الدين الهوس المعولم

أحمد محمد صالح

 

أشار تقرير “الاتحاد الدولي للاتصالات” التابع للأمم المتحدة والذي نشر فى أبريل الماضي، إلى إن 23% فقط من سكان الأرض يستخدمون الانترنت. وزاد عدد مواقعها على نحو متسارع ليبلغ حاليا ثمانين مليونا، في حين كان بالكاد 500 في عام 1994. ورافق هذه الزيادة نمو لافت للمدونات الالكترونية والمواقع الشخصية التي يتولى أفراد تزويدها بالمعلومات. والظاهرة التي لفتت نظر الجميع، أن الدين يزداد حضوره بقوة على شبكة الويب خاصة المدونات الدينية، التى تحول أصحابها إلى فاعلين دينيين ينافسون رجال الدين فى الديانات الكبرى، وسيكون صعبا على هؤلاء أن يسترجعوا مكانتهم التقليدية ! فحتى وقت كتابة المقال إذا دخلت جوجل وكتبت Religious سوف يظهر لك أكثر من 223 مليون صفحة ويب مرتبطة بالدين بشكل أو بأخر. فالدين أصبح هوسا معولما يطل علينا من أهم منتج من منتجات الحداثة… الإنترنت ! ونذكر القارئ بتعداد عام 2009  للمنتسبين لكل دين، حيث
يوجد:2 مليار مسيحي، و 1.5مليار مسلم، و900 مليون هندوسي، و400 مليون بوذي، و24 مليون سيخ، و16مليون يهودي وغيرهم، كلهم اتجهوا إلى الإنترنت، ونقلوا إليها أفكارهم وهواجسهم ومشاكلهم وصراعاتهم . وحسب إحصاء أجري سنة 2004، وجدت الديانات الكبرى نفسها على الإنترنت على قدم المساواة مع ملل ونحل جديدة، أو ملل موغلة في القدم لكن الإنترنت أتاح لها الانبعاث من جديد وظنت نفسها ديانة كبرى. فالطائفة “الرائيلية” التي شغلت العالم منذ بضع سنوات، كان لها 5مواقع على الإنترنت، مقابل 29506 موقع للمسيحية، و1791 موقعا إسلاميا و732 موقعا بوذيا،و305 مواقع للكنيسة السيونتولوجيه، لكن الجميع على الإنترنت !

الاستعمال الدينيِ للإنترنتِ

من يبحر فى الإنترنت الآن يلاحظ فيض متزايد من البرامج والمنتجات والخدمات التي تحمل الطابع الديني المباشر والصريح أو ضمني الغير مباشر . بل تحولت إلى سوق ضخم سلعتها الأساسية الإيحاء الدينى، سواء بطرق تقليدية أو مبتكرة النوع، فمنذ أكثر من عقدين استخدمت الإنترنت كفضاء إليكتروني تجري فيه الطقوس الروحية والمعتقدات والممارسات الدينية التقليدية. ويمكن تتبع الاستعمال الديني للإنترنت منذ أوائل الثمانينات، حيث النشرات الدينية، ومنتديات النقاش المرتبطة بالمؤسسات الدينية، وخلال هذه الفترة نفسها ظهرت مجموعات المناقشة الدينية على الشبكة  Usenet، و سعى العديد مِنْ متحمّسي الحاسوبِ الدينيينِ الآخرينِ من الأديان المختلفة على تشكيل مجموعاتَ مناقشة على الإنترنتَ خاصة بمعتقداتهم. وفى نفس الوقت بدأ الهواة الدينيين للكمبيوتر استكشاف “سبل جديدة فى الإنترنت لاستخدامها للتعبير عن مصالحهم الدينية”، ونمت بشكل مطرد حتى منتصف الثمانينات، فزادت فى التسعينات أعداد المجموعات والقوائم البريدية والنشرات الإخبارية وقوائم العناوين الدينية على الإنترنت. و عموما بدأ اهتمام الرأي العام بالأشكال الدينية على الإنترنت يتزايد منذ أن نشرت مجلة Technopagans مقالا عام 1995 عن الفضاء الإليكتروني المثير، وبعدها فى عام 1996 نشرت مجلة التايم مقالا عنوانه ” الله على شبكة الويب ” ومن وقتها اعترفت وسائل الأعلام بأن هناك شيئا جديدا ومثيرا يحدث على الإنترنت، حيث تزايد استخدامها فى الممارسات الدينية، ونشر الأفكار والنصوص والتراث الديني. ويمكن القول بأن الدين ظهر في مختلف الشبكات الحاسوبية بأشكال وأنماط متعددة، ومنذ التسعينات أصبح ملمح مميز للخطاب العام للمجتمع المعلومات الجديد. والإنترنت نقصد بها هنا تكنولوجيات شبكات الكمبيوتر بما فيها الويب والمنصات الأخرى مثل غرف الدردشة والبريد الإليكترونى، ومنتديات الحوار، الخ تلك الأشكال الإنترنتيه، أما مصطلح ” الدين على الخط”  “religion online” فهو يصف كافة الممارسات الدينية التقليدية والغير تقليدية والمحادثات والحوارات الدينية، والنصوص كما تظهر على شبكة الإنترنت. و يمكن حصر الأنشطة الدينية الأكثر انتشارا على الإنترنت فى جمع المعلومات والأخبار الدينية، والتواصل الديني مع الآخرين، وأنشطة الدعوة والتبشير، وتقديم المشورة الدينية والفتاوى، والصلاة، والحج الافتراضي، والتجارة الإليكترونية الدينية.
والإنترنت الديني له جانب إيجابي واضح فى توفير النصوص القديمة، وجعلها فى متناول الجميع، بحيث أصبحت جميع الأديان تعيش حولنا، ووفرت فرصة غير مسبوقة للنفاذ (عبر صفحات الويب، وغرف الدردشة، وقوائم المناقشة، والبريد الالكتروني) إلى التجارب الدينية لمئات الملايين من الناس من كل بلد من بلدان العالم، والاهم من ذلك أنها تقدم لنا صورة عن ممارسات وأفكار ومشاعر وطقوس المؤمنين سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات الدينية، أو مستوى المجموعات والطوائف الدينية الجديدة التى أحدثها الإنترنت وجمع بين أعضائها في الجهات الأربع من العالم بعد أن كانوا فرادى مشتتين ومنعزلين عن العالم وعن “إخوانهم في الدين والملة”.
لكن الجانب الآخر للإنترنت فتح الباب على مصراعيه للتعرف على الانتقادات والآراء المخالفة، ليغير كثير من “المؤمنين والأتباع” دياناتهم بسرعة بعد أن ظلوا سنين متمسكين بها، فمنهم من “ارتدوا وكفروا” بدين آبائهم وأوطانهم واعتنقوا أديانا جديدة، ومنهم من فضلوا العيش بلا دين، مثل ما وقع لطائفة “المورمون” وطائفة “هيكاري” باليابان وللكنيسة “السيونتولوجية” بالولايات المتحدة الأميركية وطوائف أخرى. والسبب واضح، فالويب يتيح الانتقال السريع للأفكار والتحليلات والرسائل بين ملايين الناس بنقرة واحدة لا غير. وصار مستحيلا على موقع إلكتروني ديني أن يكون بمنأى عن النقد والتجريح والتشهير وإعلان الحرب الافتراضية، وما عليه إلا أن يرد على مهاجميه أو يعلن الهزيمة. وبهذا سرعان ما تحول ابتهاج “الأديان الجديدة” بفتوحات الإنترنت إلى هدية مسمومة تصيب عقيدتهم فى مقتل ! وبفضل هذا الفضاء الواسع استطاعت كثير من المواقع الجهادية الإسلامية والمواقع المتشددة والمتطرفة المرتبطة بالإسلام، أن تشن غاراتها عن طريق الكر والفر والاختفاء والظهور والانتقال من موقع إلى موقع آخر في الشبكة الإلكترونية دون عناء. فالإنترنت الدينى أتاح الفرصة لجماعات الإرهاب باسم الدين لتحويل الإنترنت لمساحة حرب إضافية، وأصبحت ملاذا للجماعات الأصولية بكافة أشكالها وانتماءاتها، واستوطنت فيها كافة الأقليات الدينية فى العالم للدفاع عن حقوقها الدينية، و أصبحت الإنترنت أيضا، واجهة للمؤسسات الدينية الدولية والإقليمية والمحلية، ومنبرا ليس فقط للمراجع الدينية من منطلق أنهم أوصياء على الدين والعقيدة، بل لكل من يريد أن يعبر عن هواجسه الدينية وتوجهاته. و بسهولة يلحظ الزائر للمواقع الدينية صراع الأيديولوجيات العقائدية وهى تطلق مشاعر العداء والكراهية المكبوتة بكافة أشكالها وألوانها. وتكشف الاستخدامات الدينية المعاصرة للإنترنت عن حالة مخيفة من التصنيف يمارسها البعض ضد البعض الآخر. وتنبع عادة حالة التصنيف التي تمارس ضد الآخر الدينى نتيجة عدم معرفة بالآخر وجهل تام بشؤون حياته. فهؤلاء كفرة، وهؤلاء مؤمنين، وهؤلاء صالحون،  وهؤلاء منحلون، وهؤلاء ملحدون، إلى آخر  قائمة التصنيف الديني. وإذا كانت الإنترنت قد فتحت آفاقا جديدة للعلنية والمكاشفة، فإنها عمقت من خلال التحيزات الأيديولوجية والنيات العدائية المسبقة حدة الخلاف والعداء ليس بين الأديان فقط، بل أيضا بين المذاهب الدينية داخل الدين الواحد. فالإنترنت أشركت الكثيرين في النقاش الدينى، لكنها أشركتهم بأطرهم الفكرية والأيديولوجية المسبقة التى لا تهدف سوى تحقير الآخر الدينى أو إلى إبادته، بدون شروط الحوار العقلاني الواعي الذي يستهدف التسامح والتعايش مع الجميع.

المؤسسات الدينية والإنترنت
أن الآثار الاجتماعية للإنترنت من المرجح أن تكون عميقة على كافة المستويات، وأننا بدأنا توا نقدر النتائج الدينية المترتبة على هذه التغيرات الناشئة نتيجة التواصل بين التكنولوجيات، والأديان ! فبمجرد تبنى المؤسسات الدينية للإنترنت يحدث أثار جذريه للمؤسسة، وتتغير أنماط الاتصال الديني بها، رغم أن العالم مازال في المراحل الأولية لهذه الثورة، ومع ملاحظة أن المؤسسات الدينية دائما متخلفة عن غيرها من المؤسسات الأخرى عندما يتعلق الأمر بتوظيف التكنولوجيا الجديدة، فالدين ومؤسساته ذات طبيعة تحفظية، الفاتيكان كان له موقعه الخاص منذ سنة 1997، الا أن البابا جان بول الثاني، هو من أرسل أول رسالة إلكترونية لخمسين راهبا بنقرة واحدة على فأرة الحاسوب، يوم 22 نوفمبر عام 2001، يعنى بعد إنشاء موقع الفاتيكان بأكثر من 4 سنوات. فالتأخير الملاحظ فى استجابة مؤسسة دينية كبيرة كالفاتيكان لظاهرة الإنترنت الدينى، يعكس التوجس والحذر الذي حكم سلوك المؤسسات الدينية من الوسيلة التواصلية الجديدة، واحتاج الأمر في البداية إلى تجميع المعطيات وتوسيع الاستشارة والنظر بين المسئولين الدينيين للخروج بموقف واضح ورسمي من شبكة الويب. فأصدر الفاتيكان بهذا الخصوص وثيقتين متتابعتين سنة 2002، الأولى عن “الكنيسة والإنترنت” والثانية بعنوان “الأخلاق والإنترنت”. وأشارت الوثيقتان إلى محاسن الويب ومساوئه، فهو من جهة وسيلة تربوية وتثقيفية جيدة، ووسيلة من وسائل التعارف والتحاور، ولكنه بالمقابل يمكن أن يكون أداة للفساد والإفساد والاستغلال والاستبداد.وارتبكت كثير من المؤسسات الدينية وهي تبدأ نشاطها في محيط الويب الواسع، وبدا لأول الأمر أنها أدركت أهمية الوسيلة الإعلامية الجديدة، لكنها “مارست أنشطتها دون ان تملك المهارات اللازمة “، كأنها كانت تريد حجز المكان ثم النظر في استعمالاته من بعد. و ظنت تلك المؤسسات أن الإنترنت يتيح لها أن تعظ الناس كما تعظهم بطريقتها المعتادة في الكنائس والمساجد والمعابد، في حين أن “الوعظ الويبي” يحتاج إلى مهارة إعلامية حديثة لا يملكها الوعاظ والمتحدثون والمرشدون الدينيون، ولا يزال كثير منهم إلى اليوم مفتقرين إليها.

الدراسات الأكاديمية لظاهرة الإنترنت الدينى
مع كل تطور تكنولوجي تنبثق تحديات جديدة أمام الباحثين والمفكرين، وخاصة الأكاديميين فى العديد من الفروع العلمية، حيث زاد اهتمامهم فى السنوات الأخيرة لمتابعة ودراسة الأشكال الدينية الوليدة على شبكة الإنترنت، و لم تكن دراساتهم معزولة عن المنهج العلمي لعلوم الاجتماع والاتصال واللاهوت والدراسات الدينية، والفلسفة وعلم النفس والسياسة وغيرها من العلوم، التي أضافت الكثير من المعلومات القيمة حول طبيعة الأشكال الدينية على الويب في البيئات المختلفة. والانترنت كوسيلة اتصال تحمل سمات فريدة، يمكن أن تغيير السياق العالمي للتدين في الدراسات الأكاديمية التي تعمل على الدين، حيث توفر فرصا لدراسته من جميع جوانبه، سواء النصية، والتاريخية، أو الدراسات الميدانية. فالثورة الاتصالية الجارية من المرجح أن تغيير وجه الدين عن طريق تغيير في السياق الاجتماعي الذي يتفاعل فيه. ومن المهم ان نسعى الى فهم كيف ولماذا يحدث هذا التغيير؟!
وفى مسح علمى عن الدراسات التى تناولت ظاهرة ” الدين على الخط”  “religion online” حدد هوجسغارد واربورغ عام (2005) فى دراستهما، ثلاث موجات من تلك الدراسات.  الموجة الأولى سعت الى كشف ما هو جديد ومختلف بين الممارسات الدينية على الانترنت مقابل الممارسات الدينية التقليدية الغير متصلة بالإنترنت. ومالت هذه الدراسات إلى الوصفية، وسعت الى تقديم دراسات إثنوجرافيه عن الطوائف الدينية على الانترنت. والموجة الثانية ركزت على اكتشاف الشروط والأوضاع خاصة تلك المرتبطة بظهور المعتقدات والقيم والأنشطة الدينية على الانترنت، وكانت تميل الى البحث عن كيفية تأثير الاتصال المعتمد على الويب على المستخدمين فى تحديد واستكشاف تصورات الهوية الدينية، والمجتمع والثقافة وممارسة الطقوس والشعائر. ويعتقد المؤلفان اننا دخلنا الموجة الثالثة من البحوث التى تتناول بالدراسة ظاهرة ” الدين على الخط”  “religion online” حيث ابتعدت عن المحددات التكنولوجية التى تؤثر على تشكيل ظاهرة الدين على الإنترنت، وركزت اهتمامها فى الإجابة عن الأسئلة الآتية :
• ما هي الشروط الاجتماعية والثقافية التي تؤثر على المشاركة في المجتمعات الدينية الافتراضية، وكيفية تحديد الهوية الدينية على الإنترنت ؟
• إلى أي مدى تعتبر عملية بناء الهوية الدينية على الانترنت عملية اجتماعية، ونشاط انعكاسي تدمج فيه  الأدوات والمعلومات من المصادر الموجودة على الانترنت وتلك الموجودة في الواقع الفعلي خارج الإنترنت ؟
• كيف يمكن ان تؤثر الممارسات الدينية فى المجتمعات الدينية الافتراضية على الممارسات الدينية الواقعية  خارج الإنترنت، ليس فقط فى العبادات والطقوس والشعائر، وإنما في هياكل السلطة والنفوذ في المؤسسات الدينية؟
ونزعم إن هذه الأسئلة تنير لنا الفهم بطريقة ما، لأن كلّ وقفة سؤال يقدم لنا سلسلة من الاحتمالات المثيرة، وتعرضنا لطرق جديدة للتفكير، وفهم التغييرات التي تحدث حولنا، لكن هناك أسئلة أهم طرحت  منذ عدة سنوات ولم تستطيع تلك الدراسات الإجابة عنها، وهى :
هل الإنترنت الديني يستطيع أن يجعل الأديان علي حدّ سواء ويزداد التسامح بين أصحابها، وتتقارب أكثر؟ هل سوف يتفق أصحابها أو سيتباعدون ؟ كان هناك دفع عظيم في السنوات الأخيرة لإثارة التشابهات بين الأديان المختلفة، بدلا من اختلافاتها. هل تنجح الإنترنت في تقديم الأديان المختلفة إلى العديد من الناس ؟ وهل الناس سيكونون أحرار لاختيار دينهم من بين الخيارات المطروحة ؟ إذا كان الأمر كذلك، ما معني الجوهر العميق للمعتقد الديني إذا تحولت الأديان للاختيارات المجرّدة؟ هل تجعل الإنترنت الأمر أكثر سهولة علي الأديان لجذب وتجنيد الأعضاء الجدّد، أو تصعب الموقف، بسبب عدد الخيارات المتوفرة؟ هل يمكن أن تتماثل وتندمج الأديان ؟ إلى أي مدى سيقوم الويب بتغيير الأديان وطقوسها وشعائرها، ورغم صعوبة الإجابة، نزعم بمشروعية الأسئلة المطروحة، وأن مجرد المحاولة العلمية للإجابة عنها من قبل الدراسات الأكاديمية يستلزم أن يكون العالم كله منخرطا في الإنترنت، ومتحررا من الأمية الإلكترونية، وهذا الشرط غير متوفر في معظم دول العالم حتى الآن.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك