الابتكار والركود في تاريخ الحضارات

محمد الدعمي

 

ربما كان “الابتكار” أحد أهم أسباب ومقومات تفوق الحضارات، إذ أن الأفكار المبتكرة، مترجمة إلى برامج وأدوات وأجهزة وطرائق حياة، كانت دائماً متلازمة مع الحضارات النامية الواعدة. وعلى نحو معاكس، تسود الحضارة الراكدة أو المتراجعة حالة غياب الابتكار، الأمر الذي يبرر محاولة أبناؤها الالتزام بالموروث حد العبادة المتعامية! لذا نجد حضارات تتقدم، وأخرى تركد وثالثة تتراجع. وهكذا يكون المعيار متاحاً بأيدي المؤرخين الحقيقيين: ما درجة الابتكار وأعداد المبتكرات التي تقدمها حضارة معينة، وما درجة وطبيعة إستقبال العقول الابتكارية العبقرية القادرة على توليد المبتكرات. إن الحضارة المتطورة تستقبل الابتكار بحفاوة وتكريم، بينما ترتجع الحضارات الآسنة إلى المحافظة، فهي تقاوم الجديد المبتكر وتضطهد العقول المبتكرة وربما تنفيها إلى عوالم الجمود والتحجر. لقد اعتُمد هذا المعيار في تقييم وتقويم الحضارات القديمة والحديثة، إذ ينظر إلى الحضارة السومرية (في بلاد الرافدين) بوصفها حضارة متقدمة بسبب ما ابتكره الإنسان الرافديني آنذاك من أفكار جديدة لم تكن متاحة لحضارات معاصرة لها ولكنها كانت حضارات جمود وتخلف. لقد فكر العقل السومري القديم بزيادة كميات الغلال من خلال اكتشاف الزراعة وتحويل نفسه من مخلوق جامع للقوت إلى مخلوق منتج له، الأمر الذي أطلق سلسلة أخرى من المبتكرات ابتداءً من الأدوات الحادة للحرث والحصاد وانتهاءً بتحريك الأواني الكبيرة بواسطة العجلات.

 

ربما كان هذا وراء سك وإضافة فعل جديد إلى اللغة الإنكليزية، فعل مشتق من كلمة “فكرة” Idea. الفعل بحد ذاته ابتكار لأنه إضافة جديدة للقاموس الإنكليزي، ولأنه كذلك يعني صناعة أو إنتاج الأفكار “ideate”. الطريف هنا هو أحد الإعلانات التجارية التي تقدم عدداً من الشبان والشابات الأميركيون وهم مضطجعون أرضاً وقد سدوا عيونهم في هدوء تام، لأنهم في حالة إنتاج أفكار جديدة “ideating”. وهذه حالة قد تكون مثيرة للتندر لدينا: فكم واحد منا يترك لنفسه فسحة من الزمن للتفكير بالجديد؟ لنلاحظ جداول أنشطة حياتنا اليومية: كذا ساعة عمل، كذا ساعة نوم وراحة، كذا ساعة استجمام وجلوس أمام التلفاز، وكذا ساعة تمارين رياضية، إن وجدت. ولكن من منا يفكر بتخصيص وقت معين لإنتاج الأفكار أو للتأمل، على الرغم من أن التأمل بحد ذاته ولذاته هو نشاط عقلي مهم نحتاج إليه لنرفع الغشاوة أو الغيمية التي تغلف أذهاننا والتي تفرضها متطلبات الحياة والهموم اليومية على أبصارنا وبصائرنا. نصف ساعة تأمل قد تكفي لتريك أين أنت؟ وهل أن ما تفعله صحيح، وهل ينبغي أن تستمر كما أنت أم أنك يجب أن تضفي شيئاً جديداً على حياتك، وما الذي يمكن أن تخرج به من مبتكر لحياتك العملية أو لمجتمعك أو للآخرين من الذين يحيطون بك أو يعتمدون عليك؟ هذه أسئلة غالباً ما نتعامى عنها، بالرغم من أن حضارتنا العربية الإسلامية كانت مملوءة بالأذهان التأملية العملاقة القادرة على بلوغ خلاصات مبتكرة من خلال التأمل، الأمر الذي يبرر ظهور ظواهر من نوع “الصومعة” حيث يختلي العقل المفكر بنفسه، أو “المعتكف” حيث يكرس الطالب نفسه، لوحده، للتأمل وللتعامل مع المكتوب والمطبوع من مبتكرات عقول الآخرين، القدماء والمحدثين. وقد بزّ الإمام الغزالي مجايليه في ميله إلى الإنفراد بنفسه وتوليد الأفكار العملاقة. ولم نزل نقرأ الإمام الغزالي ونرتجع إليه كنبع غزير للأفكار.

 

إننا إذا ما حاولنا أن نعدد الأدوات والآلات البسيطة التي ابتكرتها عقول من الأمم الأخرى وقد جاءتنا مستوردة، سنلاحظ أن هناك العديد منها كان يمكن أن نبتكره في مجتمعاتنا العطشى للمبتكر: فلماذا نستورد المبتكرات البسيطة، من فرشة الأسنان الهزازة إلكترونياً إلى الأفران الإلكترونية ولا نتوقع أن يبتكرها عقل محلي، على الرغم من بساطتها؟ هذه علامات الركود والإستكانة التي ينبغي أن ترصد بحذر والتي نعاني منها حيث لا تمنحها مناهجنا الدراسية لتلاميذنا، من مراحل روض الأطفال والتمهيدي إلى مراحل الدراسات العليا. ليس هناك ما يكفي من تدريب على التفكير الحر المولد للمبتكرات. إن مناهجنا الدراسية، في أغلب الحالات، مؤسسة على آليات الحفظ وإعادة إنتاج المعلومات في الامتحانات. لذا فإن أذكى العقول لدينا هي تلك التي تتمتع بذاكرة قوية، استرجاع للمعلومات المطلع عليها. هذه الآلية لا تنمي خلايا الدماغ القادرة على ابتكار الجديد من الأفكار، فالطالب يذهب إلى قاعة الامتحان لاجترار ما حفظه خلال اليوم السابق، وربما الليلة السابقة؛ أما إذا لم يتمكن من استرداد هذه المعلومات المطلوبة كإجابات على الأسئلة، فله الله! فدراستنا هي مذاكرة وحفظ واستذكار، ولا مجال للاجتهاد ولترويض العقل برياضات إنتاج الجديد والأصيل من الأفكار. أما إذا ما تجرأ أحد من تلاميذنا وحاول أن يقدم شيئاً جديداً فإننا نقابله بالتهكم وبالتصفير وربما بالتندر حد إعلانه التوبة من الفكرة الجديدة أو من محاولة التفكير بطريقة إبداعية.

 

وما دمنا نناقش قدرات الحضارات المتنوعة على الابتكار وتقديم الجديد والشجاع من الأفكار، فإن للمرء أن يلاحظ أن الإعلام يمثل أحد أهم البيئات أو الأواني المشجعة على الأفكار الجديدة، ابتداءً من سك وتركيب الكلمات الجديدة وتثوير اللغة إلى تقديم أفكار مفيدة ومهمة للمجتمع. هذا، بكل دقة، ما تحقق قبل بضعة أسابيع في نيويورك حيث تم ابتكار إسم جديد يضاف إلى قاموس اللغة الإنكليزية، وهو: Newseum، وهي لفظة مركبة من news بمعنى الأخبار، والنصف الثاني من كلمة museum بمعنى المتحف. وهكذا جاء العقل الإعلامي هناك بفكرة متحف الإعلام أو المتحف الإعلامي. هذا متحف طريف ومهم، ليس لطلبة أقسام الإعلام فقط، باعتباره يؤرخ للأدوات التي استخدمت في العمل الصحفي من بداياتها حتى اللحظة، ولكنه مهم كذلك بالنسبة للجميع لأنه يؤرخ للأحداث التاريخية التي رصدها الإعلام والتي حظيت باهتمامه: من صور وأخبار وتعليقات ومقالات وأجهزة واتصالات. هذا نوع مهم من الأرشفة الثقافية التي يتوجب أن تتوافر في بلداننا العربية. ولكن، مع هذا، يبقى المبتكر (إذا ما حاولنا محاكاته) مستورد. والسؤال الأهم هو: لماذا لم نبتكر مثل هذه الفكرة “هنا”، ولماذا ننظر إليها كفكرة أصيلة جديدة تستحق المحاكاة “هناك”؟

المصدر: http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/2573

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك