العنف، والمقدّس، والحقيقة: قراءة في فكر محمد أركون

نايلة أبي نادر

 

وجعُ اللحظةِ الراهنة وتمزّقُ الوعي عند استيعابها يضعانك وحيداً في مواجهة تحديات الأسئلة المؤرّقة التي تقضّ مضجع الوعي وتنخر طمأنينته. الاستسلامُ أمام شاشات التلفزة التي ترشح احمراراً وهي تبثّ أشنع أساليب الإجرام ومن ثم الغرق بالتحسّر على ركام الأمس بات من المشهدية اليومية التي تعكس الواقع المأزوم. الاكتفاء بمتابعة مواكب الجنازات عن بُعد التي تملأ المكان بالسواد إعلانٌ واضحٌ عن غياب المبادرة العقلية المجدية والاكتفاء بالنعي والانفعال العقيم لا غير. لا شك في أنّ طغيان الأنظمة المعرفية المبنية على اليقين والنظرة الأحادية إلى الأمور يجعلُ البحثَ في عمق ما يجري والإسراعَ في الإمساك بمبضع النقد خطوة ملحّة لم يعد مستساغاً التأخر بعدُ في الوصول إليها.

إنّ هذا القلق كان قد انهمّ به العديد من المفكرين النقديين المعاصرين، ممّا جعلهم يشهرون السلاح الوحيد الذي يتقنون استعماله أي العقل، ليقدّموا القراءة الفكرية التي من شأنها أن تكشفَ مكمنَ الخلل وتسلّط الضوء على النهج الذي بإمكانه أن يرسم خطةَ إنقاذٍ لما تبقّى من قدرة وطاقة على النهوض ومواكبة العصر لدى الشعوب العربية الإسلامية الرازحة تحت وطأة الأحكام التكفيرية، والدعوات الجهادية، ومشاريع الدمار الشامل معرفياً واقتصادياً واجتماعياً. ما الذي يربط بين العنف الممارس على الأرض والحقيقة المقدّسة المتعالية؟ كيف يتمّ تبرير الأعمال الشرسة المرتكبة باسم الدين عن طريق الانتقال التلقائي من الواقع الأرضي الملموس باتجاه التعالي، ومن ثم العودة إلى الحيّز المادي المباشر لممارسة العنف فيه؟ إنّ هذه الأسئلة كانت قد استوقفت بعمق محمد أركون أحد أبرز المفكرين النقديين الذين شهروا سلاح العقل في وجه التطرّف، ورفعوا راية النقد في وجه استلاب حرية الفكر والرغبة في السير تيهاً من دون بوصلة. إنّ من يودّ الغوص في ما أنتجه محمد أركون من فكر نقدي، تلفته بالتأكيد القراءة الأنثروبولوجية التي قدّمها من أجل فهم ما يسمّيه بـ"الظاهرة الإسلامية"، وما قام به من أجل المزيد من إلقاء الضوء على مسار الأحداث التي طبعت الإسلام عبر التاريخ، وتأثيرها في بلورة فكر إسلامي له خصوصيته.

ما هي أبرز مقوّمات ما يسمّيه أركون بـ"المثلث الأنثروبولوجي: العنف، والمقدّس، والحقيقة"؟، وما هو بالتالي الرابط المشترك بين المصطلحات الثلاثة؟

يعتبر أركون بداية أنّ الاسلام كدين هو نتيجة القوى المحسوسة التاريخية والاجتماعية والثقافية التي شكّلته عقيدياً وإيديولوجياً، وهو بذلك يشبه أي دين أو مذهب عقيدي آخر. أمّا المسلمون فقد حوّلوا الإسلام إلى أقنوم ضخم يؤثر في كل شيء وبإمكانه أن يحقق كل شيء، الأمر الذي يظهر الاختلاف الكبير بين التصور التجريدي الذي يضخّم الإسلام من جهة، وبين التصور التاريخي الذي يأخذ بالاعتبار الواقع المحسوس. فالمؤرّخ يرى أنّ الإسلام يخضع للتاريخ وللقوى المحسوسة المتجسّدة بـ"القوى الشعبوية". هذه القوى التي تقع في التطرّف وتنمو من خلال التجييش بواسطة النعرات العصبية والعواطف، ممّا يؤدّي بالطبع إلى تراجع سلطان العقل والحد من نفوذه عند القيام بالفعل.

من هنا يمكن أن نتوقف عند مهمّة النقد التي قام بها أركون للعقل الإسلامي من الناحية الأنثروبولوجية، فنراه يرتكز على مصطلحات ثلاثة هي: "العنف، التقديس، الحقيقة"، محاولاً أن يبرز كيفية التأسيس الاجتماعي للعقل، والتأسيس الخيالي للمجتمع.

اختار أركون سورة التوبة لكونها توفر أنموذجاً خصباً لدراسة التوتر القائم بين المفاهيم الثلاثة، وهي مناسبة أيضاً لكي يخوض الباحث مغامرة إعادة تقويم مفهوم الوحي انطلاقاً من بعده التاريخي، وليس فقط من بعده المتعالي والجوهراني. ثم إنّه يلحظ من خلال هذه السورة المنحى التاريخي المتجلي في القرآن عبر العلاقة التي تربط الحقيقة المتعالية بالزمن المحدود. يتوقف بالتحديد عند الآية التاسعة التي تحرج المسلمين الذين يؤمنون بحقوق الإنسان، والحرية الدينية، وغيرها من المفاهيم الحديثة، من جهة، وهي في الوقت عينه تشكّل السند للمناضلين الإسلاميين الذين يعملون على استعادة نظام الخلافة وفرض الجهاد، من جهة أخرى. وهي أيضاً، أي الآية التاسعة، تشكّل بالنسبة إلى سورة التوبة "الذروة القصوى للعنف" الذي يتمّ تسخيره في خدمة المطلق. يرى أركون أنّ الفريقين معاً يُسقطان "على القرآن الهموم والأفكار والهياجانات السياسية الخاصة بالتاريخ الحالي والمجتمعات الحالية". ثم إنهما ينكران "تاريخية النص القرآني وتاريخية عصرنا الراهن، ويشوّهون بواسطة الحركة نفسها من القراءة (أي التفسير) والممارسة التاريخية كل الشروط الواقعية والموضوعية لدمج الحقيقة في أزمنة متنوعة ومتغايرة (أي معرفة حقيقة كلّ عصر واختلافها باختلاف البيئات والأزمان)". (محمد أركون، الفكر الإسلامي، قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1987)

يشير أركون من خلال توقفه عند سورة التوبة إلى أنها تدلّ بمجملها على أنّ العنف كان حاضراً في كل مرّة تُهدّد فيها الحقيقة المطلقة، أو تتعرّض للمقاومة والرفض. قامت السورة بإنتاج معنى محرّك وتعبوي لدى السامعين زمن النبي، كما لدى الأجيال التالية. من هنا نجد أنّ الاهتمام بظاهرة العنف قد دفع أركون إلى البحث في أسبابها وأهدافها، فوجد أنها مرتبطة بشكل وثيق بالتقديس، وذلك من أجل فرض حقيقة محدّدة تعلو على أي نقاش أو جدل. يلحظ أنّ الانسان لكي يتمكن من الدفاع عن نفسه، والعيش في المجتمع، والتوصل إلى المعنى الذي يبحث عنه، يحتاج إلى كل من العنف والتقديس والحقيقة. يؤكّد في هذا السياق أنّ التوتر بين المفاهيم الثلاثة قد عرفته المجتمعات في مختلف العصور، وهو ليس حكراً على دين محدد. إذ أنّ كل الجماعة البشرية أو الفاعلين الاجتماعيين مستعدون للعنف دفاعاً عن حقيقتهم المقدّسة.

إنّ اعتماد النقد بالمعنى الأنثروبولوجي يجب أن ينطلق، بالنسبة إلى أركون، من البحث في نمط العلاقة الكامنة بين القوى المركزية للدولة من جهة، وبين القوى المهمّشة في الأطراف من جهة أخرى، فيجد أنها علاقة ذات طابع جدلي. من هنا نلحظ أنه يلفت الانتباه إلى التضاد الحاصل بين تشكيلة الدولة، والكتابات المقدّسة، والنخب المتعلمة والثقافة الرسمية، من جهة، وبين المجتمعات القبلية المجزّأة التي اعتمدت على التراث الشفهي، والتي أنتجت ثقافة شعبية اتصفت بالخروج على "الأرثوذكسية الدينية"، من جهة أخرى. إنّ هذا التضاد كان محور انهمام علماء الأنثروبولوجيا، وبخاصة ليفي ستروس، الذين استخدموا تعبيراً عنه المصطلحين التاليين: الفكر المتوحش/ والفكر المدجّن.

من هنا يمكن أن نفصّل القول في نقطتين اثنتين من شأنهما إبراز تحديد أركون لكل من الحقيقة والعنف ورابط التقديس الذي يجمعهما.

أولاً: في مفهوم الحقيقة

يتوقف أركون في أكثر من موضع عند مفهوم الحقيقة بالنسبة إلى المفكر النقدي، فيرى أنّه لايمكن اعتبارها جوهراً أو أمراً معطى على نحو مكتمل ونهائي،  كما فعلت الأديان والأنظمة الميتافيزيقية المثالية. إنها على خلاف ذلك، فهي "مجموع آثار المعنى التي يسمح بها لكل ذات فردية أو جماعية نظام الدلالات الإيحائية المستخدمة في لغته. إنها مجمل التصورات المختزنة من قبل التراث الحي للجماعة القبلية، أو للطائفة الدينية، أو للأمّة. فكل أمّة أو طائفة تعتبر تراثها بمثابة الحقيقة المطلقة. إنّ الحقيقة ليست جوهراً أو شيئاً معطى بشكل جاهز ونهائي، وإنّما هي تركيب أو أثر ناتج عن تركيب لفظي أو معنوي قد ينهار لاحقاً لكي يحلّ محلّه تركيب جديد، أي حقيقة جديدة". (محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، 1998، ص166).

لقد حاول أركون جاهداً من خلال تطبيق المنهجية النقدية أن يبرز أهم المشاكل التي يعاني منها الفكر العربي الإسلامي داخلاً وخارجاً. وشدّد على أنّالحقيقة التاريخية هي مزدوجة، على الجميع أن يتفهّموا ذلك. هناك في الدرجة الأولى ما يتصوّره العقل عن هذه الحقيقة، أي ما قد تشكّل عن ذلك الماضي لدى المسلمين. وهناك في الدرجة الثانية ما جرى حقيقةً أي الواقع الذي أخفاه وقنّعه واستبعده كل من يدّعي أنّه يتحدّث باسمه أو يعبّر عنه. من هنا ينتقد  مؤلفنا الاستشراق بسبب اكتفائه بالسرد الأمين المخلص للّغات المتداولة ورفضه بالتالي "أن يأخذ الحقيقة المقنّعة أو المخفية بعين الاعتبار". لذلك نجد المستشرق يقوم بعملية دعمٍ للوهم الخادع الذي يظهره على أنّه "يقدّم معرفة مطابقة وصحيحة من وجهة نظر المسلمين أنفسهم ومن وجهة نظر المؤرخ الحديث الذي يتحدّث عنهم في آن معاً". (محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت، مركز الإنماء القومي، ص 255).

هناك إذاً عملية تمويه خطرة يجب الكشف عنها لأنها تعوق محاولة القبض على الواقع الحقيقي. فكل تلك الآليات التي تؤثّر على الحقيقة أو الواقع، اجتماعية كانت أم نفسية أم ثقافية أم لغوية، كلّ هذه الآليات تبقى بعيدة عن ساحة البحث والتحليل والنقد العلمي بسبب ما يقوم به المستشرقون من إخفاء وطمس للحقائق من خلال "النقل البارد" لمجمل مقومات الفكر الإسلامي. فالبُعد الحاصل بين المستشرق ومادة بحثه قد أسهم في جعله مجرّد إنسان يشاهد مسرحاً اجتماعياً وتاريخياً معيّناً، يرفض أن يدخل فيه ويتفاعل مع أهله ليشاركهم صعوباتهم ومسؤولياتهم وآمالهم التي يختبرونها.

بالعودة إلى المثلث الأنثروبولوجي الذي يربط بين الحقيقة والعنف يرى أركون أنّ مفهوم "الدين الحق" الذي يرد في القرآن يحمل بوضوح معنى العنف، إلى جانب فكرة اللاإكراه في الدين. هناك منطق فكري لبناء الحقيقة، كما في بناء طرق إقناع الآخرين بها، من الاضطرار إلى اللجوء إلى العنف، برأي مفكرنا. من هنا نجده يؤكّد على أنّ مفهوم الاقتناع الحر يلزم البحث في الشروط النفسية والاجتماعية واللغوية التي تتمّ فيها صياغة الإيمان، ويرى أنّ الإيمان "هو تسمية إيجابية للمعتقد، يمكن أن يتحول إلى عنف إذا لم تصاحبه يقظة نقدية من قبل العقل. وهذا ما يحدث عندما يتخلّى القيّمون على المقدّس عن تلك اليقظة وعن المعارف اللازمة لتطبيقها على تعبيرات الإيمان. ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة في جميع الانحرافات الأصولية والتكاملية لكل أشكال الإيديولوجيا الدينية أو الدنيوية. إنّ تحليل المثلث الأنثروبولوجي يتجه تحديداً نحو هذين الوجهين لكل من الحقيقة والمقدّس". (محمد أركون وجوزف مايلا، من منهاتن إلى بغداد، ما وراء الخير والشر، ترجمة عقيل الشيخ حسين، بيروت، دار الساقي، 2008، ص 238-239)

إذا أردنا أن نرسم مسار العلاقة التي تربط بين زوايا المثلث الأنثروبولوجي، فيمكننا التحدّث عما يلي:

كلّ جماعة دينية لها مفهوم خاص بحقيقة الله والكون والوجود، ولها نظام خاص من الاعتقاد واللااعتقاد، تطرحه وتدافع عنه بقوة لكونه يجسّد الحقيقة المطلقة التي لا حقيقة خارجها. من هنا نجد أنّ مفهوم الحقيقة يتمّ حصره في دائرة ما هو مقدّس، ما لا يجوز المس به من قبل أيّ كان. الأمر الذي يسوّغ استخدام العنف من أجل الدفاع عن المعتقد، عن الحقيقة، أي عمّا هو مقدّس. وكأنّ هناك طاقة تربط بين الزوايا الثلاث وتجعلها متلازمة. إنّ من يعمّق النظر من الناحية الأنثروبولوجية في الدين وحضوره الفاعل في المجتمع، يمكنه أن يعقل بقوة العلاقة الكامنة بين الحقيقة التي تُرفع من قِبل الجماعة المؤمنة بها إلى مقام التقديس، وتعزل بالتالي عن ظروف انبثاقها الاجتماعية والسياسية واللغوية الملموسة، وبين تبرير اللجوء إلى العنف في سبيل المحافظة عليها، أي في سبيل الدفاع عما يميز فعلاً هوية هذه الجماعة عن غيرها. هذا الأمر يمكن ملاحظته، من وجهة أركون، ليس فقط على المستوى اللاهوتي التقليدي للوحي إنّما أيضاً "على مستوى البناءات الحديثة للشرعيات الحقوقية والسياسية والفلسفية: هذه المقاربة تعني أنّ من الملحّ تفكيك جميع نظم الفكر والقيم التي بناها الدين، أو العقل الحديث المسمّى عقل الأنوار، وذلك لإلقاء الضوء على المقدمات والمسبّقات والتغطيات على الواقع فيما لا نزال حتى اليوم نلوّح به على أنّه الحقيقة المنزلة، أو الحقيقة المثبتة والمتحقق منها على أكمل وجه من قِبل المدافعين عن "العقل الخالص" وعن "العقل العملي". (محمد أركون، م.س. ص 85)

نجد مفكرنا هنا يتوجه بموضوعية نحو مسلمات العقل الغربي، عقل الأنوار، لكي يشير إلى ضرورة تفكيك الحقيقة المثبتة، ليس فقط في الإطار الديني إنما أيضاً في الإطار الفلسفي. هناك جهد نقدي مطلوب القيام به من أجل المزيد من التسامح، والتفهم العقلاني للأمور. إنّه لا يوفر مناسبة لكي يشير إلى ضرورة زعزعة الموروثات الدينية والنظم الفلسفية التي بناها العقل التقليدي والحداثي. يشدّد مفكرنا على هذه الخطوة النقدية بخاصة وأنّ مختلف الأنظمة اللاهوتية التفسيرية لنصوص الديانات التوحيدية راحت منذ فترة القرون الوسطى تؤكد "شرعية عمل المثلث في التاريخ الملموس للمجتمعات". من هنا يرى أنّه "ليس من العدل أن نحبس الأديان التقليدية وحدها، والإسلام خصوصاً، في دائرة العنف الدائم لما يُسمّى الحروب الدينية. إنّ أحد العناصر التي جاء بها المثلث الأنثروبولوجي هو في كونه ينقل إلى جميع نظم الفكر القديمة والحديثة ضرورة تجذير التحليل النقدي لمفاهيم العنف والمقدّس والحقيقة، على أساس أنّ هذه الأقطاب المفاهيمية تُستخدم كقوى غير منفصلة عن الإنتاج التاريخي للوجود البشري". (محمد أركون، م.س. ص240)

كذلك نجده يشير في مجال آخر إلى عملية "التنافس على المعنى" بشكل عام، إذ أنّ الجميع يطلبونه، وتدّعيه مجمل الفئات الاجتماعية التي تبحث عن هويتها. كما أنّ المذاهب الفكرية تتنافس في طريقها نحو اكتشاف المعنى الحقيقي، ومن ثم فرضه على الآخرين. ويقصد بالمعنى هنا ذاك الذي يتمّ اشتقاقه من المصدر التشريعي الأعلى، وهو الذي من شأنه أن يؤدّي إلى المعنى الكلّي والأخير.هكذا فعل الفقهاء ورجال الدين سابقاً، كذلك فعلت أيضاً الأنظمة الماورائية الكلاسيكية حين توهّمت أنّها توصّلت إلى المعنى الكلّي وقبضت عليه.

أما اليوم، فلم يعد من السهل القبول بذلك والادّعاء بامتلاك المعنى الحقيقي. والاقتناع بوجود معنى كلّي منجز ونهائي وأخير بات أمراً في غاية الصعوبة. لا بل كل من يدّعي امتلاك المعنى بكليته وحده من دون سواه يُدحض ادعاؤه ويُنتقد بصفته نوعاً من الإيديولوجيا. ويحدّد هنا معنى الإيديولوجيا قائلاً: "نقصد بالإيديولوجيا هنا تلك الإرادة التعسفية لفئة ما أو حتى لقائد ما في نشر معناه أو "قِيمه" لكي تشمل الجميع أو تسيطر على الجميع. بل إنّ تعبير "البحث عن المعنى" أصبح هو نفسه مشبوهاً: بمعنى أصبح يُعتبر كإيديولوجيا مقنّعة تهدف إلى إعادة الأنظمة اللاهوتية والميتافيزيقية القديمة إلى سابق عهدها، أي إلى ممارسة وظيفتها في تبرير إرادات القوة والتوسع والهيمنة". (محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، 1995، ص24).

يبدو جلياً هنا مدى وعي أركون لقوة الإيديولوجيا ولكيفية استثمارها في أكثر من مجال. إنّه يرفض حتى استخدام عبارة "البحث عن المعنى" ويستبدلها بـ"رهانات المعنى"، لكي يبتعد قدر المستطاع عن المسلّمات اللاهوتية والميتافيزيقية. يريد من خلال استخدام مصطلح "رهانات" الإشارة إلى "انخراط كل متكلّم عن طريق خطابه في لعبة الصيرورة الكبرى للعالم. إنّه منخرط على هيئة اللاعب تماماً. فلعبة صيرورة العالم تشبه اللعبة بالمعنى الحرفي للكلمة. بمعنى أنّ سيرورتها معرّضة في كل لحظة لمتغيرات الصدفة التي ينبغي على كل لاعب أن يدمجها في حساباته من أجل أن يسيطر عليها في تدخلاته أو لعباته المتتالية". (محمد أركون، م.س. ص25)

نرى بوضوح أنّ الإشارة إلى فكرة اللعبة في عملية البحث عن المعنى تهدف إلى تشريع الأفق، وعدم سجن الفكر داخل الأطر الضيقة، إنما ترك الأمور إلى المصادفة، إلى ما هو غير منجز، ولا متوقع. هذه من أبرز صفات الباحث النقدي الذي لا يرسم مسبقاً نهاية مساره الفكري، وإنما يترك البحث يقوده كما المصادفة في اتجاه المعنى. هذا ما ينافي الممارسة الإيديولوجية ويبرز مدى انخفاض سقف تحركها. يربط أركون في هذا السياق بين الإيديولوجيا والسلطة، أي بين إرادة المعرفة وإرادة السلطة، ويشير إلى التقاطع بينهما كما فعل ميشيل فوكو. ينفي أن يكون هناك فصلٌ قاطع وجازم بين الرغبة في المعرفة والرغبة في السلطة وفق اعتقاد النظرية المثالية التقليدية.

لذلك نجد أركون منخرطاً في مشروعه النقدي من أجل تفادي إسقاط الحاضر على الماضي، وكشف أكبر قدر ممكن ممّا قد حدث من تلاعب في تظهير الحقائق والتعاطي معها، في ما يتعلّق بطبيعة العلاقة بين الديني والسياسي. اخترت نصاً له من كتابه "الإسلام، أوروبا، الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة"، يرصد فيه مسار "إيديولوجيا الكفاح"، فيجد أنّه قد بدأ منذ الولادة ولغاية الآن مروراً بعدة حقب. سوف أتركه يصف لكم ما حدث، يقول: "الإسلام كدين (أي كجملة من الطقوس الشعائرية والعقائدية التي تهدف إلى تقريب الإنسان من الله) ما انفك طيلة تاريخه أبداً، أي منذ ولادته وحتى اليوم، يُستخدم من قِبل الفاعلين الاجتماعيين، أي المسلمين، كأداة. أقصد أنّه استُخدم دائماً كأداة لإيديولوجيا الكفاح التي كانت تُدعى بالجهاد سابقاً. فقد استُخدم كأداة كفاحية من أجل توسّعه الأوّل وفتوحاته (632-750 تقريباً)، ثم استخدم كأداة كفاحية ضد حملة استرجاع إسبانيا في الأندلس والمغرب الكبير. ثم استُخدم كأداة كفاحية ضدّ الصليبيين في منطقة الشرق الأوسط. ثم استخدم كأداة كفاحية من أجل توسّعه الثاني في العصر العثماني الأول حتى الهزيمة الكبرى أمام الأوروبيين (...) عام 1572. ثم استُخدم في ما بعد كأداة للحماية الذاتية بعد القرن السابع عشر. ولكن الكفاح لم ينته بعدئذ. فها هي الحركات الإسلاموية (أو الأصولية) تنشّطه من جديد في عصرنا الراهن عن طريق استخدام نتف متقطعة من المعجم الديني القديم والعقيدة التقليدية الموروثة. إنّها تستخدمه ضد الأنظمة الحاكمة والدول القومية والإمبريالية (أي التوسعية) التي يمثّل الصرب آخر تجسيد لها". (انظر، محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب، ص 95).

نلحظ في هذا النص كيف أنّ المؤلف يركّز على أنّ النضال والجهاد يحتاجان إلى إيديولوجيا تبررهما، وقد واكبا تاريخ الإسلام منذ بداياته التوسعية. فالإنسان، هذا الكائن التوّاق للحياة وللعيش بسلام، ما الذي يجعله يذهب إلى الحرب والقتال وبذل الدماء مبتعداً بذلك عمّا يحب ويبغي؟ سؤال بدهي، الإجابة عنه تأتي من خلال الفكر. أي أنّ الإنسان المتوجه نحو ساحة النضال، حيث يمكنه أن يخسر كل شيء، لا بل أثمن ما يملك، أي نبض الحياة الذي فيه، ما الذي يجعله مقتنعاً بقرار كهذا؟ ما الذي يدفعه إلى الموت؟ إنها منظومة الأفكار التي استخدمت من أجل إقناعه بذلك. إنها الإيديولوجيا التي تمكنت تغيير القناعات والخيارات وبالتالي المسارات الفردية كما الجماعية. كيف يقرأ إذاً أركون ظاهرة العنف؟

ثانياً: في مفهوم العنف

يرى مفكرنا أنّ ما نشهده في المرحلة الراهنة هو عنف مزدوج: هناك أولاً العنف الذي تمارسه أنـظمـة "الدولة، الوطن، الحزب" التي نشأت بعد حقبة الاستقلال. وهناك ثانياً العنف الذي نتج عن النظام الدولي في نسختيه القديمة والجديدة، لأنّ هذا النظام يضغط ويعرقل التطور الذاتي. ثم يضيف عنفاً آخر مكبوتاً في الداخل، في أعماق المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة.

يعود هنا إلى الفيزياء لكي يبحث في أصل العنف فيجده في الضغط والكبت. القانون الفيزيائي واضح في هذا الخصوص: الضغط يولّد الانفجار. وبالعودة إلى علم الاجتماع فإنّه يجد تحديد العنف كتعبير عن انعدام الحوار في المجتمع. إن لم يستطع المجتمع أن يعبّر ويتكلّم على نحو طبيعي فمصيره الانفجار، لأنّ في ذلك السبيل الوحيد للتعبير عن نفسه.

يعتبر أركون أنّ الحقيقة التي تؤمن بها أي جماعة من "الفاعلين الاجتماعيين" تتعرّض للتهديد باستمرار، سواء من قِبل "الكفار" في حال كانت الجماعة دينية، أم من قِبل أعداء الوطن في حال كانت الجماعة سياسية. ويشير إلى أنّ التعاليم في كل الأديان لا تتردّد أبداً في إدانة العنف أخلاقياً ورفضه بشدّة، لكنها في الوقت عينه تباركه وتدعو إليه إذا كان الأمر يتعلّق بالدفاع عن الحقيقة من أجل مواجهة الكفار، أو في سبيل فرض هذه الحقيقة بالقوة على كل من يعترض عليها. كما أنّ الدولة العلمانية الحديثة تقوم بالفعل ذاته، عندما تدعو مواطنيها إلى خوض "الحرب العادلة" وهي التي يقابلها مفهوم الجهاد في الإسلام. لقد أخذت الأحزاب العلمانية الحديثة تحلّ اليوم محلّ المذاهب والطوائف الدينية، لكن الآلية العميقة في الربط بين العنف والتقديس والحقيقة هي ذاتها على الرغم من تغيّر صيغتها الشكلية. يلحظ أركون أنّ هناك نوعين من العنف: الأول، عنف مقدّس يضفي المشروعية على ذاته من خلال التعاليم "الإلهية" للأديان التي لم تتم مقاربتها بعد من زاوية النقد العلمي. والثاني، عنف مادي أو دنيوي محض نُزعت عنه قيود التقديس وأحكامه. يقصد بالعنف المادي هنا تلك الممارسات الشائعة في المجتمعات الأوروبية والأميركية الحديثة التي انحسر عنها الدين وتعلمنت فأصبحت قيمها نسبية، وفرضت بالتالي إرادة القوة والهيمنة كقيمة عليا.

يصرّ مفكرنا على التوقف عند ضرورة معرفة وضع الشعوب الإسلامية والعربية المعاصرة، يراه وضعاً صعباً لا يُحتمل. يشير إلى أنّ هذه الشعوب "تعاني اليوم من أسوأ أنواع الفوضى المعنوية ومن التمزقات الإيديولوجية المأساوية التي تغذّي الحروب الأهلية. كما تحسّ إحساساً مريراً بالإحباط نتيجة الوعود التي بُذلت لها ولم تتحقق. وفي الواقع، إنّ جميع هذه الشعوب كانت قد توقفت عن إنتاج تاريخها الخاص بواسطة اللعبة الداخلية لمكوناتها الاجتماعية وبواسطتها وحدها منذ القرن التاسع عشر. بمعنى آخر، فإنّ مصيرها لم يعد بيدها منذ ذلك التاريخ بالضبط، أصبحت العوامل الخارجية هي التي تحسمه. إنّ هذا المعطى الحاسم يسيطر على مصيرها التاريخي المعاصر أكثر من عوامل التطور الداخلية الخاصة بكل فئة عرقية- تاريخية- ثقافية". (محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب، م.س. ص 163).

إنّ هذه الإشارة إلى التمزّق الإيديولوجي والفوضى المعنوية تدلّ على غياب المرجع العلمي والفكري الضروري لكل تحرّك في مواجهة الواقع المرير. لذا يرى مفكرنا أنّ هذا الوضع سيسهّل من انتشار ثقافة العنف المبنية على فكرة الدفاع عن الحقيقة التي تمّ تقديسها، وهي بخطر يستوجب الانخراط في المعركة من أجلها.

يفضّل أركون عند معالجته لموضوع العنف أن يدمجه في عملية التفاعل المتبادل بين القوى الثلاث التي تتفاعل ضمن الحيّز المغلق الذي أطلق عليه تسمية: المثلث الأنثروبولوجي المؤلف من: العنف والمقدّس والحقيقة، مستعيناً برينيه جيرار الذي اقتصر في أبحاثه على الثنائي: العنف والمقدّس. لقد أدرج أركون الحقيقة داخل الحيّز المقفل للمثلث لأنه يعتقد أنّ أنماط بناء الحقيقة وإدارتها ارتبطت "بنظم الفكر الديني والفلسفي"، و"سعت إلى إبعاد أو احتواء فورات العنف عبر التبشير بنظام الأخلاق والقانون المرتكزين على المسلمات المنظِّمة للحقيقة المعطاة بوصفها منزَلة أو ذات طبيعة ماورائية". (محمد أركون وجوزف مايلا، من منهاتن إلى بغداد، ما وراء الخير والشر، بيروت، دار الساقي، ط1 2008، ص 83).

لكي يوضح أركون العلاقة القائمة بين أركان هذا المثلث الأنثروبولوجي نراه يعود مرة أخرى إلى الآية الخامسة من سورة التوبة المعروفة باسم: آية السيف، والتي كان الفقهاء قد اعتمدوا عليها من أجل تشريع الجهاد العادل إبّان القرون الثلاثة الأولى للهجرة. يجد أنّ هذه السورة تتحدث صراحة عن الوظيفة السياسية الدينية للمثلث. "مجمل آيات السورة يقول ما معناه: يا خلائق الله في الأرض، عليكم أن تشهروا الحرب في كلّ مرّة تتعرّض فيها للتهديد هذه الحقيقة المنزلة والمعهود بها كـ"أمانة" تحت إدارة البشر". (محمد أركون، من منهاتن إلى بغداد، ص 239)

ويعتبر أنّ السورة كلها تدلّ على وجود العنف سابقاً، وعلى إمكانية وجوده لاحقاً، أي كلما كانت الحقيقة المطلقة مهدّدة بالخطر أو حتى عندما تواجَه بالرفض. لقد درس أركون الكيفية التي تُنتج بها سورة التوبة معنىً يحرّك السامعين ويقوم بتعبئتهم منذ زمن النبي إلى الأجيال التالية من المؤمنين. مفصّلاً مضمون الآية الخامسة من الناحية السيميائية الدلالية، ثم الناحية التاريخية، ثم من الناحية الأنثروبولوجية في الفصل الثالث من كتابه "الفكر الإسلامي قراءة علمية"، كما ذكرنا سابقاً.

يرى مفكرنا أنّ مقاربة مسألة الجهاد انطلاقاً من المثلث: عنف، مقدّس، حقيقة، تتيح فهم دور الحقيقة ضمن نظامها اللاهوتي الديني، أو ضمن نظامها الفلسفي العلماني في تبرير وشرعنة مجمل أنواع اللجوء إلى العنف والحرب في مختلف الأزمنة والسياقات. ويشير في هذا السياق إلى أنّ "مفهوم نظام الحقيقة لا يلتبس مع مفهوم الحقيقة الذي عُزل طويلاً عن ظروف انبثاقه الاجتماعية والسياسية واللغوية الملموسة. ويمكننا أن نتوسّم مستتبعات هذه المقاربة انطلاقاً من المثلث: عنف، مقدّس، حقيقة على مستوى الموقعية اللاهوتية التقليدية للوحي، ولكن أيضاً على مستوى البناءات الحديثة للشرعيات الحقوقية والسياسية والفلسفية (...)".

(محمد أركون، من منهاتن إلى بغداد، ص 84- 85)

يشير جوزف مايلا في سياق حواره الفكري مع أركون إلى ما يحدث اليوم من تبرير لاستخدام العنف من قِبل الإسلام السياسي الذي يستعيد مفاهيم الفكر الإسلامي كما وردت في الأساس متناسياً "ارتباط هذه المفاهيم منذ البداية بنُظم لاهوتية أو فلسفية قروسطية متعدّدة ومختلفة. ثم إنّ نقلها إلى السياق الراهن يتمّ بطريقة يشتهيها الفقه الإسلامي المجهّز أدواتياً لخدمة أغراض القضية، أي بطريقة القياس". (جوزف مايلا، من منهاتن إلى بغداد، م.س. ص 89).

يعطي أمثلة عدّة على هذا النوع من الإسقاط أو المغالطة التاريخية، كما يسميها أركون، متوقفاً عند السيد قطب الذي قارن بين أعمال عبد الناصر وأعمال المغول الذين قاموا بتدمير بغداد في القرن الثامن وأسهموا في سقوط الخلافة العباسية، وذلك من أجل تشريع الدعوة إلى الجهاد ضد عبد الناصر. كذلك ما يحدث اليوم من خلال نقد السياسة الغربية عن طريق مقارنتها بالحروب الصليبية بهدف التوظيف السياسي والكفاحي وتحريك الجماهير في خط نضالي محدّد. ويضيف أنّ "هذه الاستعارات الغريبة من التاريخ ليست استعارات تعسّفية بمعنى أنها غير صحيحة، أو غير دقيقة تاريخياً، حتى ولو كان طابعها غير المنسجم مع الراهن واضحاً للعيان. فغياب التوسّط النقدي، والفراغ القائم بين التمثّل الحاد للتاريخ وحاضرٍ غير مفكر فيه بتعابير غير تعابير لغة نشأت في الماضي، كل ذلك يجعل من الممكن استعادة المعنى على طريقة حركات كطالبان أو القاعدة، مع تركيب تصورات فكرية ودينية على ظروف التخلّف التنموي الواقعية لاستخدام ذلك في استخلاص إيديولوجيات دموية". (جوزف مايلا، م.س. ص 89-90)

إنّ من يتابع أركون في مجمل مؤلفاته يجد أنّ المقاربة النقدية هي الركيزة الأولى في مساره الفكري. إنها مقاربة تحاول أن تبرز ما هو مشترك بين الأقطاب التي تبدو عادة متقابلة. فهو هنا يحاول أن يجمع من خلال الكلام على المثلث الأنثروبولوجي بين ديانات التوحيد والفكر الفلسفي العلماني على صعيد الممارسة التاريخية. إنّه يهدف إلى تجاوز التعارضات الثنائية، مثل: الدين والعلمنة، والكنيسة والدولة، والمقدّس والدنيوي، والروحي والزمني، والإيمان والعقل، ...إلخ. يراها كلها تطرح الحقيقة باعتبارها مسلَّمة، تكمن خارج النقد والتفكيك. ويشير إلى أنّ هذه "التعارضات هي في الواقع إيديولوجية أكثر مما هي نقدية". إنّ اعتماد منهج التاريخ المقارن لنظم الأفكار سيوفر مجالاً لتجاوز "التفسيرات الناشئة عن الرؤية الخطية والمجرّدة التي تُقصر تاريخ الأفكار على كل تقليد، مع العلم بأنّ كل واحد من التقاليد خاضع للمثالية الدينية أو الماورائية. كما أننا نتحرّر بذلك أيضاً من الممارسات التي تنوّه بالدين وتنتقي الآيات أو الأفكار الملائمة للأطروحات الدارجة، وتضرب صفحاً عن التعاليم والتفسيرات التي طالما وجهت أنماط تفكير القوى الفاعلة الاجتماعية ومسلكيات هذه القوى". (محمد أركون، م.س. ص 240- 241).

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ أركون لم يحصر عمله في درس العلاقة بين العنف والحقيقة في المجال الإسلامي فقط، إنما يسحب مفاعيل هذا المنهج النقدي على العقل الحديث، أي عقل الأنوار من أجل المزيد من إلقاء الضوء على المقدمات والتغطيات التي حصلت لإخفاء حقيقة ما يجري في الواقع. لقد تمّ إعلان تقديس "العقل المحض" باعتباره الحقيقة المثبتة والمتحقق منها على أكمل وجه من زاوية المدافعين عنه في الغرب، كما تمّ رفع مفهوم الجمهورية في فرنسا مثلاً إلى مستوى التقديس والحقيقة المنزلة.

لكن في النهاية، ما هي الخلاصات المنهجية التي يمكن أن نختم بها هذا المبحث؟

ـ أولاً: يمكن القول إنّ مشروع أركون النقدي يصبّ في هذه الخانة تحديداً: الكشف عن مصدر الشرعية، هذا الموضوع الذي ما يزال يُصنّف ضمن دائرة اللامفكر فيه. إنّه يصرّ على أنّ "كل مسألة الشرعية في المجالات السياسية والحقوقية والأخلاقية واللاهوتية والفلسفية قد تسيّبت تماماً منذ المعارك الكبرى الأخيرة التي نشبت في العصر الوسيط بين الغزالي ومحاوريه الكبار من أمثال ابن رشد. أما ابن خلدون (...) فإنه لم يفعل غير أخذ العلم، مع وضوح في الرؤية، بالقوى السياسية-الاجتماعية الميكانيكية التي كانت تقود كل أسرة حاكمة إلى نهايتها المحتومة بعد ثلاث مراحل تتكرّر عبر المسار ذاته: ظهور، توسّع، انحطاط". (محمد أركون، من منهاتن إلى بغداد، م.س. ص 227).

ـ ثانياً: إنّ التفحّص النقدي لاستخدام الشرعية، بخاصة في المجال السياسي، يجب أن يأتي، من وجهة نظر أركون، بعد أن يخضع النظم اللاهوتية والفلسفية والحقوقية التي أسست شرعيات عدّة، لتحقيقات تاريخية وأنثروبولوجية تنزع عنها المنحى الرمزي والقصصي. ويرى أنّ "العديد من الأنظمة في العالم العربي المعاصر لا يمتلك أية شرعية، إنها تفرض على "رعايا" يبحثون عن صفة المواطنين "شرعيات مقوننة" اضطهادية. ويعود الفضل إلى الأنظمة الديمقراطية في رعاية النقاشات والاحتجاجات في مسائل الشرعية. (...) كذلك ينبغي إعادة التفكير في شرعية مستويات أخرى من السلطة في المؤسسة الأكاديمية وعلى مستوى المرجعيات الدينية وفي عالم التربية وحتى في الممارسة القضائية...". (محمد أركون، من منهاتن إلى بغداد، م. س. ص 166-167).

ـ ثالثاً: لا يمكن اعتبار الحقيقة من المنظور النقدي جوهراً أو أمراً معطى على نحوٍ مكتمل وجاهز ونهائي، غير خاضع للتبدّل والتحوّل، يعلو على التاريخ وعلى الشرط البشري في آن. إنّها، على العكس من ذلك، "تركيب أو أثر ناتج عن تركيب لفظي أو معنوي"، ممكن أن ينهار ليحلّ مكانه تركيب آخر وفق الظرف التاريخي، والاجتماعي والمعرفي. (للمزيد من التفصيل، انظر: محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، م.س، ص 166).

ـ رابعاً: تجدر الإشارة إلى أنّ المراجعة النقدية التي قام بها أركون للوحي تهدف أيضاً إلى قياس حجم الانحرافات الإيديولوجية التي يمكن أن تصيب الوحي والوظيفة النبوية عندما سيستخدمان لاحقاً كأدوات فعّالة من أجل إضفاء المشروعية على السلطة الخليفية أو الملكية أو غيرها من المرجعيات السياسية والدنيوية في المجتمع. لذا على المفكر النقدي أن يغوص في عمق معنى الوحي ورصد كيفية التعاطي معه سواء من قبل المرجعية الدينية أو من قبل السلطة المدنية في التاريخ.

ـ خامساً: الكلام على العقل الديني بعامة والحركات السلفية بخاصة يحيل إلى البحث في الحقيقة الواحدة التي لا يجوز ردّها إلى أي شيء آخر، لأنه لا حقيقة سواها، وهي تستحق بالتالي أن تُقدّم من أجلها كل التضحيات. من هنا كان اللجوء إلى العنف في سبيل الدفاع عن الحقيقة ونشرها، مهما كبُرت التضحيات، وذلك من دون تردّد أو بحث أو تحليل. إنّ كل جماعة مؤمنة بحقيقة ما ترتكز بالعمق على هذه الأركان الثلاثة من أجل الحصول على النجاة وبلوغ الدار الآخرة. يرى مفكرنا أنه لا يمكن أن نجد قبيلة ما أو أمّة أو ديناً خارج إطار العنف والتقديس والحقيقة، لأنها قوى تدخل في البنية الأساسية لكل واحدة منها. يشير أركون إلى أنّ "الجماعة مستعدّة للعنف من أجل الدفاع عن حقيقتها المقدّسة (...) العنف مرتبط بالتقديس والتقديس مرتبط بالعنف، وكلاهما مرتبطان بالحقيقة أو بما يعتقدان أنه الحقيقة". (محمد أركون، ، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الطليعة، 1998، ص43).

ـ سادساً: إنّ الدخول في الحداثة يقتضي عدم الاكتفاء بالتعاطي بما هو مسموح التفكير فيه من دون سواه، والانغلاق في دائرة السياج العقيدي الضيق. يحرّض أركون بشكل مستمر على خرق دائرة "المستحيل التفكير فيه" لفتحها والحفر في طياتها، على الرغم من كل الضغوط والموانع المتنامية، وذلك من أجل الكشف عن أنماط المعرفة التي سبق أن أنتجها العقل الإسلامي وأيّدها. من هنا تبرز أهمية مثلث آخر يربط بين: "اللغة، والتاريخ، والحقيقة".

ـ سابعاً: يحثّ أركون على ضروة أن يفصل المسلم المعاصر بين المرتبة اللاهوتية للخطاب القرآني، وبين الشرط التاريخي واللغوي للعقل البشري الذي يُنتج خطابات وأحكاماً تبرّر شرعيتها بالاستناد إلى العقل الإلهي. ليس الهدف من ذلك الحكم على الفكر الإسلامي أو التقليل من شأنه أو تهميشه وجعله بعيداً عن الحداثة والمعاصرة أو النظر إليه بفوقية وتعالٍ، كما فعل جمعٌ وفيرٌ من المستشرقين. الهدف هو التجديد، لعلّ هذا الفكر يصبح أكثر قدرة على نقد عملية تجسيد المبادئ المثالية والروحية في التاريخ، أي في حيّز التطبيق الخاضع لشروط عدّة تتبدّل مع الظروف وتسلسل الأيام. لذلك نجده يكرّر باستمرار دعوة المفكر للقيام بـ "التفريق بين المعنى الثابت والجوهري المضمونة صحته من قِبل الله، وبين آثار المعنى الناتجة عن السرد والممارسات المنطقية الاستدلالية التي تختلف وتتغيّر بحسب النظام المعرفي المأخوذ بعين الاعتبار". (محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، 1991، ص 62).

ختاماً، ومع انتشار الإيديولوجيا الطوباوية الوردية التي بإمكانها تحريك الجماهير في سبيل ردّ هجمة الغرب والوقوف سدّاً في وجه التحديات التي أوجدها، نجد أركون ينتقد النهج المتّبع من قبل الحركات الإسلامية، وخطاباتها المعبّئة للجماهير، يراها تتحرّك ضمن ازدواجية فاضحة تفصل بين الشعارات المطلَقة وحقيقة الفعل والواقع، كما أنها تحقق قطيعة بين الدعوة القرآنية وما تتضمّنه من تعالٍ وتنزيه وبين الممارسات السياسية الضيّقة باسم الإسلام، لذلك ننهي بهذا النص المعبّر حيث يقول: "إنّ هذه الحركات السياسية إذ ألقت على كاهل الإسلام مسؤولية كل الأعمال المنقذة والمخلّصة للشعب من همومه وآلامه قد خلقت نوعاً من الأقنوم الضخم الذي أنساها حتى الله مؤلّف هذا الدين بحسب المنظور الأكثر أرثوذكسية. وقد اختفى علم التيولوجيات والإلهيات من الساحة الثقافية الإسلامية كما اختفى علم الأخلاق والفلسفة السياسية. لقد انقرض العلم والعقل والفكر الحر. (...) إنّ هذا الإسلام التاريخي السياسي قد أساء إلى فكرة التعالي والتنزيه التي دشّنها القرآن في اللغة العربية، والتي تجلّت على مدار التاريخ في شخصيات روحية ذات ورع وزهد كبيرين. والواقع أنّ التحليل الدقيق يبيّن لنا أنّ هذا الإسلام الأقنومي ليس هو في نهاية المطاف إلا خطاب الملجأ والملاذ، خطاب المأوى والمخبأ، خطاب الحجة والتعلّة، خطاب الوسيلة والعذر لتاريخ معقّد مليء بالمشاكل والآلام". (محمد أركون، الإسلام، الأخلاق والسياسة، ترجمة هاشم صالح، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1990، ص 168)

يبقى لي أن أسأل عن جدوى البحث إذا بقي سجين الورق، لا يقع إلا بين أيدي المقتنعين مسبقاً بمضمونه؟

يبقى لي أن أبحث عن صدى أقوال لكبارٍ رحلوا تاركين المكان لتتناهشه صيحات العنف، وتشوهه قراءات تدّعي التقديس، معلنة حقائقها ثوابت لا تحتمل النقاش ولا الاستفسار.

متى ستسدل الستارة عن ساحة العنف المدنّس بالدماء البريئة؟ ومتى سيُختم مسلسل التلاعب بمصائر الناس وبالحقيقة المقدّسة بالشمع الأحمر؟

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D9%88%D...

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك