القيم العالمية والديمقراطية الإسلامية

أنور إبراهيم

 

عند هذه اللحظة المحورية في التاريخ، وفي الوقت الذي يزداد فيه التباعد بين الشرق والغرب حول قضايا الحرية والعدالة، أجد نفسي أتذكر نشأتنا في ماليزيا ذات الانتماءات والثقافات المتعددة. كانت تلك التنشئة هي التي غرست في العقل الماليزي ما وصفه أمارتيا سين الحاصل على جائزة نوبل بأنه الهوية التعددية. نحن الماليزيون محبون للمعرفة بطبيعتنا ونهتم بالاطلاع على الثقافات والأديان الأخرى. لقد درسنا القرآن وسنة النبي محمد (ص) في نفس الوقت الذي استمتعنا فيه بأعمال دانتي وشكسبير وتي. إس. إليوت. بالنسبة لي، لم يكن هناك لدي شك أبداً بأن عالمنا والعالم الغربي متطابقان وأن روح المشاركة والتعددية هذه سوف تبقى مصدراً للإلهام في جسر الفجوات بين الثقافات والحضارات.

بيد أن هناك من يصر على المجادلة بشدة بأن الحضارات الكبرى تتجه نحو المواجهة إن لم يكن الصدام المباشر. وفي الوقت الذي أعطى فيه انتهاء الحرب الباردة دفعة قوية لانتشار الحرية ورفعت من درجة الإحساس السائد بالتفاؤل، إلا أن هذه القيم لم تتجذر بعد في العديد من أنحاء الأرض. على العكس من ذلك نجد حريات أساسية يتم سحقها وإساءة استخدامها مما يشعل الخلافات بين الشعوب والحضارات. لقد أدى بي كفاحي الشخصي ضد أولئك الذين يسعون لإبقاء الإنسانية مجللة بالطغيان إلى دخول السجن لمدة ستة أعوام، وهي فترة أدركت خلالها بوضوح مبهر أن الحرية هي الجوهر الأساسي للكينونة التي تفتح طاقات الروح البشرية إلى أبعد مدى.

هناك كثيرون ممن يعتقدون أن الديمقراطية هي بنية غربية صممت على أساس الظروف التاريخية الخاصة التي شكلتها. وهناك آخرون يجادلون بأنه في حين أن الحرية والديمقراطية يلائمان مناطق معينة في العالم فإنهما ليستا أبداً سلعتين لاستهلاك سائر بني البشر، ويقولون بأنه يتعين على الشعوب الأخرى ألا تتبنى سبل الحرية والديمقراطية دون الأخذ بالاعتبار تراثها السياسي والثقافي والاجتماعي.

صحيح أن المبادئ المؤسِّسة للديمقراطية الدستورية، كما نعرفها اليوم، تعود في أساسها للفلسفة السياسية لجون لوك، والتي دخلت، من خلال كتابات فولتير إلى فرنسا ثم أثرت بعمق على أولئك الذين صاغوا الدستور الأمريكي. ولكن حقيقة أن مبادئ الحرية السياسية والديمقراطية هذه قد تم وضعها أساساً في الغرب لا تستثني تطبيقها عالمياً كما لا يمكن الجزم بأنه لم يتم التعبير عنها في سياقات أخرى.

لقد قيل مثلاً بأن “القيم الآسيوية” تطورت في تناقض واضح مع القيم الديمقراطية. ويجري الاستشهاد بالأخلاقيات الكونفوشوسية في هذا السياق على اعتبار أنها تؤكد على أهمية الطاعة الأبوية، وامتداداً لذلك الخضوع لسلطة الدولة. إلا أن هذه المحاججة تتجاهل تماماً مفاهيم جوهرية أخرى للكونفوشوسية والتي، كما يؤكد عليها تو وي-مينغ وبحق، تؤكد أيضاً على الأولوية القصوى للفرد وأهمية حث النفس على تحقيق الذات وحمايتها ضد الاستغلال من قبل القوى المهيمنة.

لقد دحض أمارتيا سين، وفائز آخر بجائزة نوبل هو رئيس جمهورية كوريا الجنوبية كيم داي جونغ، نظرية القيم الآسيوية. كما أن خبرات كوريا الجنوبية وتايوان، وهما دولتان معروفتان تماماً بتراثهما الأخلاقي الكونفوشيوسي، تمعن في نقض فكرة أن المفاهيم الغربية للديمقراطية لا تتطابق مع الحضارة الآسيوية. كما أن تايلندا، وهي دولة ذات أغلبية سكانية وبوذية، وإندونيسيا، ذات أكبر عدد من السكان المسلمين في العالم، قد نجحتا أيضاً في بناء ديمقراطيات. بالتناقض مع هذه الأمثلة فإن الخطاب المزيف لـ”القيم الآسيوية” لا يُظهر سوى المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الحكام المستبدون وحاشيتهم والمدافعون عنهم لتبرير حكمهم والمحافظة عليه. ورغم أن الحكام المستبدين يواصلون التحصّن في أماكن معينة فإن تأثيرهم على الجماهير أخذ يضعف ولا يستطيع أحد الإنكار بأن الشعوب الآسيوية قد أظهرت ليس فقط رغبتها في ترسيخ مبادئ الديمقراطية بل أيضاً قدرتها على إدامة المؤسسات الديمقراطية والحريات.

وقد تم أيضاً تلفيق نظريات تثير الحنق مفادها وجود تناقض متأصل بين الإسلام والقيم الديمقراطية في محاولة لغرس إسفين بين حضارتين عظيمتين. يقال، مثلاً، أنه في حين أن الديمقراطية الليبرالية تضع السيادة في يدي الفرد فإن السيادة في الإسلام تعود فقط لله وبذلك تنزل بالفرد إلى كونه فقط مجرد أداة عاملة دون اهتمام يذكر بممارسة إبداعه وحريته الشخصية. إن وجهة نظر كهذه هي قراءة مُضللة لمصادر الدين وتمثل قبولاً مستسلماً للخطاب المتطرف. وجهة النظر الصحيحة هي أن الحرية هي الهدف الجوهري للقانون المقدس. والإسلام عبّر دائماً عن الأهمية القصوى للعدل وهو مفهوم تقريبي لمعنى الحرية في التعريف الغربي. الحرية تقتضي الحكم وفقاً لما يمليه القانون الإسلامي الذي يؤكد على التشاور ويشجب الحكم المطلق والطغيان.

يبين القاضي الكبير الشاطبي (المتوفي عام 790م) بأن المقاصد الشرعية تكرس أهمية كبرى للمحافظة على الدين والحياة والفكر والعائلة والثروة، وهذه كلها أهداف تحمل سمات مشتركة بشكل يبعث على الدهشة مع أفكار لوك التي تم طرحها بعد ذلك بعدة قرون. وقد أوضح مفكرون عديدون بأنه يجب إعادة تنقيح القوانين التي تتعارض مع (المقاصد) أو تعديلها لتتطابق مع الأهداف العليا وللتأكد من أنها تسهم في سلامة وتطور الفرد والمجتمع. ورغم الحالة الاستبدادية الراهنة في العالم الإسلامي فليس هناك شك في أن عناصر أساسية عديدة في الديمقراطية الدستورية والمجتمع المدني هي أيضاً مكونات أخلاقية أساسية في الإسلام—حرية الضمير، حرية التعبير، وقدسية الحياة والملكية—كما تظهر بوضوح تام في القرآن إضافة للأحاديث النبوية، وربما بشكل خاص بصورة أكثر إحكاماً وبلاغة في خطبة الوداع.

هناك جدل دائم حول هذه القضايا في العالم الإسلامي. المتطرفون بخلطهم ممارسة الدولة لسلطاتها مع سيادة (حاكمية) الله يضفون نوعاً من الشرعية على الطغيان. وعلى الجانب الآخر، يتبنى العلمانيون رؤية تدعو إلى إلغاء دور الدين في الحياة العامة. التأكيدات الحالية حول عداء الإسلام للديمقراطية لا تنطوي على قيمة أكبر من نظرية القيم الآسيوية.

موجة ديمقراطية إسلامية؟

إن سعي المسلمين للديمقراطية هذه الأيام هو أحد أبرز المعالم والتحولات في هذا العصر. كانت موجة ديمقراطية سابقة قد أطاحت بجدار برلين وحررت أوروبا الشرقية من الشيوعية وأطلقت الشرارة التي أدت إلى انهيار الإمبراطورية السوفييتية. وبعد عقد من الزمان تقريباً، تحررت إندونيسيا، وهي أكبر دولة إسلامية في العالم، من ربقة الحكم الاستبدادي العسكري واندفعت بقوة نحو الديمقراطية بعد أكثر من ثلاثين عاماً من القمع والدكتاتورية. إندونيسيا هي أكبر بلد ذي أغلبية إسلامية، ويعتبر التحول الناجح فيها هو أكبر تطور جوهري منفرد في التاريخ الحديث للديمقراطية. الصحافة في إندونيسيا حرة ونزاهة الانتخابات الإندونيسية لا نظير لها. الحريات الأساسية راسخة في الدستور وتلقى احتراماً تاماً وتقديراً من السلطات الحاكمة، ويحق للناس التجمع للاحتجاج على القرارات والسياسات الحكومية دون خوف من العواقب.

مع ذلك، فلا زال من الضروري متابعة الجهود لتثبيت المؤسسات الديمقراطية دون تردد، ويجب أن يبقى التقدم الاقتصادي عن طريق إصلاحات السوق الحر على رأس قائمة الأولويات على أن يتزامن ذلك مع تطبيق برنامج عدالة اقتصادية اجتماعية. يجب استمرار المعركة ضد الفساد بقناعة تامة. صحيح أنه لا زال على إندونيسيا أن تتخذ خطوات جوهرية خصوصاً فيما يتعلق بتحقيق الأهداف الاقتصادية الاجتماعية للديمقراطية ولكنها تبقى منارة للشعوب الإسلامية المتطلعة إلى تحقيق الديمقراطية والحرية.

ما حدث في إندونيسيا عام 1997 يبرز باعتباره إحدى اللحظات الحاسمة في تاريخ الإسلام الحديث، وما يحدث في تركيا في العقد الحالي ليس دون ذلك مدعاة للإعجاب. إذا كانت إندونيسيا تتمتع بأهمية كونها أكبر بلد إسلامي، فإن المسلمين يذكرون تركيا باعتبارها عاصمة آخر إمبراطورية كبرى لهم وسدة الخلافة الإسلامية. ظهرت الجمهورية التركية بعد الحرب العالمية الأولى كدولة حديثة تلتزم بشخصية علمانية تحت زعامة مصطفى كمال. إلا أن الديمقراطية التركية ظل يكتنفها، إلى عهد قريب، تناقض جوهري: لم تكن إدامة الهوية العلمانية نابعة من قبول شعبي ولكن عن طريق القوة العسكرية. إضافة لذلك فإن العلمانية قد تحولت إلى دين خاص بها. وساعدت الآمال في الانضمام للاتحاد الأوروبي في احتواء ما كان يعتبر يوماً بسلطة مطلقة للنخبة العسكرية وفي فتح مجال سياسي تستطيع الأحزاب العمل ضمنه دون خوف من العواقب. في هذا الجو الجديد أعطى الشعب تفويضاً ديمقراطياً واضحاً للحكومة الحالية. والعمل الذي قامت به تركيا لشق طريقها نحو “إجماع جديد” يجعل من هذا البلد واحداً من أكثر الديمقراطيات الإسلامية حيوية ونضجاً. وتتطلع هذه الأمة إلى إنعاش ذاكرتها الجمعية حول تراثها الثقافي من خلال إطار إسلامي، وتسعى تركيا إلى مزيد من النضج كبلد ديمقراطي والمحافظة في نفس الوقت على هويتها الإسلامية.

ويجسد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان “رئيس البلدية الشعبي” السابق لاسطنبول والذي قضى زمناً في السجن لالتزامه بقناعاته السياسية الصفات المطلوبة لدفع الإصلاحات السياسية والعدالة الاجتماعية. لم يعد يُنظر إلى العلمانية، تحت قيادته، باعتبارها “مضادة للدين” بل بالأحرى إحدى المبادئ الأساسية للنزاهة وتقبُّل التعددية الدينية. وفي رأيي أنه إذا كان لدولة إسلامية ديمقراطية أن تسعى لوضع حدود لسلطة الحكومة إزاء حقوق الفرد فإن ذلك ينسجم كلياً مع متطلبات الديمقراطية الدستورية.

ورغم أن علاقة التجربة التركية ببقية العالم الإسلامي قد تبدو بغير حاجة لاستدلال فإن هناك خلافاً كبيراً حول الدروس التي ينبغي استنباطها من تلك التجربة. بعض التفسيرات، على سبيل المثال، تقول بأن الدرس الرئيسي من الحالة التركية هي أن وجود نظام سياسي علماني يعتبر شرطاً مسبقاً للديمقراطية الدستورية. إلا أن تجربة مصر والعراق في عهد الناصرية والبعثية، على التوالي، تكشف بوضوح بأن العلمانية، بدلاً من أن تكون ضماناً للديمقراطية الدستورية، قد تصبح معادلة للاستبدادية. لقد كانت إندونيسيا علمانية بشكل واضح تحت حكم سوهارتو ولكنها لم تكن بالتأكيد ديمقراطية دستورية. الأصح القول بأن الديمقراطية الدستورية لا تستطيع التجذر في مجتمعٍ، سواءً كان إسلامياً أم علمانياً، دون التزام ثابت وعميق من جانب النخبة السياسية بحماية الحقوق الأساسية للجميع.

الرغبة في الحرية

لا تفتقر التوجهات الحالية في العالم الإسلامي إلى سوابق تاريخية. لقد أطلق المؤرخ البريطاني إيريك هوبسباوم على القرن العشرين، وبحق، اسم “عصر التطرف” مبرزاً النتائج الكارثية للشيوعية والفاشية وكذلك الأوهام بأن رأسمالية السوق الحر ستنشر الثروة والرخاء إلى الشعوب الأفقر في العالم. الحقيقة أنه وبالرغم من المخاوف والتحامل ضد الأصوليين من جميع الديانات هذه الأيام، فإن أسوأ الجرائم ضد البشرية قد تم ارتكابها جميعاً من قبل قادة متعصبين لا يؤمنون بالأديان مثل هتلر وستالين وماو وبول بوت. بالنسبة للمسلمين، كان القرن العشرون قرن آمال كبرى، ولكنه ولسوء الحظ كان أيضاً قرن خداع. التحرر الوطني رفع التوقعات عالياً عندما كانت البلدان الإسلامية تحرر نفسها الواحدة بعد الأخرى من النفوذ الاستعماري. كانت صرخة الحرب للمقاتلين من أجل الحرية وللآباء المؤسسين للعديد من هذه الحركات هي الديمقراطية والحرية والعدالة، وكان قَسَمهم المقدس لشعوبهم هو إقامة وطن مستقل وديمقراطي.

ربما كان محمد علي جناح (1876-1948) مؤسس باكستان الحديثة في ذلك الوقت أكثر قادة العالم الإسلامي احتراماً لدى المسلمين في جنوب شرق آسيا. كان لهذه المشاعر ما يبررها في ضوء التزام جناح بالديمقراطية ومقته للفساد وتحذيره الشديد بضرورة عدم السماح للجيش بمغادرة الثكنات. في عام 1947، أبلغ جناح الجمعية التأسيسية الباكستانية بأن “الواجب الأول لأي حكومة هو المحافظة على القانون والنظام لكي تكون حياة الناس وممتلكاتهم ومعتقداتهم الدينية محمية تماماً من قبل الدولة.” لسوء الحظ لم يعش جناح طويلاً بعد قيام دولة باكستان كدولة مدنية وديمقراطية. وبعد موته ظل الباكستانيون دائماً وباحترام كبير يطلقون عليه لقب “القائد الأعظم”، إلا أن تطلعاته لإقامة ديمقراطية وحكم رشيد لم تحقَّق حتى الآن.

في بلدي، ماليزيا، تم الحصول على الاستقلال عام 1957، وقد نص إعلان الاستقلال على أن الأمة الجديدة ذات السيادة قد قامت على مبادئ العدالة والحرية. لسوء الحظ سرعان ما تم نسيان مبادئ الحرية والعدالة وتم اغتصاب وهلهلة الحريات الأساسية المنصوص عليها في الدستور من قبل الزمرة الحاكمة واستبدالها بقوانين وحشية وإعلام مقموع وقضاء مشبوه.

من العناصر الأساسية للديمقراطية أن تكون سلطة الحكومة مستمدة من قبول الشعب. هل إجراء انتخابات يحقق هذا الشرط أم هناك قضايا جوهرية أخرى يجب أخذها في الاعتبار؟ أولاً، ينبغي أن تكون الانتخابات نفسها حرة ونزيهة وشفافة، ويجب أن يكون هناك “ساحة مستوية ومفتوحة” للجميع. هذا يتطلب فرصة متساوية للوصول إلى وسائل الإعلام، ونقاشاً مفتوحاً، وإدارة انتخابات تستطيع الصمود أمام مراقبة دولية. كما يجب أن تتمتع أحزاب المعارضة ومرشحو المعارضة بحرية الكلام والاجتماعات والحركة التي تتيح لهم التعبير عن انتقادهم للحكومة بصراحة ولعرض سياسات بديلة ومرشحين بديلين على جمهور الناخبين. في ماليزيا يحظر على المعارضة استخدام وسائل الإعلام ولا يسمح لها بإقامة المسيرات والتجمعات، وتضطر صحف المعارضة للصدور سراً. إذا كانت الديمقراطية تعني المشاركة السياسية بمعنى الكلمة فإن وجود معارضة حيوية يصبح مسألة أساسية كحماية ضد طغيان السلطة المطلقة. وبالمثل، فإذا كانت التعددية هي الاختبار النهائي للديمقراطية، كما ينبغي أن تكون في الواقع، فإننا سنجد أن كثيراً من البلدان اليوم هي حالات فاشلة تعيسة—ليس فقط في العالم العربي بل في ديمقراطيات دستورية نالت استقلالها قبل نصف قرن من الزمن.

الديمقراطية، كما أشرنا سابقاً، تتعلق أيضاً بالعدالة. إن فكرة العدالة مركزية جداً لمعنى أن يكون المرء إنساناً بحيث لا يخلو أي مجتمع من هذا المفهوم. إضافة لذلك، ومع نضوج المجتمعات، فإن توقعات الناس في مسألة العدالة تصبح أكبر. لقد تم تحريك مجتمعات بكاملها للعمل سعياً من أجل العدالة والحكم الرشيد وإسقاط السلطات الاستعمارية والاضطهاد الأجنبي. مع ذلك، فإن هذه المجتمعات تجد نفسها اليوم، وبعد زمن طويل من الاستقلال، مجبرة على القتال ضد الاضطهاد الداخلي لأنه لا يمكن أن تكون هناك عدالة في ظل الاستبداد—النظام السياسي الذي يتميز بحكم الرجال وليس حكم القانون.

حكم القانون يتطلب أن تكون الأنظمة والإجراءات التي تطبقها الدولة عامة وواضحة وليست سرية أو تعسفية أو خاضعة للتلاعب السياسي. لا نريد أن يتم اقتحام بيوتنا وتفتيشها من قبل الشرطة دون أمر قضائي، والأمر القضائي يجب أن يصدر بموجب أسس شرعية وليس كمسألة شكلية على يد قضاة ومدعين عامين خانعين. لا نريد اعتقال أحد دون تهمة واضحة، ولا نريد أن يتم انتزاع الاعترافات عن طريق التعذيب والإيذاء الجسدي أو النفسي أو أي نوع من الترهيب أو الترغيب. بعبارة أخرى، ينبغي ألا تكون هناك إجراءات خارج سلطة القضاء أو اعتقالات تعسفية أو استخدام أجهزة الدولة لقمع المعارضة السياسية والسخط السياسي.

ونعني بسيادة القانون حماية الحقوق الأساسية أيضاً. ونستعير عبارة لأستاذ القانون الأمريكي الشهير رونالد دوركين يقول فيها بأنه يجب “أخذ هذه الحقوق بصورة جدية”. هذه الحقوق يجب حمايتها من قبل سلطة قضائية مستقلة تعمل كهيئة مراقبة وتوازن فعالة ضد سلطات الفرعين التنفيذي والتشريعي للدولة. السلطة القضائية هي الضمان الأساسي للحريات الأساسية. وإذا كان للقضاة أن يكونوا مستقلين عن الفروع الأخرى فإن الشؤون المتعلقة بمناصبهم يجب أن تكون محمية من قبل الدستور، ولضمان نزاهتهم وقدرتهم على إصدار الأحكام دون ترهيب أو ترغيب فيجب أن لا يكون بالإمكان عزلهم إلا لسبب واضح وبموجب إجراءات رسمية. يجب بالتأكيد عدم عزلهم أو حتى التهديد بالعزل لمجرد أن لديهم الجرأة الكافية ليقولوا “للأعور أعور”.

سيكون هناك من سيشير إلى شبح قضاء منفلت من عقاله يتطاول على حقوق الحكومات والتقاليد الدينية والمعنوية للناس. مع ذلك فإن استقلال القضاء ضروري لحماية المواطنين ضد حكومات تعسفية واستبداد سياسي. الواقع أن الصورة الساخرة التي تتسم بها قضايا سياسية في معظم البلدان هي تذكير صارخ بأن فصل السلطات يبقى غالباً سراباً على الساحة الدستورية.

المشاركة على أساس المبادئ العامة 

إن النقاش حول الديمقراطية، بالنسبة للكثيرين منا، هو أي شيء عدا أن يكون نظرياً، فهو ينطلق من تمسكنا الفطري بالكرامة والشرف والغريزة الإنسانية الطبيعية في الحياة والتنمية. كل يوم يمر دون تغيير يعني ليلة كئيبة أخرى لسجناء سياسيين يقبعون في العزلة أو حالة وفاة أخرى ناجمة عن الجوع والمرض بسبب الإهمال والحرمان أو فرصة جديدة لفاسد للفرار بملايين نهبها من خزينة الدولة.

هذا النقاش يدور حول اندماج الناس بدولتهم، وحول الحكم الرشيد والمساءلة. إننا نرفض غطرسة السلطة ومكائد أجهزة المخابرات وتعليق الحريات المدنية سواءً كان ذلك في ديمقراطيات ناضجة أو ناشئة. علينا ألا نقبل بالمعايير المزدوجة فندين صدام حسين كمرتكب جرائم ضد الإنسانية ونغض النظر عن الفظائع التي تجري في العراق الآن. وفي الوقت الذي ندين فيه المعاملة اللاإنسانية للسجناء في أبو غريب يجب علينا ألا نتجاهل المعاملة المحزنة للسجناء السياسيين في سائر أنحاء العالم الإسلامي. لن ننجح في كفاحنا من أجل الإصلاح الديمقراطي ما لم نكن متفائلين وتعمر جوانحنا الثقة بحكمة الأمة.

مستقبل الديمقراطية الإسلامية هو الآن. وظهور الديمقراطيات الإسلامية مسألة جوهرية للغاية وتستحق منا الاهتمام. مع ذلك فإنه، وبالاستثناء الواضح لتركيا وإندونيسيا، فإن العالم الإسلامي اليوم هو مكان تواصل فيه قوى الاستبداد والطغيان، من مختلف الأطياف والدرجات، قبضتها الطفيلية على مقاليد الناس وتقضم أطراف حرياتهم الجديدة. وفي حين أن هناك ما يشير حقاً على حدوث تغيرات إيجابية في الشرق الأوسط فإن من الضروري التأكيد على أن ما زال أمامنا طريقاً طويلاً لتحقيق أهدافنا المنشودة في الحرية والديمقراطية، وهي الأهداف التي نجدها في التقاليد الفكرية الإسلامية التي توجب أن يمثل القادة الفاسدون والظالمون للمساءلة—هذه التقاليد التي عبرت عنها الحكايات الروائية الواردة في كتاب “سُلوان” (دليل الحاكم العادل) لظافر الصقلي الصادر في القرن الثاني عشر. إذا كانت الديمقراطية تتعلق برعاية “روح الاختلاف” فإنها قد كانت حقاً جزءاً أساسياً من التاريخ الثقافي الإسلامي وقد قامت على أساس أحاديث تنسب للرسول محمد (ص) مفادها أن اختلاف آراء المفكرين رحمة. لقد كان أئمة المذاهب الإسلامية الرئيسية يحتجون بإصرار ضد تبني الدولة الحاكمة في أيامهم لمذهب الواحد منهم دون المذاهب الأخرى، وقد سجن العديد منهم بسبب ذلك. نحن ورثة هذه التقاليد التي توفر للمسلمين اليوم خزاناً من الأفكار الديمقراطية. إلا أنه، وكما يذكِّرنا تي. إس. إليوت، هناك ظلال بين المثال والواقع.

الضوء الذي سيجعل هذه الظلال تختفي هو المشاركة، والتي ينبغي السعي إليها دون هوادة بشجاعة واقتناع. يجب علينا رفض تهميش الناس لمجرد اختلاف قناعاتهم السياسية. يجب علينا التأكد من أن المؤسسات الدستورية راسخة في مكانها لإيواء طيف عريض من الرؤى السياسية الحديثة منها أو القديمة، والإسلامية منها أو الليبرالية. يجب على الغرب ألا ينظر إلى المفكرين التقليديين كأعداء للحرية أو الديمقراطية؛ فالكثير منهم قاتلوا من أجل الحرية والعدالة وكثيرين منهم دفعوا ثمناً غالياً في سبيل ذلك. ومن الخطأ السعي لمشاركة الليبراليين فقط وتجاهل القادة الذين يحوزون على دعم الأغلبية. إن التحدي الذي نواجهه سيكون المشاركة مع أعرض طيف ممكن دون التضحية بالتزامنا بالحرية والديمقراطية.

النتيجة التي يجب استخلاصها من هذه الموروثات هي أن رغبة الإنسان في أن يكون حراً والعيش بكرامة هي حالة عامة لكل الناس، وينطبق ذلك على مقت الناس للاستبداد والقمع. هذه مشاعر لا تحفز المسلمين فقط، بل الناس من جميع الحضارات.

المصدر: http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/2555

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك