الحوار النصراني الإسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا صاحبة ولا ولد، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، جاء بالحنيفية السمحة، ودعا إلى الوحدانية الخالصة، وشهد للأنبياء السابقين كما شهدوا له وبشروا به، وبرأ ساحتهم مما أُلصق بهم زورا وبهتانا، فصلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا ، ورضي عن أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين.
أما بعد فإن الرسل جاءوا بالهداية التامة والمنهج المستقيم، فمن سار على منهجهم نجح وأفلح، ومن تنكب الصراط؛ خاب وخسر، والبشرية اليوم – إلا ما رحم ربي - وقد تنكبت صراط باريها، وخالفت سنن الفطرة؛ فقد وردت المورد الذي لا بد لها منه، ووجدت سوء ما حُذّرت منه، وكثرت الفتن، وعم الهرج، واضطرب الأمن... وأصبح الحليم حيرانا، وتعددت الحلول، واجتهد المفكرون في تلمس المخرج ولكن لا مخرج إلا من خلال المخرج الذي أرشد إليه الذي خلق الحياة والأحياء.
وكان من ضمن ما طرح من مخرج لهذا الأمر الذي أزعج البشر - أن يتنادى المصلحون والغيورون والمفكرون من كل أمة إلى الحوار بدلا عن الاحتراب، والبيان بدلا عن السنان... فوقع من ذلك وقائع منها ما هو مأجور ومنها غير ذلك؛ ولذلك جاءت الدعوة إلى هذا المؤتمر إسهاما في رأب الصدع، وتلمس الحل، وتقفر الدواء، ودعت إليه جهة علمية شرعية مشكورة، هي كلية الشريعة في جامعة الشارقة، حملت على عاتقها إقامة مؤتمر يلتقي فيه الباحثون كل يدلي بدلوه، ويضرب بسهمه، ابتغاء النجاح والفلاح.
ولما وردت الدعوة إلينا في جامعة الملك سعود كلية التربية رغبت في المشاركة، التماسا للفائدة لي أولاً، وثانياً احتساباً في تقديم رؤية أحسب أنها صحيحة؛ فإن كانت صواباً فمن الله وحده التوفيق والتسديد، وإن كانت الأخرى فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله من كل زلل وخطل في القول والعمل، وقد جعلت عنوان هذا البحث الذي أشارك فيه:
((الحوار النصراني الإسلامي تاريخه، وأهدافه وغاياته، والموقف الشرعي منه)).
ولا يخفى أن التساؤلات المطروحة حوله كثيرة، والمراجع والمقالات أكثر من أن يحاط بها، والوقت الذي خصص لنا بين الدعوة إلى المؤتمر ووقته غير كافٍ، والمساحة المتاحة للمشارك في هذا المؤتمر قليلة جداً، وضغط الواقع المرير ومستجدات الأحداث تجعل الحليم حيرانا، وما تركته أكثر مما سطّرته، وما أبقيته أحب إلى مما رقمته، ولكن عذر الباحث في ضيق الوقت والمساحة المتاحة .
ومما ينبغي الإشارة إليه أن لا يحمل رد الباحث للدعوة للتقارب بين الأديان - على أنه يرفض الحوار الشرعي بين الإسلام والنصرانية، فهذا الحوار إذا كان دعوة للوحدانية، أو إزالة للشبه، أو تحقيقا للمصالح الدينية والدنيوية وفق الضوابط الشرعية فلا حرج منه؛ بل الإسلام يأمر به. وقد قسمت هذا البحث بحيث يتناول البدايات الأولى في هذا العصر لهذا الحوار ويوضح أهدافه وغاياته، ويبين الموقف الشرعي منه، ويعرض نماذج من الحوارات المعاصرة، ويناقش توصياتها وما تمخض عنها من قرارات ونتائج.
وقد جاء هذا البحث في تمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة، ذكرت في التمهيد تعريف الحوار وأهميته.
وفي المبحث الأول: تاريخ الحوار النصراني الإسلامي.
وفي المبحث الثاني: بيان غاياته وأهدافه.
وفي المبحث الثالث: بيان الموقف الشرعي منه.
التمهيد
سيتناول الحديث في هذا التمهيد تعريف الحوار، وأهميته، وإن كان الحديث فيهما مكرراً؛ إذ كل من كتب عن هذا الموضوع أسهب فيهما، ولكن طبيعة الأبحاث العلمية المنهجية تقتضي هذا التسلسل، وهذا أوان تفصيل ذلك.
تعريف الحوار:
في اللغة: أصله من الحور وهو الرجوع، ومنه الحديث الشريف:(ومن الحور بعد الكور) ( ). ومنه أيضاً كما عند المناوي في التعاريف: التردد بالذات أو بالفكر، ومنه حديث: (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور)، أي من التردد في الأمر بعد المضي فيه، أو من نقصان وتردد في الحال بعد الزيادة فيها، والمحاورة والحوار المراددة في الكلام، ومنه التحاور ( ). وهم يتحاورون أي يتراجعون الكلام، و المحاورة مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، وقد حاوره( ).
وفي الاصطلاح: هو مراجعة للكلام بين طرفين أو أكثر دون وجود خصومة بينهم بالضرورة ( ).

أهميته
الحوار هو وسيلة من وسائل الاتصال بين البشر، فإن استخدم في خير حمله وحقق الغرض، وبلغ الغاية، وإن استعمل في ترويج باطل، وتزيين لغو، وإشاعة فاحشة... كان أنجع وسيلة؛ سلكه إبليس فزين لآدم الأكل من الشجرة وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلاَّهُمَا بِغُرُور [سورة الأعراف، الآيتان21-22] فما ذا كانت النتيجة؟!
وتظهر أهميته من موضوعه إذ هو سبيلٌ إلى إبلاغ الرسائل الإلهية، ومحاجة المعاندين، كما قال تعالى مخبراً عن ذلك المؤمن المحاور: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً [ سورة الكهف، الآية 37]، وكما أخبر الله عن محاورة إبراهيم عليه السلام للنمرود التي ذكرها الله في سورة البقرة، وهو منهج متبع في كشف شبه المبطلين، وتقريب الحق للقاصدين، أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [سورة يسين الآيات77 -79].
وهو سنة نبوية سلكها رسولنا  فكانت حياته وسيرته مثالاً مباركاً للمحاور الموفق الذي لا تلين له قناة سواء مع الملأ من قومه، أو مع الوفود التي تفد إلى مكة والمدينة فيما بعد تستفهم وتسترشد، أو مع أفراد الناس الذين عرض عليهم هذا الدين العظيم ورغّبهم فيه، أو مع أصحاب شبهٍ أو شهوات لا تزال تمنعهم من الانقياد والاستسلام لرب العالمين، والشواهد أكثر من أن تحصر؛ بل كل حياته  أنموذج رائع لذلك، تجلت فيها قوة الحجة، ووضوح الدليل، وصدق العاطفة، وحسن الأسوة.
وهو أيضاً وسيلة من وسائل التقارب بين الشعوب وحقن الدماء، واستدامة السلام وتحقيق التعاون فيما بينها وفق الحدود والضوابط الشرعية، وفي مداولات صلح الحديبية بين الرسول الكريم  وبين قريش ما يؤكد تحقيق هذا المنهج لهذه الغاية النبيلة.
وتظهر خطورته من جانبين:
الأول: إذا خاض فيه من لا يحسنه، وجادل المخالفَ من لم يتمكن من استيعاب الحق، ومعرفة مقاصد الشرع، ولا يثبت أمام الشبه المثارة، ولا يستطيع إقامة الحجة وقمع المبطل... فحينئذ يكون الحوار سبباً في خذلان الحق، ونصرة المجادل بالباطل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينا خطورة المناظرة الضعيفة: ( لكن غالب هؤلاء ناظروهم مناظرة فاسدة سمعاً وعقلاً، فلا هم عرفوا دين الإسلام في كثير من المسائل التي نازعوهم فيها، بل صاروا يضيفون إلى دين الإسلام ما ليس منه، ولا قالوا في الاستدلال والجواب عن معارضيهم ما هو حق؛ بل ردوا باطلا بباطل، وقابلوا بدعة ببدعة، لكن باطل الفلاسفة أكثر، وهم أعظم مخالفة للحق المعلوم بالأدلة الشرعية والعقلية في الأمور الإلهية والدينية من أولئك المبتدعين من أهل الكلام، ولكن ضعف معرفة هؤلاء المتكلمين بالحق وأدلته سلطت أولئك)( ).
وقال في درء التعارض: ( فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم؛ لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور، وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين) ( ).وقال الشاطبي رحمه الله مبينا منهج المجادل الجاهل في التعامل مع الأدلة: (فكثيراً ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة اقتصار بالنظر على دليل ما، واطراحاً للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفروعية العاضدة لنظره أو المعارضة له، وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكاً، وربما أفتى بمقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه غرض أو أعرض عن غرض له عرض في الفتيا كجواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنموا)( ).
الثاني: إذا تم استغلاله لهدم الدين، وتقويض دعائم ما بناه المرسلون، وتقريب ما أبعده رب العالمين، ومحبة ما أمر ببغضه وعداوته... خاصة إذا تنادى المتحاورون إلى إقصاء الدين والتنفير منه وتحسين الباطل باسم الحوار الشرعي وتقريب وجهات النظر وتحقيق المصلحة الوطنية وما إلى ذلك من الشبه، قال تعالى عن أمثال هؤلاء  وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ. ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [سورة الحج الآيتان 8،9]. وقال جل ثناؤه مبينا منهجهم وغايتهم:  فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ  [سورة آل عمران الآية 7] ، فبين أنهم يستغلون المتشابه من الكتاب للإضلال عن سبيله ودينه.

المبحث الأول: تاريخ الحوار النصراني الإسلامي
العلاقة بين الإسلام والنصرانية علاقة طويلة الأمد عميقة الجذور، متنوعة الأطوار، متعددة الأوجه... كانت بدايتها الهجرة الأولى إلى الحبشة وما تلا ذلك من محاورات في مجلس ملكها النجاشي، ثم تتابعت مكاتبات الرسول الكريم  إلى الملوك والرؤساء النصارى في مصر والشام ونواحي الجزيرة ( )،ثم انتقلت العلاقة إلى الحرب بين جند الإسلام وجنود هرقل على حدود الشام... وتوالت حركة التاريخ بين الجانبين بين مد وجزر تارة يغلب جانب البيان، وأخرى يُضطر فيها إلى السنان، وتارة تكون الغلبة لجند الرحمن، وتارة يدال منهم،  وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران الآيتان141،140] .
وفي أثناء ذلك تحولت فئام كثيرة منهم إلى الإسلام، كما تحول كثير من أبناء الأمم والأديان الأخرى إلى هذا الدين، وسيطر الإسلام على كثير من بلادهم فإذا الإسلام يمسك بتلابيب النصرانية ويحاصرها ويحصرها في مضايق ودهاليز أوروبا كما قال جاير دنر في مؤتمر أدنبره للتنصير: ( إن مشكلة الإسلام هذه مسألة لا يمكن أن نتغافلها ببساطة – ليست حتى في مواجهة الأوضاع العاجلة بطريقة لا يمكن وصفها، والتي تواجهنا في الشرق الأقصى، وهذه أولا، لأن الإسلام على أبوابنا، فمن أقصى الساحل الشمالي لأفريقيا يواجه أوروبا إنه فعلاً يلمسها، ويمكن القول إنه يمسكها عملياً من طرف البحر المتوسط عند أعمدة هرقل وعند القسطنطينية... فكروا في تلك الكتلة المركزية لعالم الإسلام الصلب من شمال أفريقيا إلى غرب ووسط آسيا إنه كإسفين ثابت يحجب الغرب المسيحي عن الشرق الوثني ) ( ). وكانت غلبة الإسلام لغيره من الأديان والأقوام محل إعجاب وانبهار من قبل خصومه، حتى قال جورج بوش الجد: (لقد وضع – أي محمد صلى الله عليه وسلم - أساس إمبراطورية استطاعت في ظرف ثمانين سنة فقط أن تبسط سلطانها على ممالك وبلاد أكثر وأوسع مما استطاعته روما في ثمانمائة سنة، وتزداد دهشتنا أكثر وأكثر إذا تركنا نجاحه السياسي وتحدثنا عن صعود دينه وانتشاره السريع واستمرار رسوخه الدائم. والحقيقة أن ما حققه نبي الإسلام والإسلام لا يمكن تفسيره إلا بأن الله كان يخصهما برعاية خاصة، فالنجاح الذي حققه محمد ]صلى الله عليه وسلم [لا يتناسب مع إمكاناته، ولا يمكن تفسيره بحسابات بشرية معقولة) ( ).
ويتفق جورج بيترز مع جورج بوش في أن الإسلام يملك مقومات ذاتية تهيئ له القبول وتحميه من الذوبان حيث يقول: ( إنني أميل إلى الاتفاق مع فاندر وزويمر وفرينتاك وآخرين فيما ذهبوا إليه من أن الإسلام حركة دينينة معادية للنصرانية، مخططة تخطيطاً يفوق قدرة البشر... إلى أن يقول: وفي ذات الوقت فالنظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعياً وسياسياً ويفوق في ذلك النظام الشيوعي، ولكن هذه الحقيقة يجب ألا تثبط عزم المنصرين أو تعميهم عن رؤية العديد من نقاط الاتصال أو الجسور، فهي حقيقة تضع الإسلام في وجهته التاريخية والدعائية الفريدة فقط، وعلى كل حال يجب ألا تخيفنا هذه الحقائق؛ ... وليس هناك نظام متماسك لم يترك الرب فيه شروخاً تجد دعوته طريقاً من خلالها) ( ) .
ويرجع أليكسي جورافسكي في كتابه الإسلام والمسيحية ظهور الإسلام وترسخه السريع والقوي في أراض آسيوية وأفريقية واسعة في أثناء مسيرة الفتوحات الإسلامية الذي حدد - بصورة حاسمة - مصير النصرانية الشرقية التي قابلت الدين الجديد (الإسلام) دون أية مقاومة، بل بالترحاب في كثير من المناطق - ومرد ذلك الموقف إلى عدة عوامل , أهمها :-
أولاً: تسامح الإسلام إزاء القضايا المتعلقة بإقامة طقوس العبادة المسيحية ( طبعاً, بشرط التعاون السياسي).
ثانياً: بسبب أن المسلمين حموا المسيحيين من تعديات و اعتداءات و ملاحقات إمبراطورية بيزنطية غير المتسامحة مطلقاً. ويقول في موطن آخر: والواقع أن الإسلام يتمتع اليوم بشعبية بين السكان الأفارقة, أكبر بكثير من المسيحية. فشعائر الإسلام أكثر بساطة , ومتطلباته الدينية أقل تشدداً, كما أن الدخول في دين الإسلام يرتبط بصعوبات طقسية أقل بكثير من طقوس التعميد عند المسيحيين. إضافة إلى عامل اجتماعي مهم هنا, مثل تعدد الزوجات, الذي ينظر إليه الإسلام بصورة ميسرة و متسامحة. ولهذا فإن الأسهل على الإفريقي الناضج والأقرب إلى فطرته أن يعتنق الإسلام دون أي دين آخر) ( ).
ومع هذا الاعتراف بهذه الحقائق، والإدراك التام لما يحمله الإسلام من مقومات... فلا تزال الرغبة قائمة في تحقيق نصر كاسح يدفع إليه عداء كاشح، ولذا لا يزال السجال العسكري قائما بين الأمتين، يخبو تارة ويعصف في تارة أخرى من خلال حدث تقتضيه الاستراتيجيات، وتمليه المصالح، ويدفع إليه البغي منهم إذا أنِسوا منهم قوة ورأوا منا ضعفاً.
ويرى محمود شاكر رحمه الله أن الصراع بين الطرفين مرّ بأربع مراحل هي:
المرحلة الأولى: صراع الغضب لهزيمة المسيحية في أرض الشام ودخول أهلها في الإسلام ، فبالغضب أمّلت اختراق دار السلام لتسترد ما ضاع ، تدفعها بغضاء حية متسامحة ، لم تمنع ملكاً ولا أميراً ولا راهباً أن يمد المسلمين بما يطلبونه من كتب (( علوم الأوائل – الإغريق ))، التي كانت تحت يد المسيحية يعلوها التراب. وضل الصراع قائماً لم يفتر ، أكثر من أربعة قرون .
المرحلة الثانية : صراع الغضب المتدفق من قلب أوربة ، مشحوناً ببغضاء جاهلية عاتية عنيفة مكتسحة مدمرة سفاحة للدماء ، سفحت أول ما سفحت دماء أهل دينها من رعايا البيزنطية ، جاءت تريد هي الأخرى ، اختراق دار السلام ، وذلك عهد الحروب الصليبية الذي بقى في الشام قرنين ، ثم أرتد خائبا إلى مواطنه في قلب أوربة.
المرحلة الثالثة : صراع الغضب الذي أورثه اندحار الكتائب الصليبية ، من تحته بغضاء متوجهة عنيفة ، ولكنها مترددة يكبحها اليأس من اختراق دار الإسلام ثالثة بالسلاح وبالحرب ، فارتدعت لكي تبدأ في إصلاح خلل الحياة المسيحية ، بالاتكاء الشديد على علوم دار الإسلام ، ولكي تستعد لإخراج المسيحية من مأزق ضنك مُوئِس ، وظلت على ذلك قرناً ونصف قرن.
وهذه المراحل الثلاث ، كانت ترسف في أغلال (( القرون الوسطى )) أغلال الجهل والضياع . ولم تصنع هذه المراحل شيئاً ذا بال .
المرحلة الرابعة : صراع الغضب المشتعل بعد فتح القسطنطينية ، يزيده اشتعالاً وتوهجاً وقود من لهيب البغضاء والحقد الغائر في العظام على (( الترك – أي المسلمين )) ، وهم شبح مخيف مندفع في قلب أوربة ، يلقى ظله على كل شيء ، ويفزع كل كائن حي أو غير حي بالليل والنهار . وإذا كانت المراحل الثلاث الأول لم تصنع للمسيحية شيئاً ذا بال ، فصراع الغضب المشتعل بلهيب البغضاء والحقد هو وحده الذي صنع لأوربة كل شيء إلى يومنا هذا
صنع كل شيء ، لأنه هو الذي أدى بهم إلى يقظة شاملة قامت على الإصرار ، وعلى المجاهدة والمثابرة على تحصيل العلم وعلى إصلاح خلل الحياة المسيحية ، ولكن لم يكن لها يومئذ من سبيل ولا مدد ، إلا المدد الكائن في دار الإسلام ، من العلم الحي عند علماء المسلمين ، أو العلم المسطر في كتب أهل الإسلام فلم يترددوا، وبالجهاد الخارق، وبالحماسة المتوقدة، وبالصبر الطويل؛ انفكت أغلال (( القرون الوسطى )) بغتة عن قلب أوربة، وانبعثت نهضة ((العصور الحديثة )) مستمرة إلى هذا اليوم من يومئذ، عند أول بدء اليقظة، تحددت أهداف المسيحية الشمالية، وتحددت وسائلها. لم يغب عن أحد منهم قط أنهم في سبيل إعداد أنفسهم لحرب صليبية رابعة، لأنهم كانوا يومئذ يعيشون في ظل شبح مخيف متوغل في أرض أوربة المقدسة ببأس شديد وقوة لا تردع، بل هو شبح متجول يطوف أنحاء القارة كلها، لا يطرف فيها جفن حتى يراه ماثلاً في عينه آناء الليل وأطراف النهار، ((الترك الترك)) !! وهذه (( الترك )) ، وهم المسلمون ، طلائع عالم إسلامي زاخر هائل مخيف غير معروف لهم ما في جوفه، مسيطر على رقعة متراحبة ممتدة من الأندلس إلى أطراف تحيط بأرض روسيا، إلى جوف قارة آسيا، إلى جوف قارة إفريقيا, وهم يعلمون الآن علماً ليس بالظن، أن السلاح في هذه المرحلة الرابعة، ( وهو يومئذ قريب من قريب )، ليس يغنى غناء حاسماً , فقد وعظتهم المراحل الثلاث الأُوَل، فنحّوا أمره جانبا إلى أن يحين حينه ويصبح قادراً وحاسماً.لم يبق لهم إذن؛ إلا سلاح العقل والعلم والتفوق واليقظة والفهم وحسن التدبير، ثم المكر والدهاء واللين والمداهنة وترك الاستثارة، استثارة عالم ضخم مجهول ما في جوفه، ولا قِبل لهم بتدفق أمواجه الزاخرة ، والتي كان ((الترك)) الظافرون طلائعها الظاهرة لهم عيانا في قلب أوربة. وهذه رعايا المسيحية أمام أعينهم تتساقط في الإسلام مرة أخرى، طائعة مختارة، وتدخل بحماسة ويقين ثابت في الإسلام! يالها من فجيعة!! ويرتاع مع كل فجر قلبُ المسيحية، ويغلى رهبانها ورعاياها بغضا للإسلام، وحماسة للمسيحية) ( ).
وبعد النظر في تاريخ الصدام بينهما فالذي يريد أن يكتب عن الجدل بين الطرفين لابد أن يستصحب معه تاريخ العلاقة بينهما وما فيها من جدال وجلاد؛ لأنهما وجهان لعملة واحدة، ولذا قدمنا هذه المقدمة الموجزة، ولكن الذي يعنيا هنا في هذا البحث من هذه العلاقة هي العلاقة الدعوية الشرعية التي أرسى منهجها نبينا محمد  وسار عليها خلفاؤه وصحابته من بعده رضي الله عنهم، واقتفى أثرهم علماء الأمة من بعدهم، ولا تزال الأمة تترسم آثارهم عبر لقاءات فردية أو جماعية، تدعو إلى الإسلام تارة، وتنافح عنه أخرى، وتلتقي معهم في ثالثة للتعاقد على حفظ مصالح، وتحقيق مكاسب، وتصحيح تصور....
وكل من كتب عن هذه العلاقة يستشهد بمكاتباته  وبوفوده إلى ملوك النصارى ومجادلته لنصارى نجران( ) وغيرهم، كما يُستشهد بموادعة الرسول  ليهود المدينة ( ) كأساس لعلاقات تعايش سلمي بين المسلمين ومن يعيشون تحت حكمهم من غير المسلمين، وقد سارت هذه اللقاءات والمناظرات والوفود على وفق ما مضى منها، إلا أنه حدث تغير جذري في مسيرة الحوار مما يضطر الناظر فيه إلى أن يقسمه إلى مرحلتين هما:
المرحلة الأولى: من العهد النبوي إلى عام 1380هـ 1960م.
وهذه المرحلة اقتصرت اللقاءات والمناظرات على الموضوعات التالية:
1- الدعوة إلى الإسلام، ابتداءً من الدعوة إلى الوحدانية، والإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم واتّباعه، والتحذير من مغبة مخالفته والإعراض عنه، كما جاء ذلك في قوله تعالى:  قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ  [سورة آل عمران الآية 64]، وكما أوصى بذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه حينما بعثه إلى اليمن ( ) .
2- إفحام المجادل وإرغامه، خاصة في دعوى أن الرسول  يأخذ من التوراة والإنجيل، وما يماثلها من الشبهات.
3- إزالة الشبهات، وخاصة تحقيق الوحدانية، وتفنيد ادعاء الصاحبة والولد وتكفير الخطايا من قبل البشر، وأن لا يتخذ البشر بعضهم أربابا من دون الله .
4- التعايش السلمي والاتفاق على الحقوق والواجبات، فيما يتعلق بحقوق الراعي والرعية والشؤون الخارجية والداخلية.
وهذه الموضوعات والمنطلقات واضحة جلية عبر تاريخ هذه العلاقة ولم تخرج عنها، ابتداء من آيات القرآن الكريم التي قررت وأطّرت وحددت مستوى العلاقة بين الجانبين، أو في مكاتباته ومراسلاته ، أو في مكاتبات الخلفاء والملوك المسلمين، أو في دعوة ومناظرات العلماء المسلمين ومجادلاتهم لأقرانهم ومن يَرِدُ عليهم مناظراً أو مسترشداً.
المرحلة الثانية: من عام 1380هـ 1960م. إلى الآن وإلى ما يشاء الله.
وفي هذه المرحلة التي نعيشها تناولت اللقاءات والحوارات الموضوعات السابقة التي تم تناولها في المرحلة الأولى وزادت عليها منطلقاً آخر، ألا وهو منطلق التقارب الديني بين النصرانية والإسلام، وهذا هو أبرز ما يميز هذه المرحلة عن السابقة. وإذا كان هذا هو الأبرز فلابد لنا من تتبع بداياته حتى نكون على بصيرة في تقييمه والحكم عليه، والتعاطي معه.
كان عداء النصارى للإسلام والمسلمين سافراً عبر التاريخ، ولهذا العداء أسبابه ودوافعه التي ذكر شيئا منها محمود شاكر كما تقدم، وبين د. الأنبا يوحنا قلته: ( أن من الحقائق التاريخية أنه خلال ألف سنة أي بعد القرن السابع إلى السادس عشر للميلاد لم تواجه المسيحية هزة عنيفة كالتي أحدثها الإسلام، ففي شمال أفريقيا محيت المعالم المسيحية، وتوارى تاريخها أو بهت في كثير من البلدان، وعمّق مأساة المسيحية أمام امتداد الإسلام الحروب التي خاضتها الشعوب، بالرغم من أن المسيحيين على أرض الإسلام وفي المناطق العربية تُرك لهم مساحة من حرية العبادة، واشتركوا في كثير من المناصب والسلطة أكثر بكثير مما تركه المسيحيون لليهود ... ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين ظل الغرب محتلاً للبلاد الإسلامية والعربية، ويمكن القول إن تيار المستشرق لامنس كان هو السائد في وجدان الغرب، ولم يكن لامنس يرى في الإسلام إلا يهودية معربة، ومنذ فجر الإسلام اعتبره المسيحيون عدواً للمسيحية، حاربه البيزنطيون بلا هوادة، وأطلقوا على المسلمين لقب البربر، ولم يتقبلوا محمداً  ، وحفظ التاريخ تراثاً لا يقل بشاعة عن تراث الحروب الصليبية منذ القديس يوحنا الدمشقي أحد كبار موظفي البلاط الأموي الذي أعلن أن الإسلام هو عدو المسيحية، وسار على هذا المنهج كثيرون من أهل اللاهوت المسيحي مما زرع في قلوب المسيحيين كراهية ورفضا للمسلمين ولحضارتهم ( ) ، وبعد أن صور هذا النصراني ما تكنه صدورهم نحونا عبر التاريخ؛ بين كيف تم التحول من الحرب إلى الحوار، ومن الجلاد إلى الجدال إذا رأوا لذلك موضعاً، وأمّلوا منه نفعاً. وبين أن العالم الغربي بدأ يغير نظرته إلى الإسلام متأثراً بدعوة لويس ماسنيون 1882- 1962م الذي رأى أن الدعوة الإبراهيمية تعتبر وحدة روحية متكاملة، بينما يرى أليكسي أن العالم الأوروبي شهد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي انقسام الفكر الأوربي تجاه الإسلام إلى تيارين أحدهما تبنى الأفكار والتصورات والأساليب الرومانسية ويعتمد على شحن العواطف وتأجيج المشاعر، بينما اعتمد الاتجاه الآخر المنهج التجريبي هذا فيما يتعلق بالأدباء والمفكرين؛ أما رجال اللاهوت فهم إما أُسارى الدوافع السابقة والأهواء الدينية التقليدية، وإما أنهم أبدوا اللامبالاة وعدم الاكتراث تجاه ما يسمى في الغرب مشكلة الإسلام، ومع ذلك بدأت تظهر أصوات جديدة تطرح عقائد أساسية ومن أبرز هذه الأصوات فلادمير سلولوفيوف 1853- 1900م ولويس ماسنيون اللذان يشكلان – بحسب رأي أليكسي – إرهاصاً أولياً ممهداً للحوار النصراني الإسلامي( )، طرح ماسنيون رؤيته – وإن كان قد سبقه إليها الروسي فلاديمير، ثم ألحق القول بالعمل؛ فشرع في تصنيف عدة كتب عن هذا الأمر، وأسس عدداً من الجمعيات الفرنسية العربية لهذا الغرض، كما تقدم بمبادرات كثيرة لتغيير موقف الكنيسة الكاثوليكية تجاه الإسلام، وكان له مراسلات واتصالات واسعة مع الهيئات الكاثوليكية العليا بما في ذلك صداقته مع بابا الفاتيكان الباب بولس السادس... كل ذلك مهّد للمناقشات التي دارت في المجمع الفاتيكاني الثاني 1962-1965 م حول العلاقة بين الكاثوليك والإسلام.
ومع هذا التوجه من ماسنيون فقد كانت الدراسات الكاثوليكية عن الإسلام في هذه الفترة تنقسم إلى ثلاثة اتجاهات تقريبا هي كالتالي:
الاتجاه الأول: وهو الأكثر انفتاحاً، وهو اتجاه ماسنيون وأتباعه، ويطلق عليه اتجاه الحد الأعلى.
الاتجاه الثاني: وهو المضاد المتحفظ الذي يطلق عليه اتجاه الحد الأدنى في الانفتاح على الإسلام والاعتراف به، ويفسرون الإسلام تفسيراً وفق أسوأ الأطروحات التقليدية الغربية للقرون الوسطى.
الاتجاه الثالث: وهو الاتجاه الوسط، وهو موقف الانفتاح والود والحوار مع المسلمين، مع أن موقفهم من الرسول  والقرآن الكريم أكثر تحفظاً، وهو خلاف تيار الحد الأعلى في الانفتاح على الإسلام.
هذا على مستوى الدراسات، أما على مستوى الكنسية الكاثوليكية فقد بدأ منذ أواسط القرن التاسع عشر اهتمام الكنسية بنصارى الشرق الأدنى، ويذكر أليكسي أن الوثائق الكنسية بين عام 1954-1959م تضمنت أن السلطة الكاثوليكية العليا أصبحت تدرك بصورة متزايدة حتمية استقلال العالم الأفرو-آسيوي، وأخذت بتكييف نفسها وتوجهها مع هذه العملية الكونية... واستمر هذا التوجه إلى أن ناقش المجمع الفاتيكاني الثاني 1962-1965م على مستوى مذهبي عقائدي مشكلة الكنيسة والديانات غير النصرانية حيث خصص لهذه المسألة تصريحاً خاصاً حول (علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحية)، كما أن هذه هي المرة الأولى منذ أربعة عشر قرناً التي يتحدث فيها مجمع مسكوني كاثوليكي عن المسلمين، وفي أثناء نقاش هذه المسألة انقسم أعضاء المجمع حيث كان بعضهم يرى التحدث في الوثيقة المقترحة عن الإسلام بروح إيجابية، في حين تمسك آخرون بوجهة النظر التقليدية التي ترى الإسلام بدعة خطيرة وتهديداً حقيقياً للكنيسة، ومن ثم طالبوا بإدانته دون تحفظ.
واستمرت المداولات والجلسات إلى أن جرى الاقتراع في جلسة علنية في الخامس عشر من أكتوبر عام 1965م على النص الصريح الخاص بـ(علاقة الكنيسة مع الديانات غير المسيحية) فوافق عليه 2226 أسقفاً في حين عارضه 88صوتاً فقط. ويتكون هذا التصريح من خمسة أقسام، والذي يهمنا هو القسم الخاص بالإسلام وهو: ( إن الكنيسة تنظر بعين الاعتبار أيضاً إلى المسلمين الذي يعبدون الإله الواحد الحي القيوم الرحيم القادر على كل شيء، خالق السماء والأرض، ومكلم البشر الذين يجتهدون في أن يخضعوا بكليتهم حتى لأوامر الله الخفية، كما خضع له إبراهيم، الذي يسند إليه بطيبة خاطر الإيمان الإسلامي، وأنهم يجلون يسوع كنبي وإن لم يعترفوا به كإله، ويكرمون أمه العذراء، كما أنهم بتقوى يتضرعون إليها أحياناً - المسلمون لا يتضرعون إلا إلى الحي الذي لا يموت - علاوة على ذلك فإنهم ينتظرون يوم الدين عندما يثيب الله كل البشر القائمين من الموت، ويعظمون الحياة الأخلاقية أيضا، ويؤدون العبادة لله لاسيما الصلاة والزكاة والصوم، وإذا كانت قد نشأت – على مر القرون – منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين فالمجمع المقدس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي، وينصرفوا بإخلاص إلى التفـاهم المتبادل، ويصـونوا ويعززوا معا العدالة الاجتماعية والخيور الأخلاقية والسلام والحرية لفائدة الناس جميعاً ) ( ) .
لقد قوبلت دعوة المجمع بارتياح وترحيب في أوساط الكنسية الكاثوليكية؛ إلا أن التطبيق العملي بدأ أكثر صعوبة وتعقيداً؛ إذ تبين أنه توجد معارضة للحوار في الكنسية نفسها، فأساقفة الدول التي يشكل المسلمون فيها أقلية يعارضون الحوار، بينما أيده أساقفة البلدان ذات الأغلبية المسلمة. وفي مرحلة تالية برز في الكاثوليكية ثلاث نزعات من حيث الموقف من الإسلام، النزعة الأولى: يؤيدون الحوار مع المسلمين انطلاقاً من القواسم المشتركة بين الديانتين. النزعة الثانية: لا يمانعون من حيث المبدأ في إقامة الحوار لكنهم يشترطون إقامته ضمن المجال الدنيوي البحث؛ بحيث ينأي الحوار عن مناقشة المسائل الدينية، وهم في نفس الوقت يريدون أن يرتكزوا في حوارهم الدنيوي على مبادئ لاهوتية. النزعة الثالثة: يرى أن الواقع يحول دون إقامة حوار مفيد بين الديانتين، ويعتقد أصحاب هذه النزعة أن الإسلام والمسلمين هم الذين لا يقبلون أدنى مساواة بينهم وبين غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى. وهذه النزعة ليست كبيرة الحجم وليس لها تأثير في الكاثوليكية المعاصرة ( ). ثم توالت مؤتمرات الحوار ومنتدياته متنقلاً بين عاصمة وأخرى، تارة ندعو إليه، وتارات نُدعي إليه، يناقش معضلة ولا يخرج بحل، ويقرب حقاً من باطل. وقد عقد حلال هذه الفترة 1965-2006م أكثر من 31 مؤتمراً للحوار ، ذكرها مرتبة موضحة موضوعاتها وأماكنها وأبرز توصياتها - بسام داود عجك في رسالته الحاوية (الحوار الإسلامي المسيحي) وهي رسالة أعدت لنيل درجة التخصص العالي الماجستير، في كلية الدعوة الإسلامية في طرابلس، كما ذكرها أليكسي في كتابه الإسلام والمسيحية ( ) .

المبحث الثاني: غاياته وأهدافه.
الحديث عن أهدافه وغاياته يتطلب أن يكون كل فرق حدد أهدافه منه بشكل صحيح وواضح، وما لم يكن ذلك فليس أمام الباحث إلا أن يجتهد في استقراء النصوص وتحليل المواقف، وتحديد منطلق كل فريق من هذا الحوار الذي يُدعى إليه.
فأما أهداف المسلمين من هذا الحوار فهي: -
1- الدعوة إلى الإسلام قياماً بالواجب ورحمة بالمخالف انطلاقاً من قوله تعالى:  ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ  [سورة النحل الآية 125] ، وقوله جل ثناؤه:  قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ  [سورة آل عمران الآية 64].
2- إحقاق الحق ورد الباطل وتفنيد الشبهة قال تعالى:  وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [سورة الفرقان الآية 33] ، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن كثيراً من النصارى يبلغهم الإسلام ويمنعهم منه شبهات تحول بينهم وبينه، فيحتاجون إلى أجوبة عليها ( ) .
3- إقامة الحجة وإفحام الخصم قال تعالى:  لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ  [سورة المائدة الآية 17] ( ).
4- تحقيق المصالح الشرعية التي لا تتحقق إلا بالتحاور والتعاقد معهم عليها كما فعل الرسول  مع يهود المدينة ومع نصارى نجران.
أما أهداف النصارى المعلنة من هذا الحوار فهي كما تضمنته وثيقة المجمع المسكوني: (أن يتناسوا – أي النصارى والمسلمون - الماضي، وينصرفوا بإخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعززوا معا العدالة الاجتماعية والخيور الأخلاقية والسلام والحرية لفائدة الناس جميعاً) أما الأهداف غير معلنة للحوار المتعلق بالقضايا الدينية - التي تظهر في ثنايا توصيات المؤتمرات وفي الأدبيات المتعلقة بهذا الشأن، فمنها:-
1- إخراج الأقليات النصرانية في المجتمعات الإسلامية من عزلتها، وإدماجها في المجتمع، وإتاحة الفرصة لمشاركتها في جميع الأنشطة التي لا تتمكن من التعاطي من خلالها مالم تتفاعل بالحوار، كما أنه يتيح للكنيسة الهدف ذاته؛ فقد أشار رئيس رهبنة اليسوعيين أروب إلى أن الحوار المعاصر يَبرزُ بوصفه شكلاً جديداً للعلاقات بين الكنيسة والعالم، وأن ليس للكنيسة إلا أحد ثلاثة خيارات هي: موقف الجيتو الهارب إلى عالمه الخاص والمنكفئ على ذاته، أو موقف التحريم والتجريم والاقتراب من العالم فقط بهدف إدانته، أو موقف الحوار وهو الموقف الذي رأى البابا أنه يشكل المنطلق المعبّر أفضل تعبير عن العلاقة بين الكنيسة والعالم ( ) .
2- أنه البديل الآمن عن التنصير الذي يحقق تقريب النصرانية دون أن يستوجس المدعو منه خيفة، فقد ذكر ج. أيدون أور في بحثه المقدم إلى مؤتمر كلورادو أن من دروس الماضي وتوقعات المستقبل: (أنه يجب استبدال تشويه سمعة الإسلام بالتعايش و الحوار دون إضعاف التنصير على الرغم من زيف الإسلام وعجزه) ( ) ، وذكر د. السماك (أن الغرب يوظف الحوار لهدف التعرف بشكل أفضل على عقلية المسلمين، ودراسة التحولات المستجدة في الفكر الإسلامي عن قرب؛ لتسهيل عملية الاحتواء والاستيعاب والتدجين، وذكر أيضا أن وثيقة الفاتيكان لعام 1984م اعتبرت أن الحوار يتيح الفرصة للآخرين كي يختبروا بأنفسهم القيم الإنجيلية بشكل واقعي، وهذا يفهم على أن الحوار هو وجه من وجوه التبشير) ( ) .
3- أن تكون الديانة النصرانية ( بسيادة الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية الإنجيلية) في الألفية الثالثة القوة التي تستطيع تشكيل الثقافة العالمية في المرحلة القادمة من تاريخ العالم؛ لأنها بحسب رأي القس رتشارد جون مدير مجلة (first things) هي الديانة الوحيدة التي تستطيع أن تقدم رؤية متكاملة وشاملة ومتفائلة للإنسانية كافة) ( ) . فهو يرى أن هيمنة النصرانية على غيرها تمكّنها من تشكيل الثقافة العالمية وفق رؤيتها، ولا سبيل إليها إلا من خلال الحوار.
4- نشر النصرانية والدعوة إليها فقد ذكر د. أبو ليلة رئيس قسم الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية في جامعة الأزهر – بعد أن خاض بعض هذه المؤتمرات - أن هدفهم من هذه المؤتمرات والحوارات هو الدعوة إلى النصرانية ونشر الأباطيل ( ) . وذكر أليكسي أن الحوار أريد به أن يكون أسلوباً جديداً للتنصير؛ إذ الهدف من ذلك أن ينضج أصحابُ الديانات الأخرى ليتحقق لهم الخلاص المسيحي ( ) . ومما جاء في الأسس التي وضعتها اللجنة الفرعية للحوار والتعايش بين الديانات الحية: (8- الأسس العقائدية للحوار: يجب أن يكون مبنيا على أساس أننا نجتمع لحل مشاكلنا الخاصة، ولأجل أن نخدم ديننا، ولأجل أن نفكر في كيفية إنقاذ البشرية، والذي لن يتم إلا بالإيمان بالمسيح كمخلص)( ).
5- زعزعة العقائد وإفسادها، حيث ذكر كل من د. مصطفى خالدي و د. عمر فروخ غاية هذا الحوار في العصر الحاضر فقالا: ( والحوار بين المبشرين و بين أتباع الأديان غير المسيحيين أمر قديم, فإن عدداً كبيراً من المؤسسات الغربية كالمدارس و النوادي و جمعيات الشبان والشابات وسائل لحوار مستتر كثيراً أو قليلاً وغاية هذا الحوار زعزعة العقائد على ألسنة أشخاص معروفين في قومهم، و الحوار كالمعاهدات يظفر بالغنائم فيها من كان أقوى يداً و أرفع صوتاً) ( ) .
6- اعتراف المسلمين بالديانة النصرانية, و أنهم على شيء من الحق, و أن هناك نقاطاً و مسائل مشتركة بينهم يمكن استثمارها لالتقاء الطرفين، هذا من جانب، ومن جانب آخر للحيلولة بين أتباعهم وبين التفكير في دراسة الإسلام خشية اعتناقهم له( ).

المبحث الثالث: بيان الموقف الشرعي منه.
من العسير على الباحث أن يقطع بحكم الشرع في مسألة ما، ولكنه يدلي برأيه واجتهاده، فإن كان حقاً وصواباً فالحمد لله، وإن كانت الأخرى فأستغفر الله، والحديث عن الموقف من هذا الحوار يتعدد بتعدد منطلقاته؛ فأما المنطلقات الثلاثة التي وردت في المرحلة الأولى فهي منطلقات مشروعة للحوار متى ما استكمل شروطه وآدابه، وكان المحاوِر والمحاوَر أهلاً لهذا الحوار، بل يجب أن يسلك الداعي إلى الله جميع السبل المشروعة من حوار أو جدال أو مناظرة بقدر ما يتحقق به فرض الكفاية في هذا الباب؛ وذلك لتحقيق المصالح الشرعية التي جاء بها الشرع الحنيف، من دعوة للوحدانية، وتفنيد للشبه الواهية، وتثبيت للأمة الداعية، وإرغام للمجادل المعاند، وتحصيل للمقاصد الدينية والدنيوية.
أما المنطلق الرابع في المرحلة الثانية وهو الحوار الذي يهدف إلى التقارب الديني وإذابة الفوارق بين المنتسبين إلى الإسلام وإلى غيره، وإيجاد القواسم المشتركة والزعم بأننا جميعا نؤمن بإله واحد، وكتاب واحد، ورسول واحد ( ) ، فهذا منطلق لا يجوز المشاركة فيه إلا بقدر بيان ضلال المخالف ودعوته إلى الإسلام، والتحذير من مغبة ما يفضي إليه صنيعه.
ولكن ليس المقام هنا هل يجوز أن يحاور المسلم في هذه المنطلقات؟ ولكن السؤال الذي يفرض نفسه ما جدوى الحوار مع النصارى في المنطلق الخاص بالتعايش السلمي في وقت يتعامل فيه جل النصارى مع غالب المسلمين تعامل الاستعلاء والظلم والجور والإقصاء؟ والفاتيكان وهو يعد للحوار مع المسلمين قد أخذ بعين الاعتبار هذا الظلم وأعد محاوريه لذلك؛ ففي الفصل الأول من كتاب إرشادات وتوجيهات من أجل الحوار بين المسلمين والمسيحيين الصادر عن الفاتيكان: (ولكن المسلمين – ويجب أن نقولها بصراحة – لم يجنوا من العالم المسيحي سوى القليل من المشاركة الوجدانية) ( ). ولا تزال هناك ثلاثة ينابيع تؤسس لصراع عقائدي حضاري يستهدف إلغاء الإسلام والاستعداء عليه وهي: -
الينبوع الأول: الذاكرة التاريخية الغربية الحافلة بصور العداء التشويهية للإسلام، وهي صور تعكس إصرار الغرب كما تقول الكاتبة الألمانية زينجرد هونكة في كتابها (الله ليس كذلك): (على دفن حقيقة الإسلام في مقبرة الأحكام التعسفية طمساً لمعالمه)، وهذا الإخفاء المتعمد والشحن النفسي تجده في المناهج المدرسية الغربية ( ) ، ولعل أبرز شاهد قائم أنه يعقد في فرنسا لقاء موسع كل عام في يوم 26 ديسمبر في الباحة نفسها من دير بلدة كلير مونت في جنوبي فرنسا ويعاد فيها إلقاء خطبة أوربان الثاني التي ألقاها قبل أكثر من 900عام.
الينبوع الثاني: ردود الفعل العنيفة الذي تستدرج إليها حركات إسلامية في بعض الدول الإسلامية.
الينبوع الثالث: الاستنفار الإعلامي الغربي لتوظيف ردود أفعال الحركات الإسلامية في عملية شحن المجتمعات الغربية بمشاعر العداء؛ بحيث تتقبل هذه المجتمعات مسؤولية المواجهة مع العالم الإسلامي على أنها شر لا بد منه ( ) .
ومع كل ذلك فكما قال معالي د. النملة فالحوار بشروطه ومقوماته وأركانه تجسير للفجوة التي أدت إلى هذا التصادم المفتعل بين الثقافات، وكلما زادت أساليب الحوار خفت حدة التصادم، على الرغم من أننا لا نستطيع نسيان الحال التي واجهها ولا يزال يواجهها المسلمون من بعض الدول النصرانية؛ مما يفضي إلى الصورة القاتمة ويستدعى تواصل الاعتداء المفتعل، ومع ذلك فليس من المتوقع أن يتوقف التصادم؛ فذلك سنة ربانية، قال تعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ  [سورة هود الآيتان 119،118]، وقال عز شأنه: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [سورة البقرة الآية 120]، ولكن المطلوب في هذا العصر هو تحجيم التصادم ( ).
وبعد هذه الوقفات اليسيرة المتعلقة بالمنطلقات السابقة، يحسن بنا أن نقف مع تصريح الفاتيكان الخاص بالعلاقة مع المسلمين، والداعي إلى الحوار معهم؛ لأن الوقوف مع هذه النص يبين لنا هل كان تصريحاً عادلاً وسالماً من اللبس؟ أم أنه منذ ولادته ولد مشوّهاً، يحمل عناصر فنائه وأفوله.
فأقول: إن الباحث أليكسي حلل هذا النص من حيث موافقته ومناسبته للإسلام وللمسلمين؛ فوجد أنه يتضمن ثغرات جوهرية، وتنقصه مقومات أساسية منها:
1- اكتفى التصريح بوصف المسلمين كأتباع ديانة: (يعبدون الإله الواحد) ولم يتعرض للإسلام كدين من حيث الاعتراف به، أو بيان الموقف منه.
2- اعتبر المجمع أن الخلاص ليس وقفاً على الكنيسة؛ وأن لله تجليات عبر أديان أخرى كالإسلام والبوذية والشنتوية وغيرها. فاعتبر البعض أن هذا انفتاح من الكنيسة على الإسلام، وأي انفتاح أو اعتبار وقد سووا بين الإسلام والبوذية!! ( ).
3- امتنع المجمع عن الإشارة القاطعة والصريحة إلى اتّباع المسلمين (ملة إبراهيم) واستعاض عنها بعبارة وصفية تتحدث عن المسلمين (الذين يعتقدون أنهم يتبعون ملة إبراهيم) فهي تصف ولا تعترف.
4- سكت المجمع عن صحة نبوة نبينا محمد  وقد اقترح بعض المؤتمرين إدخال تعديل على القسم السادس عشر من مسودة الدستور العقائدي في الكنسية (يؤكد أن المسلمين يعبدون معنا الإله الواحد الرحيم، الذي كلم الناس بالأنبياء) إلا أن اللجنة ألغت هذه العبارة؛ لأنها يُفهم منها أن الله تكلم عبر محمد  أي أوحى إليه، وتضمن التصريح الختامي (الذي كلم الناس). إن قضية نبوة نبينا  من أبرز الإشكاليات التي تواجه مؤتمرات الحوار؛ ولذا رفضت كثير من الأقطار العربية إرسال موفدين لها إلى مؤتمر قرطبة عام 1977م الذي شارك فيه أكثر من 200مشارك – محتجة بعدم جدوى حوار بين الديانتين ما دام أن الكنيسة لن تغير موقفها من النبي محمد  ( ). وهو احتجاج ورفض في محله.
5- تضمن النص دعوة المسلمين إلى نسيان الماضي، ولم يتضمن النص الاعتذار لهم في حين أن الفاتيكان اعتذر لليهود ( ). وبعد هذا النقد اليسير لقرار المجمع الذي انداحت بعده دائرة المؤتمرات والحوارات على مدى أكثر من أربعين عاماً تخللها أكثر من ثلاثين ما بين مؤتمر وحوار وندوة... فيجب على من أراد أن يقيم هذه المسيرة ويبدي فيها رأياً أن يستعرض تلك المخرجات؛ حتى تكون النتيجة التي يصل إليها صحيحة أو قريبة من الصواب. فأقول:
- المؤتمرات السابقة جلها كان الداعي لها منظمات كنسية لاهوتية، وفي عواصم غربية، ومعلوم أن الجهة المنظمة والداعية يكون لها فضلُُُ توجيه دفة ومسار المؤتمر ، فضلاً عن اختيار موضوعاته وصياغة توصياته، وقد يعقد المؤتمر ويخرج بالتوصيات التي يُراد لها، وإن لم تحضر كثير من الدول والمنظمات الإسلامية، كما في مؤتمر قرطبة1977م ( ).
- مما يؤكد ضعف المحصّلة التي يخرج بها المحاور المسلم – جهة كان أو فرداً – أننا لم نر دعوات للحوار تنبعث من المسلمين بالعدد الذي يقرب أو يساوي الدعوات التي وجهت إلى المسلمين؛ مما يؤكد للمتأمل أن الرابح فيها هو الفريق النصراني، ولو حققنا فيها مكاسب لرأينا المسارعة إلى الدعوة إليها من قبلنا.
- مما يؤكد ضعف المحصّلة التي يخرج بها المحاور المسلم – جهة كان أو فردا – أن المشاركين من المسلمين في كثير من المؤتمرات إما غير متخصصين أو غير متفرغين لهذا الأمر، بينما تجد الفريق النصراني المحاور يشغل أعضاؤه وظائف كنسية، ومتخصصون في هذا الأمر فضلاً عن أنه يتم تزويدهم بتوجيهات ومطبوعات خاصة لهذا الغرض، ويتم إعدادهم إعداداً مسبقاًَ من حيث المادة العلمية والأسلوبية والخبرات، مما حدا بأسقف الجزائر أن يتفهم بعض القصور الذي قد يظهر على بعض المحاورين من المسلمين فيعتذر لهم قائلاً: (إن الحوار قد سبقته من الجانب المسيحي خمسمائة سنة من الإعداد) ( ).وهذا قد لا يتحقق لبعض المشاركين من المسلمين؛ ولذا تكون مشاركاتهم محل انتقاد من خصومهم، فهذا هانز كونج - أحد أبرز المتابعين للحوار من الجهة النصرانية - يعلق على مشاركة بعض المسلمين فيقول: (ليس للمسلمين من مزاج للحوار) ( ).
- أن الناظر في موضوعات وتوصيات ونتائج كثير من هذه الحوارات المتعلقة بالقضايا الدينية- يجد أنها تنحوا منحى التقارب الديني؛ إذ هي لا تبحث عن حق، ولا تدحض باطلاً، وإنما هي تمييع للحقائق الشرعية، وتسويق للعقائد الكفرية، وصد عن سبيل الله... وهذا مصادم لقوله تعالى:  أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ  [سورة البقرة الآية 85]، ولقوله جل ثناؤه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ  [سورة آل عمران الآية 85] .
- أن بعض المؤتمرات تنص على أن يقتصر نشر الإسلام والنصرانية بين أتباعهم، وهذا يخالف هدي القرآن، ولن تلتزم به النصرانية التي لا تتوقف جحافل منصريها عن أن تجوس في ديار المسلمين.
- ذكر د. السماك أن الحوار ينبغي أن ينطلق من أمر جوهري جداً، وهو البحث عن الحقيقة في وجهة نظر الآخر، بمعنى أن الحقيقة ليست حكراً على أي طرف. إن الاعتقاد بأن أي واحد منا على صواب لا يعني بالضرورة أن الآخرين على خطأ، وذكر أيضا أن الحوار يشتمل على ميادين عديدة وذكر منها حوار النقاش الفكري وحتى العقدي ( )،وهذا تجهيل للقرآن، وانتقاص لملة أكملها الذي أنزلها، وبلغها الذي أرسل بها  ؛ إذ كل مسلم يعلم علم اليقين أنه على الحق في كل قضية عقدية أو غيبية مما أخبر به الرسول  . بل الشك في قضية عقدية تعلم من الدين بالضرورة يخرج من الملة، كما في خبر صاحب الجنة الذي ذكره الله في سورة الكهف.
وفي رد أبي الوليد الباجي في رسالته إلى راهب فرنسا ما يبين قوة الحجة وعمق الولاء لهذا الدين حيث يقول: (وقد اختلفت فِرَقِكم في الاتحاد الذي سميتموه التحاماً اختلافاً لعله لم يبلغك، ولو كنت لدينا لأريناك في هذا من كلام متقدمي أهل ملتك، ثم من تقريع المسلمين على ذلك وتتبع الحجج بما لم يبلغه قط أحد منهم، ولأسمعناك من غرائبه وعجائبه وتلفيقاته وتناقضه وفضائحه واضطراب رواة الأناجيل، ما يملأ سمعك ويطيش له لُبّك! لكن الكَتْب لا يحتمل التطويل، ولاسيما لمن لم يرد التأليف، وإنما أراد التقريب، وخاف تحيّر من ورد عليه الإكثار بالشرح و التفسير، وما أحد من أهل الملل وأتباع الرسل ممن تقدم عيسى عليه السلام، ولا ممن تأخر عنه- يقر بأنه وجد الالتحام الذي تدّعونه في كتب ولا تنزيل، ولا فيما أخبر به نبي ولا رسول) ( ).
- تخلو هذه المؤتمرات من طلب الحق بدليله وبذل السبل في الوصول إليه، وهذا لعمر الحق غاية كل حي عاقل. في حين أن النصارى لا يتخلون عن نشر دينهم عبر كل وسيلة بما فيها هذه المؤتمرات، يقول الأنباء قلته في ختام ورقته التي قدمها في مؤتمر الإسلام والغرب الذي عقد في جامعة القاهرة: ( إن لقاء الحضارات لا يعني إطلاقاً تنازلاً عن القيم الإلهية الثابتة، أو هروباً من واجب الدعوة لها والتبشير بما نؤمن) ( ).
- ورد في بعض هذه المؤتمرات المطالبة بالتخلي عن بعض العقائد الشرعية كالردة؛ حتى يكون المرتد في مأمن من العقوبة، يظنون أن الذي يحول بين المسلم وبين أن يعتنق النصرانية هو حد الردة، والحقيقة أن النصرانية لا يقبلها العقل ولا يسندها الدليل. وورد فيها أيضا المطالبة بحرية اعتقاد الأطفال؛ حتى يتمكنوا من تنصير الأطفال وفق توصيات معتمدة.
- عالجت ندوة الحوار في طرابلس موضوعات عدة، وخرجت بنتائج، ورفض الجانب النصراني التصديق على النتائج المتعلقة بالقدس وإسرائيل، كما درس المؤتمرون: كيف نعمل على إزالة الأحكام المسبقة الخاطئة، وضعف الثقة التي لا تزال تفرق بيننا. والثقة الدينية بهم تتعارض مع مبدأ الولاء والبراء، كما أن من نتائج هذا المؤتمر أن افتتح في مدينة بنغازي الكنسية الكاثوليكية في نفس العام! فأي مكسب حققه الجانب المسلم؟! ( ).
- تتيح هذه المؤتمرات مكاسب للجانب النصراني كما في الفقرة السابقة وكما تيسر لكاردينال الكنيسة الكاثوليكية أن يتحدث أمام المسلمين في جامعة الأزهر فيقول أليكسي: ( إنه للمرة الأولى منذ ألف سنة تقريباً من وجود هذا المركز العلمي الأضخم في العالم الإسلامي يتحدث فيه عالم مسيحي، ومنذ ذلك الحين (آذار 1965م) تجري لقاءات إسلامية مسيحية بصورة مستمرة) ( ).
- على رغم كثرة هذه المؤتمرات فلم يتوقف النصارى عن ظلم المسلمين، ولم تتوقف جيوشهم من مداهمة بلدانهم، ولم تتوقف جحافل التنصير عن الدعوة إلى دينهم في ديار المسلمين، ولم تنل الأقليات المسلمة حقوقها؛ بل نالت الأقليات النصرانية أكثر مما كانت تطمح إليه، وإن أول عمل قام به بابا الفاتيكان الحالي بعد تسلمه منصبه أن هاجم الإسلام والرسول  ، وهو قبل تسلمه هذا المنصب كان في سكرتارية لجان الحوار، فيفهم من هذا الهجوم أنه رسالة لوقف الحوار، وأن ما بناه سلفه؛ هدمه هو بموقف واحد، إلا أن يكون قد يأس من أن يحقق الحوار الأهداف المرجوة منه.
وبعد بيان تقييمنا لهذه المؤتمرات من وجهة نظرنا، فمن المناسب أن ننظر كيف نظر إليها الجانب الآخر؟. فبرغم المكاسب التي تحققت لهم منها إلا أننا نجد أن هذا النجاح الذي تحقق لهم لا يكفي، وعلى كل حال فسنقف مع تقييمهم لذلك وفق المرئيات التالية التي قدمت في مؤتمر كلورادو عام 1979م وتمت مناقشتها بحضور أعضاء من مجلس الكنائس العالمي، ومما ورد فيها:
- اعتبر الحوار وسيلة مفيدة للتنصير.
- اعتبر كهدف للبحث عن فهم لمعتقداتنا الخاصة في مضامينها التاريخية والثقافية.
- اعتبر أن الحوار الذي قد يفضي إلى أن يتحول المحاور النصراني إلى الإسلام حوار مرفوض، وأن المحاورة إذا أخذت الشكل الحقيقي فلن يصل المحاور إلى درجة أن يقول للمسلم: إنني ضال مثلما أنت ضال. قارن هذا مع قول البعض: إن الاعتقاد بأن أي واحد منا على صواب لا يعني بالضرورة أن الآخرين على خطأ. فكيف يكون ثبات المخالف وهو على ضلال وتردد المحق وهو على هدى.
- أن البيانات والتقارير التي تصدر عقب هذه المؤتمرات لا تذكر الحقيقة، وتخشى المنظمات التنصيرية التي تعدها أن يطلع عليها المسلمون فتكون خيانة لهم!! حيث يدور في المؤتمر خلاف ما تتضمنه التقارير.
- اعتبر أداة مفيدة جداً لتأسيس صداقات وعلاقات تفاهم على الرغم من وجود اختلافات، ولكنها تفضي في النهاية إلى اعتناق النصرانية؛ استناداً إلى مقياس إنكل وهو مقياس مكون من عشر درجات، يبدأ من 7-إلى 1- ثم 1+إلى 3+، وتساوي 7- لا أدرك النصرانية، بينا 3+= الاندماج بالنصرانية. فالحوار ينقل المخالف من عدم الإدراك إلى التقبل ثم الاندماج.
- اعتبر في بعض الحالات نوعاً من التنازلات على كل الجبهات، والمسلمون يهنئون بعضهم بعضاً على ذلك.
- اعتبر محققاً لمزيد من الفهم والدعوة وإظهار كلمة الرب واضحة، والاستراتيجية تضمن وقوع البذرة في التربة الصحيحة.
- يسهم في إعادتهم إلى الوراء لإعادة اكتشاف النصرانية، ولا يستطيعون بعد ذلك أن يكونوا سطحيين في افتراضاتهم كما كانوا في السابق، كما أن سماعهم لانتقادات شركائهم في الحوار أوصلهم إلى حل لهذه الانتقادات، وبناء على ذلك فقد شعروا بأن عقيدتهم قد تعززت على الرغم من المخاطرة.
- يتضمن الحوار أمراً خطيراً وهو أن الأفكار التنصيرية لن تبرز على السطح في أثناء الحوار ( ).
ويتجه البحث بنا وجهة أخرى بعد أن استعرضنا تقييم الطرفين لهذه الحوارات والمؤتمرات أن نعقد مقارنة بين منطلقات المرحلتين الأولى والثانية من مراحل الحوار، ومدى خدمة هذه المؤتمرات لهذه المنطلقات في المرحلتين؛ حتى نستكمل تقييم هذه المسيرة من جميع جوانبها، وعلى هذا فإن المتأمل في موضوعات وتوصيات مؤتمرات هاتين المرحلتين يستطيع أن يخرج بالنتائج التالية:-
1- أن المرحلة الأولى كان التركيز فيها على دعوتهم إلى الإسلام مباشرة كما في كتابه  لهرقل وقوله له: ( أسلم تسلم) ( )، وقوله لمعاذ  : (وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله...) ( ).
2- أن الجدل والمناظرة كانتا حاضرتين في لقاءات العلماء والملوك في المرحلة الأولى، وهذا بارز في كتب الجدل الديني بين المسلمين والنصارى. بينما ضعف هذا المنطلق والذي قبله في المرحلة التالية، وأصبحت الجهات الشعبية هي التي تقوم بواجب الدعوة نيابة عن الحكومات الرسمية، إلا في القليل النادر.
3- التعايش السلمي في ظل الدولة المسلمة كان مكفولاً بين جميع مكونات المجتمع، ولم تتعرض الأقليات لاضطهاد يُحتاج معه إلى عقد مؤتمرات؛ وذلك يرجع إلى أمرين:-
الأول: أن الشريعة الإسلامية كفلت حقوق الأقليات فليست الحقوق خاضعة لرأي عالم أو هوى شانئ ( ).
والثاني: أن حقوق الأقليات غير المسلمة كانت مدونة ضمن معاهدات معتمدة ومحفوظة، وإن وقع انتقاص لها سارع الحاكم برد الاعتبار لمستحقه، ويقول أليكسي في معرض حديثه عن شأن الأقليات غير المسلمة في ظل الدولة الإسلامية: ( وبالرغم مما أشرنا إليه، فإن المسيحيين لم يتعرضوا إلى الانصهار التام إذ حافظوا على أصالتهم وخصائصهم الروحية والثقافية إلى حد ما، والفضل في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى عامل قوي مثل الدين) ( )، وهذا خليل إسكندر نصراني قبرصي نشر مقالة في عام 1931 في مجلة ( الفتح ) القاهرية بعنوان ( دعوة نصارى العرب للدخول في الإسلام ) , وقدم من خلالها المسوغات التالية : (1) إن المسيحية الأولى, التي ظهرت أساساً في المشرق العربي حُرفت و شُوِهت من جانب الأوربيين الذين حولوها إلى (دين للعبودية والاستعباد) . (2) إن المسيحيين الأوربيين هم الذين اضطهدوا المسيحيين الشرقيين. (3 ) الإسلام دين الديمقراطية والتسامح. (4) الديانات الصحيحة لها هدف واحد يتجلى في محبة الله والناس. (5) المسيحيون الشرقيون يجب أن يدخلوا الإسلام؛ وبذلك يرجعون إلى المسيحية الصحيحة. (6) مادام أن الإسلام هو دين العرب, فإن ذلك يشكل حجة إضافية لاعتناقه من طرف المسيحيين العرب ( ). بينما الأقليات المسلمة في ظل كثير من الدول النصرانية كانت تعاني هضماً وإقصاءً وتجهيلاً وحرصاً من قبل النخب الدينية والسياسية على إذابتها وصهرها في بوتقة المجتمعات النصرانية، بل لم تسلم كثير من الدول المسلمة من الاعتداءات المتكررة من قبل الحكومات النصرانية سواء على هيئة احتلال أو حروب ضارية أو نهب لخيراتها أو تشجيع لعناصر التمرد على دينها، أو الإملاء على بعض الدول المسلمة، مما كان له أبلغ الأثر في شكوى المسلمين من ذلك، ورفض حضور بعض الحوارات من أجل ذلك ( ).
4- أن المسلمين يطالبون في حوارات المرحلة الثانية من المؤسسات النصرانية الاعتراف بالرسول محمد  رسولاً ونبياً وبالإسلام ديناً، ولم يتحقق لهم ذلك، بل لم يصدر للمسلمين اعتذار من الفاتيكان عن جرائم الحروب الصليبية، مع مطالبتهم للمسلمين بنسيان الماضي، في الوقت الذي صدر فيه اعتذارات وتعويضات من المؤسسات النصرانية لليهود عما لحق بهم، رغم تهويل ما لحق بهم ( ).
5- أن الممارسات الصادرة من بعض أفراد الأمة الإسلامية - التي يشتكي منها الغرب ويدعون من أجلها إلى الحوار - تعتبر ممارسات فردية لا تقرها الأمة الإسلامية، ولم تأمر بها، بينما الممارسات الغربية التي يشتكي منها المسلمون هي ممارسات مؤسساتية كالاحتلال بأشكاله القديمة والحديثة وكاضطهاد الأقليات المسلمة وعدم اعتبارها وعدم مساواتها على الأقل بالأقليات اليهودية والصينية واليابانية وغيرها.
6 – أن المؤسسات النصرانية تَعُدُ هذه المؤتمرات مدخلاً للتضليل ولتحقيق مزيد من المكاسب، بينما نعدها فرصة للتواصل، وتنقية الأجواء التي سبق أن كدروها. فكم بين الغايتين، وغداً كل يلاقي كدحه وسعيه.
7- لم يكن في الحوار السابق محاولة للتعرف من قبل المسلمين على ما لدى الخصم؛ بل كانوا يعرفون الحقائق مجردة لا لبس فيها؛ لأنها إما أن تكون مما بينه الوحي، أو تكون مما تناولته الكتب المتداولة، بل قد سبق الإمام ابن حزم رحمه الله المحققين الغربيين في نقد العهد القديم والجديد، ثم تبعه على ذلك اليهودي إبراهيم بن عزرا، ثم اقتفى أثرهما سبنيوزا في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة ( ).
8- تجد في الحوارات السابقة اعتزازاً بالدين، وقوة في الدليل، وثقة في الموقف، بينما قد تجد في بعض أدبيات هذه الحوارات المتأخرة ظهورا للعبارات الاعتذارية وتخاذلاً عن نصرة الدين، ومداهنة في الموقف.
9- أن المحاور المسلم يدعو غيره إلى الحق والهدى، بينما هم يدعوننا إلى النار وبئس القرار، قال تعالى:  أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة البقرة الآية 221] .
وبعد هذا التقييم لهذه المسيرة من الحوار من أكثر من جانب نصل إلى بيان الموقف الشرعي منه، خاصة المنطلق الرابع، أما المنطلقات الأخرى فقد سبق بيان الموقف الشرعي منها في صدر هذا المبحث.
فأقول: إن التقييم من كل الجوانب التي قدمناها بين لنا أن هذا الحوار لم يحقق للإسلام ولا للمسلمين مكاسب تذكر، لا مكاسب شرعية ولا دنيوية، بل حقق للمخالف مكاسب كبيرة كما تقدم؛ وعلى هذا فلا يجوز المشاركة فيه إلا بقدر ما يبين ضلال المخالف وينافح فيه عن الإسلام، هذا أولا.
ثانيا: أن هذا الحوار وفق هذا المنحى الذي وصفته مخالف للمنهج النبوي، ومعارض لقواعد شرعية معلومة من الدين بالضرورة، كالإقرار بترك دعوة المخالف، والتنازل عن بعض الأحكام الشرعية، وتنحية مبدأ الولاء والبراء وغيرها ...
ثالثا: إن الإسلام دين إلهي لا يمكن لأي أحد أن يتنازل عن أي جزئية منه فضلاً عن أصل من أصوله ومبادئه، ولو قدر أن أحداً تنازل عن أمر من أمور الإسلام فهذا يعتبر إلحاداً في الدين وخروجاً عن الإسلام ، ولا يعتبر ممثلاً للإسلام؛ بل لا يمثل إلا نفسه.
رابعا:لم يحدث أن تنازل النصارى عن أي عقيدة من عقائدهم أو أصل من أصولهم؛ فهم لا يتنازلون عن ثوابت دينهم، ولو تنازلوا فهو دين محرف سبق أن مرّ بأطوار متعددة.
خامسا: أنهم يقايضوننا وصفاً باعتراف، فهم يصفون تدين المسلمين، ويسكتون عن الاعتراف بدينهم، ويتحاشون ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا يعترفون به ولا يصفونه، ونحن لسنا سذجاً فنتوقع منهم الاعتراف، لكننا رضينا منهم بالوصف، ومنحناهم الاعتراف.
سادسا: أن القضايا التي نعترف لهم بها بيننا وبينهم خلاف جوهري في حقائقها؛ فالرب الذي يؤمن به المسلمون هو الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، والمسيح الذي نؤمن به هو الرسول الوجيه عليه السلام، والإنجيل الذي نؤمن به هو المنزل على المسيح المبشِر بالرسول صلى الله عليه وسلم، بينما الإله الذي يؤمن به النصارى هو ثالث ثلاثة، والمسيح الذي يؤمنون به هو الابن المخلص الفادي، والإنجيل الذي يؤمنون به هو ما كتبه متى ومرقس ولوقا ويوحنا. فاعترافنا بهذه الحقائق التي هي حق في نفس الأمر يحقق لهم مكاسب عدة منها:
- أن الكنيسة توحي لأتباعها أنها مقبولة ومعترف بها لدى الأديان السماوية الأخرى وأكثرها تابعاً الإسلام.
- زوال الوحشة التي يجدها المسلم تجاه النصارى بسبب اعتقادهم للثالثوث، ونسبتهم الولد إلى الله سبحانه وتعالى، وتحريفهم للكتاب.
وكان يجب أن يكون الاعتراف مبينا حقيقة ما نعترف به، وحقيقة ما يعترفون به، وإلا أصبح الأمر تدليساً على المتلقي، وغشاً للأمة، وخيانة للدين.
سابعا: أن أهل السنة والجماعة هم الذين يمثلون الإسلام الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وبلغه عن ربه، وأن أي تمثيل للإسلام من غير أهل السنة فهو تمثيل لا يعتد به إذا خالف قواعد الإسلام وثوابته، وكثير من المؤتمرات يشارك فيها عن الجانب السلم من ينتسب إلى الفرق الضالة التي لا تمثل الإسلام ولا تمثل من وراءه من المسلمين؛ وإنما يمثل الطائفة التي ينتمي إليها.
ثامنا: أن تسمية بعض مؤتمرات الحوار باسم مؤتمرات التقريب، تسمية غير شرعية وغير علمية وغير عرفية؛ إذ كيف يقرب بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين التوحيد والشرك، وكيف يطالب المسلم بأن يتخلى عن ثوابته باسم التقريب؟ وهم لا يتنازلون عن أي أمر، بل لا يعترفون بالإسلام، ولا بنبي الإسلام.

الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأصلى وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين.
أما بعد فقد تبينت لنا الحقائق التالية: -
أن الإسلام لا ينهى عن الحوار والجدال بالتي هي أحسن، ولا ينهى عن المنافحة عن الإسلام، وتنقيته مما يلصق به مما هو منه بريء .
- أن الأمة الإسلامية سارت في تاريخها وفق ما جرت به سنة نبيها في حوارها وجدالها مع خصومها .
- أن الحوار الإسلامي مر عبر التاريخ بمرحلتين، المرحلة الأولى من البعثة النبوية إلى عام 1380هـ 1960م. وأن المرحلة الثانية من 1380هـ إلى الآن، وأن المرحلة الثانية سلك فيها بعض المحاورين منطلقا لم تسلكه الأمة من قبل، ألا وهو منطلق التقارب الديني.
- أن منطلقات المرحلة الأولى جائزة ومشروعة وفق الضوابط الشرعية، بينما المنطلق الرابع من المرحلة الثانية محرم لا يجوز.
- أن كثيرا من مؤتمرات الحوار في المرحلة الثانية تنحوا منحى التقارب الديني.
- أن المنظمات الكنسية والأقليات النصرانية في المجتمعات المسلمة حققت مكاسب كبيرة من هذه الحوارات؛ بينما لم تحقق المنظمات المسلمة ولا الأقليات المسلمة شيئا يستحق الذكر.
- أن تصريح الفاتيكان الذي اعتبر بوابة الدعوة لهذه الحوارات لم يعترف صراحة بالإسلام، ولم يذكر الرسول  تحاشيا من التصريح بعدم صحة نبوته عندهم.
- أن النصارى يعدون الحوار وسيلة مفيدة للتنصير، ونعده فرصة لتنقية الأجواء التي كدروها، ومحاولة لعرض الإسلام.

خلاصة البحث
خلص البحث إلى أهمية الحوار، وأنه ينطلق منطلقات متعددة، وأنه لا يمكن قبول أي منطلق إلا بقدر موافقته للشرع الحنيف، وبمعرفة أهدافه وغاياته ومكاسبه التي حققها.
كما بين الباحث في هذا البحث أن الإسلام حث على الحوار الشرعي الذي يحقق نشر الإسلام ودعوة الناس إلى الهدى، ويثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى، وينافح عن الإسلام ويفند الشبهات، ويظهر الحق ويدمغ الباطل.
وتناول البحث أيضا تاريخ الحوار والعلاقة بين الإسلام والنصرانية وبين أنها مرت بفترات وبمستويات متباينة، كما ذكر أن الحوار مر بمرحلتين ، وأن منطلقات المرحلة الثانية تضمنت دعوة إلى التقارب الديني بين الإسلام والنصرانية، وأن هذا المنطلق كان الداعي إليه والمنظم لكثير من مؤتمراته هو الجانب النصراني، وأن أغلب المكاسب إنما حققها هذا الجانب.
وأوضح الباحث – بحسب اجتهاده – رأي الشرع في هذه المؤتمرات والحوارات، وأن الحوار الذي يستهدف الدعوة إلى الإسلام والمنافحة عنه، وتحقيق التعايش السلمي وفق الضوابط الشرعية؛ أنه لا بأس به ، أما المنطلق الرابع الخاص بالتقارب الديني فهذا لا يجوز بحسب ما تضمنه البحث.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك