التسامـــح الصــــوفي والطـــــــرقي بالمغرب

التسامـــح الصــــوفي والطـــــــرقي بالمغرب

د. جميل حمداوي
توطئة: إذا كان الشرق يعرف بكثرة الرسل والأنبياء، فإن المغرب يعرف بكثرة الأولياء والعباد والزهاد والصلحاء والمتصوفة، فضلا عن انتشار الزوايا والرباطات والمدارس الطرقية في

ربوع البلاد وتخومها الشاسعة منذ القرن الخامس الهجري، والتي ساهمت فعلا في تثبيت الأمن الداخلي والخارجي، ونشر الإسلام، وتوفير الاستقرار المجتمعي، والحفاظ على التصوف السني كما ورد عن الإمام القاسم الجنيد، وتحقيق التضامن والتعاون والتكافل الاجتماعي، والجهاد بالنفس والنفيس في سبيل وحدة الوطن وسيادته وحريته، ومواجهة الغزاة الطامعين والأعداء الألدة، والحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى البذل والعطاء والكرم والجود، وخاصة في مواسم القحط والجفاف والكوارث الطبيعية. كما ساهم التصوف السني والزوايا الطرقية بالمغرب في انتشار فكرة التسامح بين العقائد والأديان، والتعايش بين الأنا والآخر.
إذاً، ماهو المقصود من التسامح الصوفي ؟ وكيف تبلور هذا التسامح تاريخيا وواقعيا وميدانيا مشرقا ومغربا؟ وماهي أهم تجليات هذا التسامح بالمغرب تصوفا وطريقة وعرفانا ؟ هذا ما سنتطرق إليه في موضوعنا المتواضع هذا.

 مفـــهوم التسامــح الصـــوفي:
تشتق كلمة التسامح باعتبارها مصدرا من الفعل الخماسي الزائد تسامح، والذي بدوره مشتق من الفعل الثلاثي المجرد سمح. وسمح سماحة وسموحا في معجم:" لسان العرب" لابن منظور بمعنى الجود والكرم والعطاء والسخاء. " وأما أسمح فإنما يقال في المتابعة والانقياد؛ ويقال: أسمحت نفسه إذا انقادت، والصحيح الأول؛ وسمح لي فلان أي أعطاني؛ وسمح لي بذلك يسمح سماحة. وأسمح وسامح: وافقني على المطلوب... والمسامحة: المساهلة. وتسامحوا: تساهلوا. وفي الحديث المشهور: السماح رباح. أي المساهلة في الاشياء تريح صاحبها. وسمح وتسمح بالتضعيف: فعل شيئا فسهل فيه... وقال ابن الأعرابي: سمح له بحاجته وأسمح أي سهل له. وفي الحديث: أن ابن عباس سئل عن رجل شرب لبنا محضا أيتوضأ؟ قال: اسمح يسمح لك؛ قال شمر: قال الأصمعي معناه سهل لك وعليك؛ قال: أسمحت: أسهلت وانقادت... وقولهم: الحنفية السمحة؛ ليس فيها ضيق ولا شدة.... وأسمحت الدابة بعد استصعاب: لانت وانقادت. ويقال: سمح البعير بعد صعوبة إذا ذل، وأسمحت قرونته لذلك الأمر إذا أطاعت وانقادت... والمسامحة: المساهلة في الطعان والضراب والعدو..."
هذا، وإذا كان التسامح في اللغة بمعنى الجود والكرم والعطاء والموافقة والتساهل واليسر والتخفيف، فإن التسامح في الاصطلاح هو نبذ التطرف والكراهية والإرهاب والصراع والعدوان، والميل إلى تقبل الآخر محبة وحوارا ومعايشة وصداقة وأخوة سواء أكان ذلك الآخر مماثلا لنا أم أجنبيا غريبا، وذلك باستخدام الحكمة والموعظة والجدال الحسن في مناظرة أهل الكتاب وغيرهم حجاجا وإقناعا وتأثيرا، إذا استوجب الأمر ذلك ردا ودفاعا ومناظرة وتعقيبا واستلزاما.
أما التسامح الصوفي في المنظور العرفاني والطرقي، فيتجاوز الدلالات الظاهرة إلى ما هو باطني جواني وأعمق إنسانية، ليقصد به الأخوة البشرية، والمحبة الكونية، والعشق الرباني، والعفو الأخلاقي، والصفح الحضاري، والإحالة على وحدة الأديان والعقائد والأوثان والأصنام، وذلك على الرغم من اختلافها من حيث الأصول والقواعد والأركان، وتباين مقاصدها الظاهرية، وتميزها على مستوى الأعراض الشكلية، إلا أن هدفها الواحد والأوحد هو عبادة الله جل شأنه، وطاعته انقيادا واستسلاما واستجابة. ويعني هذا أن التسامح الصوفي مبني على قبول الآخر مهما كانت جنسيته أو ملته أو إثنيته أو عقيدته أو لغته أو لونه أو فئته الاجتماعية أو طبقته السياسية أو طائفته المذهبية، فكل الديانات والعبادات والطقوس الشعائرية واحدة في منظور الإنسان الصوفي مادام المقصد هو عشق الذات الربانية وتحقيق المحبة الإلهية.

 بدايــــات التسامــح الصـــوفي:
انطلق التصوف العربي والإسلامي بالمشرق منذ الدعوة المحمدية في القرن الأول الهجري، وكانت هذه الدعوة أخلاقية المنزع وربانية المقصد. فبدأت هذه الدعوة المباركة بالزهد مع الرسول (صلعم) وصحابته رضوان الله عليهم، ليتحول الزهد في القرن الثالث الهجري إلى تصوف سني عملي مع كبار المتصوفة المسلمين كالحسن البصري، والقشيري، وأبي القاسم الجنيد، وأبي حامد الغزالي، والحارث المحاسبي، وأبي زيد البسطامي، وذي النون المصري، وأبي طالب المكي، وعبد القادر الجيلاني، والعز بن عبد السلام...
بيد أنه في القرن الرابع الهجري، سيظهر التصوف الفلسفي مع مجموعة من المتصوفة الذين انفتحوا على ثقافات أجنبية كالحلاج، والسهروردي، وابن عربي، وعمر الفارض، وجلال الدين الرومي، وعبد الكريم الجيلي، وابن سبعين، وابن العريف...
ومن أهم النظريات الصوفية المشهورة في الحقل العرفاني المشرقي، نذكر: الحلول، والاتحاد، ووحدة الشهود، ووحدة الوجود، والفناء، وقدم الحقيقة المحمدية، ووحدة الأديان، وفكرة الإنسان الكامل، وفكرة الإشراق، وفكرة المقامات والأحوال، وفكرة المناقب والكرامات الصوفية...
ولم ينتقل التصوف بالمشرق من الحالة الفردية (الزهد- تصوف العلماء والفقهاء) إلى الحالة الجماعية في إطار رباطات وزوايا وخوانق وتكايا إلا في أواخر القرن الثالث الهجري، فكان للقطب أو الولي أو الشيخ مريدون وأتباع ومبتدئون وأوراد وسلالة ومكان للتعبد والاعتكاف وممارسة الحضرة والجذبة الصوفية، بل كان لهم أيضا سالكون مجردون ومجذوبون يخدمون الله أولا، ويخدمون القوم ثانيا،ويراقبون أنفسهم ثالثا. ولابد أن يجتاز المريد ضمن سفره العرفاني الوجداني والحدسي مجموعة من الطرق والمقامات، وقد حددها الشيخ أبو نصر الطوسي في سبعة مقامات: التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضى. والغرض من عبور هذه المراحل والمقامات والمجاهدات الوصول إلى الذات الربانية وصلا وإشراقا وفناء وبقاء وتقربا وكشفا وجلاء. وعندما يخوض المريد غمار المجاهدة والمراقبة تنتابه أحوال نفسية، وقد حددها الطوسي أيضا في عشر أحوال، وهي: المراقبة، والقرب، والمحبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والطمأنينة، والمشاهدة، واليقين.
ومن أشهر الطرق والخوانق الصوفية في العالم الإسلامي: القادرية (عبد القادر الجيلاني)، والرفاعية (أحمد الرفاعي)، والبدوية(أحمد البدوي)، والمولوية (مولانا جلال الدين الرومي)، والشاذلية(أبو الحسن الشاذلي)، والميمونية (علي بن ميمون الحسني)، والزروقية (أحمد زروق)، وغيرها كثير.
أما إذا انتقلنا للحديث عن التسامح العرفاني في إطار التصوف الفلسفي، فلن نجده بشكل واضح إلا عند ابن عربي صاحب نظرية وحدة الوجود ووحدة الأديان والعقائد. حيث يرى ابن العربي أن الأديان والعقائد واحدة مهما اختلفت معبوداتها وصورها وأشكالها، مادام الهدف من تلك العبادات هو التقرب من الله جل جلاله. فالذي يعبد الشمس يرى الله في الشمس، والذي يعبد القمر يرى الله في القمر، ومن يعبد الأصنام والأحجار والأوثان يرى الله في كل ذلك، ومن يعبد الأحياء يرى الله في الأحياء، ومن يعبد الله فقط، فإنه يرى الله جل جلاله هو المعبود الأوحد الذي يستحق العبادة والتقديس والسجود. وبالتالي، فليس كمثله شيء. وفي هذا النطاق يقول ابن عربي:
عقـــد الخلائــق في الإلــه عقائــد
وأنـــا اعتقدت جميع ما اعتقــــدوه
علاوة على ذلك، فجميع الديانات والعقائد ولو كانت وثنية أو ملحدة، فهي واحدة عند ابن عربي من حيث الهدف، وذلك على الرغم من تنافرها، وتعدد أشكالها، واختلاف صورها على مستوى الظاهر، مادام المعبود في تلك الأديان والعقائد والشعائر على مستوى الباطن هو الله المحبوب. ومن ثم، فجميع الأديان رمز للمحبة الإلهية السرمدية. وهكذا، يكون ابن عربي من المتصوفة السباقين إلى القول بفكرة التسامح الصوفي فيما يتعلق بالأديان والعقائد، مستندا في ذلك إلى فلسفة المحبة الربانية والعشق الإلهي:
لقد صــار قلـــبي قابــلا لكل صـــورة
فمــرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيـــت لأوثـــان وكعبــــــة طائــــف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بديــــن الحب أنـــــــى توجهت
ركائبــــه فالحب ديني وإيماني

وربما يكون ابن عربي قد تأثر بالمسيحية بلا شك في قوله بالمحبة الإلهية الكونية، كما تأثر بها الحلاج في قوله بفكرة الحلول(حلول اللاهوت في الناسوت). وهذا التسامح الصوفي في الحقيقة ليس مقتصرا على ابن عربي فقط، بل نجده بشكل من الأشكال عند معظم المتصوفة الفلاسفة الذين كانوا يتغنون بالوحدة الإنسانية، ووحدة المعبود، مع تعدد الأديان والعقائد والأوثان. ومن هؤلاء الحسين بن منصور الحلاج الذي تحدث عن تحقيق الإله الإنساني في الصوفي، وتجلي الذات الربانية في أجساد البشر، وحلولها في كافة ذوات الخلق:
سبحــــان من أظهر ناسوتــه سر سنــــــــــا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقـه ظاهــــــــــرا في صورة الآكـــــل الشــارب
وهنا، يؤكد الحلاج وحدة التجلي الرباني في خلقه مهما اختلفت العقائد، وتعددت الملل والنحل، مادام الخالق هو واحد، والمعبود مشترك بين بني البشر.

 التسامـــح الصوفي السني بالمغرب:
إذا كان الشرق بلد الرسل والأنبياء كما أوردنا ذلك سالفا، فإن المغرب أرض الصلحاء والأولياء. فقد ذكر ابن الزيات في كتابه:"التشوف إلى رجال التصوف" مائتين وسبعة وسبعين (277) زاهد أو صوفي مغربي إبان العصر الوسيط. ويعني هذا أن:"أرض المغرب تنبت الأولياء كما تنبت الأرض الكلأ" . بل هناك مصادر وفهارس ترجمت لأكثر من أربعمائة (400) متصوف مغربي في العصر الوسيط كما في كتاب:"التشوف" لابن الزيات، وكتاب:" المستفاد" للتميمي، وكتاب:" المقصد الشريف " للبادسي، بله عن العديد من كتب الطبقات والتراجم التي قدمت تعاريف مقتضبة لمجموعة من الزهاد والعباد والمتصوفة المغاربة.
وإذا كان التصوف السني قد بدأ بالمشرق العربي والإسلامي منذ القرن الثالث الهجري، فإن التصوف بالمغرب قد بدأ متأخرا، وذلك في القرن الخامس الهجري مع الدولة المرابطية التي أسست مجموعة من الرباطات والزوايا والمدارس العتيقة التي كان يمارس فيها الزهد والتصوف والتعليم، وعبادة الله، ومحاسبة النفس، والاستعداد للجهاد الأصغر والأكبر.
ومن المعروف أن المغرب إلى يومنا هذا مالكي المذهب، وأشعري العقيدة، وجنيدي التصوف، وفي هذا يقول الإمام عبد الواحد بن عاشر الأندلسي الفاسي(توفي في سنة 765هـ) في منظومته المشهورة:
في عقد الأشعري وفقه مالك
وفي طريقة الجنيد السالك

والمقصود من هذا أن المغرب قد اختار دينيا طريق الاعتدال والوسطية والتصوف السني، بعيدا عن المغالاة والتطرف والتجريد الفلسفي. ويعني هذا أيضا أن التصوف المغربي لم يتجاوز سقف:"حد العبادة والزهد، وظل بمنأى عن التفلسف والصناعة اللفظية الكلامية، والشطحات والنطحات التي تعج بها بعض كتب التصوف، خاصة بعض الأشكال من التصوف المشرقي الذي كان غارقا في التجريدات الفلسفية، وإن كان من الإنصاف القول: إن هذا التصوف في مرحلته الباكرة شكل رافدا من الروافد المهمة التي ضخت في التصوف المغربي كمية كبيرة من روح الاعتدال، وزاد نموه في حضن المذهب المالكي من ترسيخ جذور هذا الاعتدال، وهو ماجعل رجاله ينأون بجلدهم عن الغلو في الفكر والسلوكات المتطرفة. وظلت هذه المزاوجة بين التصوف والفقه، في ظل بيئة سنية تحصن الفكر الصوفي المغربي ضد أي اختراق للتطرف الفكري. كما أن التصوف المغربي تجاوز قهر شهوات النفس باستثناء ما هو مفيد للرياضة الروحية أو للتعبير عن قيم التواضع، لذلك سلك وسطية واقعية ذات بعد اجتماعي مزج بها بين إطعام الروح والبدن، وسطية نعتبر أن إشباع حاجات الجسد مما هو حلال إرضاء للخالق، ولا تخضع لمقولة أن حب الخالق يغني عن حب المخلوق" .
كما عرف المغرب تاريخيا عدة مراحل عرفانية ومسلكية كمرحلة الزهد، ومرحلة التصوف السني، ومرحلة الزوايا والرباطات (الربط) والمدارس الطرقية، وابتعد أيما ابتعاد عن تمثل التصوف الفلسفي المغالي في التجريد والأهواء والشطحات والنطحات.
علاوة على ذلك، كان التصوف المغربي منذ بداية انطلاقه تصوفا سنيا معتدلا مبنيا على الوسطية، والتسامح، والتساهل، والابتعاد عن التطرف الفكري، وتمثل التوازن في مسائل العقيدة، واستهداف العدالة الحقة، وتثبيت السلم الاجتماعي، ونهج طريق الاستقامة والحق، والجمع بين الخيرية والمنفعة، والمؤالفة بين المتقابلات والمتناقضات والمتضادات، والميل إلى الواقعية، والمزاوجة بين ماهو مادي وماهو روحي . وفي هذا الصدد يقول إبراهيم القادري بوتشيش:" ولعل من أهم مظاهر وسطية التصوف المغربي ماتميز به من قمة التسامح في المعاملات والتفكير، دون تمييز بين الأجناس والأعراق والطبقات الاجتماعية، مستمدين ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية التي تدعو للتعارف والعفو والتسامح، وكذلك من مقولات الجنيد الذي عرف الصوفية بأنها:"كالأرض يطأها البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء، وكالمطر يسقي كل شيء".
فالتسامح الصوفي هو نتيجة وسطية فكرهم، وثمرة لتعامل يهذب سلوك الإنسان، ويغرس فيه قيم الحرص على التعايش مع الأفكار والرؤى لإنتاج فضاء مشترك يقبل رأي الآخر على الرغم من الاختلاف معه من أجل بناء مجتمع متعدد الرؤى، يؤمن بمسألة اختلاف الشعوب والأمم. ومن ثم، لاعجب أن تكون المدرسة الصوفية المغربية قد قدمت درسا في هذا الاتجاه نتيجة المجاهدات والمقامات التي يندرج فيها السالك للقرب من الله ومحبته. ولاشك أن محبة الله علمت هذا السالك حب الآخرين والتسامح معهم واحترام المخالفين؛ لأن حق الاختلاف في حد ذاته مبدأ وسطي يقع بين موقف شمولي يرى أنه وحده المرجع والمحق، وحرية مطلقة العنان تفضي إلى فوضى عارمة وانتفاء للمسؤولية."
ويعني هذا أن التسامح في التصوف السني بالمغرب له مرجعيات محددة، تتمثل في: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وتمثل منهاج الصحابة رضوان الله عليهم، واتباع طريقة الجنيد المنفتحة التي تؤمن بالانفتاح والتعايش مع الآخرين، حتى ولو كانوا كفارا وأشرارا ومذنبين وملحدين. لأن التصوف يهذب النفوس المذنبة، ويلقحها بلقاح السعادة الأبدية، ويطعمها بالعشق الرباني. ويقول الإمام أبو القاسم الجنيد:" كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته" .
ومن هنا، لم يبن التصوف السني بالمغرب على أساس التمييز اللوني أو العرقي أو الطبقي أو العقدي، بل كان يهدف إلى صهر الجميع في بوتقة روحية واحدة . وهكذا، استطاع هذا التصوف أن يوحد بين المسلمين والمسيحيين واليهود بالمغرب داخل منظومة مجتمعية روحية واحدة:" وقد طبق متصوفة المغرب مبدأ التسامح والانفتاح على غيرهم، فاحترموا الأقليات الدينية من يهود ومسيحيين، وأشركوهم معهم أحيانا في صلوات الاستسقاء، بل إن بعض أهل الذمة أسلم على أيديهم لما لمسوه فيهم من حميد السجايا ومكارم السلوك الحضاري، أو نتيجة انبهارهم بكراماتهم الصوفية."
هذا، ولم يرفع التصوف السني بالمغرب راية التسامح الديني والمذهبي والطائفي إلا كرد فعل على الفرق الكلامية والفلسفية والمذهبية المتطرفة التي سادت المغرب خلال القرون الأربعة الأولى من تاريخ الإسلام بهذا البلد كالرافضية من الخوارج المتطرفة، والحشوية والموسوية من الشيعة الغلاة، والبورغواطيين وحركة حاميم المتنبىء وما صاحبها من سحر وشعوذة.
ويعني كل هذا أن التصوف السني بالمغرب جاء بخاصية التسامح وفكرة العفو والصفح لصهر جميع المغاربة في بوتقة مجتمعية واحدة خاضعة لخالق واحد وسلطة سياسية واحدة، وذلك مهما تعددت توجهات هؤلاء، واختلفت أشكالهم وصورهم، وتباينت عقائدهم ونحلهم.

 التسامــح الصوفي الطرقي بالمغرب:
عرف المغرب عدة رباطات وزوايا طرقية، وذلك بعد القرن الخامس الهجري، فامتدت هذه الزوايا، واستمرت إلى يومنا هذا في أداء رسالتها التربوية والتثقيفية والروحية والوطنية . وقد قامت بأدوار هامة على مستوى التعليم والإرشاد والتهذيب الديني والاخلاقي، بالإضافة إلى الأدوار الجهادية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية. ولعل أهمها:" نشر الإسلام بين الشعوب والقبائل التي لم يصلها الفتح العربي، وترسيخ دعائم التصوف السني، وتنظيم المواسم الدينية المرسية للعقيدة، والدعوة إلى الجهاد وتأطيره، وتشجيع الرحلة الحجازية إلى الحج، وتأمين المسالك التجارية والأسواق، وتحقيق التوازن الاجتماعي بين القبائل، وتثبيت الاستقرار، وضمان الولاء للدولة، والتشبث بالإمامة".
هذا، وتعرف مرحلة تأسيس الزوايا كذلك بمرحلة المأسسة والهيكلة والتنظيم والعطاء. فقد كان لكل زاوية أو طريقة أو رباط شيخ قطب، ومريدون متعلمون وسالكون مجذوبون، وأوراد وسلالة وكتب للذكر والمدارسة.
ومن المعلوم أن هناك فرقا جليا بين الزاوية والطريقة، وإن كان هناك من يرادف بينهما. فالزاوية عند الدكتور محمد حجي:" عبارة عن مكان معد للعبادة وإيواء الواردين المحتاجين وإطعامهم. وتسمى في الشرق خانقاه، وهو لفظ أعجمي يجمع على خانقهات أو خانقوات أو خوانق. وقيل في تعريف الزاوية المغربية: إنها مدرسة دينية ودار مجانية للضيافة. وهي بهذين الوصفين تشبه كثيرا الدير في العصور الوسطى. ولم تعرف الزاوية في المغرب إلا بعد القرن الخامس الهجري، وسميت في بادئ الأمر (دار الكرام) كالتي بناها يعقوب المنصور الموحدي في مراكش، ثم أطلق اسم (دار الضيوف) على ما بناه المرينيون من الزوايا كالزاوية العظمى التي أسسها أبو عنان المريني في خارج فاس، وهي التي ذكرها ابن بطوطة في رحلته. وقد جدد الدلائيون بناءها أيام انتشار نفوذهم في العاصمة الإدريسية، فظن بعض المؤرخين لأنهم مؤسسوها. ومن أقدم الزوايا التي حملت هذا الاسم في المغرب زوايا الشيخ أبي محمد صالح الماجري(توفي سنة 1234م) في آسفي. وقد تعددت زواياه حتى بلغت ستا وأربعين، وانتشرت فيما بين المغرب ومصر، إذ كان هذا الشيخ يشجع أصحابه على حج بيت الله الحرام، واستكثر من اتخاذ الزوايا في الطريق التي يسلكها ركب الحجاج ليأووا إليها في مراحل سفرهم الطويل. "
أما الطريقة فتعني المسلك العرفاني، أو المنهاج الصوفي، أو التصوف بصفة عامة. وفي هذا الإطار يقول سيدي محمد بن الصديق الغماري رحمه الله:" فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي (صلعم) بعدما بينها واحدا واحدا دينا، فقال: هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم. فغاية ما تدعو إليه الطريقة، وتشير إليه هو مقام الإحسان، بعد تصحيح الإسلام والإيمان، ليحرز الداخل فيها والمدعو إليها مقامات الدين الثلاثة، الضامنة لمحرزها والقائم بها السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة. والضامنة أيضا لمحرزها كمال الدين، فإنه كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة. فمن أخل بمقام الإحسان الذي هو الطريقة، فدينه ناقص بلا شك لتركه ركنا من أركانه. ولذا، نص المحققون على وجوب الدخول في الطريقة وسلوك طريق التصوف وجوبا عينيا".
ومن أهم الطرق الصوفية المعروفة بالمغرب، نذكر: الزاوية التيجانية، والزاوية الدلائية، والزاوية الناصرية، والزاوية الكتانية، والزاوية العلوية، والزاوية العليوية، والزاوية الدرقاوية، والزاوية القادرية، والزاوية البودشيشية، والزاوية الشاذلية، والزاوية العيساوية، والزاوية الوزانية، والزاوية الريسونية، والزاوية الجزولية، والزاوية الشرادية، والزاوية الفاضلية، والزاوية الكنتية، والزاوية القندوسية، والزاوية الكرزازية، والزاوية الشرقاوية، والزاوية الحمدوشية، والزاوية الفاسية، والزاوية الصادقية...
ومن أهم مظاهر التسامح الصوفي المتجلية لدى الطرقية والزوايا والرباطات بالمغرب، نستحضر الأنواع التالية:

1- التسامح الديـــني:
تنبني مجموعة من الزوايا على فكرة التسامح الديني، وتعايش الملل والنحل والعقائد والشعائر والأديان، فقد كان يجتمع في الزاوية المغربية المسلم إلى جانب المسيحي واليهودي والبوذي كما هو الحال في الزاوية القادرية البودشيشية ببركان. فقد استقطبت هذه الزاوية كثيرا من المريدين من مختلف الدول والديانات. ومن أهم هؤلاء: الفيتنامي نغويان هيي دونغ، وزعيم أقلية مسلمة بالفيتنام تونغ تاهن خان، والبوذي ميشيل طاو شان، والمستشرق الفرنسي إيريك جوفروي Eric Geoffroy، بالإضافة إلى لائحة من الأكاديميين والباحثين والموظفين أو المواطنين العاديين ممن قدموا من إسبانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا...
وكان من أثر التصوف السني والطرقي داخل المغرب وخارجه:"أن بعض المسيحيين لم يكتفوا بالدخول في الإسلام، بل تحولوا إلى أولياء، مثل: رضوان أبي نعيم بن عبد الله الجنوي(ت991هـ/1583م)، وأصله من جنوة الإيطالية، الذي أسلم والده على يده أحد صلحاء تطوان وحج، أما ابنه المذكور فتحول إلى (محيي الطريقة الشاذلية بعد اندراس آثارها) في القرن 10هـ/16م."
وهكذا، يتبين لنا بأن التصوف الطرقي بالمغرب قد ساهم بشكل من الأشكال في بلورة التسامح الديني، وإثرائه قولا وفعلا وسلوكا، وإغنائه تطبيقا وتعايشا وتفاعلا.

2- التسامــح اللــوني:
من أهم الزوايا المغربية التي اعتمدت على التسامح اللوني الزاوية التيجانية، والتي انفتحت في قاعدتها الصوفية على كثير من المريدين والأتباع من أفريقيا السوداء، فانتشرت طريقتها الروحانية في جنوب الصحراء الكبرى ما بين موريتانيا ومالي والنيجر والسنغال، ومازال التيجانيون المغاربة والأفارقة يتجمعون كل سنة بمدينة فاس للتذاكر والمدارسة وتلاوة الأوراد التيجانية. زد على ذلك أن حوالي 51% من سكان السنغال ينتمون إلى الطريقة التيجانية المغربية.
وينطبق هذا الحكم كذلك على الزاوية القادرية التي انتشرت في ربوع أفريقيا السوداء، حيث عد وردها من أجل الأوراد الصوفية. ومن أهم المريدين الذين تأثروا بالطريقة القادرية نذكر أحد ملوك الدولة الفلانية، ألا وهو محمد بلو الذي ألف مجموعة من الكتب في الطريقة القادرية، ومنها:" الدرر الظاهرية في السلاسل القادرية"، و" فتح الباب في ذكر بعض خصائص الشيخ عبد القادر فرد الأحباب"، و" شرح حزب البحر"، و" الرباط والحراسة".
ومن أهم الزوايا الأخرى التي آلفت بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود في بوتقة عرفانية واحدة قائمة على قاعدة التسامح اللوني نذكر: الزاوية الناصرية التي انتشرت بمنطقة درعة وتخوم الصحراء الكبرى، بالإضافة إلى الزاوية الوزانية التي كان يشرف عليها مولاي علي الوزاني، فقد " كانت تأتيه الوفود برسم الزيارة... من بلاد الصحراء إلى السودان...لا تكاد تفتر عليه الركبان في الفصول الأربعة، سيما في فصلي الربيع والخريف،... وكل من يأتيه زائر يقدم بيده ما قدر عليه من الهدايا والتحف، مما هو مخصوص بهم في بلادهم... كالعبيد والإماء لأهل الصحراء".
ويعني هذا أن سبب انتشار التصوف بمعظم دول أفريقيا السوداء، كان ذلك بفضل الزوايا والمدارس الطرقية المغربية. ولولا التسامح اللوني لما أمكن لهذا التصوف أن ينتشر بسرعة ما وراء الصحراء الكبرى.

3- التسامـــح العــرقي:
استطاع التصوف الطرقي بالمغرب أن يصهر جميع المغاربة ضمن بوتقة مجتمعية وروحية واحدة، حيث ذوب هذا التصوف السني المعتدل والوسطي جميع الفوارق الموجودة بين العربي والبربري، أو بين الحضري والبدوي، أو بين المغربي والأجنبي. حتى قيل:"لولا التصوف لما انصهرت مكونات المجتمع المغربي، انصهارا ليس ثقافيا أو لغويا فحسب، بل حتى عرقيا، أفرز إنسانا مغربيا معلوم الصفات معلن السلوك إلى اليوم."
وللتمثيل والتوضيح، فلقد انخرط الكثير من البرابرة الأمازيغ في مجال التصوف، فأصبحوا مريدين وسالكين ومجاذيب، بل منهم من أصبح شيخ الطريقة كالجزولي مثلا. وفي هذا النطاق يقول صاحب كتاب:" مفاخر البربر":" وأما الأولياء والصلحاء والعباد والأتقياء والزهاد والنساك والأصفياء فقد كان في البربر منهم ما يوفي على عدد الحصى والإحصاء".
ومن هنا، يتضح لنا بأن التصوف الطرقي بالمغرب كان مبنيا في جوهره على التسامح العرقي والإثني، فلا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى والمجاهدة في سبيل الله.

4- التسامـــح الجــنسي:
لم يقتصر التصوف على جنس الذكور فقط، بل مارسته النساء عن صدق ومحبة وإخلاص. ويذكر تاريخ التصوف بالمغرب الكثير من المتصوفات اللواتي ارتبطن بالزوايا والرباطات. ومن بين هذه المتصوفات نذكر: السيدة عائشة بنت أحمد الإدريسية صاحبة المناقب والكرامات الخارقة. فقد قال عنها ابن عسكر:" أنها كانت ليلة المولد النبوي تعتني به، وتطعم فيه الطعام، وتذبح فيه البقر والغنم حبا في النبي(صلعم) على عادة فضلاء أهل المغرب في ذلك".
هذا، ويشيد ابن عسكر أيضا بأهليتها الصوفية، ومكانتها الاجتماعية قائلا:" كان الناس يتحامون حماها، ولا يقدر أحد على رد شفاعتها لما يعلمون من بركتها، وصدق أحوالها مع الله تعالى؛ فبفضل دعائها أطلق سراح أبي الحسن زوج الثانية وصاحب له بعد أن أسرهما البرتغاليون على إثر احتلال طنجة عام 869هـ/1464م."
ومن الأمهات الفاضلات في مجال التصوف كذلك نستحضر كلا من الفاطمة الفهرية التي أسست جامع القرويين بفاس، وأم محمد السلام بدكالة التي تنبأت بانتصار المسلمين على الإسبان في معركة الأرك أثناء اشتعالها بالأندلس، والمتصوفة الولية الصالحة ريسون التي كان لها دور كبير في فك الأسرى المغاربة . وهناك متصوفات أمازيغيات مشهورات في مجال الولاية والعرفان والبركة المنقبية والمحبة الإلهية، وقد ذكرهن محمد المختار السوسي في بعض كتبه القيمة ، مثل: كتاب" المعسول"، وكتاب" رجالات العلم العربي في سوس"، وكتاب" من أفواه الرجال" ...

ونستحضر من بين هذه الصوفيات البربريات: تعزى بنت محمد تسملالت، وتكدا بنت سعيد، وتعزى بنت سليمان تكرامت،وتعزى بنت عبد العزيز تغرابوت، وحبيبة بنت محمد بن العربي، وحواء بنت يحيى الرسموكية، وخديجة بنت إبراهيم، ورحمة بنت يوسف، ورقية بنت محمد بن العربي الأدوزية، ورقية بنت سعيد بن محمد، وصفية بنت سعيد، وعائشة بنت صالح البعقيلية، وفاطمة موهدوز، وفاطمة بنت سليمان تكرامت، وعائشة التونينية، وعائشة الجشيتمية، ومماس بنت علي، وماماس تبويسكت، ونفيسة بنت محمد بن العربي، وموازيت، ومريم السملالية، ومريم بنت محمد بن سالم الصحراوية، ومريم بنت علي...
وهذه النساء المتصوفات الأمازيغيات اللواتي عشن ما بين القرنين العاشر والرابع عشر الهجريين كن ينتمين جميعهن إلى الطرق الصوفية المشهورة بالمغرب كالناصرية والدرقاوية والتيجانية...

5- التسامـــح الطبــقي:
ساهم التصوف بصفة عامة والتصوف الطرقي بصفة خاصة في إزالة الفوارق الطبقية، والحد من التفاوت الاجتماعي، فجمع بين الفقراء والأغنياء، والأقوياء والضعفاء، والساسة والرعية، فشكلوا صفا واحدا داخل المنظومة الصوفية العرفانية، وخاصة أثناء السفر لأداء فريضة الحج المباركة، وزيارة الأماكن المقدسة. فاستلزم كل ذلك أن يكون هناك نوع من التسامح الطبقي والاجتماعي بين جميع فئات المجتمع وطبقاته المتصارعة حول التملك الفردي، والإثراء المالي، والاستمتاع بالجاه والنساء. ويعني هذا أن التسامح الطبقي يتجلى واضحا في التضامن والتكافل والتعاون والتآزر الاجتماعي، ولاسيما في فترات الجفاف والنكبات والكوارث الطبيعية. ومن هنا، فقد كانت الزوايا المغربية تطعم الفقير، وتكرم الضيف وابن السبيل، وتحسن إلى المسكين والضعيف. فقد كانت من جهة أخرى، تحارب الشح والبخل، وتحث الأغنياء ورجال السلطة على البذل والعطاء والإحسان للفوز بنعيم الآخرة وأجر الدارين.
وهكذا، فقد:" انخرطت شرائح واسعة من فئات المجتمع بالمغرب والأندلس في دعم مرتكزات التكافل، ومساعدة ضحايا الكوارث الطبيعية على تجاوز وضعياتهم الصعبة، انطلاقا من البعد الديني الذي يعطي للبذل والإنفاق قوة إيمانية نفسية تمثل شحنة إيجابية في تفعيل سلوكات التضامن الأفقي. وبما أن الكوارث أدت إلى مضاعفات سلبية على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسيكولوجية، فقد حث العلماء والأولياء الأغنياء ومتوسطي الحال على الصدقة والإيثار والبر والإحسان لإغاثة منكوبي الكوارث."
هذا، وقد ساهم كثير من الأولياء والشيوخ المتصوفة في تحقيق التكافل الاجتماعي، وإزالة الضرائب أو التخفيف منها لحماية الفقراء والتجار على حد سواء، والمشاركة في بذل الخير وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمساهمة في تحقيق العدالة، واستتباب الأمن الداخلي والخارجي، وإصلاح المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا، وتحرير الأسرى المغاربة من سجون النصارى إبان العصر الوسيط.
وكان الأولياء والصلحاء المغاربة:" يشفقون على يتامى المسلمين، ويطعمون المسكين، ويفرجون كروب المعسرين " . ومن الأمثلة الدالة على ذلك أنه لما أصابت مدينة أزمور مجاعة شديدة سنة 535هـ، انبرى الشيخ أبو حفص عمر بن معاذ الصنهاجي إلى إطعام المتضررين منهم، فجمع:" خلقا كثيرا من المساكين، فكان يقوم بمؤونتهم، وينفق عليهم ما يصطاده من الحوت وغيره إلى أن أخصب الناس".
وقد أشاد التميمي بما يقوم به الأولياء الصالحون من خير وبذل وعطاء أثناء مواسم القحط والجفاف لإعانة المتضررين، وإعالة الفقراء والضعفاء والمساكين، فقال:" كان بفاس مسغبة، وارتفع السعر، وكان عند عبد الحق عشر صحاف من قمح، فقال والدي لوالدتي: إذا جاء من يسأل لا ترده، وادفع له من ذلك الطعام، وتصدق منه كل يوم بما تيسر حتى خرجت الشتوة.
ويضيف عبد الحق:" وأقامت والدتي على الأكل من ذلك الطعام والصدقة منه أشهرا، ثم قال والدي لوالدتي:" كل ذلك الطعام حتى تعرف ما بقي منه، فأكلناه، فإذا هو على مكيله الأول، ولم ينقص منه شيئا بإذن الله".
وهناك من الأولياء من كان يستسقى به بركة ووساطة ورجاء وتوسلا، فالمفتي أحمد بن زرع خطيب جامع القرويين بفاس، طلب منه الناس:" سنة القحط الاستسقاء، فصلى بهم خارج باب الفتوح، وقدم بين يديه آله صلى الله عليه وسلم ليتشفع بهم- كما فعل عمر بن الخطاب بالعباس- فسقى الناس وحمد الله على إجابة دعائهم" .
وطلب أهل تادلا من الشيخ أبي زكريا أن يستسقي بهم، فأظهر هذا الولي الضعف والفقر والحاجة إلى الله، فرمى بقلنسوته جانبا، فقال مستعطفا:" يا رب هذا الأقرع يسألك الغيث، قال الراوي: فوالله ما نزل الناس عن ذلك المكان حتى مطروا مطرا غزيرا".
وكثيرا ما كان يلتجئ المغاربة إلى أوليائهم وشيوخهم للاستغاثة بهم استجداء واستسقاء واستمطارا إبان مواسم القحط والجفاف والكوارث الطبيعية كالتجائهم إلى أبي العباس السبتي، وأبي يعزى، وابن حرزهم، وابن العريف...

6- التسامــح السيـــاسي:
من المعلوم لدى الكثير من الدارسين والباحثين والمحللين السياسيين المغاربة أن التصوف الطرقي بالمغرب في الفترة الحديثة والمعاصرة كان يجمع العديد من المريدين الوطنيين والسالكين السياسيين من مختلف المشارب الفكرية، ويستقطب الكثير منهم من شتى المناحي الإيديولوجية والمنابع الفلسفية، ويضم أيضا الكثير من الفعاليات المنتمية إلى مجموعة من الأحزاب السياسية والمؤسسات النقابية المتنوعة. فقد ألفينا مثلا في الزاوية القادرية البوتشيشية أعضاء من حزب الاتحاد الاشتراكي إلى جانب أعضاء من حزب الأحرار، وأعضاء من حزب الاستقلال إلى جانب أعضاء حزب الأصالة والمعاصرة. وربما ستتحول هذه الزاوية في المستقبل - حسب اعتقادنا - إلى حزب سياسي ناجح، وذلك من خلال عملية استقطاب لأكبر عدد من المنتخبين والأصوات المرشحة، أو قد تصبح الزاوية ورقة رابحة أو وسيلة لجمع أكبر المريدين والأتباع لنجاح حزب سياسي ما لخوض اللعبة الانتخابية. بل أصبحت الزاوية اليوم أداة في يد الدولة، ووسيلة سياسية وقناة إيديولوجية فعالة لاستتباب الأمن الداخلي والخارجي، والوقوف في وجه الحركات الإسلامية سواء أكانت معتدلة أم متطرفة، وجبهة دفاعية لدرء مخاطر التطرف والإرهاب والتمرد الثوري. ومن هنا، فقد صرح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية الدكتور أحمد التوفيق أمام العموم بأن المغرب دولة مالكية المذهب، وأشعرية العقيدة، وتتخذ من التصوف السني لدى الجنيد مسلكا ومنهجا وطريقة.
ويعني كل هذا أن الزوايا والمدارس الطرقية قد ساهمت بشكل من الأشكال في خلق نوع من التسامح السياسي الحزبي والطائفي والنقابي داخل المجتمع المغربي، وحققت أيضا نوعا من التوازن والاستقرار والطمأنينة على المستوى السياسي، وذلك عبر تخليق المؤسسات السياسية، وتصويف الإطارات الحزبية والنقابية. ومن ثم، أصبحت الزاوية القادرية البودشيشية بالنسبة لبعض الأحزاب السياسية المغربية مرجعا فكريا ودينيا وإيديولوجيا، وأصبحت كذلك مركزا للإشعاع والنصح والاستشارة والتوجيه والتدبير والتخطيط.

7- التسامــــح اللغـــوي:
يلاحظ أن كثيرا من المتصوفة الأمازيغ قد انصهروا في الزوايا والرباطات والتكايا المغربية إلى جانب إخوانهم العرب، فشكلوا وحدة دينية ولغوية وروحية واحدة، فلم يمنعهم الاختلاف اللغوي أو العرقي من الاندماج في بوتقة عرفانية وتجربة حدسية واحدة أساسها المحبة الإلهية والعشق الرباني. بل نجد التصوف الطرقي قد جمع بين إثنيات بشرية متعددة بلغات مختلفة داخل منظومة عرفانية تضمحل فيها الأعراض الشكلية الثانوية، فيبقى الخلود للجوهر الرباني الخالد، ثم يثبت البقاء للذات السرمدية الأزلية الواحدة.
وهكذا، نجد مثلا في الزاوية القادرية البودشيشية بمداغ إبان عيد المولد النبوي أو أثناء ليلة القدر المتصوف الفرنسي إلى جانب المتصوف الألماني، والمتصوف الإنجليزي إلى جانب المتصوف الإسباني، والمتصوف الأمازيغي إلى جانب المتصوف العربي، فتندمج اللغات كلها في لغة التصوف الرمزية . ثم، تنصهر تراكيبها في الحضرة الوجدانية الحدسية. ثم، تذوب مفرداتها في الجذبة الربانية الواحدة، حيث لا فرق فيها بين لغة وأخرى، ولا أفضلية فيها للغة الإنجليزية على اللغة العربية، ولا فضل للغة العربية على اللغة الإنجليزية، فكل اللغات تذوب أمام الخشوع الرباني، وتنمحي أمام تجلي المعشوق، وانكشاف الوصل الإلهي.

8- التسامــح الطائـــفي:
حاولت مجموعة من الزوايا والمدارس والرباطات الطرقية أن تؤالف بين الطوائف المختلفة والمتناحرة والمتصارعة فكرا وسلوكا وعملا، وأن توحد بين الفرق الصوفية المتباينة مشربا وتوجها ومصدرا ومعينا داخل نسيج صوفي واحد كما فعلت الزاوية الفاضلية التي أسسها الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل بن مامين بالصحراء المغربية. فقد آخت بين جميع الطرق الصوفية المعروفة بالصحراء، ولم يفرق بينها:" لأنها آخذة لطريق الرسول(صلعم)، وهي طريقة واحدة كما يعلمه أغبى الأغبياء وأحرى أعلم العلماء، وحتى إن تعددت واختلفت فمرجعها كلها لأمر واحد وهو الفناء في مشاهدة الله، والنظر إليه عن كل ما سواه. لاسيما أن الظروف التي تعيشها الجماعة الإسلامية في هذه الفترة تقتضي الوحدة والاتحاد واليقظة والتمسك بالجماعة وتجنب كل ما يؤدي إلى الضعف والاستكانة..."
ولقد نظمت في هذا التسامح الطائفي الصوفي منظومة شهيرة تعبر عن هدف الزاوية الفاضلية بالصحراء في توحيد جميع الطوائف الصوفية حول طريقة واحدة تخدم الله والقوم :

إني مخــــاو لجميع الطـــرق أخوة الإيمـــان عنـــد المتقي
ولا أفـــــــــرق لــــلأولـــياء كمــن يفــــــــرق للأنبيــــــاء
قال تعالى المؤمنون إخــــوة وعــدم التفريق فيـه إســــــوة
وانظر لمبدإ طرق والمنتهى تعلـــم لما قلت بما قد يشتهـي
وذاك كلهم لــــــــــــك يقـول عليـك باتباع فعل ذا الـرســول
عليه أفضل الصلاة والسلام وهكـــذا تتبــــع منـــه للكــلام
ومستحيل أن يقــــــول اتبعا طريقــــة النــبي وحـــده ثقــا
وغيرها ليست طريقا وثــق إنــــي مخـــاو لجميع الطرق

وهكذا، فقد حاولت الطريقة الفاضلية للشيخ ماء العينين بالصحراء المغربية أن توحد بين جميع الطوائف والفرق الصوفية داخل طريقة عرفانية واحدة، وذلك لتحقيق التسامح الطائفي، وتفعيله قولا وفعلا وسلوكا، تفاديا لكل فرقة ممكنة، وخوفا من إثارة فتنة شائنة.

استنتاجات:

وهكذا، يظهر لنا أن التصوف بالمغرب سواء أكان تصوفا سنيا أم تصوفا طرقيا كان مبنيا في جوهره على فكرة العفو والتسامح والتعايش ومحبة الآخر، ونبذ العنف والكراهية والتطرف والإرهاب. ومن ثم، يمكن الحديث عن أنواع كثيرة من التسامح الصوفي والطرقي بالمغرب كالتسامح الديني والعقدي، والتسامح الطائفي، والتسامح اللغوي، والتسامح العرقي والإثني، والتسامح اللوني، والتسامح الجنسي، والتسامح الطبقي والاجتماعي، والتسامح السياسي والحزبي والنقابي.
وعليه، فلا يمكن للتسامح أن يتحقق في المجتمع العربي والإسلامي، ويتم تعميمه بين الناس إلا عن طريق التوعية الدينية الصحيحة، وممارسة التصوف العرفاني الوسطي، والانخراط في الزوايا والرباطات والمدارس الطرقية السنية المعتدلة لتهذيب النفوس البشرية المذنبة، وتزكيتها تحلية وتخلية وجلاء، وتخليق الضمائر قيميا ودينيا ووجدانيا.

د. جميل حمداوي
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية- المغرب-
jamilhamdaoui@yahoo.fr هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته

.........................
الهوامــــش:

- ابن منظور: لسان العرب، الجزء السادس، دار صبح،بيروت، لبنان، وأديسوفت بالدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006م، ص:333-334؛
2 - ابن الزيات: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، تحقيق أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب بالرباط، جامعة محمد الخامس، رقم:22، الطبعة الثانية 1977م، ص:34،
3- ابن قنفذ:: أنس الفقير وعز الحقير، تحقيق محمد الفاسي وأدولف فور، المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط،الطبعة الأولى 1965م، ص:63؛
4- التميمي: المستفاد في مناقب العباد، بمدينة فاس وما يليها من البلاد، تحقيق محمد الشريف، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد الملك السعدي، بتطوان، مطبعة طوب بريس، الرباط، الطبعة الأولى سنة 2002م؛
5 - البادسي: المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، تحقيق أحمد سعيد أعراب، المطبعة الملكية، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1982م؛
6 - انظر ابن عاشر: متن ابن عاشر المسمى المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، تصحيح ومراجعة محمد خليل، دار المعرفة، الدار البيضاء، د. ت؛
7 - د. إبراهيم القادري بوتشيش:(ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب)، التصوف السني في تاريخ المغرب، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:27، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:33-34 ؛
8 - د. إبراهيم القادري بوتشيش:(ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب)، ص:33-50 ؛
9 - د. إبراهيم القادري بوتشيش:(ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب)، ص:43-44؛
10- نقلا عن - د. إبراهيم القادري بوتشيش:(ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب)، ص:28؛
11- د. إبراهيم القادري بوتشيش:(ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب)، ص:44؛
12- د. إبراهيم القادري بوتشيش: نفس المقال السابق، ص:32-33؛
13- د. سعيد بنحمادة: (المجال الحيوي للأولياء بالمغرب: الأدوار الدينية والعسكرية والاجتماعية)، التصوف السني في تاريخ المغرب، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:27، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:145؛
14- انظر محمد حجي: الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، المطبعة الوطنية، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1964م؛
15- نقلا عن لحسن السباعي الإدريسي: حول التصوف والمجتمع، منشورات الإشارة، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، الطبعة الأولى سنة 2007م، ص:57-58؛
16- منتصر حمادة: نحن والتصوف، الطريقة القادرية البودشيشية نموذجا، سلسلة شروق، العدد:3، نونبر 2009م، ص:60-74؛
17- د. سعيد بنحمادة:(المجال الحيوي للأولياء بالمغرب: الأدوار الدينية والعسكرية والاجتماعية)، التصوف السني في تاريخ المغرب، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:27، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:152؛
18- الوزاني: الروض المنيف في التعريف بأولاد مولاي عبد الله الشريف، مؤلف مخطوط، الخزانة العامة بالرباط رقم 2304ك، ورقة 76ب؛
19- د. محمد البركة:(التصوف السني بالمغرب: مقدمات في الفهم والتأصيل)، التصوف السني في تاريخ المغرب، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:27، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:90-91؛

20- مؤلف مجهول: مفاخر البربر، تحقيق: عبد القادر بوباية، دار أبي رقراق، الرباط، الطبعة الأولى سنة 2005م، ص:175؛
21- ابن عسكر: دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر، تحقيق محمد حجي، دار المغرب، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1977م، ص:24؛
22- ابن عسكر: دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر، ص:32-24؛
23- انظر: لمين مبارك: (المرأة العالمة في سوس من خلال بعض مؤلفات العلامة محمد المختار السوسي)، مجلة المناهل، الرباط، المغرب، عدد: 7/74، أكتوبر 2005م، ص:385-397؛
24- انظر: العبادي الحسن: الصالحات المتبرك بهن في سوس، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2004م؛
25- انظر: مبارك آيت عدي: (جهود المرأة الأمازيغية بسوس في الحفاظ على التراث الصوفي من خلال بعض كتابات العلامة محمد المختار السوسي)، مجلة المناهل، المغرب، الجزء الثاني، العددان:82-83، شتنبر2007م، ص:362-366؛
26- د. عبد الهادي البياض:(تجليات المقاربة الوسطية في منهج التكافل الاجتماعي لمتصوفة مغرب العصر الوسيط)، التصوف السني في تاريخ المغرب، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:27، الطبعة الأولى سنة 2010م،ص:235؛
27- البادسي: المقصد الشريف، ص:21؛
28- ابن الزيات: التشوف، ص:183؛
29- التميمي: المستفاد في مناقب العباد، بمدينة فاس وما يليها من البلاد، الجزء الثاني، ص:121؛
30- ابن الأحمر: بيوتات فاس الكبرى، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1972م، ص:63-64؛
31- ابن الزيات: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي،، ص:138-139؛
32- منتصر حمادة: نحن والتصوف، الطريقة القادرية البودشيشية نموذجا، سلسلة شروق، العدد:3، نونبر 2009م، ص:31؛
33- ماء العينين النعمة علي: (مدرسة الشيخ ماء العينين الصوفية: خصائصها ومميزاتها)، مجلة المناهل، المغرب، الجزء الثاني، العددان:82-83، شتنبر2007م، ص:229؛
34- ماء العينين النعمة علي: (مدرسة الشيخ ماء العينين الصوفية: خصائصها ومميزاتها)، ص:230.

المصدر: http://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=1...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك