الفلسفة وقيمة الاختلاف

حسان الباهي

 

أقسم هذه المحاضرة إلى ثلاثة محاور: يختص الأول بالبحث في المفاهيم المضمنة في العنوان؛ لأنتقل إلى تفصيل القول في الوضع العالمي الحالي؛ ثم أنهي مداخلتي بتقديم معالم طريقة لتدبير الاختلاف بين الأطراف المتنازعة.

المحور الأول: يرد العنوان تحت ثلاثة مفاهيم:

أ- الفلسفة: أربط تعريف الفلسفة في هذا المقام بمفهوم الحكمة، ومحبة الحكمة؛ لنحدد غاية الحكيم في تجاوز ما هو ظرفي ليربط تحليلاته بما هو عام ومشترك. كما نقول أحكم الأمر، متى وثقه وبلغ به النهاية؛ لتعني الحكمة معرفة الأشياء بأفضل السبل. والكلام الحكيم هو الكلام النافع الذي يمنع من الجهل والسفه. والأمر المٌحكم هو الذي لاشبهة فيه، لأنه حُكم بيانه؛ كما نقول أحكَم الأمر، بمعنى أتقنه؛ ومنه أحكمته التجارب. وقيل كذلك الحاكم، بمعنى القاضي، لأنه يحكم بين الأطراف المتنازعة، ليعني الحكم، القضاء بالعدل؛ ولتعني المحاكمة المخاصمة إلى الحاكم بهدف رفع الظلم.

على هذا، فالحكمة فكر وعمل، بما يعني اقتضاء العلم والعمل به؛ فهي تُطلب لتُعلم ويُعمل بها، فالحكمة سلوك، وليس مجرد نظر وتأمل. كما يختص الحكيم بوضع مسافة بين الحدث والنظر فيه، ليتمكن بذلك من معالجة الأمر المنظور فيه بطريقة نقدية. ومن ثم، نقول بأن خاصية الحكيم تكمن في السمو بتفكيره إلى المشترك الإنساني، والنظر في الإنسان كإنسان.

يستفاد من هذا أنه إذا كان الأصل في الفلسفة هو المساءلة النقدية، فلا بد من استحضار الاعتراض، الذي يستدعي بدوره الاختلاف، الذي لا يُقبل إلا بتقديم دليل. ومادام الحكيم لا يسلم إلا بدليل فهو يتميز عن غيره بإثارة مسائل لا يتوقف عندها عامة الناس، رغم تعاملهم اليومي معها، معتمدا في ذلك على التفكير النقدي.

ب- القيمة: نعني بالقيمة تقدير الشيء واعتباره، ومن الوجهة الفلسفية البعد الخلقي الذي يتطلع إليه المرء علما وعملا. والمبتغى من إيراد مفهوم القيمة هو رفع الاختلاف إلى درجة يصبح فيها قيمة إنسانية، وليس مجرد حقي الذي أستند فيه إلى خلفية دينية أو عرقية أو لغوية، إلخ. ومن ثم، وجب النظر إلى الآخر دون تمييز يقوم على الجنس أو الدين أو اللغة أو اللون، إلخ. ذلك أن الاستناد إلى إحدى المرجعيات قد يُفهم منه أنني أنتظر من غيري أن يعطيني هذا الحق، بينما جعله قيمة إنسانية، يعني أن لكل منا الحق في الاختلاف مع غيره، دون تمييز أو انتظار إذن من غيره. فلكل منا الحق في الاختلاف بعيدا عن أي نظرة ضيقة يمكن أن ينظر إليها الآخر من منطلق عنصري؛ فمن حقي كإنسان أن اختلف مع الآخر ضمن حقوق وواجبات مصونة لكل طرف.

ج- الاختلاف: رفع الاختلاف إلى مرتبة القيمة يعني وجوب أن يقوم على أسس جديدة تربط الفاعل بمحيطه المادي والإنساني. وإذا كان الاختلاف كقيمة يستلزم إعطاء الاعتبار للآخر، فهو يقتضي في ذات الوقت الاعتراف المتبادل، من غير مفاضلة، مع حق كل طرف في حفظ خصوصياته. فالاختلاف لا يعني رد بعض إلى بعضه الآخر، أو الدخول في المقايسة والمقارنة، بل قد يشكل منطلق الإجماع أو التوافق، أو على الأقل التعايش في ظل الاختلاف. ليصبح الاختلاف المحرك الأساس للتفاعل بين الأطراف التي تتجاذب القول أو الفعل، إيجابا وسلبا. فعبر الاختلاف نسعى إلى فهم كيف ينتقل الشيء من حال إلى حال.

يستفاد من هذا أن الاختلاف يستدعي حق الاعتراض. إذ الغرض من تحديد عملية الفهم والإفهام هو تدبير الاختلاف في الرأي عبر آليات الادعاء والاعتراض. فالأصل في الحجاج هو الاختلاف؛ فلا نتحاج إلا ونحن مختلفون. لذا، نحدده على أنه تفاعل يستهدف دفع اعتراضات يوردها أحد طرفي (أطراف) النزاع على دعوى الطرف الآخر. فلا يمكن النظر للبنية الحجية دون استحضار البنية التفاعلية التي يتواجه من خلالها المتنازعون. فعلى المشارك الذي يقترح دعوى ما أن يتقلد دور العارض (المدعي)، لتصبح عملية الدفاع بمثابة دعوة للطرف الآخر مشاركته النظر، بينما على المشارك الذي يضع دعوى ما موضع تساؤل أن يأخذ دور المعترض. يتعلق الأمر بتوزيع مسئولية إثبات القضية المعروضة للتدبر، مع تحمل عبء إثباتها؛ بما يعبر عن الرغبة في النظر معا في موضوع المنازعة، بنية الوصول إلى قرار قائم على الإجماع كحد أقصى، وتثبيت الاختلاف كحد أدنى. إن تسديد النظر لا يتحقق إلا بإشراك الآخر في فحص الدعوى، وهذا يستدعي أن تكون للمتحاجين إرادة في قيادة الحوار وفق قواعد متفق عليها. وحين يسعى المتحاجون إلى تحقيق ذلك، فإن هناك حزمة من الضوابط التي تيسر لهم امتلاك قواعد تخص تجانس تعاقداتهم مع مطالبهم وأهدافهم. فمن خلال التدافع يحق لكل طرف طرح دعواه كوجهة نظر خاصة؛ لتبقى قدرة كل طرف على الادعاء والاعتراض الدافع لتحقيق عملية الإقناع. بحيث لا تتحدد القوة التدليلية في القوة المادية أو المعنوية، بل في قوة الحجج التي تحدد فعالية الإقناع والاقتناع. وليتحقق ذلك يجب اتباع قواعد تضبط مجال الاتفاق وتحدد التزامات كل طرف. فهذه المنهجية هي التي ترسم السبل التي يمكن بموجبها قبول النتائج بمقتضى مبدإ التعاون، ولو في حده الأدنى. لذا، على كل مشارك قدم دعوى ما أن يستعد للدفاع عنها، وأن يتحمل عبء التدليل عليها كدعوى مختلف عليها. حيث من حق المشارك الآخر وضع وجهة نظر المدعي محط قبول أو اعتراض، جزئيا أو كليا. لهذا، يطلب من المدعي حين ينجز ملفوظا ما أن يسند إليه قصدا محددا، وهذا الادعاء مسبوق بادعاء مفاده أن له الحق في هذا الادعاء. وبنفس الكيفية التي يحق بها للمدعي تقديم دعواه، للمعترض حق الاعتراض على الدعوى التي قدمها العارض، كما أن حق الاعتراض يعطي للعارض وضعا آخر يتمثل في حق الدفاع عن دعواه في وجه اعتراضات المعترض؛ فكما أن من حق المعترض تقويم الادعاء، فمن حق المدعي تقويم الاعتراض.

المحور الثاني- العالم بين النظرة الأحادية والتعددية

يبدو أننا نعيش اليوم في عالم أصبح فيه ما هو فكري مصدر العديد من النزاعات. الأمر الذي ذهب بالعديد من المحللين إلى التأكيد على أن الصراعات المستقبلية ستحسم على المستوى الفكري. وعليه، يمكن القول بأن الصراع بات اليوم بين:

أ- نموذج يتبنى النظرة الأحادية، ويرى أن السبيل لحل النزاعات وحسم الخلاف أو الاختلاف هو اعتماد القوة.

ب- نموذج يرفض كل أشكال النمذجة والتنميط، سواء من حيث النظر أو العمل، ويدافع عن التعددية في كل أبعادها. ومن ثم، يعتبر الحوار السبيل الأمثل لحسم الخلاف أو الاختلاف بين الأطراف المتنازعة، مع حق كل طرف في حفظ خصوصياته.

يتضح بموجب ما ذكر أن المواقف السائدة في عالم اليوم تجعلنا أمام تصورين:

أ- توجه يتبنى النظرة الأحادية

تتميز تصورات هذا الطرف ومواقفه بالنظرة الأحادية في التفكير والسلوك. فهو يسعى إلى جعل الكل على نموذج واحد. ولتحقيق هذا الوضع عمد إلى فرض نموذج اجتماعي وثقافي واحد، ومنظومة قيم عالمية واحدة، قادرة على خلق "مواطن عالمي". ولما كان الهدف هو نمذجة العالم، بشقيه الطبيعي والإنساني، فقد ادعى أنه هو من يمتلك الحقيقة، ومن خلالها السلطة التي تخول له فرض تصوراته، رغبا أو رهبا.

لقد دفع هذا التصور بأصحابه (دولا، وجماعات، وطوائف) إلى بناء العالم على أسس فكرية قائمة على ثنائيات تصادمية من قبيل: صديق /عدو؛ مؤمن /كافر؛ معي /ضدي؛ خير/شر. وبما أن مواقفهم تنطلق من تصور ينبني على وجود مركز وهامش، فهم يركزون على إلزام كل من يختلف معهم. والنتيجة ما نعاينه اليوم من استحضار مفاهيم تستهدف التبرير الأخلاقي للعديد من الممارسات، من قبيل أخلاقيات الحرب، والحرب العادلة، وحماية الأمن القومي. وبالجملة، ينظر هذا التوجه إلى التعددية على أنها فوضى، وإلى الاختلاف على أنه تآمر، وإلى التسامح على أنه ضعف. فهو لا يؤمن لا بالتعددية ولا بالحق في الاختلاف. فهو يتعامل مع الآخر وفق ضوابط حصرها في: الرقابة، والضبط، والتحكم.

ب- توجه يتبنى التعددية

أثارت المواقف الفكرية التي تبناها التوجه الأول ردود أفعال لدى العديد من الأطراف التي رفضت محاولة بناء العالم وفق نموذج أحادي؛ واعتبرت هذا المسعى غلوا وتطرفا. فإذا كان الهدف هو إقصاء الآخر واستبعاد كل الخصوصيات لصالح نموذج عالمي موحد، فإن الوضع يقتضي أن يكون لكل طائفة أو جماعة أو أمة الحق في أن تكون لها معتقداتها وثقافتها وقيمها ونظرتها للحياة. إن العيش في عالم يسوده التسامح يقتضي التخلي عن المفاهيم الأحادية (النظام العالمي الجديد)، والتصورات الكلية (العدالة المطلقة)، والنظرة إلى العالم وفق ثنائيات مضادة (المركز والهامش). ولن يتحقق ذلك إلا متى سلمنا بالاختلاف كقيمة إنسانية، والذي يستدعي بدوره التسليم بالتعددية القائمة على اختلاف التجارب وتفاوت التقديرات، إلخ. وبالجملة، إن تجاوز النظرة التصادمية يتطلب أن يكف كل طرف على اعتبار الطرف الآخر عدوا لا يصلح معه إلا العنف، ولا يستحق إلا الموت. وبالجملة، يقتضي الوضع الخروج من ثقافة المطلق، والقبول بالرأي الآخر.

هكذا صار مطلب التعددية من مطالب العديد من الرافضين لأحادية التفكير والسلوك. إنهم يطالبون بعالم قائم على التعددية؛ لأن الأنساق الفكرية التي تسلم بالتعددية والاختلاف تصمد أكثر من تلك التي تسعى إلى محوها. يعني هذا أن الأنساق الفكرية المنفتحة تتطور بفعل دخولها في حوار مع الأنساق الفكرية الأخرى، بينما تتحول الأنساق ذات البعد الأحادي إلى أنظمة تسلطية- شمولية، ترى أن استمرارها يتوقف على القضاء على كل من يخالفها الرأي؛ فلا اختلاف ولا تسامح ولا تعددية.

إن الوضع يتطلب بناء عالم يقوم على تعددية الثقافات وتعدد التيارات وتعدد المرجعيات، إلخ. ولن يتحقق ذلك إلا متى اتخذنا الحوار سبيلا لفك النزاعات، وجعل العديد من المفاهيم تأخذ دلالتها الحقيقية. فلا يمكن التسليم بمشروعية التعددية وبمبدإ الحق في الاختلاف وما يترتب عنهما إلا بالحوار القائم على التعاون وتدبير الاختلاف بطرائق عقلانية -نقدية.

أمام هذه السمات الطاغية على عالم اليوم أصبحنا نواجه بخيارين:

أ- خيار قائم على التصادم: ضمن هذا المنظور نجد أن بعض الدول والجماعات تسعى إلى حسم اختلافاتها مع الآخر بالعنف والقهر. ومن ثم، تعطي لنفسها الحق في استخدام القوة ضد كل عدو محتمل؛ هدفها حماية أمنها والدفاع عن حلفائها وأصدقائها. الأمر الذي جعلها تروج لمفاهيم من قبيل: "الدول المارقة "و "محور الشر"؛ وبالمقابل تستخدم بعض الجماعات والطوائف مفاهيم من قبيل "دار الكفر"، و"الشيطان الأكبر"، و"الخارج عن الملة"، لتنصب العداء لكل من يخالفها المعتقد.

يستفاد من هذا أن كل من يتبنى هذا التصور ينظر إلى نفسه على أنه وحده من يمتلك الحقيقة، وأن الآخر ضال ومارق. ومن ثم، فلا يتوانى في تحويل معرفته إلى حقيقة، وحقيقته إلى سلطة؛ وكل من خالفه الرأي فهو عدو وشرير وكافر وخارج عن الحد.

ب- خيار يتبنى الحوار سبيلا لتدبير الاختلاف: يدعو هذا التوجه إلى تدبير الاختلاف وحل النزاعات بسبل الحوار والتفاوض. ذلك أن مرمى التفاعلات الحوارية هو بناء علاقات بين الأفراد والجماعات تقوم على التعاون. فحل النزاعات لن يتحقق بمنطق القوة، ولا بوسائل القهر والإكراه، بل بإقامة حوار يتجاوز المصالح الضيقة ليراعي المقاصد الكلية والقيم المشتركة بين بني البشر. وعليه، فإن الأساس الأول للتفاعل الحواري يتوقف على الاعتراف بحق الآخر في أن يخالفنا الرأي والمعتقد، إلخ؛ ليصبح من واجب كل طرف صون حقوقه، وحقوق غيره، وتحمل عبء واجباته وواجبات الآخر.

إن العيش في عالم يسوده التعايش والتسامح يقتضي التخلي عن النظرة التصادمية القائمة على تقسيم العالم إلى أصدقاء وأعداء، وأن هناك عالم السلم والديمقراطية والحرية والحقوق؛ وهو مواجه ومهدد بعالم الفقر والجهل والتطرف والاستبداد. فحل النزاعات لا يتم بالترهيب والوعيد، بل بإقامة حوار يتجاوز المصالح الضيقة ليراعي المقاصد الكلية. فهذا هو السبيل إلى جعل صوت الحكمة هو المتحكم في الأقوال والأفعال.

في هذا المقام سنعكس هذا التحليل على الحقيقة والهوية، لننظر في انعكاس الوضع الحالي عليهما:

أولا- الحقيقة: يبدو أن الغائب الأساس في عالمنا المعاصر هو اتخاذ الحوار سبيلا لحل النزاعات ووضع حد لمختلف الصراعات الدائرة بين العديد من الأطراف. ذلك أن معظم المؤشرات توحي بأنه لم يعد من الممكن قبول التطرف في النظر والعمل، وادعاء طرف ما أنه وحده من يمتلك الحقيقة، وعلى الأطراف الأخرى أن تمتثل لأوامره. فالأمر يتطلب أكثر من أي وقت مضى ترسيخ قواعد التفكير النقدي وشروط الحوار العقلاني، وألا ينصب أي طرف نفسه ممتلكا وحيدا للحقيقة بشكل يعطيه الحق في التصرف كما يشاء. الأمر الذي يفضي بنا إلى رفض الدعاوى التي زعمت أن البنية التفكرية والاستدلالية كلية، أي أن الإنسان يفكر وفق بنية نموذجية كلية، ويستدل بطرائق موحدة؛ لنؤكد على القول بأنه كلما تقاربت أنساقنا التصورية كلما اتفقنا على تصديق أو تكذيب قضية ما، وتباينت التقويمات كلما تباعدت أنساقنا التصورية. إن تحقيق هذه المرمى يتطلب إجراءات، منها التخلي عن الحقيقة بمفهومه المطلق، لنسلم بتعددية الحقائق، وتعدد سبل الوصول إليها؛ فالحقيقة تبنى، وليست معطى جاهزا وقائما بذاته.

على هذا، لا يمكن التسليم بوجود طرف واحد يمتلك الحقيقة بشكل يعطيه حق التصرف أين شاء، ومتى شاء، وكيفما شاء. يقتضي الوضع الخروج من العقلية الثنائية التي تبقي التفكير الإنساني حبيس مقولات تقليدية تقوم على ثنائيات مضادة: حق/ باطل، خير /شر، إلخ. فالاستناد إلى مثل هذه التقويمات يعني وجود طرف على حق، وآخر على باطل؛ في حين يمكن أن يكونا معا على باطل. وبموجب ذلك، نسلم بأن الثنائية تحجم الفكر حين تضعه بين بديلين لا ثالث لهما. ولا غرابة في مثل هذه الحالة أن ننظر إلى العالم من منظور أبيض أو أسود، عوض إعمال الفكر للبحث عن بدائل أخرى. الأمر الذي يجعلنا نسلم بعدم وجود حقائق كلية ويقينيات مطلقة وثابتة في مجال الإنسانيات.

ثانيا- الهوية: عمد أرسطو حين قعد المنطق إلى اعتبار هذا الأخير مدخلا للعلوم، واعتبر الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع أساس منطق ثنائي القيمة؛ فكانت النتيجة أن سيج الفكر الإنساني حين اعتبر كل تجاوز لهذه المبادئ بمثابة خروج عن حدود العقل. ومن ثم، لم يكن الفكر الإنساني ليتمثل الأشياء والعلاقات خارج هذه المبادئ. الأمر الذي أفضى بنا إلى اتخاذ الهوية سندا للبحث عن التناغم والانسجام في الوجود الطبيعي والإنساني.

لقد سُجن التفكير الإنساني داخل منطق الهوية، وتم اعتماده كمبدإ لتأطير أنساقنا الفكرية، فكانت نتيجة القول بأن الشيء هو هو، هو البحث عن الكلي والثابت والوحدة. فالهوية تقوم على ما هو الشيء، ولا توجد في الشيء هوية زائدة على هويته. ومن ثم، اتُخذت الهوية وسيلة لتهميش كل ما ليس هو، واستبعد الاختلاف الذي بإمكانه جعل الذات تنفتح على الآخر وتبحث عن وضع آخر. على هذا بنيت مجمل التصورات على الهوية القائمة على نفي وإقصاء كل ما هو مختلف. الأمر الذي انتهى بالتسليم باستحالة إدراك الكثرة والتعدد والاختلاف خارج الهوية.

لقد اعتقد الإنسان أن الحقيقة لا تستقيم متى سلمنا بالتغير، لأن الشيء المتغير لا يبقى على حال، بما يعني أنه لا يمكن أن يكسب هوية. بالتالي، فالموجود الحقيقي الذي يمكن معرفته هو الشيء الثابت، والحافظ لهويته. ومادام الموجود الحقيقي هو ذاك الشيء الذي يتصف بالثبات والكلية، فقد بحث الإنسان عن الانسجام من خلال ماهو ثابت، لأن جوهر الشيء هو هويته.

لقد تم اعتماد هذا المنحى التصوري للهوية لجعلها عاملا حاسما في إثارة العديد من الصراعات القائمة على الهويات العرقية والدينية واللغوية، إلخ. حيث تسعى كل هوية إلى أن تنغلق على نفسها، بهدف حفظ ما تعتبره مميزا لها. وعليه، بنت العديد من الدول والجماعات خططها على الدين أو العرق أو اللون لتنغلق على نفسها وتنصب العداء للأطراف الأخرى. وهو ما يفسر ما نعاينه اليوم من تباين بين قيم العولمة وعودة صراع الهويات وتنامي النزعة الفردية. حيث أصبحت معالم الانغلاق على الذات تتجلى في العديد من المواقف والسلوكيات. وهو ما سيجعل صراع الهويات يحتل الصدارة في النزاعات المستقبلية.

إذا كنا قديما ننظر للهوية كوحدة ونقيض للاختلاف، ولا نرى سبيلا للخروج عن مبدإ الهوية، فإن الوضع الحالي يقتضي جعلها تقترن بالاختلاف والصيرورة. فإذا كانت الهوية ترد إلى الوحدة، فإن الوحدة لا تقصي الاختلاف؛ دون أن يعني الاختلاف التفرد والانطواء على الذات، بل اختلاف منفتح على الغير. فإذا كان الاختلاف لا يحدد بدون هوية، فهو يعني في ذات الوقت الرغبة في الوحدة داخل التعدد، وبشكل يسمح لكل هوية بالتعايش مع الهويات الأخرى. فحتى الذي يبدو لنا مماثلا لذاته قد لا يكون كذلك في جزئياته.

المحور الثالث: رسم معالم طريقة لتدبير النزاعات

يكمن المشكل الأساس اليوم في سبل إدارة وتدبير الاختلاف. حيث لا يمكن تلافي النزاعات وتضارب المصالح إلا بتنظيم العلاقات بين مختلف الفاعلين. ومادام الغرض من عملية الإقناع والاقتناع هو رفع الخلاف أو الاختلاف، فلابد من ضبط وسائل التدافع وتحديد الآليات التي يمكن أن تشكل معالم طريقة كفيلة بتدبير النزاعات بين الأفراد والجماعات. كما أن الوضع يتطلب اعتماد التعاون، ولو في حده الأدنى، كسبيل لضبط المتفق عليه والمختلف فيه بين الأطراف المتنازعة. ولتحقيق هذا الأمر لابد أن تتقاسم الأطراف مجالا مشتركا، ولو في حده الأدنى؛ فبدون ذلك يكون مجال الاتفاق ضعيفا، إن لم يكن منعدما. ومع ذلك، قد يحدث ألا تتقاسم أطراف الحوار نفس المعتقدات ولا تنطلق من خلفية معرفية مشتركة، كما قد تتباين مطالبها وتتغاير أهدافها؛ ومع ذلك، يسعى كل طرف إلى التقرب من الطرف الآخر. الأمر الذي يعني أن التفاعل بين الذوات لا يسير دائما وفق الخطط المرسومة له؛ فقد تختلف الأولويات وتتباين الأهداف وتفترق السبل بفعل عوامل خارجية أو ذاتية، بشكل قد يجعل أحد الأطراف يتنصل من التزاماته وينكث عهده، سواء على مستوى النظر أو العمل. ولتلافي مثل هذه الأوضاع تقتضي فرضية الفضاء المشترك الإقرار بتعاقدات تضبط أقوال وأفعال الفاعلين. فالتعاقد هو بمثابة ميثاق يشكل قاعدة للحكم على أقوال الناس وأفعالهم. يقتضي الأمر تحديد مجموعة من الضوابط التي تمكننا من تدبير النزاعات على مستوى الأقوال والأفعال، مع الأخذ بعين الاعتبار التزامات الفاعلين وتعهداتهم. على هذا، يمكن القول إن كل تفاعل ينبني على قواعد وضوابط تكون محط إجماع أو اتفاق أو توافق، والتي تعد السبيل الأمثل لتدبير النزاع. وبالجملة، لا يمكن الإقرار بالتعددية والاختلاف إلا بالحوار القائم على التعاون وتدبر المطلوب بطرائق عقلانية.

يفضي بنا ما سلف إلى ربط التعاون أو التصادم بالخلفية المعرفية لكل طرف، وتمثله للطرف الآخر(التنافس، التعاون...)، بنفس الكيفية التي نربط بها العملية التواصلية بمفهوم التعاون، كفعل تواصلي. وإذا كان بالإمكان القول بأن الاختلاف يتضمن التعاون، فيمكن القول كذلك بأن النزاع والتعاون يشكلان نواة التفاعل التواصلي، فبدون الثاني لا يمكن قول أي شيء، وبدون الأول يصعب الحديث عن عملية تفاعلية ممكنة. وقد نذهب إلى حد التسليم بأن مفهوم التعاون قد يكون أكثر أهمية من مفهوم النزاع أو الاختلاف. حيث تتدافع الأطراف (إيجابا أو سلبا) بهدف الحفاظ على المشترك، أو إعادة تنظيمه. فعبر ذلك يتم ضبط المتفق عليه والمختلف فيه بين الأطراف المتنازعة.

استنتاجات:

يشكل تدبير الاختلاف أحد العقبات الأساسية في عالمنا الإسلامي -العربي، بفعل حجم النزاعات والصراعات التي تدور بين مختلف الفرقاء. وهو ما يبرر السؤال الذي يطرحه الغرب أحيانا في قوله: مع من سنتحاور؟ إنه تساؤل يعكس الوضع الذي نحن فيه من فرقة، وحجم الإشكالات التي نواجهها، والتي لم تعد تتطلب التفكير ضمن المقولات التقليدية، واجترار نفس الأسئلة التقليدية. إننا نعيش وضعا يتطلب من المفكر طرح أسئلة نقدية تخص الذات قبل الآخر. حيث لم يعد الوضع يسمح له بالتهرب من الأسئلة الحقيقية أو تلك التي يجهزها غيره دون مراعاة مدى ملاءمتها لواقعه الحقيقي. فالوضع لم يعد يقتضي منه التقوقع والانطواء على الذات ورفض الغير بدعوى الخوف على هويته، أو الاغتراب والانسلاخ عن ذاته، مع التقلب مع كل جديد؛ بل عليه مواجهة الوضع الذي هو فيه عن طريق الاجتهاد الذي يبدأ بطرح أسئلة نقدية. إن امتلاكه لرؤية عقلانية نقدية هو الذي سيمكنه من أن يسائل كل ما يتوارد عليه، ليحوله إلى سلسلة من المواقف يتصرف وفقها، وبشكل يسمح له بالتعايش مع رؤى الفاعلين الآخرين. إن الدفاع عن الهوية لا يعني الانطواء على الذات وسجنها في الماضي، بل إن الأمر يقتضي التساؤل عن الهوية في حد ذاتها. حيث يصعب في نظرنا الحديث عن الهوية بصيغة المفرد، بنفس الكيفية التي يصعب بها ضبط ما هو الثابت والمتغير في الهوية، ورسم حدود فاصلة بينهما. بالتالي يمكن القول بوجود هويات داخل هوية، فأنا كفرد لا أملك هوية واحدة، بل هويات. كما أننا نعترض على ربط الهوية بالماضي، عوض المستقبل. حيث نلاحظ أننا ننشغل بالماضي أكثر مما نشتغل بالمستقبل. لذا أرى بأن المستقبل والمصير المشترك هو الكفيل بتحديد هويتنا. فهذا هو الذي يجعل الأهداف المحددة هي القابلة لأن ترسم لنا الطريق الذي يمكن اختياره من ضمن عدة بدائل ممكنة.

على هذا، إن بناء علاقات تقوم على التعايش في ظل الاختلاف يتطلب أن يكف كل طرف على اعتبار الطرف الآخر عدوا لا يصلح معه إلا العنف ولا يستحق إلا الموت؛ وأن ينظر إليه كما هو، وليس تمثله كما يريده أن يكون. هذا هو السبيل الأمثل للتخلي عن النظرة التصادمية التي تنتج في أغلب الأحيان عن موقفين:

أ- سوء الفهم، مع سوء النية.

ب- سوء الفهم، مع حسن النية.

إن العيش في عالم مبني على الحق في الاختلاف يقتضي التخلي عن النظرة التصادمية القائمة على التقسيم الثنائي للعالم إلى أصدقاء وأعداء. فالعيش المشترك يقتضي بناء علاقات أساسها التعاون والتعايش، والبحث عن المشترك (الإنساني)، مع الحق في الاختلاف. فإذا كان الفضاء المشترك يحفظ للهويات خصوصيتها، فهو يقوي المشترك في ذات الوقت. فمن المفترض جعله مجالا جمعيا تلتقي فيه المطالب والأهداف، بشكل يتعذر معه الحديث عن تنسيق المسارات دون مشاركة فعالة للفاعلين، والتنسيق بين أقوالهم وأفعالهم.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8...

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك