحدود الذي كان في أوقات سابقة.

عدم التسامح كونه نهج شعبوي ورسمي هابط جاء موروثا بفعل مزج الدين بالتاريخ، وهذا المزج لا يزال قائما في العقل العراقي حتى الساعة بالرغم من مرور مئات السنين على ذلك، حتى أضحى الدين بالنسبة لنا هو التاريخ والتاريخ هو الدين، والتاريخ على اثر ذلك صار هو الآخر مقدسا، الأمر الذي يفسر عدم تقبل هذا العقل إلى أية خلخلة في المسلمات المقدسة الموروثة منها وحتى غير المورثة أو مجرد التشكيك بها أو أية محاولة لإعادة النظر فيها.
وإذا عرفنا أن التاريخ الإسلامي هو تاريخ ثار وانتقام وحروب وصراعات مريرة للسيطرة على مراكز النفوذ وطبعا كلها تتقاطع مع روح التسامح، وإذا عرفنا أيضا أن كل هذا المسلسل الدامي جرى وفق تبريرات دينية باتت اليوم نصوص مقدسة أطلقها المقربون من أطراف الصراع لأدركنا حجم المعضلات في طريق إشاعة ثقافة التسامح وترسيخها نهجا مألوفا في المجتمع ولأدركنا أيضا حجم المتاعب التي يمكن أن تواجه المتنورين أصحاب الفلسفة التفكيكية الداعين إلى التسامح.
اعتاد العقل العراقي على اخذ المعلومة من مصدر واحد والتسليم بها فورا تحت فرضية (ذبها براس عالم) وعدم التشكيك بها أو اللجوء إلى مصادر أخرى لإثبات صحتها،لا احتاج هنا إلا إلى (عالم) يدلني على عدو الله لأرهبه، أما أن اذهب إلى عدد من العلماء المختلفين بغية التأكد من ذلك هذا أمر بالنسبة للعراقي غير مقبول.
لذا فان عدم الاعتراف بالغير او القبول بفكرته ومصادره يعد سدا منيعا أمام التسامح مع أننا سبقنا الفرنسيين في نهج تفكيك المعلومة الموروثة والتشكيك بها وصولا إلى الحقيقة،كان هذا على يد الإمام الغزالي صاحب الفلسفة التشكيكية قبل( دريدا) بمئات القرون لكن السلاطين لم يسمحوا بازدهار هذه الفلسفة ،قتلوها وهي في مهدها.
هذا الدكتور( مصطفى بوهنيدي) أستاذ الأديان بجامعة الدار البيضاء لاذ بروحه العزيزة إلى مكان غير مسمى بسبب كتابه(أكثر أبو هريرة) قال فيه استنادا إلى تسعة مصادر أن أبا هريرة لم يكن صحابيا وانه اسلم في عهد عمر،والمسكين (بو هنيدي) وضع بريده الالكتروني ورقم هاتفه على غلاف الكتاب ،كان يتوقع أن تصل إليه أراء وأفكار وحوارات من القراء ،إلا أن ما وصلت إليه كانت فتوى بقتله.
وهذا صاحبي( جمال علي الحلاق) فر إلى جهة مجهولة بسبب كتابه(مسلمة الحنيفي:قراءة في تاريخ محرم) فند فيه المزاعم الدائرة حول مسيلمة الكذاب استنادا إلى مائة مصدر وانه بحسب اعتقاده كان نبيا من أهل اليمامة دعا إلى التوحيد قبل دعوة محمد.
إضافة إلى خلط الدين بالتاريخ فان خلو العراق كسائر البلدان الإسلامية من الطبقة الرأسمالية يعد سببا آخر لبقاء اللا تسامح نهجا راسخا،هذه الطبقة لها استعداد لإزالة كل العقبات أمام وجود و تنامي رأس المال بما فيها الميثولوجيا على اختلاف أشكالها،كان التضييق على الكنيسة وترويغها و تحجيمها أولى الخطوات أمام انطلاق رأس المال في أوربا،هذه الطبقة صنعت بدورها طبقة سياسية كانت الساندة بالنسبة لها،أما أثرياء العراق لم يصنعوا لهم ساسه،بل أنهم تلقوا ضربات موجعة على يد الحكام، هذا على الأقل إذا تحدثنا في إطار تاريخ العراق الحديث،كانت أقسى الضربات تلك التي وجهت للعراقيين اليهود مع أن حجم رأسمال الذي كان بحوزتهم يعد صغيرا بالقياس إلى ما هو موجود في أوربا، وقبل اليهود كان المالكون للمقاطعات ضحية الاحتلال البريطاني بعد أن صادر أراضيهم تحت تهمة موالاتهم للعثمانيين.
والسبب الأخير في عدم إشاعة التسامح يرجع إلى طبيعة الطبقات السياسية التي حكمت البلاد، في التاريخ الحديث كانت أولى هذه الطبقات هي تلك التي حكمت البلاد حكما ملكيا،كانت غير عراقية جيء بها من الصحراء،والثقافة بالصحراء لا تقبل التسامح أبدا،ثقافة تقوم على الإقصاء والعدوانية،والطبقة الثانية كانت من العسكر حكموا البلاد بعد الإطاحة بالصحراويين وأعوانهم بقايا رجالات الدولة العثمانية، والعسكرتارية لا تقبل التسامح بحكم طبيعتها الراديكالية .ثم جاءت طبقة سياسيه من القومجيين راحت تمجد السلاطين حتى نصبوا لهم التماثيل مع أنهم كانوا رموزا للإقصاء وأعداءا للتسامح ورموزا إجرامية، هؤلاء القومجيين العرب أرادوا أن يتخذوا من حديث الملوك والخلفاء والأحاديث والروايات الدائرة حولهم ومن سيرهم ايديولوجيا لنظام حكمهم فجاء اللا تسامح من رحم هذه الايديولوجيا. وأخيرا طبقة سياسية تنتمي إلى الإسلام السياسي تحكم البلاد حاليا أبناءها غير متسامحين فيما بينهم فكيف إذا أريد لهم أن يكونوا متسامحين مع غيرهم.
الطبقات السياسية التي حكمت البلاد منذ إعلان الدولة العراقية أوائل القرن الماضي بغض النظر عن اتجاهاتها ومسمياتها لم تكن تؤمن بالحريات في حين أن إطلاقها سيما حرية التعبير يعد مناخا مناسبا للتعايش السلمي والقبول بالغير والتسامح.
من خلال هذا البحث المتواضع يتضح تماما أن ثمة أسباب فكرية واقتصادية وسياسية لعدم شيوع التسامح في المجتمع العراقي ولا يمكن النظر إليها إلا باعتبارها منظومة واحدة غير قابلة للتجزئة.
المصدر: http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=1...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك